`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
عبد المنعم مطاوع
أغنية العاشق مطاوع
أغنية العاشق `مطاوع`
- الدخان يتصاعد
- والحريق فى كل قلبى
- وأنا أغنى أغنية من دم مر.. وعتمة
- وبالكاد.. سوف استطيع أن أنفذ بنصلى
- فى بطن النهار المر
وأرسم لوحة من جديد
- `عبد المنعم مطاوع`
- كان رحيله مباغتا وغامضا، منسربا من عالمنا فى عبور رقيق ـ كحياته ـ فى إحدى ليالى مدينة كفر الشيخ الباردة الكئيبة منذ عشر سنوات بالتحديد يوم 25 فبراير 1982، بعد دقائق معدودة من نقله إلى المستشفى العام مصابا بنوية قلبية، وكان قد تخطى آنذاك سن السادسة والأربعين ببضعة أشهر.
- ولعلنا الآن نستطيع أن ننظر إلى حياته وتراثه الفنى بمنظار الحقيقة، لوضعه فى مكانه الصحيح فى مسار الحركة الفنية المصرية، التى تجاهلته فى قسوة قاتلة.. حيا وميتا!
- لزومية الصمت:
- إن مطاوع يعد من جيل الستينيات الذى يتصدر الحركة التشكيلية اليوم، وكان مؤهلا بموهبة غير عادية ليكون واحداً من ألمع نجومها، لولا أن تضافرت كل الظروف المأساوية ضده، منذ أن كان طالباً بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، ضمن أول دفعة دخلتها عام (1957) وحتى وفاته عام (1982) ليعيش ما بين التاريخين حياة لا تدانيها فى عذاباتها حياة. فان جوخ: مشردا، مفلسا، وحيدا، بلا سكن ولا مرسم ولا زوجة ولا اهل أو رفيق، مهجورا من الحبيب، مجروحا بالإهانة والإشفاق، مرفوضا من اللجان الفنية، تائها فى متاهات مرضه النفسى!
- والعجيب حقا، أنه على مدى اثنتين وعشرين عاما، منذ صدمته النفسية المدمرة وهو طالب عام 1960، وفى خضم هذه الحياة المظلمة، الخليقة بخنق روح أى فنان أو شاعر، لم يتوقف عن الرسم والشعر والابتسام، ظلت متوهجة بداخله روح الطفل البريئة، أو روح الطائر المغرد لمحبوبته فوق أعالى الأشجار. وإن كان قد لزم الصمت أغلب أوقاته بالنسبة للمجتمع المحيط به، فإن أشعاره كانت دائما لسانه الطليق فى التواصل مع الآخرين، وقد تضمنها ديوان بعنوان `لزومية الصمت`، أصدره له صديقه الفنان السكندرى عصمت داوستاشى عام 1977، وهو الذى تكفل ـ بالتعاون مع أصدقاء مطاوع بكفر الشيخ ودسوق `مسقط رأسه` ومع مديرية الثقافة بالمحافظة ـ بجمع تراثه الفنى المبعثر والممزق كجسد أوزيريس، وترميم جزء منه، وتخصيص مكان له بقصر الثقافة هناك، وإقامة معرضا له بالقاهرة فى ذكرى وفاته الثانية، من خلال المركز القومى للفنون التشكيلية عام 1984، ولم يحضر حفل افتتاحه بقاعة إخناتون مع الفنان مصطفى عبد المعطى ـ مدير المركز القومى وزميل مطاوع فى الدراسة ـ إلا شخص واحد فقط... هو عصمت!! وهكذا ظلا يتجولان وحدهما تماما داخل قاعات المعرض الخالية، فى احتفال سيريالى صامت ومهيب كالطقوس، يليق بصمت عبد المنعم مطاوع!.
- الملحمية الشعرية:
- إن أعماله الفنية - لوحاته الزيتية ورسومه بالحبر الشينى والجاف - تعد من أفضل ما أبدع بمصر فى إطار ما يمكن أن نسميه `بالملحمة الشعرية`، وتتميز ملحمية مطاوع بتجسيدها لروح مصر الممتدة عبر الزمن، وتغنيها العاشق بجلال مجدها، بزراعها وصياديها، بحزن نسائها وصبر رجالها، بسخاء أمومتها ونقاء طفولتها، بسالة جنودها وحمائم سلامها، بخيول مصرها وقوارب عبورها، بمراكب شمسها إذ تحمل ممياواتها الى عالم الخلود.. مبشرا - من خلال كل هذا - بالأمل والسلام والحب، دون سقوط فى الخطابية أو الوصفية إلا نادرا، بل فى إطار من الرؤى الخيالية والحلم الشاعرى، حلم كثيرا ما تتنازع فيه أدوار البطولة: المرأة والطفل.. والمرأة هى أمه التى ماتت فى فجر طفولته بدسوق قبل أن يعى ملامحها أو ينعم بحنانها، وهى الحبيبة التى ذبحت قلبه بالخيانة فى يفاعته، لكن المرأة سمت فى النهاية حتى أصبحت فى لوحاته رمزا لمصر، معشوقته الوحيدة الباقية التى لا يمكن إن تخونه، أما الطفل، فهو مطاوع نفسه، يستخرجه الفنان من بئر الذاكرة، ليجعله أحيانا شاهدا محايدا على الحدث، وأحيانا طرفا مشاركا فيه، يتيما، خائفا، متشبثا بعنق الأم، أو بأرجل الأمهات الغريبات، أو قائما من السعادة بمنح البهجة لرفاقه الصغار، إذ يصنع لهم طائرة ورقية ملونة، أو عائدا ببراعم الحب على زورق يطير.
- معماره الفنى:
- وكما فى الشعر الملحمى، نجد مطاوع يلجأ إلى أسلوب يتسم بالمشهدية المسرحية، وبالرصانة والفخامة، أقرب إلى الكلاسيكية الجديدة أو إلى تصوير محمود سعيد، وتقوم على توازن دقيق بين الكتل، يصل أحيانا إلى حد التماثل أو السيمترية (كما فى الشعر العمودى)، وعلى وجود الخط كعنصر رئيسي يجعل بقية العناصر عوامل مساعدة له، وعلى ثبات التكوين فوق نقاط ارتكاز راسخة، غالبا ما تكون على شكل مثلث مستقر، وعلى استطالة الأشكال وسموقها إلى أعلى وانسيابية أطرافها (متمثلا الفن المصرى القديم) وعلى اقتصاد الألوان، وحتى تبقى البطولة للأسود والأزرق والأحمر، بمعالجة تمنحها قدرا من الغموض والثقافية، بما تستقبله من أضواء سحرية مجهولة المصدر، وما تعكسه من ظلال تتلاشى كالدخان، ويقوم هذا الأسلوب أحيانا على التوازى بين الخطوط أفقيا أو رأسيا، أو على التتابع ذي الإيقاع الوتيد (كما فى التصوير المصرى القديم أيضا) حيث يتم تصفيف الأشخاص متجاورين، أو تصفيف الشرائح الأفقية بعضها فوق بعض.. ويقوم أسلوبه - أخيرا - على بناء ثلاثيات أو رباعيات من التكوينات فى لوحة واحدة، لكل منها استقلالها، وإن جمعها إطار واحد وموضوع واحد ونسيج تصويرى واحد (لوحة الصيادين الثلاثة).
- عالم من الحلم:
- وعالم هذه اللوحات لا يقف عند حدود الموضوع القومى أو الملحمى، بل يتجاوزه إلى رؤية ميتافيزيقية فوق الزمان والمكان، وتعكس حالة سكونيه واجفة، تحبس أنفاسها متوجسة فى انتظار حدث كونى، أو تتربص بها قوى خفية، وكثيرا ما يدعوك عالمه - بقواربه الأسطورية على شكل مقعد ملكى، المتأهبة للرحيل - إلى سفر بعيد نحو شواطئ مجهولة، ولا تدرى إن كانت دعوته المخاتلة تلك: إلى البر الشرقى.. إلى الحياة، أم هى رحلة إلى البر الغربى.. إلى ما وراء الحياة!.
- يقول فى أحد خطاباته) `... أود أن أسافر بعيدا، إن فى نفسي قلقا على شئ هناك.. عندما أسافر.. هل سأعود؟ - ماذا هنا يدعونى أن أعود؟`.
- لكن هذا (العالم - الحلم) لا يخفيك، بل يسحبك فى نعومة إلى أعماقه، ويثير تعاطفك مع الإنسان الذى يسكنه، حتى ينبض قلبك إشفاقا عليه مما يتهدده، أو يرق حنانا لوداعته وبراءته أو يؤخذ بقوته واستقامته.. ولا تقف `لا معقولية` عالمه حائلا بينك وبين أن تجوس فى حناياه، فهى `لا معقولية أليفة` إن صح التعبير، تبزغ من قاع ذكرياتنا إذ كنا أطفالا لا نستمع إلى الحواديت.. غير أن لا معقوليته لا تتشابه مع لا معقولية السرياليين (مثل دى كيربكو ومارجريت ودالى) إذ هى فى الحقيقة نقيض لهم، حيث يخلو عالمه من الاغتراب والعزلة واجتثاث الجذور وتقطيع الأوصال وبرودة المشاعر، تلك الملامح التى تميزهم وتعبر عن مجتمع صناعى ضاع فيه الإنسان.. بل نجد عالم مطاوع مليئا بالتراحم والتلاحم الإنساني، نستشف منه جذور الانتماء والتماسك الأسرى، ونستشعر إشعاع الدفء وهو يتواصل بين الكائنات الحية بل والجماد (لاحظ فى لوحاته كثرة الثنائيات المتلازمة والمتلاصقة، حتى فى الطير والقوارب).
- وبالرغم من هذه الخصوبة الإبداعية والنضج التكنيكي، قد يدهشنا أن نجد أعمال مطاوع على مدار عشرين سنة تقريبا منسوجة على وتيرة أسلوبية لا تكاد تتغير، وكأنه ظل أسيرا لاكتشافاته الأسلوبية المبكرة، كما قد يدهشنا فى عدد قليل من اللوحات انفصامها إلى جزءين، لكل منهما أسلوب مختلف، أحدهما تصويرى ناضج بكل المقاييس، والآخر لا يخلو من الثرثرة الزخرفية (مثل لوحة حاملة التوأمين) - أو قد يتميز جزؤها الأعلى بشاعرية الحلم، متمثلة فى فتاة محلقة فى الفضاء مثلا، والأسفل بالخطابية الدعائية، متمثلة قى سواعد الفلاحين والعمال تلوح بأدوات الإنتاج (لوحة الواعد)، مما يجعلك تتمنى لو أن اللوحة قطعت عند منتصفها.
- إلا أن معرفتنا بحياة الفنان قد تساعدنا على فهم هذا التناقض.
- ذبح الكبرياء:
- لقد نضجت موهبة مطاوع وبلغت ذروتها الإبداعية وهو بعد فى السنة الثالثة بكلية الفنون الجميلة.. ولا يكاد يختلف اثنان من زملاء دفعته على سبقه لجميع أقرانه، فقد كان نضجه الفنى يتجاوز التعاليم الأكاديمية التى يلقنها بعض الأساتذة، مندفعا إلى آفاق المدارس الحديثة، كما كان لذلك أثره بلا شك فى أن تهتز زميلته التى أحبها، لكن ابنة المدينة البرجوازية لا تظل دائما وفية للعهود والاقتناعات المبدئية التى آمن بها ابن دسوق، حين أخلص لحبه كما اخلص لفنه وشعره.. وهكذا طارت العصفورة المنزقة من غصنه العاري إلى طائر يملك غصنا مورقا بالأمانى السهلة التحقيق، إذ يملك ما لا يملكه الفنان الفقير من مؤهلات مادية، كما يملك آلة بيانو يعزف لها عليها أعذب الألحان ويفتح لها - من خلالها - طريق الشهرة كمغنية ذهبية الصوت..
- وترنح مطاوع من نزيف الجرح حتى كاد يفقد توازنه، لكنه تشبث بكبريائه وشومخه، مرتكزا على أرضه الصلبة، كنابغة يلتف حوله الجميع، يشيدون بفنه ويحفظون أشعاره، كما كان يعزيه ما أصبح فى حكم اليقين بالنسبة له وللجميع، وهو أنه سيعين معيدا بالكلية فور تخرجه.
- لكن ما لبثت أن أنقضت عليه الضربة الثانية - القاضية - وسط مملكة نبوغه أعنى وسط المرسم بالكلية ووسط كل زملائه، عندما انهالت صفعة مدوية على وجهه، إثر مجادلة بينه وبين أحد أساتذته، إذا راح يوبخه على أفكاره المتطرفة عن الفن الحديث ويحقر من شأن الفنانين المجددين بالإسكندرية..
- إنهار شموخ النابغة تحت وقع الصفعة المباغتة، أمام عشرات العيون التى كانت تتخذه قدوة، وهى تحدق فيه مترقبة ما سيحدث.. ولم يحدث شئ!.. كان الفتى الريفي الخجول أعجز من أن يكسر قيم القرية، التى تؤكد خضوع الصغير للكبير، والتلميذ للأستاذ، فكبت مشاعره، ولم يكن أمامه إلا أن ينسحب إلى أعماق صدفته مزدرداً إهانته وذله، وإن يتوارى عن الأنظار حتى يخفي عاره الذى يكسو خده.
- وحدث ما كان لابد أن يحدث: أصيب باكتئاب نفسي، واعتزل الحياة فى بيت أقربائه الذين كان ضيفا عليهم، لعجزه عن تدبير مسكن خاص، مما كان يشعره دائما بالنقص إزاء الآخرين وإزاء صديقته على الأخص، وانقطع عن الكلية حتى بعد أن تكاتف الجميع واقنعوا الأستاذ بالذهاب إليه والاعتذار له، وبعد أن قبل مطاوع العودة إلى الكلية، لم يعد قط إلى طبيعته، كان الكسر أفدح من أن يجبر.. فكيف يمكن لأى ترضيه أن تعيد إليه أغلى ما فقد: كبرياءه وحبيبته؟!.. لازمته حالة الاكتئاب والصمت، والشعور باضطهاد العالم وتآمره عليه، وبدأت تساوره الخيالات الغريبة فى اليقظة والمنام، وظل يعيش عالمين متناقضين: عالم الباطن، بخيالات الانتقام لكرامته الجريحة وتحقيق بطولات خارقة، تؤهله لمصاحبة عباقرة العالم فى الفن والشعر، بل التفوق عليهم، حتى يأتى إليه مضطهدوه راكعين تحت أقدامه طالبين الصفح، وعالم الخارج، بغلظته واستبداده واستعصائه على التغيير، مما يجعله أمامه قزما ضئيلا مهانا خائفا دائما من بطش الآخرين، خاصة بطش من له أى سلطة!
- أدت هذه الحالة إلى تخلفه عاما دراسيا عن زملائه، فى الوقت الذى عين منهم سبعة معيدين بالكلية فور تخرجهم، ووجد نفسه فى العام الجديد تلميذا لهم.. لكنه تشبث بأطراف موهبته مصمما على النجاح بتفوق حتى يلحق بزملائه ويعين فى العام التالى معيدا، واستطاع بالفعل الحصول على تقدير ممتاز فى البكالوريوس عام 1963، وكان التعيين بالكلية يعنى بالنسبة إليه كل مستقبله: يعنى أن يستعيد مملكة الأستاذية، ويعنى أن يسافر فى بعثة إلى أوروبا، ويعنى أن يعيش حياة محترمة أدبيا وماديا، بما يرد له اعتباره أمام حبيبته، ويتيح له اختيار شريكة لحياته، ويعنى أن يعيش فى عالم الفن الذى لا يحب ولا يعرف غيره..
- لكنهم خيبوا أمله!.. وكانت هذه الضربة الثالثة كافية للإجهاز عليه!
- أقنعوه أم ما يفعل.. هم!:
- وازداد ارتداداً إلى داخل ذاته، واجترارا لعالمه الباطني، وتأويلا لكل سلوك من المحيطين به، حتى ممن كانوا يتعاطفون معه وقت المحنة الذين أصبحوا معيدين بالكلية، بعد أن تخلوا عنه جميعا، وكان فى وسعهم إنقاذه حسب اعتقاده، لدرجة أنه كان يسيطر عليه حتى آخر حياته شعور بأنهم سرقوا فنه واستولوا على أفكاره ونسبوها إلى أنفسهم.. يقول فى إحدى قصائده المنثورة:
- حينما بدأنا نرسم فى اللوحات
- أمسكنا الفراجين بلهفة وحب
- كانت لهفة من حولنا على حبنا
- أجل وقدر
- لذلك أقنعونا أن ما نفعل.. هُم!
- وأن ما ننتج.. هُم!
- لذلك لا تبتئس... وأعلم
- أن الفشل الذى تحقق.. هُم!..
- هُم!
- ويمكن القول أنه منذ ذلك الوقت تحددت علاقته بعالم الخارج كعلاقة عابر السبيل المتوجس منه خيفة وحذرا.. وبالنسبة للفن: لم يعد يستقبل من مدارسه الحديثة ومن خبرات الحركة الفنية التى يتصل بها بشكل أو بآخر، إلا ما يتوافق مع أخر ما وصل إليه من مدركات إبداعية وخبرات تقنية قبل حادث الصفعة وقصارى ما أضافه أنه وصل بهذه المدركات والخبرات إلى درجة من التجويد، وأخصبها بما امتلكه، خلال حالته النفسية المضطربة، من رؤى الأحلام وذكريات الطفولة وشفافية جديدة جعلته يرى ما لا يراه الآخرون فى الواقع، ويقيم معماره الفنى وفق قوانين ذاتية محضة، يعود بعضها إلى خبراته الماضية، ويعود البعض الآخر إلى اتصاله الحميم بالفن المصرى القديم، فترة دراسته فى `مرسم الأقصر` عامى 1965 - 1966، وارتباطه العميق بجذور الأجداد، وتشبعه بحضارة مصر وامتدادها عبر الزمن، وهو ما انعكس بوضوح على مجمل عالمه التعبيرى حتى وفاته.
- وربما يرجع ما يبدو فى بعض اللوحات من اختلاف الأسلوب فى اللوحة الواحدة، إلى التناقض بين عالمى الداخل والخارج فى نفسه خلال إنجازه للوحة، وربما يرجع أحيانا أخرى إلى رغبته فى كسب رضاء الآخرين عن فنه بإعطائهم ما يريدونه، خاصة لظروف وجوده فى محيط إقليمي يتطلب الوضوح فى العمل الفنى، واحتياجه الملح لتجاوبهم مع فنه وإعجابهم به، وهو القيمة الوحيدة التى يعيش عليها، فيعمد إلى الوضوح الزائد أو النبرة الخطابية أو الزخرفة الدارجة أما فيما عدا تلك اللوحات - وعددها قليل بالنسبة لمجمل تراثه - فإن أعماله تعكس درجة عالية من السيطرة على زمام اللوحة، وأظن أن ذلك لم يكن ليتأتى إلا بسيطرته على زمام إرادته.. كان يقاوم انحناءه وضياعه بالفن.
- كان الفن خلاصة:
- إن البناء الهندسي الرصين، والصرحية المستتبة لكتله التصويرية، واهتماماته، من خلالها، بالقضايا الوطنية والقومية، تعنى أن أعلى حالاته النفسية وأكثرها امتلاكاً لوجوده، هى الفترات التى كان يرسم فيها.. ولا نستطيع أن ندرك قوة الإرادة التى كان يمارسها ليتفوق على عذابه، حتى يغرس نصله فى بطن النهار المر، إلا من خلال كلماته بعنوان `كلمات مهداه إلى فنان`.
- الدخان يتصاعد
- والحريق فى كل قلبى
- وأنا أغنى أغنية من دم مر.. وعتمة
- وبالكاد - سوف أستطيع أن أنفذ بنصلى
- فى بطن النهار المر
- وأرسم لوحة جديدة...
- لكنها للأسف كانت فترات خاطفة، تلك التى كان يستطيع فيها امتلاك وجوده بالرسم، لأن الحد الأدنى اللازم من الاستقرار المادى للإنتاج لم يكن متاحا له..
- وتلك كانت مأساة حياته الأخرى..
- كان أخر خطاب أرسله إلى صديقه عصمت داوستاشي (وهو خطابه العشرون) كاستنجاد الغريق فعلا - يقول:
- `إن أمل عابر السبيل فى شقة تأويه للمعيشة لا يخبو.. أما بالنسبة لى - فقد انتهى بالفعل.. إذ أن رغبتى الصادقة فى إحياء مرسمى قد أجهضت، ومازلت فى حالة صبر غير مشروع على شقة تعد فى نظرى مستقبلى، ومازال حلمى بأن أكون إلى جوارك فى الإسكندرية يملأ كيانى لأن وحدتى الآن لا داعى لها فعلا، ولأننى كبرت سنا كما تعلم، ومر عيد ميلادى الشهر الماضى دون أن تضاء فيه شمعة واحدة..`
- من أين له كل هذا الانتشاء؟
بعد ما يقرب من عشرين عاما عقب تخرجه، يجد الفنان نفسه بلا بيت يأويه، ولا مرسم ينتج فيه، ولا رفيق يشاركه عيد ميلاده، ولا حتى مشروعية للصبر أملا فى الحصول على شقة تساوى مستقبله.. بعد عشرين عاما من الفن، لم يكن يستطيع أن يشترى قلما للرسم أو علبة ألوان، لأن مرتبه لا يكاد يسد رمقه، وكان دائما مكبلا بالديون لباعة السجائر والسندويتشات التى كانت كل طعامه، وتصور يوما أن خلاصه الوحيد هو الحصول على منحة للتفرغ للفن من وزارة الثقافة، لأنها سوف تضمن له - فضلا عن تخصيص كل وقته للفن - عشرة جنيهات تقريبا فوق مرتبه الحكومى، كمقابل لثمن خامات الرسم.. وتقدم بأعماله إلى لجنة التفرغ، لكنها رفضت إعطائه المنحة، ولم يعلم حتى وفاته لماذا رفضته، لكنه كان يعلم شيئا واحدا:
- كنت أعلم أن العالم يملؤنى بالحزن
- يحسو على هامتى التراب
- وينفض ريشه الملون علىّ
- ويغمس فى قرارى مرقمه الجارح
- كنت أعلم أننى امتداد بلا توقف
- اغتراب بلا لزوم...
- أى إرادة أسطورية كى يواصل الرسم بعد ذلك؟.. أليست بطولة فى حد ذاتها إذ ترك لنا هذه الأعمال؟ - فما بالنا إذ نرى فيها عرائس الأحلام المجنحة.. والأطفال يمرحون.. والحمائم ترفرف بفرحة الحرية.. والمقاتلين يحلقون بأعلام العبور.. والخيول تصهل.. ووجه الأم يضوى بالحنان الجميل.. والحدائق تزدان بالنور الملون وتفعم بوهج الحياة!.. من أين له - ذلك الظامئ عمره - كل هذا الري؟.. من أين له كل هذا الفرح.. هذه الرحابة.. هذا الانتشار؟.. وإلى أى أرض كان ينتمى - ذلك الشريد - إذ ضن عليه الوطن بأمتار تأويه حياً، وما ضن بها عليه ميتاً؟..
-هل كان قدسياً؟.. لا.. بل كان محباً عظيما.. أحب حتى القلوب الحجرية التى حطمت قلبه، حيث يقول فى `الذكرى - الحب`:
- حبى نغم..
- أهوى قلوبا من حجر
- أحنو عليها
- حبى رحيب كالأفق
- ملك البشر
- إن عشرين عاما هجر حبيبته لم تنسه حبه وانتظاره لها، وها هو يفتح قلبه من خلال قصيدة `إضافة`:
- الحب فى الفؤاد دمعة من الأسى
- أه يا عمرى المكدود
- تهت فى البحار الزرق والعتم
- عدت دون غرام
- كأنك النديم فى ليالي السكر والهزيمة
- مضيعاً.. مشردا.
- كريشة جرها السباق فى أمسياته الغربية
- الليلة ميعادها.. ميعاد عودها
- ميعاد عنكبوت حبها القديم.
- روح تحترق:
- عرفته لأول مرة عام 1967، إذ كنت أعمل مديرا لقصر الثقافة بكفر الشيخ، وجاءنى بخطاب تعيين للعمل بالقصر بعد عودته من مرسم الأقصر، وعرفت شيئا عن مأساته وظروفه.. أدركت أنه لم يكن بحاجة إلى وظيفة فقط، وإنما إلى أسرة ترعاه، فقد كان يمر عليه أحيانا يوم وليلة بدون طعام بعد أن تبتلع السجائر والدائنون مرتبه الصغير فى أوائل الشهر، وكان أخ يعمل خياطا بدسوق هو الوحيد الذى كان يأتى لزيارته بين الحين والآخر ويوصيني به خيرا، ويترك معى بعض العون القليل له (وقد توفى بعد مطاوع بسنوات) - وكل ما استطعت تدبيره من أجله - كغريب مثله فى المدينة - أن أدبر له حجرة صغيرة جدا فوق سطح مبنى القصر يتخذ منها مرسما، وزودته بما يحتاجه من أدوات الرسم، (وما زالت هذه الحجرة هى المكان الوحيد لتخزين أعماله حتى اليوم).. وبدأ مطاوع يخرج من صندوق صمته، ويفصح عن روحه الرقيقة الوديعة، ويتحقق عن طريق الجهر بالشعر والأحلام مع مشاهير الفنانين التى يراها فى المنام، وأخذ يورق بالزهر من خلال الرسم والأشعار، وكان حصوله على تلك الحجرة الصغيرة قد فعل به السحر.. فأخذ يتبدد الحذر المتبادل فى العلاقة بينه وبين الآخرين، وازداد اقترابا منه ثلاثتنا الذين جمعتنا ظروف العمل فى كفر الشيخ آنذاك: الشاعر عفيفي مطر ، والفنان محمود بقشيش.. وأنا.
- وفجأة انهار كل شئ مع دوى هزيمة 5 يونيو 67، وبينما كنا نلصق آذاننا على الراديو تلمسا لخبر، كالغريق يتشبث بقشة، كان مطاوع يجلس فى ركن منطويا على نفسه، يدور فيما حوله بنظرات زائغة، ثم يهب فجأة مكشر الوجه ويدور من حجرة إلى حجرة وكأنه يبحث عن شخص لابد من عقابه، ويعود للانطواء على نفسه من جديد، وبينما وجد كل زملائه فى العمل ملاذا من الانهيار، وفى الاحتماء بالجموع وشحذ الهمم ملاذا من اليأس، دخل مطاوع مختاراً صندوق الصمت.. كأن ما حدث هزيمته الشخصية وفى إطلالاته القليلة خارج الصندوق، كان يسترجع مشاهد من معبد هابو بطيبة، خاصة مشهد الأيدى وأعضاء التناسل المقطعة للأسرى.. كان يعكس - أكثر من الجميع - هول المأساة التى تحرق روحه، كما تحرق أصابعه أعقاب السجائر وهو لا ينتبه.
- هكذا كان ضميراً حساسا لمصر وعاشقا لها، هو الذى عانى فيها كل ما عانى، حتى اللحظة التى فارق فيها الحياة، على يد طبيب ناشئ فى قسم الاستقبال بمستشفى مجانى بمدينة ريفية، ومن حوله بضعة قليلة من محبيه.
- من ينقذ الغريب؟
- إن مطاوع تجسيد صارخ لقضية اضطهاد الفنان بمصر، ولأوضاعه المتردية، لو لم يلتزم بغير الفن والصدق، أو كان عاجزا عن التكيف الاجتماعي، (وهى الكلمة المهذبة التى تقابل النفاق أو الشللية أو علاقات المصالح)، وكانت مأساته هى نتيجة لهذا الاضطهاد.. لكن.. إذ كانت قد ارتكبت فى حقه كل تلك الجرائم فى الماضى، فإن انحثها ما يحدث اليوم، من دفن ذكراه، وتبديد أعماله بين عشرات البيوت والأماكن.. وتلف الباقى، لولا ما استطاع إنقاذه منها صديقه الوفى عصمت داوستاشي (إننا على سبيل المثال لا نعلم شيئا عن مصير اللوحات التى أنجزها فى مرسم الأقصر من 65 - 1966، وكذلك اللوحات التى عرضها بمعرضه فى نقابة الصحفيين بالقاهرة فى أوائل السبعينيات).
- وتبلغ القسوة ذروتها، إذا علمنا بأن أغلب زملاء دفعته بالكلية، الذين جعلوا منه فى الماضى ملحمة فلكلورية راحو يتفنون بها، قد أصبحوا اليوم فى مواقع الصف الأول فى الحركة الفنية، بين أساتذة فى الكليات، وبين مسئولين رسميين، وبوسعهم لو أرادوا أن يفعلوا من أجله الكثير، ولكن من ذا الذى يذكر الحلم الغريب وسط حومة المصالح؟.. أليس الحى أبقى من الميت؟
- وقد فعل زملاؤه الفقراء فى كفر الشيخ، وكذا القائمون على الثقافة بها ما بوسعهم مشكورين لانتشال ذكراه، من الضياع، ما تبقى من أعماله، وإصدار عدد خاص من نشرة `إشراقة` عنه، بأقلام أصدقائه ومحبيه من شعراء وفنانين، كما استجاب المركز القومى للفنون التشكيلية - مشكورا كذلك - لدعوة أصدقائه لإقامة معرضا لأعماله، أفتتح فعلا بالقاهرة ذلك الافتتاح السيريالي الصامت الذى لم يحضره أحد عام 1984، لان المعرض كان مجرد رقم فى برنامج إدارة المعارض، لم يسبقه إعلام عنه، ولم تصاحبه ندوة للتعريف به، علما بأنه يقام فى مدينة لا أحد فيها يعرف الفنان وليس له بها شلة أو أهل أو أصحاب يحضر الناس لمجاملتهم كالعادة!.. وإذا كان كل ذلك قد حدث بحسن نية، فكيف نفسر عدم قيام لجنة المقتنيات بزيارة المعرض لاقتناء شئ من أعمال مطاوع حتى يكون له مكان بمتحف الفن الحديث، أسوة بأى فنان عادى من الأحياء على الأقل؟
- ما هكذا يكرم الخالدون، إذا أردنا حقا أن نكرمهم أو نخلدهم!
- إن أقل عمل تقوم به وزارة الثقافة - إبراء لساحتها - هو أن تقوم بحملة واسعة لجمع لوحات عبد المنعم مطاوع، وأن تعمل على ترميمها ووضعها فى إطارات لا ثقة، وأن تقيم بهذا التراث معرضا شاملا ينتقل بين القاهرة والإسكندرية والمحافظات الأخرى، وأن يقتنى عدداً من أعماله لمتحف الفن الحديث بالقاهرة ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، ثم يصدر كتاب عنه يتضمن أكبر عدد ممكن من لوحاته بالألوان، بينما يجهز له متحف لائق به فى كفر الشيخ أو دسوق، وليكن هذا كله إنجازا وطنيا تتعاون فيه الثقافة الجماهيرية والمركز القومى للفنون وكلية فنون الإسكندرية، وفاءً لأبن بار من أبناء مصر العظام، الذين أعطوها عصارة عمرهم دون أن يحظى حتى بلمسة حنان..
- ولنسرع فى ذلك، قبل أن يقول التاريخ عن هذه الفترة: تلك أمة قتلت فنانيها!
بقلم: عز الدين نجيب
مجلة :إبداع(العدد 7) يوليو 1987
أنشودة الضياع
- البدايات
- ما الذى ذكرنى بعبد المنعم مطاوع الآن .. هل هى النهايات البائسة التى نحياها بعد البدايات المتوهجة ..هل هو الحزن الحزين الذى يلون أيام التحولات الفارقة التى تحياها مصر الآن .
- هل أحن إلى لقاء مطاوع لينشد لى أغنية الضياع الذى عاشها .. والضياع والغربة الذين أعانى منهما الآن فى بلدى التى تهمش العمالقة ليتعمق فيها الصغار .. سنلتقى قريباً يا منعم فى العدم.
- يقول مطاوع : لقد نشأت لا أؤمن بالمستحيل ،كل شىء محقق لى كإنسان لى طموح الملائكة وغربة الشجاعة ورهبة الحقيقة ..لقد أحلت أحلامى إلى حقيقة أن أولد ..وأنا بعد لم أولد ..وبعد أن ولدت ` ولد عبد المنعم مطاوع ` فى مدينة دسوق عام 1935 لأسرة دسوقية عريقة منزلها قريب من جامع سيدى إبراهيم الدسوقى أنجبت فنانين ومبدعين فمن أبناء عمومته المسرحى كرم مطاوع والكاتب الصحفى عبد الوهاب مطاوع والممثل محمد الدفراوى وغيرهم ليصبح عبد المنعم مطاوع هو الشاعر والرسام والملون البارع فى هذه العائلة المعروفة فى مدينة دسوق التى خرج منها العالم أحمد زويل والأديب أمين يوسف غراب والكاتب محمد سلماوى والناقد الفنى محمد سليمة والمطرب محمد رشدى والرسامين ماهر داود وعبد العزيز تاج والفنانين محى الدين اللباد وحسن غنيم وعبد الوهاب عبد المحسن والسيد عبده سليم وأحمد عز الدين والأديب أحمد ماضى والشاعر محمد الشهاوى وغيرهم من الفنانين والشعراء والأدباء الذين يسكنون كفر الشيخ أو بعض القرى المحيطة بها أو انتقلوا نهائياً للقاهرة أو الإسكندرية .. شأنها شأن كل مدن محافظات مصر الولودة بالمبدعين فى كل مجالات العطاء الإنسانى .
- ويحكى عن شقاوة الطفل الصغير مطاوع الذى انجذب وهو فى السادسة من عمره وراء ( صندوق الدنيا ) لقد مشى عبد المنعم وراء صندوق الدنيا مسحوراً به عسى أن يقتنص فرصة أخيرة للجلوس أمامه والنظر فى بلورته السحرية بعد أن يغطى صاحبه رأس الأطفال بقطعة قماش وكأنهم داخل قاعة سينما أو مسرح ينطفى نورها ليبدأ العرض وقد ألح مطاوع الصغير على الرجل ليشاهد حكاية أبو زيد الهلالى والرجل الذى يوعده ويستمهله لحين الوصول لمحطة الدلتا - سكك حديدية تابعة لشركة إنجليزية وكانت بدائية تمتد قضبانها عبر الريف رابطة القرى بعضها ببعض - ولكن الرجل كان ينتوى أمراً آخر فقد أغراه بالركوب معه منتوياً اختطافه ولحداثة سن مطاوع وحبه الشديد لسحر صندوق الدنيا ركب مع الرجل قطار الدلتا .. وفى المحطة التالية قيض الله له من ينجده من الاختطاف متمثلاً فى قريب له صعد عربة القطار وما أن رآه مطاوع حتى جرى نحوه متهللاً وعرف قريبة الحقيقة من الصغير الحائر الذى كاد أن يضيع وهو فى السادسة من عمره.
- الوجود والعدم
- منذ التقيت بعبد المنعم مطاوع ونحن طلبة كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية فى أوائل الستينيات من القرن الماضى وقد تبنيته وأصبح مسئوليتى وتحت رعايتى الكاملة ..رغم أنه يكبرنى بسبعة أعوام تقريباً ..وحتى بعد رحيله وحتى الآن لم أتخلى عن مطاوع الذى تخلى عنه الكثيرون .. السبب إنه فعلا كان فى حاجة إلى من يرعاه لظروف حالته النفسية التى أصيب بها أثناء دراسته بالكلية ولها حكاية محزنة ذكرتها فى كتابى عنه ( البحث عن مطاوع ) .. وأنا من ناحيتى لا أستطيع أن أتخلى عن إنسان يحتاج إلى رعاية فجعلت حياته جزء من حياتى .. الآن لا أتذكر أيام الكلية كثيراً .. كنا نمشى على كورنيش الإسكندرية من جليم إلى محطة الرمل نتحدث ونشرب سجائر كليوباترا نشتريها سجارة سجارة ونأكل سندويتشات فول وطعمية وندخل السينما ثم نذهب لمرسمى وكان عبارة عن حجرة على سطوح العمارة التى تسكن بها أسرتى بالإبراهيمية .. ليحكى لى أحلامه الجميلة التى يحكيها لى دائماً .. كنت أترك له مرسمى يعمل وينام فيه .. وكنت أصعد إليه من شقتنا بالطعام والألوان وأوراق الرسم كان يلتقى فى أحلامه هذه بمحبوبته التى هجرته ..ولعلها كانت تعاود حبها له من جديد ( فى الحلم طبعاً) .. والأحلام كان يلتقى ويحاور ويجادل كل من أحبهم من فنانى العالم .. بيكاسو وفان جوخ وجوجان وماتيس وسيزان وليونارد دافنشى ومايكل أنجلو وبول كلى وسيف وانلى وغيرهم وكان يحكى لى هذه اللقاءات بالتفصيل وما دار فيها من حوار .. لو كتبته فى ذلك الوقت لكان عملاً أدبياً وفنياً مدهشاً .. والذى كاد أن يجننى أنا الآخر حين يستقبلنى : كنت جيئت بدرى شوية بيكاسو لسه ماشى من عندى .. كان عايز يشوفك.
- رغم كل شىء كان مطاوع إنساناً عادياً متواضعاً ومؤدباً وحريصاً على إحترام الآخرين وعلى إحترامهم له.
- تخرج عبد المنعم مطاوع من كلية الفنون عام 1963 قبلى بأربع سنوات وانشغل فى الحصول على دبلوم التربية العالى ثم التحق بمرسم الأقصر فى بعثة داخلية عام 1966 وكان حلمه أن يتم تعينه معيداً بالكلية مثل زملائه .. فى عام التخرج بالكلية أنجز مطاوع مشروعه الكبير ( الوجود والعدم ) من مجموعة لوحات توجها بلوحة ضخمة كبيرة لعلها الآن فى منزل أحد أقاربه ولم يتسنى لى تصويرها كان وجوده بالكلية فى نظره أصبح ( كالعدم ) بعد أن أقبل عليها بطموحاته الشابه المتوهجة عام 1957 ليلتحق بهذه المدرسة الجديدة للفن التى أنشأها الفنان أحمد عثمان وكان أول عميداً لها فى جو سكندرى شديد الثراء بالفن والإبداع فقد كان هناك بينالى الإسكندرية لدول البحر المتوسط وكان أيضاً وليداً ، افتتحت أول دوراته عام 1955 وكان هو الآخر بمثابة مدرسة فنية كبيرة وإطلالة حقيقية على إبداعات فنانى البحر المتوسط مهد الحضارات ومركز لإبداع الفن الحديث فى ذلك الوقت وبداية النصف الثانى من القرن العشرين .. والإسكندرية ما زالت تموج بمراسم الفنانين الأجانب الذين اكسبوها طابعاً عالمياً وسط جاليات أجنبية متعددة ..وكان أتيلية الإسكندرية للفنانين والكتاب الذى أنشأه رائد التصوير المصرى الحديث محمد ناجى عام 1934 متألقاً بأنشططه يضم بين أعضاء نخبة مثقفة المدية من كل جنسيات العالم .. تقام به المعارض المحلية والدولية والمحاضرات والندوات .. كانت الإسكندرية تتباهى ولآخر مرة فى حياتنا الحديثة بكونها عاصمة الفن والثقافة فى مصر ومنطقة البحر المتوسط وقد إنطلق فيها رواد الفن المصرى العظام محمود سعيد ومحمد ناجى وعفت ناجى والجيل الثانى من الرواد على قمتهم الأخوين سيف وأدهم وانلى والمثال محمود موسى والمصور محمود حلمى وآخرين .. وكان هذا المناخ الرائع هو الحافز للجيل الأول الذى التحق بكلية فنون الإسكندرية والذين كان منهم مطاوع يحدوهم الطموح والأمل والمستقبل العظيم الذى ينتظرهم وقد تألق مطاوع فى سنوات دراسته الأولى بكلية الفنون كرسام وملون بارع تميز مبكراً بالنضج وتبلورت مدرسته الفنية التى تأثرنا بها جميعاً والتى تعتمد على البناء القوى لتصميم اللوحة والمضمون الإنسانى الذى يستلهم البيئة والأحداث الوطنية فى ذلك الوقت بالألوان الصريحة التى تعمق الموضوع المرسوم بفرشاة مصور متمكن ..كان مطاوع إلى جانب هذا شاعراً يكتب ويلقى الشعر على زملائه ..كان إنساناً مرحاً يحب الحياة الاجتماعية ويشارك زملائه لهوهم ورحلاتهم وحفلاتهم الترفيهية .. يحب ويحترم أساتذته وخاصة سيف وانلى بما يمثله للفن السكندرى الحديث الذى يطل على العالم كله فى لوحاته وألوانه المشرقة الحية ..وحتى أساتذته الأكاديميون خريجى الفنون الجميلة بالقاهرة بإتجاهتهم التأثيرية والتعبيرية والإجتماعية وتزمتهم الأكاديمى .. كان يتعلم ويستفيد منهم ويحترمهم .. فقد جاء من دسوق ليتعلم الفن الذى يعشقه .. ولكن فى لحظة غاضبة من أستاذه الأكاديمى فقد مطاوع فيها كل شىء عندما هوى على وجهه بصفعة غادرة قوية أطاحت بعقله تماماً عندما أعلن حبه واحترامه لأستاذه سيف وانلى ..لم يعد إليه عقله بعد ذلك مطلقاً حتى وفاته.
- لقد سمعت هذه الحادثة بروايات مختلفة حتى مطاوع نفسه يبدو أنه حكاها بروايات متعددة لأصدقائه لقد أصبحت الحكاية فى نهاية ضمن أساطير مطاوع الحياتية ..كلها مقبولة وكلها يمكن حدوثها من هذه الروايات أنه وقف فى مرسم طلاب قسم التصوير بكامل أناقته البيبيون الأسود والشعر الكثيف المنكوش والبدلة السوداء ذات القميص المخطط والحذاء المخطط يرسم فى طبيعة صامتة ..انبهر زملائه باللوحة وسرت الهمسات فى أرجاء الكلية ، تعالوا شاهدوا العمل الرائع الذى يشتغل فيه مطاوع الآن.. كان نجم نجوم الدفعة الأول من طلاب الكلية فتجمع الطلبة حوله وهو يضع اللمسات الأخيرة فوق قماش لوحته حين جذب الفضول أستاذه الأكاديمى ليرى هذا التجمع حول الفتى الفنان .. واقترب الأستاذ التلميذ وسأله ماذا تفعل ..فرد التلميذ فى نشوة الإبداع : تعرف ترسم زيها ..فما كان من الأستاذ أن رفع كفه وصفع مطاوع فى وجهه صفعة أفقدته صوابه فدفع بلوحة الألوان تجاه وجه أستاذه أمام حشد الطلبة الملتف حولهما .. وذهب مطاوع بعد ذلك ولم يعد .
- أى كانت القصة أوالأسطورة وأى كانت تفاصيلها وأنا ميال للقصة الأولى والتى محورها حب مطاوع لسيف وانلى وكراهية أستاذه لسيف وانلى لأنه فنان حر ناجح غير أكاديمى وأكثر شهرة من الجميع . وهى الحالة الأكثر واقعية لحدوث هذا التصادم فإن الصفعة فى حد ذاتها كانت قاتلة ولكنه أيضاَ كان جاهزاً لها .. ولقد قال مطاوع بعد ذلك لأستاذه فى إحدى المناسبات ( لقد قتلتنى ) كانت شخصية مطاوع الرومانسية الحالمة قابلة للإنهيار فى أول صدام حاد يواجهه كان قد خرج من أزمة عاطفية صاخبة تحملها وقبلها ..لقد وجد حبيبته التى لم يخبرها أبداً بأنه يحبها فى أحضان أستاذها ( الذى تزوجها بعد ذلك ) فأطاحت هذه الصدمة بعواطفة ولكنه تماسك ولعل تماسكه كان ظاهرياً لأن صفعة أستاذه أكملت عليه وأطاحت به بعيداً وأضاعته ذلك الضياع الذى جعلنى حتى الآن مازلت أبحث عنه .بعد عام فى العلاج عاد مطاوع للدراسة متخلفاً عن زملائه من الدفعة الأولى .. عاد غير ما كان .. أصبح إنساناً منطوياً حزيناً .. وأصبحت لوحاته نحيب وبكائيات وغمرتها الألوان الداكنة وبدأ الطفل الصغير يطل فى كل رسوماته .. كتب وقتها أشعار ديوانه الأول ( لزومية الصمت) الذى طبعته له عام 1979 وعاش وحيداً فى أسطورة صمته ` وادى الملوك والملكات ` أنهى عبد المنعم مطاوع دراسته بكلية الفنون الجميلة وتخرج فيها بإمتياز من قسم التصوير ( الرسم الملون) عام 1963 بعد دفعته بعام .. ذلك العام الكئيب الذى تخلفه بسبب حالته النفسية وهكذا لم يتم يعينه معيداً بالكلية مثل باقى زملائه وهى الوظيفة التى كان ينتظرها ويتمناها .. ولكنه أصبح أستاذاً للفن ربما أكثر أهمية من الأساتذة الأكاديمين عمل حتى وفاته فى قصور الثقافة مشرفاً على المراسم والأنشطة الفنية فتخرج على يديه أجيال من شباب فنانى كفر الشيخ ودسوق وأن ظل طوال حياته يحن للإسكندرية التى فيها أغتيلت كل أحلامه ..لم يكرهها وظل وفياً لذكرياته البعيدة الجميلة بها .. وبعد تخرجه بعامين سافر فى بعثة داخلية إلى مرسم الأقصر جنوب مصر وهو مرسم أنشأه رائد فن التصوير المصرى الحديث محمد ناجى حين حصل عام 1941 على موافقة وزارة التعليم العالى على إقامة مراسم لطلبة الفنون الجميلة فى قرية القرنة التى رشحها له صديقه المهندس المعمارى حسن فتحى ولكن لظروف عديدة تم اختيار منزل على عبد الرسول فى القرنة القديمة ليكون مرسماً للبعثات الداخلية لخريجى الفنون الجميلة يحصل المبعوث فى نهايتها بعد عامين على دبلوم عالى وشاءت الأقدار أن يكون مطاوع هو أخر المبعوثين إلى مرسم القرنة الذى أقفل أبوابه عام 1966 بعد إنتهاء بعثة مطاوع.. وكان المبعوث الوحيد فى ذلك الوقت .. فقد تحولت البعثات بعد ذلك إلى الخارج خاصة فى الأكاديمية المصرية للفنون بروما.
- كنت وأنا طالباً فى الفنون أسافر كل عام فى إجازة نصف السنة إلى الأقصر .. وكانت هذه الرحلة من الطقوس الهامة لكلية الفنون فى ذلك الوقت فإذا تأجلت هذه الرحلة لسبب أو لآخر .. أخذ بعض زملائى ونسافر إلى الأقصر .. وفى عام 1966 ألتقيت بمطاوع هناك وقد اسكنوه منزلاً ريفياً منعزلاً ملاصقاً للمرسم ( نوع من العزل) الذى سكنا بعض حجراته بالأجر أنا وزميلى حسين الشابورى ومحمد على .. ولكننا شاهدنا لوحات صديقنا مطاوع التى أستلهمها من بيئة الضفة الغربية لمدينة الأقصر ومن أرواح مدينة الموتى التى شيد فوقها أهل القرنة منازلهم .. يحفرون أرضيتها لاستخراج الكنوز والأساطير والأشباح وقد حكى لنا مطاوع كيف تزوره هذه الأشباح كل ليلة وتحكى له حكايا الملوك والملكات الراقدين فى واديهم فى انتظار البعث .. وكان مطاوع مغرماً بمدينة - هابو - القريبة من مرسمه كان يأخذنا هناك قبل الغروب ويصعد فوق أحد الأعمدة المحطمة فى قاعة الأعمدة الضخمة لينشد لنا أغنيته الجميلة إلى حبيبته التى راحت والذى لم يحب بعدها إمرأة أخرى أبداً.
- الليلة يا حبيبتى أحنوا على صدرك .. حنو أفكارى على مبدأى
- سلاماً جميلاً عشقه ثرى طيبة ... وجلالة بقاء الصفة الأبدية
- وحينما يلفنا الصمت بكبريائه .. أسمع شقشقة العصافير فى (هابو )
- ذلك المعبد الرابض للزمن ... فأغنى إليك أغنية .
- ( كلما يطلع الليل علينا.. ينداح القمر على جبين السماء
- الليلة يا حبيبتى ... الليلة ..أحنو على صدرك)
- كانت أيام مطاوع فى الأقصر هى آخر الأيام فى حياتة .. عاد بعدها ليعمل بقصور الثقافة متنقلاً بين دسوق وكفر الشيخ والإسكندرية لا يكفيه مرتبه المتواضع ويعيش كما يعيش صعاليك الفن الذين نقرأ عنهم فى الكتب .. يهيم وحيداً وحين يحن للصحبة يذهب إلى أصدقائه المقربين .. فاستقبله بصدر رحب فى مرسمى الصغير ضيفاً عندى طوال فترة تواجده بالإسكندرية أمده من جديد بأدوات الرسم وخاصة قلم الحبر الأسود ( الرابيدو جراف ) والأوراق والأقلام والسجائر والراديو الترانستور لأن ما أعطيته له أضاعه ..وكانت زياراته الشهرية هذه يتكرر فيها هذا التموين الفنى قلم الحبر الأسود والأوراق والراديو والترانستور .. حتى رحيله بعد وعكة صحية فى مساء 25 فبراير 1982 بكفر الشيخ ودفن فى دسوق .
بقلم : عصمت داوستاشى
من مطوية المعرض الاستعادى للفنان - متحف الفنون الجميلة 2018
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث