`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
بدوى بدوى على سعفان
الشمس المشرقة
ينتمى الفنان ` بدوى سعفان ` الى دلتا النيل اخصب ارضى مصر على الاطلاق ، واكثرها عطاءاً وكثافة وهى المنطقة التى ارتبط بها الفنان بوشائج حب ومودة واستمد منها رؤاه وموضوعات لوحاته ، معبراً عن احلام البسطاء ، وآمالهم وأفراحهم ، وأتراحهم بألوان بسيطة وخطوط أبسط ، وبتلقائية تميزه بين أقرانه للدرجة التى لقبه البعض بفنان الريف .
لقد أحب بدوى سعفان الطبيعة ، فأفضت إليه بأسرارها ، وكوامنها وألوانها ، فيما اختضن عناصرها محتفياً بالشمس المشرقة وعمل الفلاحين والفلاحات والسعى على الرزق .

أ.د./ أحمد نوار

ذاكرة الإنسان والمكان
- `ولدى الفنان سعفان ..فى كل مرة ألتقى بك أعود بالذاكرة إلى أيام الكلية، وأذكر تميزك على جميع رفقائك.. بطبيعتك النقية.. وقلبك الصافى.. وانعكاسها على فنك.. وجرفت الحياة الكثير من زملائك ولكنك كنت من القرئل الذين واصلوا رحلة الفن.. ورجعت حيث ينبغى أن تكون، وعملت الأيام على إنضاج ما تبدعه حتى طابت الثمرة.. وآن الأوان أن يرى الجمهور تجربة صادقة لمسها تلوث الافتعال..!!`
- هذا ما كتبه الراحل الكبير بيكار فى إحدى رسائله المتبادلة مع الفنان بدوى الذى تتلمذ على يديه، ثم تحولا إلى أصدقاء بعد ذلك، يربطهم رابط أثيرى شفاف ورفيع.. كان يحرص الطرفان على بقائه وعدم قطعه مهما تغيرت الأحداث وتبدلت.
- وتوضح هذه الرسالة حالة الحميمية ومشاعر الود الطيبة التى جمعت بينها، وهى العلاقة التى كان - ولا يزال - يعتز بها الفنان سعفان كثيراً، ويعتبرها من العلامات الفارقة فى حياته، حيث أثرت كثيراً فى مشواره الإبداعى، وأثرت تجربته الفنية.فقد نصحه بيكار بأن يبقى فى قريته، وألا تجذبه أضواء العاصمة. وهى النصيحة التى أحدثت تحولا نوعيا لدية، حيث الأرض الطيبة، والحضن الدافئ، والقلوب التى لا تخشى شروق الشمس.. والوجوه التى تكحل عينيها بضوء النهار .
- وعاش ولا يزال يعيش فى قريته (سنبخت) وهى قرية مصرية صغيرة على ضفاف نيل المنصورة أهلها بسطاء وطيبون، يأكلون خبز الصمت ويشربون ماء الأمل ويستحمون بوهج الشمس الذى يدفئ قلوبهم، ويملأ نفوسهم بالحياة. وربما يكون هذا هو السر الذى جعل سعفان قادراً على الأبداع وممارسة الفن حتى الآن ..!!! فهو لا يفعل فى حياته حالياً أى شئ غير أنه يرسم ويضحك. ولعل هذا ما دفع الفنان صلاح طاهر إلى وصفه بأنه الفنان ( صاحب الفطرة النقية) .
- إنه يتعامل مع العمل الفنى بمنهج أدباء القصة القصيرة، حيث يحاول الإمساك بلحظة وجودية معينة، واعتصارها لإخراج أفضل ما فيها، حتى يلفت نظرنا إلى أشياء وتفاصيل صغيرة كامنة حولنا دون أن تلحظها. فهو يرسم الحياة اليومية فى القرية بكل تفاصيلها مثل الزرع والحصاد والرعى وتربية الدواجن والحيوانات .. إلخ .
- ويقدم كل هذه اللحظات / اللقطات / الصور دون حذلقة تقنية قد تفسد الحالة أكثر مما تضيف إليها . وهى مفارقة لافته فى فن بدوى سعفان . فمن يشاهد أعماله لأول مرة ، قد يتصور أنه فنان فطرى من شدة البساطة والعفوية . واعتقد أن هذا يقودنا إلى مفتاح سحرى لفهم أعمال هذا الفنان ، ومدى قدرته على الاحتفاظ ببساطته وتلقائيته الفنية على الرغم من دراسته الأكاديمية المتخصصة للفنون ، فكيف اكتسب المهارة والتقنية دون أن يفسد روحه العفوية المنطلقة ؟ وكيف وصل إلى هذه الدرجة من العمق فى الفهم والتعبير واكتشاف الكنوز الكامنة فى الأشياء البسيطة ؟
عاشق القرية
- لكن الفنان بدوى سعفان لم يغير موقفه على مدى تاريخه الفنى الطويل ،لأن منطلقاته الفكرية مختلفة . فهو واحد من هؤلاء الفلاحين البسطاء ، يشبههم ويشبهونه ، هم عائلته وأقرباؤه وأصدقاؤه وزملاء الدراسة ورفقاء العمر لذلك فهو ليس مجرد فنان يعيش فى قرية بل القرية هى التى تعيش فيه حيث يحملها معه أينما ذهب كما وصفه الناقد مكرم حنين .
- ولعل هذا هو ما قد يميزه عن غيره من الفنانين الذين قد يكونون يعيشون فى الريف المصرى ، لكنهم يرسمون موضوعات أوربية ..!! لأن وعيهم وعيونهم تتطلع لعبور الأطلنطى ، وهى حالة من الانفصال بين الجسد المغروس فى الطين ، والعقل الذى يحلق بعيداً ...!! وربما يفسر هذا أيضا كيف أن بعض الفنانيين المصريين يعبرون عن القرية المصرية بعين السائح الذى ينظر من الخارج ، أما الفنان سعفان فهو إفراز مصرى خالص لطين القرية المصرية .
- وهنا قد ندرك ونفهم أهمية النصيحة التى نصحها له بيكار ، عندما نصحه بأن يبقى فى قريته ولا يتركها ، فالماء والخضرة ووهج الشمس هم مفتاح السر واللغز ..!!
ذاكرة المكان
- إنه هنا ليس مجرد ( مصور ) يتفاعل مع ما يراه من منظور جمالى لكنه يلعب أيضا دور ( المؤرخ ) الذى يرصد ويوثق كل مشاهد الحياة اليومية فى القرية المصرية فى لحظة زمانية معينة .
- إنه يرصد عبر أعماله كل التحولات الاجتماعية كل ما طرأ - ويطرأ - على القرية من متغيرات ، خصوصا وهى تئن تحت ضغط العولمة ووطأتها ، وما تحمله من مفاهيم مغايرة اجتاحت المجتمع المصرى عبر الفضائيات ، وثورة الاتصالات ، وتكنولوجيا المعلومات .
- ومن أهم المشاهد التى صورها سعفان كثيراً ، مشهد المنزل الريفى البسيط الذى يتكون من خامات وأشياء أولية ، وبعض أحجار الطوب اللبن ، وبعض جذوع الأشجار التى تنتصب وسط حوش الدار ، لترفع السقف المكون من بعض الأغصان وأعواد القش ، ونجد الفلاحة المصرية وهى تجلس أمام الفرن لتخبز بعض أرغفة ( العيش ) ونلاحظ وسط هذا المشهد بعض الطيور والدواجن الأليفة التى تربى داخل كل البيوت الريفية ، كما نجد الجاموسة وهى واقفة تتناول طعامها ، وكأنها أحد أفراد العائلة . فالمنزل الريفى كان دائما مكتفياً ذاتياً ، حيث ينتج غذاءه بنفسه والقرية المصرية كانت دائما قرية منتجة ، أما الآن فالفلاح أصبح يشترى الخبز من مخابز المدينة ..!!
- ومن لوحاته المهمة أيضاً ، والتى رسمها وهو لا يزال طالبا فى نهاية الخمسينيات - عام 1958 لوحة ( الغداء الريفى ) التى تمثل ( طبلية ) خشبية موجودة فى كل البيوت الريفية ، وقد وضع عليها الطعام الفلاحى الذى يتكون من بضعة أرغفة من العيش ( البتاو ) وقطعتين من الجبنة القديمة ، وحزمة من ( الفجل ) الأخضر ، وبجوارهم ( قلة ) الماء المصنوعة من الفخار ، وخلفها نجد ( الصديرى ) الذى يرتديه الفلاح معلقاً .
- على الحائط مشهد يضم - على الرغم من بساطته - كل مفردات الحياة الريفية ، ويشير بوضوح إلى الحالة الاقتصادية المتواضعة التى يعيش فيها معظم فلاحى مصر ، لكنهم على الرغم من ذلك كانوا أكثر اطمئناناً وسعادة مما هم عليه الآن ، على أن معظم الفلاحين قد استبدلوا ( الطبلية ) بترابيزة سفرة كويلة ..!!
- ومن المشاهد التى أصبحت من الماضى وكأنها جزء من الفلكلور ، على رغم من أنها صورة مالوفة كثيرا فى الحياة الريفية ، مشهد قيام الفلاحة المصرية بحلب البقرة للحصول على لبن الصباح الذى تقدمه لزوجها وأطفالها طازجا . ونلحظفى لوحته مدى الحنو المتبادل بين ربة المنزل وبقرتها التى تنظر إليها فى هدوء واطمئنان وللأسف ، فإن أطفال اليوم لم يعودوا يجدون مثل هذا الحليب الطازج فى الصباح ، بعد أن تحول إلى حليب معلب وجفف .
- ومن أهم المشاهد المألوفة فى الريف ، مشهد الحصاد الذى رسمه معظم الفنانين الذين تفاعلوا مع الحياة فى القرية المصرية ، وقد عبر عنه سعفان بأسلوبه شديد البساطة ، ودون تكلف ولا مبالغة ، حيث رسم مجموعة من الفلاحين وهم يقومون بحصاد محصول القمح فى أحد الغيطان ، وقد استعان باللون الأبيض النبيل - على حد تعبير بيكار - للتعبير عن الحالة الحمينة التى تجمع بين هؤلاء الفلاحين وبين الأرض التى ينتمون إليها .
راهب الفن
- إن لحظة الألهام الإبداعى تنبع من منطقة وسطى ما بين العقل والروح لذا كل عمل فنى فيه بالضرورة جانب يتوجه إلى البصر ، وآخر يتوجه إلى البصيرة . وإذا كان الرهبان والنساك ينقطعون عن العالم ، ويلجأون إلى كهوف ومغارات وأماكن نائية ينعزلون فيها عن الناس والمدينة الحديثة ، وكل مغريات الحضارة ، حتى يعطوا الفرصة لعقولهم للتأمل ، ولأرواحهم للتحليق والانطلاق إلى أبعاد أرحب وأوسع ، فإن هذا مايفعله بدوى سعفان ، حيث عزل نفسه طوال عمره فى مرسمه الخاص فى قريته يمارس الفن والقراءة طوال اليوم .
- حيث أصبح قادرا على النظر بعمق ، والوصول إلى حقائق ومعان كامنة خلف السطح البادى ، وأصبحت كل حواسه ومسامه مهيأة للاستقبال والتلقى ، وأيضا للتفاعل مع كل الكائنات تماماً، مثلما يؤمن النساك الصوفيون بنظرية الفيض الإلهى ، وبأن كل الموجودات هى من روح الله ..!!
لذلك من يمعن النظر فى أعماله الفنية ، سيلحظ حالة من الشفافية ومن الروح الإنسانى التى تغلف كل العناصر والكائنات ، وهو ما عبر عنه فى العديد من أعماله ولعل من أهمها ( التحدى ) الذى يمثل لحظة من لحظات الصراع الوجودى بين قطة سمراء وسمكة . وعلى الرغم من أن الصراع بين السمكة والقطة كان دائما صراعاً محسوماً لصالح القطة ، حيث كان السمك دائماً هو طعام القطط المفضل ، لكن من يلحظ موقف المواجهة ، ونظرة التحدى من السمكة الصغيرة إلى القطة التى تحاول افتراسها يدرك أن المعادلة تغيرت ، وأن هذين الكائنين ليسا مجرد سمكة وقطة ..
ولكنهما رمزان يمثلان كل حالات المواجهة والمقاومة والدفاع عن الحياة والمصير بين القوى والضعيف ..!!
إنهم أقرب إلى الأرواح ، حيث تقف الروح الطيبة ` السمكة ` فى مواجهة الروح الشريرة ` القطة ` كأنها الخير فى مواجهة الشر ، فى حين يقبع فى خلفية اللوحة ( قاربان خشبيان ) وكأنهما ثنائى متلازم ومتناغم . وهى فكرة ومكررة فى العديد من أعماله ، مما يشير إلى أن هذا الثنائى فى مقدمة اللوحة ( القطة والسمكة ) هما ثنائى فى حالة تكامل أكثر منه كونهم فى حالة تضاد ، أنهم مثل الليل والنهار والأبيض والأسود الذى يكمل كل منهم الآخر ..!!
- ويبدو أن فكرة الكائنات الحية التى تتلبسها روح إنسانية ، وتجعلها تتصرف كالبشر ، وقد شغلته كثيراً . ومن اللحظات المميزة التى استطاع أن يمسك بها ويكثفها ، تلك اللحظة التى يصور فيها مجموعة من الأرانب وهى داخل جحرها والتى تتجمع وكأنها عائلة - أب وأم وأطفالهم - وهم فى حالة تألف وانسجام ، وكل منهم يحنو على الآخر . كما أن استخدامه للون الأبيض غلف الصورة بحالة من الشفافية والرقى . كما صور فى لوحة أخرى أرنبين آخرين وهما يحاولان أن يتسلقا قلة مملوءة بالماء ، فى محاولة للشرب منها ، وهو ما يبدو وكأنه سلوك إنسانى يقوم به أطفال صغار ..!!
- ومن أشد المشاهد شفافية ، المشهد الذى صور قطة بيضاء مع طفلتها الصغيرة التى ترضع منها ، فى حين تلعق الأم ظهرها بلسانها فى حالة من الحنو والعطف وكأنهم أم مع ابنتها وقد عبر عنها سعفان بهدوء ونعومة شديدة من خلال تكوين دائرى أقرب إلى الفورم النحتى ، مكذبا مقولة إن القطط تأكل أطفالها . كما رسم لوحة أخرى لقط أسود يحاول تسلق إناء فخارى كبير ( زير ) فى محاولة للشرب منه ، وكأنه طفل يتسلق جدران هذا الإناء ..!!
- ومن أهم لوحاته التى تعبر عن هذا المفهوم فى حس صوفى يسيطر على وعيه فى تلقيه وتفاعله مع باقى الموجودات ، حتى لوكانت جمادات ، مجموعة لوحاته عن ( الجرار الفخارية ) - جمع جرة - والتى يملؤها الفلاحون ، ويحتفظون بداخلها بالماء لشربه فيما بعد ، حيث رسم مجموعة جرار وهى تستند إلى بعضها البعض وكأنهم بشر يلتفون حول بعضهم فى حالة حوار وتشاور . كما نجدهم فى لوحات أخرى وكأنهم بشر فى حالة استرخاء ونوم ساعة القيلولة فبعضهم يرتكن على الحائط ، والبعض الآخر يتمدد على الأرض ..!!
- إنها روح كونية واحدة تسرى فى كل الكائنات ، وهو حالة لا يمكن إدراكها إلا من خلال رؤية صوفية متوافقة ومتاملة ..!!
موناليزا مصرية
- إذا كانت الموناليزا دافنشى - مسز جيوكاندا - تلك السيدة البسيطة فى الشكل والمظهر ، قد حولتها عبقرية دافنشى إلى حالة فنية خاصة ، وجعلتها مثالا للجمال العابر للتاريخ والثقافات ، مما أكسبها هالة استثنائية ، ومنحها عمقاً وعمراً ، ربما يكون أكبر بكثير مما قد تستحقه صاحبتها وإن بعض الصور قد تعيش أكثر من أصحابها ، وتمنحهم حلوداً ، ربما أكبر بكثير مما يستحقون ، مثل بعض شخوص الروايات أو شخصيات الممثلين التى قد تعيش وتبقى فى الذاكرة أكثر من مبدعيها ..!!
- وهنا تتجلى قوة الفن فهو المجال الوحيد القادر على منح الخلود وهو المجال الوحيد المقاوم للزمن بل ربما يكون العكس هو الصحيح فكلما مر الزمن ازدادت الأعمال الفنية قيمة وجلالاً وهذا هو سر جمال الفن وجاذبيته ولأن الفنان سعفان منغمس حتى رأسه فى طين القرية المصرية ، فإنه شخص بالتعبير عن المرأة المصرية وما تقوم به من دور محورى فى حياة زوجها وأسرتها ووطنها ..!!
- إنها امرأة منتجة تصحو قبل أول شعاع شمش، ولا تنام إلا فى ساعة متأخرة من الليل، تعمل فى الحقل وفى المنزل وفى السوق، تزرع وتحصد بجوار زوجها، وتربى الأطفال والطيور والحيوانات الأليفة فى البيت، تبيع وتشترى فى السوق لتساعد على إعالة أسرتها ، تكد وتكدح دائماً، صامدة وصابرة مهما كانت المصاعب - إنها امرأة وجودية تقاوم الزمن والألم والمرض، وأحياناً الموت إنها أشبه بأبطال الأساطير الإغريقية التى تظل طوال عمرها فى مواجهة مع القدر، ومع الأغيار..!!
- إنها الفلاحة المصرية التى حولها سعفان فى لوحاته إلى ( موناليزا مصرية ) تحمل كل القيم الفنية والأبعاد الجمالية ، حتى إنها تحولت فى لحظات معينة إلى ( أيقونة ) محملة بكل معانى الوقار والجلال والكبرياء ، تقترب أحياناً من درجة القداسة، إن لم تكن القداسة الدينية، فعلى الأقل القداسة الاجتماعية إنها أمى وأمك وأم المصريين جميعاً..!!
- وتختلف موناليزا سعفان عن موناليزا دافنشى، فى أنها أكثر طبيعة وإنسانية،إنها تشبهها رأسها دائماً مرفوع فى كبرياء وشمم ، كأنها نهر النيل الذى يرفض الخضوع. لون بشرتها هو لون وهج الشمس، مملؤ بالحياة والحيوية، يميل إلى السمرة قليلاً إنه لون نابع من أديم هذه الأرض قوامها ممشوق ومفرود، وكأنه رمح صنع من معدن نفيس أو قوام فرس مملوء بالخصوبة شعرها يشبة جدائل المطر ، وعيناها سوداوان عميقان مثل ليالى المحروسة الدافئة .
د. خالد البغدادى
مجلة الخيال - أبريل 2010
رحيل بدوى سعفان من سحر الريف..إلى روح الحياة الشعبية
- رحل عن عالمنا منذ أيام اثنان من فنانينا : بدوى سعفان وفاروق وجدى وهما يمثلان قيمة كبيرة فى الإبداع التشكيلى المصرى .. وبينما أصر بدوى سعفان على أن يظل مقيما بقريته يعكس من خلالها سحر الريف فى إيقاع فطرى تلقائى بهيج .. عاش فاروق وجدى بيننا بالقاهرة ونقل روح الحياة الشعبية بلمسة جديدة جاءت من معين طفولته حيث ولد ونشأ بمدينة دسوق قريبا من تلك المباهج التى كانت تتألق فى الليلة الكبيرة بمولد سيدى إبراهيم الدسوقى.
* سحر الريف :
- ينتمى بدوى سعفان لقرية صغيرة خضراء فى عمق الدلتا تدعى` سنبخت ` من قرى المنصورة ورغم التحاقه بالفنون الجميلة بالقاهرة وتخرجه منها عام 1959 من قسم التصوير وحصوله على درجة الامتياز.. إلا أن أعماله خرجت على الطابع الاكاديمى وكأنه فنان فطرى .
- وربما يرجع السر فى جمال لوحاته وطزاجتها التعبيرية إلى إصراره الشديد على الارتباط بقريته وأهله وناسه وكانت مصدر إلهامه الأول والأخير.. وقد استوحى منها عمق أعماله التى تجاوزت الألفى لوحة ناهيك عن الدراسات والاسكتشات كل هذا بما يعد ديوانا مصورا وأغنيات بصرية من العذوبة والبراءة..وهذا ما شكل أسطورة فنه .
-فى قرية `سنبخت` حيث ولد عام 1928 هناك ظل يعيش فى بيته الذى ازدحم بلوحاته وضاقت بها المسافات والمساحات حتى الممرات وغرف النوم والتى تطل متراصة مكدسة فى مئات اللوحات .
-فى بداية الطفولة التحق سعفان بأول مدرسة تفتح أبوابها فى القرية كانت عبارة عن منزل يملكه أحد أبناء القرية...قسم منه على واجهه الشارع اجره لوزارة المعارف وهو المدرسة وقسم فى الداخل كان يسكن فيه..كما يقول فناننا فى مذكراته.
- ويضيف : ` وبين الحين والآخر كان يدخل علينا الفصل الأستاذ عبد الباقى يس وهو مدرس كان معمما وهو وجيه فى ملبسة.. يرتدى جلبابا اسود ويتمتع بقوة فى الشخصية مع الاتزان والثبات.
- والعجيب انه كان يبدأ الحصة برسم جمل على السبورة وكنت أتابع يده حتى النهاية وألاحظ انه لا يشطب بل يرسم الخط بدقة وأجاده وأنا أطيل التأمل إلى الرسم فى إعجاب ودهشة .
- وعلى مصطبة العمدة كنت اجلس مع بقية أطفال البلد وكانت تجذبنى علب الدخان الفارغة التى يلقى بها أرضا أحد الفلاحين فكان عليها غزالة رشيقة مرسومة بإتقان كما كانت علب الكبريت مرسوم عليها فارس بحصان.. وعلب السجاير مرسوم عليها منظر طبيعى جميل لمجموعة مراكب على النيل وفى الجانب الآخر رسم لفتاة مصرية بالزى الفرعونى وكنت انتظرعمى مصطفى العمدة أن يلقى بفارغ الصبر علبه السجائر حتى احتفظ بها.. مع ما يقع فى يدى من صور وأوراق ذات طابع جمالى ` التحق فناننا سعفان بالفنون الجميلة وكان معه بالدفعة الفنان جمال قطب والفنان فؤاد تاج الدين.. وتتلمذ على عبد العزيز درويش وبيكار وعز الدين حمود وبعد تخرجه حصل على منحة مرسم الأقصر وهناك عاش بالبر الغربى فى بيت عبد الرسول. بيت من اللبن استأجرته الحكومة منه..
- وهناك كان يرسم الآثار والعمارة الريفية التلقائية ومناظر الجبل.. وانتقل إلى القاهرة حيث مرسم `حوش قدم` بالغورية.. وبعد انتهائه من منحة مرسم الأقصر جاء تعيينه بالتربية والتعليم بمحافظة الدقهلية ` مسقط رأسه ` .
* رسائل بيكار لسعفان :
- كانت هناك رسائل متبادلة بينه وبين أستاذه الفنان حسين بيكار وهى آن دلت فانما تدل على تلك القيم الرفيعة التى كانت تسود العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه.. وهى تحمل تواريخ فى فترة منتصف الثمانينيات من القرن الماضى حتى نهايتها.
فى رسالة بتاريخ 23/ 3/ 1986 يكتب بيكار :
* ولدى العزيز الفنان سعفان :
- تحية اعزاز ومحبة.. وخفقة من قلب يحمل لك كل تقدير واعجاب.. فقد اعادت إلى كلماتك الصادقة ذكريات اجمل أيام حياتى..عندما كان يظللنا سقف انبل محراب.. وتربطنا اسمى الروابط بين جدران المراسم التى يفوح منها رائحة الزيوت والطلاء.. لقد كنت يا ولدى طوال سنوات الدراسة متميزا بأشياء كثيرة كانت تحببنى فيك كما كنت تحمل بين جنبيك قلبا نقيا لم تلوته سموم الحضر ولا أخلاقيات أبناء المدينة.. وهى صفات يفتقد إليها أبناء جيلك.
- وكم كان جميلا ورائعا ان تنعكس هذه البراءة والنقاء على اعمالك والنقاء الفطرى يا ولدى هو اعظم ما يمكن ان يمتلكه فنان إذا أراد ان يكون مبدعا واصيلا .. ولهذا كثيرا ما سمعتنى استحثك على الحفاظ على هذه الجذوه المقدسة فى داخلك حتى لا تطفئها رياح التغيير والافتعال`.
* وعالم البراءة :
- وفى الحقيقة تذكرنا أعماله بأعمال الفنان الفرنسى التلقائى روسو مع فارق الزمان والمكان والأداء وبينما درس سعفان بالفنون الجميلة كان روسو موظفا بالجمرك لكن حافظ معه على تلك المساحة من البراءة والنقاء بداخله والتى لم يلوثها سموم الواغش المعاصر .
- وفى أعماله نجد الريف بكل تفاصيله وعناصره ورموزه من الفلاحين والفلاحات والأشجار والزروع من النخيل وأشجار البرتقال والعنب ودواب القرية وحيواناتها من الخراف والماعز والقطط والأرانب والاوانى والجرار.. كما نجد لمبة الكيروسين والدرج الريفى.. كل هذا فى خطوط غنائية تحدد الشكال والمساحات والوان صداحة وتكوينات غير منمقة تستمد جمالها من بساطة النسق وثراء التشكيل العفوى.
- وما أشبه سعفان بأحد رعاة الريف.. لا يمل العزف على ناية السحرى فتنجذب إليه كل الكائنات..إنها معزوفة الطبيعة تغنى للحياة كل الكائنات على ارض مصر الطيبة بعد رحيل سعفان علمنا من الفنان محمود خفاجه صديق عمره ونقيب التشكيليين بالمنصورة بأنه سوف يقيم حفل تأبين للاحتفاء بفنه يشارك فيه مجموعة من النقاد والفنانين.. ونحن إذ نؤكد معه على قيمة أعمال فناننا ..كل ما نرجوه أن تبادر المحافظة بإقامة متحف له بالمنصورة.
- تحية إلى روح الفنان باتساع ما قدمه من إبداع حقيقى .
صلاح بيصار
القاهرة - 23/ 10/ 2012
صور الحياة اليومية للقرية .. فى ملاحم تعبيرية
- بدوى سعفان وعالمة الفطرى
- بدوى سعفان فنان من ريف مصر.. ينتمى لقرية صغيرة خضراء فى عمق الدلتا تدعى ` سنبخت ` من قرى المنصورة .. ورغم التحاقه بالفنون الجميلة بالقاهرة وتخرجه منها عام 1959 من قسم التصوير وحصوله على درجة الامتياز .. إلا أن أعماله مسكونة بحس شديد التلقائية وكأنه فنان فطرى وهى أعمال تشدو بسحر التعبير والتشكيل تجسد صور الحياة اليومية للقرية المصرية ..فى ملاحم أبطالها من الفلاحين والفلاحات مع الطيور والحيوانات والحقول وحدائق البرتقال ..كل هذا فى صفاء وبساطة وتنوع فى الإيقاع .. وأعماله تعيد سيرة الريف المصرى.. ترجع بنا إلى تلك الصور التى تؤكد روح القرية التى كانت من قبل البهاء والنقاء .. بعيدا عن صور الصراع والزحام وهدير المركبات وأزيز الآله ..والقلق الذى ينتاب الإنسان المعاصر.
- وربما كان السر فى جمال لوحاته وطزاجتها التعبيرية إصراره الشديد على الارتباط بقريته وأهله وناسه هذه القرية التى تعد مصدر إلهامه الأول والأخير والتى أصر على أن يظل بها رغم تنقله بمدن كثيرة وهى التى استوحى منها عمق أعماله التى تجاوزت الألف لوحة ناهيك عن الدراسات والاسكتشات كل هذا بما يعد ديوان مصورا وأغنيات بصرية من العذوبة والبراءة.. وهذا ما شكل أسطورة فنه.
- فى قرية ` سنبخت ` الذى يعتز بها والتى جسد مشاهدها بلغة بسيطة وفصيحة ، وفى بيته الذى ازدحم بلوحاته وضاقت بها المسافات حتى الممرات وغرف النوم والتى تظل متراصة مكدسة فى مئات اللوحات .. كنا هناك وكان هذا الحوار.
النشأة الأولى :
- يقول الفنان والفلاح الفصيح عم بدوى : ولدت فى قرية صغيرة فى أحضان النيل الخالد تدعى قرية سنبخت لأسرة ذات مكانة رفيعة تحتل مركز قيادى وأدبى .. وكان عمى مصطفى عمدة البلدة له هيبة كبيرة ويخاف بأسه كل كبير وصغير بالقرية ، فى بداية الطفولة التحقت بأول مدرسة تفتح أبوابها فى بلدنا عبارة عن منزل يملكه أحد أبناء القرية .. قسم منه على واجهه الشارع أجره لوزارة المعارف وهو المدرسة وقسم فى الداخل كان يسكن فيه.
- وسميت المدرسة باسم صاحبها ` مدرسة المغاورى ` .. وأراد والدى أن يغرينى بالذهاب إلى المدرسة فاشترى لى حذاء برقبة لكى تحافظ على قدمى من الرطوبة والبرد وظل هذا النوع يلازمنى حتى سن البلوغ .وكان أول يوم أذهب فيه إلى المدرسة أشبه بيوم عيد وذهبت بصحبة أخى الكبير.
- هناك بدأنا نقرأ فى كتاب المطالعة قصص وحكايات مثل الحمل الذى غنى للذئب وعمر فى الحقل والغراب والثعلب والأسير وحصانة .. وهذه القصص كانت تنقلنى إلى عالم غير العالم الذى أعيش فيه وتستهوينى جدا الرسوم التى كانت مصاحبة لها وتشد انتباهى.
- ثم انتقلت المدرسة بعد ذلك إلى دار أحد الأعيان وكانت أكثر اتساعا وبها ستة فصول .. ولكن كانت الامكانيات ضعيفة لدرجة أننا كنا نحصل على ريشة بسن بصعوبة جدا رغم رخص هذه الأشياء ، وأذكر أننى أشتاقت نفسى أن أحصل على قليل من الحبر من خلال نشافة وأذهب بها إلى المنزل لأرسم به بعد وضعه فى زجاجة بها قليل من الماء ولكن الحبر أصبح باهتا لدرجة كبيرة .
- وكان يوجد فى قريتنا رجل يصنع كمامات ومعدات للجمال وكان لديه مجموعة أصباغ لتلوين الحبال وكنت أقف متفرجا وأتشوق جدا لرؤيته وهو يلون بهذه الألوان والأصباغ فظاهرة حبى للألوان لازمتنى من الصغر.
- ولا أذكر أننا تلقينا دروسا فى الرسم فى هذه الفترة .. أما الكتب فكنا محرومين منها بشكل نهائى وكانت توزع علينا فى الحصة فقط .. كل اثنين كتاب يطالعا فيه ثم يسلم مرة أخرى للمدرس وكنت أتمنى أن أمتلك مثل هذا الكتاب وأصحبه معى إلى بيتى لكى أستمتع بما فيه من رسوم تشد انتباهى ووجدانى.
- وبين الحين والآخر كان يدخل علينا الفصل الأستاذ عبد الباقى يسن وهو مدرس كان معمما وهو وجيه فى ملبسه .. يرتدى جلباب أسود ويتمتع بقوة فى الشخصية مع الاتزان والثبات .
- والعجيب أنه كان يبدأ الحصة برسم جمل على السبورة وكنت أتابع يده حتى النهاية وألاحظ أنه لا يشطب بل يرسم الخط بدقة وإجادة وأنا أطيل التأمل إلى الرسم فى إعجاب ودهشة.
- وفى حصة العلوم نفذ لنا نموذجا لتمساح ورسمه على كرتون وقصة بالمقص وقام بعمل نسخ عديدة منه وزع على كل مجموعة منا تمساح لنقله فى كراسة العلوم.
- وفى المنزل كنت أرى أخى الكبير عبد اللطيف يرسم بالأقلام الملونة على ظهر أبواب غرف المنزل زهرية بها زهور مورقة وفى موضع آخر يرسم نعامة .. كان كل هذا يحوز إعجابى ودهشتى .
- وعلى مصطبة العمدة كنت أجلس مع بقية أطفال البلد وكانت تجذبنى علب الدخان الفارغة التى يلقى بها أرضا أحد الفلاحين فكان عليها غزالة رشيقة مرسومة بإتقان .. كما كانت علب الكبريت مرسوم عليها فارس بحصان .. وعلب السجاير مرسوم عليها منظر طبيعى جميل لمجموعة مراكب على النيل وفى الجانب الآخر رسم لفتاة مصرية بالزى الفرعونى وكنت أنتظر عمى مصطفى العمدة أن يلقى بفارغ الصبر علبه السجائر حتى أحتفظ بها .. مع ما يقع فى يدى من صور وأوراق ذات طابع جمالى .
- كل هذا العالم من الرسوم أثر فى تأثيراً كبيرا وكان له أثر بالغ فيما بعد فى انجذابى نحو عالم الرسم .
- يضيف سعفان : لقد نشأت منذ نعومه أظفارى أعشق الفن والزرع وأعشق النور وأكره الظلام والقبح من القول وأتذوق الشعر والموسيقى التى تسرى فى نفسى سريان الماء فى العود.
- مدرسة المنصورة
- انتقلت إلى مدينة المنصورة ودخلت المدرسة الابتدائية وأشترى لى والدى بدلة جاهزة وحذاء برقبة وبلوفر صوف وبنطلون قصير وطربوش .. وكنت سعيدا بهذا التغير فى حياتى من جلباب مخطط إلى بدلة أنيقة وكان والدى يزورنى فى المدرسة كل يوم اثنين أثناء الفسحة ويفتح محفظته ويعطينى قرشا وكنت أفرح جدا بهذا اللقاء.
- كنت متفوقا فى الرسم إلى درجة كبيرة وأتذكر أننى رسمت مرة نبات فى زهرية زرع نالت إعجاب أستاذ التربية الفنية وأصبحت معروفا لدى زملائى بمهارتى فى الرسم وكثيرا ما كان مدرس التربية الرياضية يكلفنى بعمل رسوم حول الرياضيات والألعاب المختلفة.
- وفى الإجازة الصيفية كنت أقوم مع ابن عمى بتزيين جدران النادى الرياضى للبلدة برسوم تجسد شخصية الزعماء والعظماء من فنانين وأدباء مثل محمد عبده وسعد زغلول وحافظ شوقى والمنفلوطى نقلا عن كتب المطالعة.
- لوحة نبات الصبار
فى مرحلة التعليم الثانوى كان يقوم بتدريس مادة الرسم الأستاذ حمدى خميس الأستاذ بالتربية الفنية فيما بعد .. وأذكر أنه كلفنا مرة ونحن فى السنة الثالثة برسم تصميم زخرفى لنبات الصبار أو التين الشوكى وقمت بالرسم وأعجب باللوحة الأستاذ خميس حتى أنه طاف بها على جميع الطلبة لكى يرونها.
- فى هذه الفترة زاد اهتمامى بالفنون وكرست معظم وقتى للرسم كما أننى كنت أتوقف كثيرا أمام أى عمل فنى .. حتى من خلال تأمل ومشاهدة مدخل عمارة وأمعن النظر وأتناول بالنقد كل ما يقع على بصرى .. بالإضافة إلى هذا كنت أنقل الجيد من الشعر فى مذكرة خاصة وأزين غلافها برسوم جميلة تجارى ألحان وأنغام الشعر.
- يضيف بدوى سعفان وسط ضحكته المجلجلة والتى تؤكد مرح شخصيته وصفائها : وبعد نجاحى وحصولى على الثانوية العامة .. جاء دخولى كلية الفنون الجميلة بطريق الصدفة .. فقد ذهبت ذات يوم لزيارة سوق القاهرة الدولى وأثناء تجولى دخلت مصادفة قاعة للفن أقامتها جمعية محبى الفنون الجميلة ` صالون القاهرة ` و كان رسم الدخول خمسة قروش ..أخذت أتأمل الأعمال الفنية وكانت أعمال عمالقة الفن فى مصر : مختار وراغب عياد ومحمود سعيد ويوسف كامل ومحمد ناجى وأحمد صبرى ومحمد حسن والسجينى .. واعتقدت لأول وهلة أنها أعمال مستوردة من الخارج من قبل الحكومة المصرية ليشاهدها الجمهور وبعد أن ينفض المعرض تعود من حيث أتت واندفعت أسال القائمين على المعرض عن تلك اللوحات ومبدعيها فقالوا لى أنها لفنانين مصريين متخرجين من الفنون الجميلة وسألت بدهشة ولهفة وأين هى كلية الفنون الجميلة ولما قيل لى أنها بالزمالك لم أكمل جولتى فى بقية أجزاء سوق القاهرة واندفعت متجها إلى الكلية وعندما شاهدت لافتة تحمل اسمها منقوشة على بابها بالنحاس البارز كان هذا العنوان له رنين جميل فى أذنى ودق قلبى وكأنى لم أصدق نفسى أننى يوما ستضمنى الكلية بين أجنحتها وأكون واحدا من طلابها.
- وعند دخولى الكلية وعندما عرضت رغبتى فى الالتحاق بها قادنى أحد الطلبة إلى معاون الكلية الأستاذ محمود لطيف نسيم وهو فنان هاوى ومتذوق للفنون وكان محبوبا من الجميع حتى أنهم أطلقوا عليه بابا لطيف فأخلاقه مشتقة من اسمه.. وتقدمت إليه بأوراقى.
- وكان امتحان مسابقة الفنون الجميلة ثلاثة أيام .. اليوم الأول رسم تمثال جبس والثانى طبيعة صامتة والثالث رسم زخرفى كل هذا بالفحم والقلم الرصاص والألوان .. وفى النهاية ظهرت النتيجة ونجح 30 طالبا من 45 من المتقدمين وكان ترتيبى الخامس وكان الأول جمال قطب والثانى محمد فؤاد تاج الدين ..أما الثالث والرابع فأتذكر طالب اسمه صبحى وآخر اسمه ضياء الدين وكنت سعيدا جدا بهذه النتيجة.
- هو وعبد العزيز درويش
- وبدأت رحلة الدراسة فأظهرت نبوغا رغم عدم ثقافتى الفنية وفى السنة الإعدادى .. كان أول أستاذ تلقيت عليه دراسة الفن هو الأستاذ عبد العزيز درويش .. كان طيب النفس هادىء الطبع تشعر أن الفن كل غايته وهواه .
- وفى السنة الأولى اخترت قسم تصوير فكنت أشعر من بداية دخولى الكلية أن لدى ميل طبيعى للألوان .. وفى هذه السنة التقينا بأستاذ عظيم هو حسين بيكار رئيس قسم التصوير وبدأت عيوننا تتفتح على المعانى الحقيقية للفن وتذوقه .. رسمت طبيعة صامتة وكان موضع إعجاب الأستاذ مما شجعنى على المضى قدما فى فن التصوير وبعدها رسمت طبيعة صامتة أيضا ولكن فى تكوين آخر نجحت نجاحا هائلا وبدأت العيون تنظر إلى بأمل كبير وفى يوم من الأيام دخلت حجرة الأساتذة ووجدت اللوحة الأخيرة معلقة على حامل بالحجرة ورأيت الأستاذ عبد الهادى الجزار جالسا وعندما رآنى أبدى إعجابه الشديد باللوحة .
- ومرت مرحلة الدراسة فى حب وشغف مع تلك العلاقة من الأبوة من أساتذتى : درويش وبيكار وعز الدين حمودة الذى أدين لهم جميعا بالفضل .. حتى تخرجت عام 1959.. وبعد تخرجى أخذت أطرق الأبواب لعلى أجد عملا أو وظيفة أستند عليها وكانت الفكرة ما زلت فى ذهن أساتذة الفنون الجميلة : أننى من المتفوقين ويجب أن أوجه نفسى للإنتاج الفنى وكانت نصيحتهم لى أن أتقدم عضوا بمرسم الأقصر.
- وبالفعل تقدمت وبعد اجتياز اختبار شخصى نجحت مع ستة من الفنانين .. وهناك عشنا بالبر الغربى فى بيت عبد الرسول .. بيت من اللبن استأجرته الحكومة منه .. هناك كنا نرسم ما حولنا من الآثار والعمارة الريفية التلقائية ومناظر الجبل .. ومن هناك انتقلنا إلى القاهرة حيث مرسم ` حوش قدم ` : بالغورية .. وبعد انتهائى من منحة مرسم الأقصر جاء تعينى بالتربية والتعليم محافظة الدقهلية ` مسقط رأسى ` .. وهنا جمعت بين الفن وتلك الرسالة التى أعتز بها .. أن أكون معلما للفن لأبناء بلدى.
- رسائل بيكار لسعفان
- وتأكيدا على قيمة إبداعات فناننا سعفان التصويرية وقوتها التعبيرية .. وشخصيته البسيطة المرحة مع تفوقه .. كانت هناك رسائل متبادلة بينه وبين أستاذه الفنان حسين بيكار نقدم مقتطفات منها وهى أن دلت فإنما تدل على تلك القيم الرفيعة التى كانت تسود العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه .. وهى تحمل تواريخ فى فترة منتصف الثمانينيات من القرن الماضى حتى نهايتها.
- فى رسالة بتاريخ 23- 3- 1986 يكتب بيكار:
- ولدى العزيز الفنان سعفان .. تحية إعزاز ومحبة .. وخفقة من قلب يحمل لك كل تقدير وإعجاب .. فقد اعادت إلى كلماتك الصادقة ذكريات أجمل أيام حياتى .. عندما كان يظللنا سقف أنبل محراب .. وتربطنا أسمى الروابط بين جدران المراسم التى يفوح منها رائحة الزيوت والطلاء .. فليس هناك أجمل من علاقة الأستاذ بتلاميذه ولعلها لا تقل عن علاقة الأب بأبنائه .. وكم يسعدنى بعد أن بلغت من العمر أرزله أن أرى أبناء لى وقد لمعت أسماؤهم فى سماء الفن .. فتحملنى أجنحة الزهو إلى أقصى آفاق النشوة والسعادة وأحس بغبطة الزارع الذى أحسن الزرع فطاب الثمر .. وأن حياتى لم أهدرها عبثا والنقاء الفطرى يا ولدى هو أعظم ما يمكن أن يمتلكه فنان إذا أرد أن يكون مبدعا وأصيلا .. ولهذا كثيرا ما سمعتنى أستحثك على الحفاظ على هذه الجذوة المقدسة فى داخلك حتى لا تطفئها رياح التغيير والافتعال .. فعلى بركة الله والله الموفق.
- وبتاريخ 8 - 3 -1987 يكتب بيكار لتلميذه ما نصه :
ولدى الفنان سعفان .. تحية إعزاز وتقدير أبعث بها لشخصك الحبيب وأرجو أن يصلك كتابى هذا وأنا كما أعرفك دائما ملىء بالحيوية والنشاط والعمل المتواصل.
- وصلتنى رسالتك الأولى .. ثم الثانية التى هى نسخة منها .. ظنا منك أن الرسالة السابقة فقدت فى الطريق .. والواقع أننى قد قصرت فى حقك بعض الشىء فلم أبادر بالرد على ما جاء فى خطابك الرقيق من حب ووفاء قلما يوجد فى أبناء هذا الجيل .. فقد رجعت بى إلى أيام ما زالت ذكراها فى أعماقى حيث كنت أنعم بدفء اللقاء الحميم بين البراعم الواعدة .. وهى نعمة قلما تتوفر فى مهنة أخرى غير مهنة التدريس .. لقد وصفت فى خطابك هذا المناخ الشاعرى الرائع خير وصف ذلك المناخ الذى أعتقد أنه لم يعد له وجود بين أروقة الكلية اليوم .. فمعادن هذا الجيل تختلف عن معادنكم .. وأرجو أن أسمع عنك دائما ما يطمئننى عليك ودمت للذى يعتز بك غاية الاعتزاز .
- وبتاريخ 10-12-1987 يكتب بيكار إلى تلميذه :
- ولدى العزيز سعفان: وهكذا نطل على رسائلك الرقيقة بين الحين والحين بأسلوبها الأدبى الرفيع الذى ينضح بأرق المشاعر وأنبل صور الوفاء .. فيثلج بها الصدر وتقر النفس ويزداد الإيمان بأن الدنيا ما زالت بخير ما دام فيها أمثالك من الأبناء الأوفياء.
- إن الإحساس بالأبوة شىء رائع يا ولدى .. وخاصة إذا كان الأبناء من ذلك الطراز النقى الجاد .. ولعلك قد لمست من خلال علاقتنا الطويلة كم أنا فخور بك ومعتز ببنوتك .. ولا يسعنى إلا أن أدعو الله أن يديم عليك نعمة الوفاء والنقاء الذى يشع من سلوكك ومن لوحاتك بكل البراءة والصدق .. وهى نعمة يفتقر إليها الكثيرون ممن ينتسبون إلى أسرة الفن .. فاهنأ يا ولدى بصومعتك النائية عن صخب القاهرة ولا تفارق محرابك ولا تتوقف عن الغوص فى أعماقك.
- ويكتب إليه بتاريخ 3-6- 1989
- فى كل مرة ألتقى بك أعود بالذاكرة إلى أيام الكلية وأزكى تميزك على جميع رفاقك بطبيعتك الرفيعة وقلبك الصافى وانعكاسهما على فنك .. ثم ذهب كل منا إلى حال سبيله .. وجرفت الحياة الكثير من زملائك ولكنك كنت من القلائل الذين واصلوا رحلة الفن .. واستهوتك بعض البدع التى لا تمت إلى طبيعتك ولكن سرعان ما تداركت الأمر ورجعت إلى حيث ينبغى أن تكون وعملت الأيام على إنضاج ما تبدعه وطابت الثمرة وآن الأوان أن يرى الجمهور المصرى تجربة صادقة لم يصبها تلوث الافتعال .. وسر على بركه الله.
- عالمه
- فلاحة جالسة بتاج الحسن فى ملامح أسطورية وشعرها يتدلى حتى ركبتيها بينما يجلس خروف صغير فى أمان على رجليها.
- وفلاحة أخرى جالسة على دكة نورج تدق الكفتة بينما تتآلف معها حمامة ترنو إلى فرخها فى العش وبائع ` أبو الرياح ` الورقى وحوله رجال ونساء من أبناء الريف وطبيعة صامتة لزهور فى أصص وأكواب وفناجين وبراد وقلل ودوارق وأطباق وقماش .. وطفل ريفى يداعب جحشا على خلفية من البيج والبنى .. وفلاحة بملامح وقسمات متفائلة تحمل الجرة ولوحة للريف المصرى ريف سنبخت ومنظر ريفى لأشجار ونخيل وبيوت ريفية وحيوانات القرية وامرأتين ورجل نائم فى سلام .. وامرأة تطعم بطتها ولوحتان للفواخير وأم محمد العطارة وموسم حصاد القمح وجنى البلح وجمع العنب والبرتقال وحلب اللبن والزار والفرح فى القرية والكتاب مع الشيخ وأطفال القرية وحاملة الجريد وامرأة جالسة ` ست الدار ` وفى الخلفية الفرن البلدى وبائع الفول يتحلق حوله مجموعة من أبناء القرية ... مشاهد ومشاهد .. هذا هو بعض عالم بدوى سعفان الذى قال له الفنان صلاح طاهر : الأخ الأعز سعفان كل إعجابى بفنك الذى وراء فطرة نقية سامية ووعى وجدانى رفيع.
- وفى الحقيقة تذكرنا أعماله ذات النقاء الفطرى بأعمال الفنان الفرنسى التلقائى روسو .. مع فارق الزمان والمكان والأداء كما أن سعفان درس بالفنون الجميلة بينما كان روسو موظفا بالجمرك .. فقد حافظ سعفان على تلك المساحة من البراءة والنقاء بداخله والتى لم يلوثها سموم الواقع المعاصر من القلق وغلبة الصراع.
- وفى أعماله نجد الريف بكل تفاصيله وعناصره ورموزه من الفلاحين والفلاحات والأشجار والزروع من النخيل وأشجار البرتقال والعنب ودواب القرية وحيواناتها من الخراف والماعز والقطط والأرانب .. كما نجد لمبة الكيروسين والدرج الريفى .. كل هذا فى خطوط غنائية تحدد الأشكال والمساحات وألوان صداحة وتكوينات غير منمقة تستمد جمالها من بساطة النسق وثراء التشكيل العفوى .
- وما أشبه سعفان بأحد الرعاة من عمق الريف المصرى .. لا يمل العزف على نايه السحرى فتنجذب إليه كل الكائنات .. إنها معزوفة الطبيعة تغنى للحياة مع البشر والكائنات .. كل الكائنات على أرض مصر الطيبة .
- تحية إلى بدوى سعفان الفنان والفلاح الفصيح .. بعمق أنشودة طويلة للبساطة.
بقلم : صلاح بيصار
مجلة الخيال العدد ( 29 ) أغسطس 2012
أسطورة الفلاحين ` رؤيا الفنان بدوى سعفان `
- كان فاينسنت فان جوخ مشروع رجل دين مسيحى ، انتهى به صدق وعيه الدينيى للأنتماء للفن بدلاً من الكنيسة أو الدير . وعندما بدأ يرسم عظاته الملونة فى أرل ، لم يقنعنا فقط بحب البشر والطبيعة التى خلقها الله بل أيضاً أن نحب أعمدة النور والطرق الحجرية البسيطة ومناضد المقاهى ومقاعدها والأسرة الصغيرة فى الحجرات الضيقة وهذا الحذاء الريفى البالى الخشن القبيح .
- ويعتقد بدوى سعفان إنه لو لم يصبح فناناً لأضحى مهندساً ، أما أنا فأعتقد إنه لو لم يصبح مصوراً عظيماً لأضحى شيخاً متصوفاً شيخ صوفى له اتباع ومريدين ، لكنه الشيخ الذى لا يغيب عن البشر والوجود ، إذ لا يجد نفسه إلا فيهما . لماذا ؟ داخل أعمال سعفان نجد فيضاً من حب الإنسان ، ونبعاً من التوحد مع الجماعة ، ومدى من التماهى مع الوجود بكل مفرداته الحية والميتة ، وجمال يتدفق فتغمر مياهه كل ما تراه عيناه . وكل ذلك فيما أتصور مصدره روح قوية ذات طبيعة صوفية ، ولكنها صوفية تأنسنت وتعلمنت وتتطبعنت بعمق فزال عنها عظمها ولحمها وشحمها ولم يبق منها سوى قلب ينبض وعروق تتشعب ودماء تروى . قلب يمد عالمه بالروح ويوفر له أسباب الحياة . دون أن يمده بشكله الخارجى ولا مفرداته الداخلية . إذا لم نع ذلك لن نضع أيدينا على كلية عالمه . وسنقف عند حدود عالمه الخارجي ، عالم الطفل الفطرى البرئ بتكويناته وألوانه المبهرة ، دون أن نتخطاها لنكتشف الرجل البصير الحكيم القابع داخله .
- الذات والموضوع والتاريخ
- ولد بدوى سعفان فى قرية سنبخت دقهلية ، وتخرج من فنون القاهرة 1959 ، وكان أول دفعته . إن الشاب المتفوق المتميز طوال سنوات دراسته . والذى وقف أحد أساتذة الكلية يشرح لطلابها ` بمنتهى الاحترام` لوحاته التى اعتقدوا فى البداية أنها لأستاذهم عبد الهادى الجزار ، استطاعت بيروقراطية الكلية حرمانه من حقه فى التعيين كمدرس وبعد عامين قضاهما فى مرسم الأقصر،عمل بالتدريس فى قرى ومدن الدقهلية حتى تقاعد إرادياً فى عام 1988. خلال تلك السنوات أجبر سعفان نفسه على اكتشاف مواطن الجمال والواجب فى مهنة فرضت عليه ، وأسس لنفسه مرسماً فى قريته استأنف فيه إنتاجه بهمة ونظام .
- تعلم سعفان وقرأ وتثقف وأقام فى المدن ، ومع ذلك يظل الجانب الريفى فى شخصيته حاضراً بقوة . فهو قوى الانتماء لقريته متيم بحبها إذا كتب سيرة حياته نراه فى صفحة عنوان المخطوطة حريصاً أن يدون تحت اسمه : من أبناء قرية سنبخت دقهلية .عميق فى انتمائه للأسرة ، يتحدث فى مذكراته باعتزاز عن أسرته وأجداده ، ويكتب تاريخ حياة عمه ووالده ، وفي مخطوطة سيرته الذاتية لا يكتفى بوضع صورته بعد صفحة العنوان فيضع أيضاً صورة والده وهو متدين ويحمل تدينه سمة ريفية ظاهرة ، نراها فى عمق التدين وقوة الإيمان بالقضاء والقدر والاعتقاد الجازم فى الأحلام وقدرتها التنبؤية . وهو رجل محافظ أخلاقياً ، فيه ما فى الفلاحين من صبر وقوة تحمل ، وسذاجة وبساطة ظاهرة تخفى وراها عمقاً ودهاء .
- يكاد عالم بدوى سعفان أن ينحصر بالكامل فى عالم القرية المصرية القديمة ورغم واقعيتها الظاهرية فإن قرية سعفان قرية مفارقة للواقع ، وتلك المفارقة لها وجهان : العمومية والتعالى . ماذا عن وجه العمومية ؟. لا يمكننا أن نكتشف فى لوحاته قرية خاصة محددة ، مثلما نكتشف قرية آرل ببيوتها وطرقها وكباريها ومقاهيها وسحنات بشرها فى لوحات فان جوخ . يبدوهذا فى نمط تنظيم للمنظر الطبيعى ، حيث يسيطر تنظيم هندسى يفقد التكوين الكثير من عناصر خصوصيته ، وبالتالى قدرته على تمثيل واقع خارجى خاص . ولكنه أوضح فى تصويره لسحنات البشر وبالتحديد النساء . تتشابه النساء فى سحناتهن وتكوينهن الجسمانى ، ولا نعثر داخلهن على شخصية مميزة مثل شخصية مدام رولان فى لوحات فان جوخ . وإلى جوار وجه العمومية وبالتداخل معه تتواجد نزعة للتعالى ، أى ميل مسيطر لتحويل الواقع إلى مثال متعال . إنها نزعة تمجيد الفلاحين ، وتحويل القرية التقليدية إلى مثال عقلى وقيمى . واقع الأمر أن وجه التعالى هو الذى يمنح وجه العمومية طبيعته ودلالته ، وكأن المفارقة فى جوهرها هى ما دعوناه بالتعالى .
- وهنا يجب التوقف قبل التحليل الداخلي لقرية سعفان المتعالية ، لكى تحدد موقع فكرة القرية المثالية فى إطار الثقافة المصرية الحديثة . كان العرابيون أول من ألقى بذرة تمجيد الفلاحين فى ثقافتنا الحديثة . وجاء ذلك كامتداد طبيعى لنهضة الوطنية المصرية ، كما جسدتها الحركة العرابية فى صراعها ضد التسلط التركى - الشركسى وتغلغل النفوذ الأوروبى ، كما جاء أيضاً كتداعى أيديولوجى لإرساء الأسس النظرية للقومية المصرية ، كما جسدتها على الأخص أعمال الشيخين الطهطاوى والمرصفى . إلا أن التمجيد العرابى للفلاحين لم يتعد فى مبناة دائرة المجاز ، إذ قاموا فقط بالتوحيد الدلالى لمصطلحى ` المصريين ` و `الفلاحين ` ، كما لم يتعد فى مداه نزع الدلالة التحقيرية ، التى شكلت صلب التوحيد التركى - الشركسى القديم لذات المصطلحين ، ليحوا محلها دلالة وطنية هى الفخر والاعتزاز بالأصول الفلاحية . وفيما بين الثورتين سوف تستمر نفس النزعة فى فكر مصطفى كامل ولطفى السيد ومحمد حسين هيكل . استكمال نشط لبناء الفكرة القومية ، واعتزاز بالفلاحين وتباهى بالأصول الفلاحية إن العقد التالى على 1919 سيشهد اكتمال نضج تلك النزعة ، أى اكتمال مبناها بتحولها إلى نسق من القيم والأفكار السياسية والأجتماعية والتاريخية ، واكتمال مداها بالانتقال من الفخر بالفلاحين إلى تمجيدهم. تمجيد يقترب فى بعض صوره من التمجيد الشعبوى ، وعبر عنه جرشونى وجانكوفيسكى مجازاً بكونه `عبادة أسطورة الفلاح` ما هى المكونات الداخلية لتلك الأسطورة ؟ الفلاحون مستقر روح الأمة وهويتها الأصيلة ، فهم العنصر الوحيد الذى يشكل استمرارية طبيعية وتاريخية بقدماء المصريين ، وبالتالى يحملون داخلهم سمات العقل الفرعوني ومقومات الحضارة القديمة . ويستكمل البعد الثاني انتزاع صورة الفلاحين من براثن التشويه والاحتقار المتراكمة عبر القرون ، وتحويلها إلى نموذج لكل المصريين يشكل على حد تعبير جرشونى جانكوفيسكى ` مخزن لكل ما هو نبيل وفاضل فى الأمة المصرية` ، وفى نفس الفترة وبالتوازى مع الدعوة لفن قومى جديد ، انتقلت `الأسطورة الفلاحية` من عالم مفاهيم الوعى القومى إلى عالم أشكال الإبداع الفنى ورغم أن النتائج العملية لهذا الانتقال ، لم تتناسب إطلاقاً مع مدى الطموحات الأولية ، يمكننا القول أنها تخطت بعيداً إمكانيات `أسطورة الفلاح ` فالأسطورة أسطورة الفلاحية النبيلة فى مرماها الوطنى الهزيلة فى مبناها العقلى ، هى التى منحتنا محمود مختار العظيم ورواية ` عودة الروح` للحكيم ، وهذا كثير جداً على فكرة فى مثل هزالها : تمخض الفأر فولد جبلاً .
- ولن يقدر للأسطورة الفلاحية أن تصمد طويلاً ، فسرعان ما عصفت بها حقائق التاريخ والواقع الأجتماعى ، لتلحق بشقيقتها الحبيبة `الأسطورة الفرعونية` التى دمرتها حقائق الثقافة المصرية، ولكن ليس قبل أن يصورهما مختار العظيم معاً فى لقطة تاريخية تذكارية مصنوعة من الجرانيت : تمثال نهضة مصر . ولكنها عندما رحلت لم تتركنا بلا امتدادات ، إذ كان من المحتم أن تكون لها امتداداتها هنا وهناك بهذا القدر أو ذاك . وتشكل قرية بدوى سعفان المتعالية امتداداً لهذا الاتجاه الذى رصدنا ملامحه من أول العرابيين حتي العقد التالي على ثورة 1919 . وإذا فحصنا أعماله وما كتبه عن نفسه ، يمكننا اكتشاف نمطين من العلاقات يصنعان طبيعة هذا الامتداد. العلاقة الأولى وغير الأساسية هى العلاقة المعرفية . ولا نقصد معرفة الفكرة الأساسية بمكوناتها ، فالأرجح أن الفنان لا يعرف عنها الكثير وبالتحديد الحلقة الأخيرة من تطورها . والمقصود المعرفة بالامتداد الفنى الأساسى للفكرة ، أى محمود مختار معبوده الفنى ومثله الأعلى والعلاقة الثانية والأساسية هى علاقة الانتماء للقرية ، انتماء يرتكز على ولاء نفسى وأخلاقى لقيم القرية التقليدية ، واندماج فى واقعها اليومى وهياكلها الأجتماعية . لكنه لا يكتسب طابعة النهائى والخاص من تلك القاعدة ، بل من ذات الفنان عبر سماتها الخاصة وعلاقة الحب الصوفى التى تربطها بقريتها .
- ما هى طبيعة هذه الذات ؟ ذات فطرية طفلة . فطرية تعشق الشئ البسيط والساذج ، وتضفى عليه قيم السمو والجمال والسعادة . طفالة تنظر للوجود نظرة برئية ، فتعزل إدراكها ووعيها له عن مخزون الخبرة السائدة ، وبالتالى تمتلك القدرة على الدهشة تجاه النمطى المعتاد ، فيمتلك النمطى قدراً من الجدة والبكارة والرفعة . ولكنها أيضاً ذات حكيمة . حكمة مصدرها العام القيم التقليدية للرجل الريفى ، ومصدرها الذاتى الخاص صفة الاعتدال السلوكى والشعورى المتغلغلة فى شخصيته ، ونظام قيمى خاص يساهم فى تشكيل رؤيته للوجود. وتتخلل تلك الحكمة فطريته وطفولته ، فتمنعها من الانطلاق والجموح النزق ، وتضفى عليها بعداً عقلياً لا يأت إلا من ذات رجل ناضج . وهى ذات لا تغرق فى اجترار نفسها بل تنتمى إلى ما هو خارجها ، وما هو خارجها ليس شيئاً جزيئاً بل عالم كامل : الطبيعة والبشر . وهى تعلى من قيمة العمل والجماعة . ترى فى العمل الكادح جمالاً ونبلاً وسعادة وقوة ، ولا ترى من حولها كأفراد وتجمعات تتخللهم صراعات وتناقضات ، بل كجماعة متحدة تتلاحم بسعادة ووعى ولا تكف عن ممارسة طقوس التوحد الجماعى ، وتنقل وحدتها إلى روح المكان حولها بأشجاره وبيوته وحيواناته.
- وإذ يتجه الفنان صوب الواقع يستلهمه ، نراه يعيد إنتاجه فنياً وفقاً لتكوينه الذاتى وليس وفقاً لسمات الواقع ، فتتعالى صورة القرية عن واقعها . ويعنى ذلك إنه لن يفيدنا كثيراً أن نقف أمام قرية الفنان التقليدية ، لكى نسجل عمق مغايرتها لواقع القرية الحديثة ، قرية الأسمنت المسلح ومؤثرات النفط والتغلغل الرأسمالى . فقرية سعفان التقليدية تظل متعالية ومفارقة للواقع حتى فى ظل وجود مرجعها التاريخى التقليدى القديم . وهكذا ينطبق عليها منطق الملاحظة التى أوردها الدكتور على الراعى حول رواية ` عودة الروح ` للحكيم . إذ كتب ما مضمونه إنه لن يفيدنا كثيراً ، إن نحاكم الرواية بمعايير مدى واقعيتها التاريخية ، لكى نسجل وقائع المفارقة التاريخية فيها ، فالمفارقة بالتحديد هى منطق بنائها .
- وإذا تأملنا صورة تلك القرية المتعالية أمكننا أن نرصد لها وجهين ، وجه الروح المسيطرة على عناصر وأشكال العمل ، ووجه القيم المضمرة داخل تلك الأشكال والتكوينات . ماذا عن الوجه الأول ؟ هذه القرية فيها جلال وسمو وجمال . فالأشياء البسيطة العادية ، والبيوت الطينية الواطئة القبيحة ، والبشر المرهقون بالفقر والعمل ، كل ذلك يكتسب جلالاً وسمواً وجمالاً لا تخطئة العين . وهذه القرية فيها تجانس وانسجام وسكينة ، وكل ما يحيل إلى التنافر والتضاد والصراع والتوتر يختفي من مناخها . وهى قرية تسيطر عليها روح إنسانية، لا يقتصر وجودها على العناصر البشرية ، بل تمتد إلى ماعداها من ميت وحى فتتغلغل فيه وتكسبه طابعها . وإذا نظرنا للوجه الثانى سنلاحظ وجود ثلاث قيم مضمرة . الخصوبة ووحدة الوجود والجماعة . وإذا نظرنا للقيم الثلاث سنجدها مترابطة عضوياً ، وبقدر ما تعبر عن القيم المضمرة لرؤيته للقرية ، بقدر ما تجسد نوعاً من الوعى الكونى العام . ويشكل التحليل التالى تأويلاً للأشكال الفنية ، وإذا ظهر الأمر وكأنه ينطوى على جنوح ، فتفسير ذلك هو التباين الطبيعى بين لغة الشكل ولغة الكتابة . الخصوبة هى القوة الحيوية السارية فى عروق الوجود الاجتماعى والطبيعى ، قاعدة التجدد الطبيعى والاتحاد النوعى . وفى المقابل تشكل الجماعة روح الوجود الاجتماعى ، قوته المنظمة الفعلية ومثاليته الذاتية المستهدفة ، بينما تشكل وحدة الوجود العلاقة العضوية بين عناصره الحية والميتة ، وفى إطار ذلك تمثل القوة المؤنسنة لما هو غير إنسانى .
- تركيب الأسلوب
- تغرينا أعمال سعفان بتسكينها فوراً فى خانة المدرسة الفطرية . هذا الإغراء ينبغى مقاومته ، ليس لكى نلغيه تماماً ، بل لكى نضعه فى حجمه السليم . تمنحنا الفطرية جانباً من جوانب فنه . لكنها لا تمنحنا أبداً هوية فنه . فى لوحات سعفان شئ من الفطرية ، ولكن فيها أيضاً شئ من التعبيرية وبالتحديد فان جوخ ، وفيها أيضاً قدر يسير من التأثيرية . ولكن لا ينبغى لتلك المؤاثرات ذات الحضور الظاهرى القوى أن تصرفنا عن رؤية المؤثرات التراثية الأعمق . أخذ سعفان الكثير من الفن الفرعونى ، ومن المؤكد أن فترة مرسم الأقصر كان لها تأثيرها القوى على وجدانه وثقافته الفنية ومخزونه البصرى . أخذ عنه روحه الدينية الظاهرة والمضمرة ، وقوة حضور الرمز ، والطابع الهندسى القائم على التماثيل والتباين والتقابل ، الاحتفاء بالخط الخارجى . كما أخذ سعفان الكثير من الفن القبطى . دفء اللون وحرارته ، وشئ من نزعة تنميط وتبسيط رسم ملامح الأفراد والقديسين ، وشئ من فطرية الأداء والتشكيل ، وأخذ عنه وهذا هو الأهم : روح الأيقونة القبطية . ونجد تلك الروح فى لوحات فلاحاته النصفية . فهذه الفلاحة التى تشع جلالاً وجمالاً ومهابة ليست موناليزا مصرية ، بل مادونا قبطية تحولت إلى فلاحة مصرية . تواجهنا كما تواجهنا العذراء فى الإيقونات ، تحمل بدلاً من الطفل المقدس جرة مياة رمز الحياة والتجدد أو أنية تمتلئ بخيرات الأرض ، وكالعذراء ذات وجه وجسد واحد تقريباً يتناسخ من لوحة لأخرى ، تحيطها من الجانبين فروع الأشجار كما كانت غصون الغار تحيط بالعذراء ..
- أين إذن نجد هوية الفنان ؟ في كل تلك المؤثرات السابقة ، ربما أخرى لم أتمكن من اكتشافها ، بعد أن تداخلت وتحولت وتناسخت واتحدت فى أسلوب ذاتى خاص ، يصعب توصيفه إلا باسم صاحبه. وما هى القوة التى وجهت تلك العملية ؟ الذات بتفاعلاتها عبر الأتجاهات الثلاثة التالية . الذات بوعيها الخاص لواقعها الذى لازمها منذ يفاعتها، وحرصها على صياغة لغة فنية خاصة بها وتنسب إليها . والذات برؤيتها لواقع واتجاهات الفن المصرى ، وطموحها للمساهمة فى خلق صيغة مصرية قومية للتصوير .
- إن تحليل المصادر المكونة لأسلوب أى فنان ، ليس هو نفسه تحليل التركيب الداخلى لهذا الأسلوب وإن كان يشكل مقدمة لا غنى عنها لهذا التحليل . وإذا نظرنا لأعمال الفنان يمكننا رصد ثلاث قواعد أساسية ، تشكل العناصر البنائية الأساسية لأسلوبه : التنظيم والتنميط والترميز .
- يمثل التنظيم القاعدة المنظمة للتكوين الكلى للعمل ، بالتالى المحددة لمواقع العناصر وعلاقاتها وإيقاعها . يستخدم سعفان تنظيم من نمط هندسي ، لكنها ليست هندسية صرفه بل نسبية ومكسورة . ويتكون هذا النمط من القواعد الجزئية التالية : التصميم ، التماثل العددى ، التباين التوعى .
- يقصد بالتصميم الهيكل الأساسى الموجود داخل العمل ، الذى يقوم بتوزيع العناصر عبر علاقة خاصة بموقع أو شكل مركزى ، وفى إطار ذلك يحدد نمط علاقتها ببعضها البعض . فى حدود هذا التعريف تلاحظ وجود عدة أنماط للتصميم نكتفى هنا برصد أبرزها . ندعو الأول بالنمط الدائرى . هنا تتواجد نقطة أو دائرة وهمية داخل مركز العمل أو قربه ، من حولها تتوزع الوحدات فى خطوط شبة دائرية أو أقواس متداخلة . والثانى هو النمط الخطى . هنا تتواجد عدة خطوط مستقيمة تمتد عبر مساحة اللوحة ، إما بشكل متوازى إما عبر اتجاهات مختلفة مع تقاطعها عند نقطة مركزية ، وتتوزع الوحدات على امتداد تلك الخطوط بما لا يقل عن ثلاث وحدات لكل خط والثالث هو النمط التبادلى ، هنا تنقسم اللوحة وهمياً إلى نصفين ، رأسياً أو أفقياً أو كلاهما معاً ، وتتوزع العلاقة على تلك الأقسام من حول موقع أو شكل مركزى ، وفقاً لقاعدتى التماثل والتباين . ورغم مركزية دور التصميم فى تنظيم العمل ، فليس هو الذى يمنح لوحاته طابعها التنظيمى الخاص ، إذ نجد سر هذا الطابع فى القاعدين الأخريتين : التماثل العددى والتباين النوعى .
- يعنى التماثل العددى وجود إيقاع عددى معين يحكم عددعناصر اللوحة المتجاورة مكانياً ، كأن يستخدم وحدة أو وحدتين أو ثلاثة تم يكررهما على مساحة اللوحة . ولكن يجب أن نلاحظ مما يلى ، غالباً يوجد داخل اللوحة أكثر من متتابعة واحدة ، وغالباً تتخلل وحدات تلك المتتابعات وحدات أخرى ، تبتعد عن المنطق العددى للمتتابعات دون أن تتحول إلى متتابعة ، وتأتى قاعدة التباين النوعى لتتداخل مع قاعدة التماثل العددى . فيظهر الأمر على سبيل المثال داخل لوحة على النحو التالى . نخلتان ، منزلان برجان للحمام ، امرأتان . ولكن شرطاً أن كل التماثل عددى يجب أن يتحول إلى تباين نوعى ، إذ يمكن وجود متتابعة واحدة تتكرر داخل نوع واحد ، كما يمكن للوحدات المتحدة نوعياً أن تنتشر عبر متتابعات مختلفة .
- ماذا بشأن قاعدة ( التنميط ) ؟ يتعامل التنميط مع الوحدات الجزئية المكونة للعمل ، وليس مع التكوين الكلى للعمل الفنى . وهو يعنى ميل الفنان لتنميط الوحدات الجزئية ، عبر تصويرها فى قوالب متشابهة وقيم لونية واحدة أو متقاربة . ويتسق منطق التنميط مع منطق قاعدتى التماثل العددى والتباين النوعى ، فالقواعد الثلاث تعكس حساً تشكيلياً يمزج بين الحس الهندسى البسيط والحس الفطرى الساذج . ويمكننا رصد ثلاثة أساليب للتنميط التنميط الشكلى الذى يعنى رسم الأفراد والبيوت والحيوانات فى أشكال متقاربة إلى حد كبير ، ففى البشر مثلا نلاحظ تماثل ملامح الوجه وهيئة الجسم ونمط الملابس . ثم التنميط الحركى الذى نلاحظه فى لوحات العمل والتجمعات البشرية ، حيث يقوم الفنان بتوزيع المجموعة البشرية عبر عدة أوضاع مثل الوقوف والانحناء والجلوس ، عبر أسلوب يمزج بين التماثل والتباين والتكرار . ويسير التنميط اللونى على خطا التنميط الحركى ، ولكن الأمر ينطبق الآن على ألوان ملابس البشر ، ولكن يحدث أحيانا أن تلون المجموعة كلها بلون واحد .
- يشكل الترميز القاعدة المولدة لنظام من الدلالات ، يتداخل مع نظام الدلالات الكلي للعمل دون أن يحتكره أو يتسيده . وترتبط تلك الدلالات بالقيم الضمنية الثلاث ، فلكى يطهرها داخل الموضوع الواقعى يتجه لتوظيف أسلوب الترميز ، ولكن الترميز ليس مجرد ضرورة تعبيرية ، فالرمزحضور قوى فى التقاليد الفرعونية التى يستلهمها الفنان . وتتسق رموز الفنان تماماً مع عالمه فهى طبيعة تنبع من الظواهر الواقعية ، وتقف عن التجديد والترميزالعقلى . وسوف نكتفى هنا بتحليل ترميز قيمتى وحدة الوجود والخضوبة .
- فى ترميز قيمة وحدة الوجود نلاحظ مستوى أول ظاهرى مباشر قوى الحضور ، يعتمد على الأشكال الواقعية ودلالاتها المباشرة . هنا يرمز لوحدة الوجود من خلال أنسنة الحيوان . كيف ؟ ، تظهر الحمير والأرانب والكلاب والقطط والحمام دونما مشاركة البشر، وهى تمارس الحب والأمومة واللعب ، ويضفى الفنان على تلك الممارسات طابعاً إنسانياً محسوباً لا يمكن صدوره من الحيوانات ، ثم تظهر ذات الحيوانات فى لوحات أخرى مع البشر ، تقف وتجلس وتأكل وتتحرك وتلعب معهم . وليس مانراه مجرد حالة تجاور مكانى ، بل رفقه إنسانية متبادلة وحميمة . فهذة الحيوانات تشارك البشر أفعالهم وكأنها بشر مثلهم ، وهؤلاء البشر يتقبلون تلك المشاركة وكأنها واقعة طبيعية . ولكن الأنسنة لا تنحصر فى الحيوانات رغم إنها موضوعها الرئيسى . فى لوحة نرى جرتين للمياه ، وضعتا على دكة خشبية وتحتهما بساط ، واحدة كبيرة وأخرى صغيرة ويميلان تجاه بعضهما ، فنشعر كأننا نرى رجل وابنه جالسان يتسامران في لحظة صفو وفى لوحة أخرى نرى شجرتين وقد اندمجت فروعهما العلوية تماماً ، فنشعر إنها بشر تمارس الحب أو روح الجماعة . وبشئ من قوة الملاحظة يمكننا الانتقال من المستوى الأول إلى الثانى ، نجد هذا المستوى فى التقنيات الأسلوبية بدلالاتها غير المباشرة وبالتالى يتسم بالطابع الضمنى غير المباشر مما يجعله أقل صراحة وحضوراً . ويمكننا أن نكتشفه فى ممارسات أسلوبية جزئية عديدة مثل تصغيرالبيوت وتبسيطها وبالتالى تقريبها من أحجام البشر ، والتشابه فى الخطوط والأشكال بين البشر وأبراج الحمام والبيوت والأشجار ، وتوحيد القيم اللونية بين البشر والحيوانات الأشجار ، كما أيضا أن نكتشفه فى قاعدة التنظيم بمكوناتها الداخلية وقاعدة التنميط بما تحتويه تلك القواعد من تماثل ومغايرة وتبادل وأنتظام وتلاحم . وتنتج عن تلك القواعد الأسلوبية حالة من التجانس والتداخل البصرى بين مختلف العناصر ، فتشعر أنها رغم اختلافها تمتلك شيئاً مشتركاً ، عالم واحد متداخل ينقل كل جزء فيه جوهرة للجزء الآخر .
- تتسق رموز الخصوبة مع التكوين الثقافى للفنان ، فلا نجد فيها أى شئ يشير إلى فكرة الجسد النسائى وتداعياتها . وتنتشر تلك الرموز وتتنوع داخل مفردات عالمه الريفى . نجدها فى لوحاته النسائية النصفية . المرأة المقدسة ذات الحضور شبه الدينى ، المعزولة بتسام عن كل ما يرمز للجسد والشهوة . وتلك المرأة ذاتها رمز الخصوبة الأعلى . إذا تركنا رمزيتها الواضحة للخصوبة البشرية ، سنجدها ترمز أيضاً للخصوبة الطبيعية دوماً بفروع الأشجار ، حاملة لجرة مياة أو سلة من خيرات الأرض أو حيوان داجن ، وكأنها تحتوى الطبيعة بكل خصوبتها . كما نجد رموز الخصوبة فى لوحاتة الأخرى . الحيوانات الممارسة للحب والأمومة ، الحضور الدائم للماء فى النهر والسواقى والجرار والقلل ، والحقول الخضراء ، وشجرتان مثقلتان بالثمار اتحدت فروعهما العلوية ، وأجمة من نخيل يتباعد من أعلى ويتقارب من أسفل وكأنه ينبت من أصل واحد . وداخل تلك الرموز سنعثر على فكرتين . الخصوبة قوة مقدسة إلهية المصدر والطبيعة ، والخصوبة طاقة طبيعية تتغلغل فى جوانب وطيات الكون . ترتبط الأولى أساسأ بالبشر والمرأة بالتحديد، بينما ترتبط الثانية أساساً بالطبيعة .
بقلم : صلاح أبو نار
مجلة : إبداع ( العدد 8 ) أغسطس 1997
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث