`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
صالح محمد رضا

- عندما نعرض لفنان مثل صالح رضا، فإننا برغم زوايا عديدة سوف نمر عليها فى مجاله الفنى، إلا أننا سوف نكون مدفوعين دفعا إلى التركيز على هذه الزوايا الصعبة، ونعنى بها ذلك الحائط القوى الذى استطاع صالح رضا أن يمتصه، وأن يعبر من خلاله، ثم يتجاوزه ومعه ذلك الرصيد من الذكريات العرقية والشعبية والحضرية، يتجاوزه إلى واقع كائن، ثم إلى واقع مفترض ، ثم إلى مستقبل محتمل. وأيا كان الأمر ، فإن صالح رضا نحات مقتدر فى الأساس. واقتداره يأتى من كونه قد نبذ الأزاميل، والدفرات، ودواليب النحاتين منذ نهاية الستينات تقريبا على اعتبار أنها وسائط لحالة الابتكار تساعد أكثر ما تساعد على `تقليد` الصورة النحتية سابقة التجهيز عند الفنان ، فتلك الوسائط ليست إلا إحدى الوسائل التقليدية التى تعاون على تصعيد حالة `التمثيل` فى عملية الابتكار، ولكنها لا تفجرها، وتقلد الصورة الجسمية الجاهزة، ولكنها لا تخلقها . ذلك أن العمل الفنى عند صالح رضا هو `صورة عقلية `قبل أن يكون ` صورة حسية `، ومعنى ذلك أن العمل النحتى قد مضى عبر مجموعة من المكثفات الفكرية الخلاقة قبل أن يتحول إلى عمل له صفة النحت والحال، هو أن الكيان النحتى عند صالح رضا هو فى معظمة `صورة مخلوقة ` وتلك هى الصفة `التصميمية ` ذات الفضاء العقلى عند رضا، وهى ميزته الخصوصية التى وضعته بطريقة شبه فجائية، فى مقدمة النحاتين المصريين منذ أوائل الستينيات .
- ثمة – إذن – ما يدعونا إلى تجنب التركيز على ما أنجزه صالح رضا فى الفترة التى تبدأ على وجه التقريب منذ عام 1954 وحتى نهاية عام 1958إلا على قدر ما يشير ذلك إلى بدايته المبكرة، وأيضا على قدر ما يلقى من الضوء على طبيعة توجهاته ، وانتماءاته وربما انحيازاته الفنية. فقد قدم صالح رضا. آنذاك أعماله التى ما تزال منحوتة فى الذاكرة حول الفقراء، والجوعى ، والشحاذين، والعمال والفلاحين، والمظلومين، والثوريين، كذلك كانت ثورة يوليو قد قلبت الأوضاع كلية ودفعت الجماهير إلى التعبير عن أمانيها الذاتية، وعن أحلامها الضائعة .
- أنجز رضا مجسمات ذات صفات آدمية وعظام بشرية، وأيد ممتدة مبالغ فى خشونتها، وأرجل قوية كبيرة الحجم، ووجوه ضامرة، وأكتاف ناتئة، وأشخاص محتجين ومعتلى الصحة، وأجواف خاوية، وعيون مفقوأة، وحالات بشرية مهدرة. وركز رضا على افتعال فراغات محاصرة داخل العمل حتى يضفى على الفكرة النحتية إمكانية القراءة البصرية الفورية أمام الرمز المباشر .
- صياغــة الفراغيــات :
- كانت فراغيات هنرى مور قد ألقت بظلالها الثقيلة على كثير من أعمال الفنانين المصريين وقتئذ فى النحت والتصوير على السواء . فلم تنج حتى أعمال تصويرية لرمسيس يونان وفؤاد كامل فى أواخر الأربعينات والخمسينات الأولى من ذلك التسليط القوى للفراغيات التى تخترق الأجسام باعتبارها نوعاً مثيراً من الارتياد الكشفى، غير أنها عند النحاتين لم تكن مجرد `مثير ` وإنما كانت أيضا نوعاً من الحلول الجاهزة التى تشكل بديلا مستعارا من تصميم وابتكار الآخرين .
- وكان السجينى سباقا إلى ذلك بصورة تكاد تكون علنية ومباشرة، على نحو، جعل من الصعب على المتأمل المعتاد أن يقتفى أثر التجربة الذاتية للفنان ذاته . وربما أيضا كان من العسير تتبع عملية النمو الداخلى للكيان الجسمى للعمل فى بعض الحالات ، غير أن صالح رضا ، برغم تسليمنا بفكرة التأثر هذه ، كان على خلاف ذلك . إذ استطاع أن يعيد صياغة هذه الفراغيات بحيث صارت فراغياته هو، ذاته، كما أن `المعطى` الوظيفى لوجودها فى العمل النحتى كان يبدو عنصرا غير مختلف بل فرضته ضرورات الفكرة النحتية ككل ، فإن الرمز المباشر الذى تميز به رضا كان قد أخذ يدعونا إلى أن نتفهم . دون أى حذق ، تلك الحاجة التى دعت الفنان إلى تفريغ منطقة البطن واختراقها أحيانا لترجمة الجوع ، أو الاحتجاج ، أو الصراخ ، أو الظمأ ، أو حتى الإرادة . وباستثناء نحاتين مثل هجرس وخليفة من هذا المنطق أيضا إذ كان الأول برغم تشابهه إلى حد ملحوظ مع رضا إلا أنه كان يستند إلى ركيزة ` أيدلوجية ` ذات انتماء واضح ، بينما كان كمال خليفة منفردا بخواص ذاتية واضحة فى تماثيله ، وإن كانت مرتكزة على قماشة من الشجن الوطنى ، وعلى مسحة ساخرة ، برغم قربها الشديد إلى البناءات النحتية المرققة فى تماثيل `كنيت أرميتاج` منذ أواخر الأربعينات وحتى الخمسينات الأولى .
- كـان صالـح رضـا ثوريـا علـى نحـو عفـوى :
- ولذلك فإنه كان من اليسير تلمس انحيازاته للمفاهيم التى طرحتها ` الثورة ` حينئذ . وكان ليبراليا من نوع ` موليير ` .. حين كان يقض مضجعه الظلم السائد ويؤرقه الإحساس بالآخرين ، ولذا فإنه كان ينحو نحو إلهاب المشاعر بتماثيله المعبرة ـ آنذاك ـ وبرغم أن والده كان قد أخذ يعده ليكون واحدا من مهرة شق الماس والألماظ ومختلف الأحجار الكريمة ، إلا أن رضا كان قد اختار طريقا مختلفا حين استقر عزمه على النحت .
- صالـح رضـا.. والتحـول :
- فى العام 1958 بدأت صورة المجتمع المصرى ـ برغم استمرار الغليان الحماسى العام ـ تتجاوز المرحلة الانقلابية للمفاهيم التى طرحتها الثورة ، وأخذت مختلف الشرائح الاجتماعية تمتص ردود الأفعال ، وتتجه نحو مؤشرات متفاقمة كيفية وكمية على السواء لتغذية النمو الشعبى . كانت العواطف العمومية قد تهيأت كى تفسح المجال أمام التعبير المنظم للتوجهات السياسية ـ وبدأت المقولات الشعبية المكبوتة منذ زمن بعيد تعبر عن كيانها البنيوى ` الجوانى ` على الساحة ، حينئذ نشأت تلك الضرورات الملحة للبحث عن الهوية فى الاقتصاد ، وفى الفن ، وفى الثقافة ، كانت معارك الفكر والتنظير ، وانحياز الانتماءات ، والولاءات كذلك ، قد أخذت تنمو على صورة مرادة ، وكذلك على بنية منظمة ، وبنية عفوية فى نفس الوقت . غير أن التيارات جميعا كانت ترى أن ` التراث ` هو قضية ` لزومية ` لصنع الفن . قضية احتياج ضارب الجذور فى أعماق الناس .
- كان المعيار هذه المرة هو إثبات الوجود أمام الذات ، وليس مقاومة المحتل كما كان الحال فى السابق . وكان صالح رضا إذ ذاك قد أنجز تمثال ` عروس النيل ` ورسم ` عروسه المولد ` ولم تكن عروس النيل إلا وجها مصريا مشربا بزرقة الوجه النيلى ، وتباينت أعمدة جدائل الشعر هذه بفراغات خصوصية للغاية ذات مسحة تبادلية وقورة بحيث تبدو على هيئة قدسية تقربها إلى حد بعيد من ` البيضاويات ` الفراغية ، الرأسية الطابع فى فتحات العمائر الإسلامية ، وبينما كان التعبير كثيفا ، والألوان موجزة فى عروس النيل ، كانت رسوم رضا تفصح عن جانب لا يستهان به من ارتباطه العميق بالألوان دون تحفظ تقريبا ، فإن ` عروسه المولد ` التى رسمها فى نفس زمن عروس النيل ، كانت محملة بمجموعة من الذكريات العميقة الجذور ، والتى تم اختزانها على صورة أكيدة فى وجدانه منذ الطفولة . فقد رسم صالح فتاة جالسة على مقعد متوسط الحجم بين ` كوشة العروسة ` وبين ` مصاطب ` الحضريين فى المدن ، وهى بذاتها تحتضن فوق الصدر والبطن عروسة المولد التى لا تخطئها العين حين نراها فى الاحتفالات الدينية ذات الإيقاع الطقسى فى المولد النبوى ، بينما تبدو الخلفية مزيجا متألق الألوان من الصور المتواترة للفارس الشعبى ، وقباب الصوامع الإسلامية ، والمآذن ، ومقرنصات المساجد ، وقد نسقت فى نظام استقرائى ملحمى الطابع من أعلى إلى أسفل بحيث تذكرنا ` بالحواديت ` الشفاهية فى الساحات التى تعج بالموالد الشعبية ـ فمن أين أتى صالح رضا بكل هذه الذكريات الدفينة للعذوبة الشعبية ؟ ! ومن أين أتى بكل هذا الشوق الحسى فى عيون فتياته البلديات ؟ ! هل كان مدفوعا تحت تأثير تلك الديون المتراكمة للصورة الشعبية فى حى خان الخليلى الذى ولد فيه ، أم أنه كان احتياجا ` جماليا ` لمنازلة الواقع الراهن آنذاك ؟ ! .. أكان ذلك كله عن عقيدة سياسية أم عن التزام فنى – أم كان مجرد تحصيل وامتصاص عشوائى لسنين الدراسة الفنية ؟ !
- إن الصور القديمة إذن ظلت عالقة تحمل البرهان ، وما كان لطفل آخر غير رضا أن يحتفظ بمثل هذه الصورة الطقسية لصناعة الكحل ـ وهو ما سيجىء فيما بعد ـ ما لم تكن هناك طبيعة نسقيه للخامات التى سوف يقدر لها أن تحمل سمات العناصر الرئيسية لمثيرات الجمال . والجلال والحس البلدى عند صالح رضا .
- شخصيـة حيـة :
- كان سيد عبد الرسول قد رسم عروسة المولد منذ زمن، وتبعه ـ إذ ذاك ـ آخرون كثيرون، وكان حامد ندا، والجزار قد استقرا على ذلك العالم العجيب من الأسطح المليئة بتراث ريفى وافر من السحر والغيبيات، وكان أحمد عبد الوهاب قد قدم منحوتاته ذات العرائس التابوتية تحت مظلة من العقيدة الإلزامية بصيرورة القديم فى النحت المصرى. وبرغم ذلك كله فقد ظل صالح رضا مختلفا ، فإن عروسته سواء كانت نحتا أو تصويرا،.. لم تكن تلك العروسة الجاهزة للهيئات الكمية المتواترة منذ الفاطميين، ولا هى استقراء ناموسى لجماليات التراث القديم، بل كانت عروسة على نحو تم انتخابه من بين مجموعة مواريث متعاقبة فى الزمن، وباستنباط بنائى وعقلى جعل منها عروسة على نحو مميز ، وبابا فى نفس الوقت لكثيرين ممن أخذوا على عاتقهم فكرة التعبير عن الشخصية كقضية منتهية من بين خيارات الإبداع المطروحة .
- فإن عروسة صالح رضا كانت شخصية ` حية ` وليست توليفة ` تميمية ` فيداها متصلتان ببعضهما ، وقدماها كذلك ، وصدرها رضاعى ممتلئ ، أما جذعها الأسفل فهو ليس منتفخا بفعل الهواء والفراغ على ملابس محنطة مستديرة من ` السكر والورق ` بل إن لها أفخاذا تفصح عن العافية ، وأردافا تشكل ـ نوعا ما ـ العواطف الحسية للجسد الأنثوى ، ووجها مستديرا له سمات الفلاحات ملئ بتلك الشروط غير المحررة لجمال البنت البلدية ـ العيون الواسعة المكحلة ، والخدود الممتلئة ، وفم صغير ، وأنف دقيق ، وأذنان مختفيتان تقريبا وقد تحلت بزينات من الفيروز والأحجار الكريمة ، ` إن الصورة كلها حية ومجسمة منذ طفولتى ` .
- ويسترسل صالح رضا قائلا .. ` كانت أمى تأخذنى إلى الحمام الهندى فى خان الخليلى وكنت بين الرابعة والخامسة حين كانت تحملنى معها ، فإن بقية الأخوة ، أشقاء وغير أشقاء كانوا يساعدون أبى فى قطع الأحجار الكريمة وصقلها . فإذا دخلت إلى ذلك الحمام المثير ، يلفح وجهك الحر الساخن ، واللحم الطرى ، والعرق الحلو ، وروائح أخرى لم أكن أعرفها . بالإضافة إلى مجموعة من الاستدارات الجسدية . كنت أرى كل شئ .فلم يكن هناك من سبب للتحفظ على شئ قط ، فقد كنت صغيرا ولسبب ما كانت تلقفنى أمى لزميلة لها فى الحمام المزدحم ربما لكى تحرر كلتا يديها .. فأقع أحيانا على الصدر أو البطن ، كانوا جميعا يتصرفون كما لو كانوا يتبعون أسرارا مكتوبة وطقوسا مسيطرة . وكن يتناوبن الرأى والمشورة والنصيحة فى مواضع من أجسامهن ،ويتباهين بالأوصاف مهما كانت هذه الأوصاف ` دفينة ` ثم نخرج معا حيث تنتظرنا عربة ` السوارس ` ـ فإن أمى زوجة لتاجر معروف ومرموق فى حى خان الخليلى . والمظاهر الحاذقة جزء من الأبهة والمقام الرفيع ، فإذا هى جانب من ذلك الطقس الفخيم . عدنا إلى البيت ، كنت ألحظ ذلك الاستدراج البشرى والتلطيف الغريب بين أبى وأمى ، وأحس حينئذ بأننى طفل غير مرغوب فيه ..
الرصيـد المرئـى والذاكـرة :
- كانت علاقة ` الحجم ` بالفراغ إذن هى نوع من الإلهام الغريزى للثقافات التصويرية المكنونة فى عالم صالح رضا ، إن التجاويف ، والفراغات ، والاستدرات ، والتكوير ، والتحوير ، والارتفاعات المعاكسة للأسطح ، واختراقات الأحجام جميعا عمود التجربة .
- لم تكن إذن صياغات مرسلة من قبيل الصدفة ، فإن الرصيد المرئى فى صميم الذاكرة الحية الحساسة قد تم تمريره عبر مكثفات الفنان الذاتية ، وخضعت فيما يبدو لنوع من التصنيف ، والتصحيف ، والتوليف والتأليف ،والإضافة والحذف والتوثيق ، بحيث خرجت على تلك السمات الشعبية الصافية . ولم يكن من المستساغ ـ آنئذ ـ أن تجئ تماثيله وأعماله التصويرية فى رحلته هذه معبرة عن المشاكل الاجتماعية ، أو عن موقفه تجاه قضايا محلية راهنة بل كانت تلخص بإيجاز قاطع انحيازه لفكرة ` الشخصية المصرية ` بصورة مؤكدة .فإن الحالة التى كانت تترجم التحامه مع معطيات الثورة قد تغيرت ، وأخذت تتجاوز الحقائق الكائنة إلى الحقائق الممكنة ، والواقع الراهن إلى الواقع المأمول ـ أى أن ` الصورة الثورية ` ذات الطبيعة ` العفوية ` التى كانت تزاحم الطموح الجارف فى مرحلته الفنية الأولى قد تغيرت وبتعبير أدق قد ` تحولت ` عند صالح رضا إلى ` صورة منظمة ` متأنية لعملية الفرز والإبداع ، أى الى صورة ، جوابية الطابع .
- لقد كانت التجربة عند صالح رضا تقوم على خلق مصالحة معتدلة ، ووسطية بين الكتلة ، والفراغ . إذ كان الفراغ النحتى مفهوما حتى ذلك الحين بمعايير الكلاسيكية المعتادة ، وبالتبريرات الجمالية المسندة ـ بصورة أو بأخرى ـ لمقولات عمومية بصدد فكرتى التوزان والرسوخ ، أى أن الفراغ لا يكون فراغا نحتيا ما لم يكن جزءا من الكتلة ، وذلك بدلا من أن يكون الفراغ على حقيقته المفترضة معادلا للكتلة بالمفهوم الأخلاقى للجمال وموازيا للحجم بمفهوم النحت . أى أن النحت فى حقيقته هو نوع من إعادة صياغة الفراغ الكونى بإقحام الأحجام ، وإحلال الكتل ، بحيث يصير الفضاء فراغ تنظيميا مرادا لمبدعه .
صالـح رضـا ، بيـن التجديـد والعالميـة :
- اشتغل صالح رضا بالنحت ، والخزف ، والحفر ، والتصوير الزيتى ، واستخدم مجموعات متنوعة من الخامات خلال رحلته الفنية ـ التى بدأت فى منتصف الخمسينات ـ من الطين الفخارى ، والنحت الخزفى ، والبرونز ، والنحاس ، والصلب ، والخشب ، والجبس ، والحفر ، وأنجز مجموعات من الأوانى الخزفية الراقية محدبة وكروية الشكل ، واسطوانية القامة ، واستخداميه الطابع . ومارس رضا الحفر على الزنك والنحاس والجلد والحجر والخشب .. وفى التصوير استعمل رضا الزيوت والأصباغ والأوانى البلاستيكية والذهنية والقص واللصق على الابلاكاج والكتان والقماش المعد . وفى النصف الثانى من الستينات كان رضا قد أحدث تفجيرا قويا فى العمل النحتى على وجه خاص . كان قد تخلص نهائيا من مثيرات الاستعراض الكمى للجماليات الشعبية ، ولنظام التوافيق الفراغية . وصار الفضاء على قدر نسيجه الكونى هو الاشكاليه التى تمثل تحديا حقيقيا للعملية النحتية ، كانت مثيرات الإبداع عنده قد أصبحت علة تبحث عن المعلول وليست مجرد علة للجمال الوصفى تبحث عن معلولها فى النحت ، فهو لم يعد بحاجة إلى هذا الكيان من النسق الاستقرائى للتفاصيل العذبة لكى يضمنها فى عمل نحتى يكون على شكل امرأة ، أو رجل ، أو مقعد ،أو حصان – فإن الشخصية المصرية ما هى إلا سلسلة من الذكريات الجمعية ، والتقليدية الحية المدفونة فى صميم الروح ، وفى ملامح الأجداد والتاريخ .
- كان صالح رضا يتحسس هذه المعادلة الصعبة ـ حقا ـ بين التراث والتجديد . فإن ` اللطم على الخدود عند أذن الميت .. وصراخ المحزونين لفراق الأحباب ` ـ على سبيل المثال ـ لا يمكن أن يكون سلوكا مسندا إلى مجرد صورة وصفية حية ` للحدث ` ـ إلا على قدر ما هى مسندة إلى تلك الدوافع الدفينة التى فجرت ينابيع التعبير عن ` العلة ` .
- ثمة إذن ما جعل صالح رضا بمضى الزمن يحمل المثير والدافع من ` داخله ` هو نفسه ، وليس من ` خارجه ` كما كان الحال عليه فى السابق . ولعل ذلك كان ـ أيضا ـ بسبب قدرته الطبيعية على الامتصاص الغريزى للكيانات المحيطة به ، أيا كانت هذه الكيانات قوى ضوئية ، أو درجات ظلية ، أو حجمية ، أو زمانية ، إذ يتم اختزانها لمسافة تسمح بتنقيتها وانتخاب قواها الذاتية كما لو كانت هى عملية ` تمثيل ` من الطبيعة للطبيعة . أما السبب الثانى فهو لكونه فنان ` أدرى ` الطابع ، ولهذا فهو لا يستطيع أن يظل متواترا على طريقة نظامية ، نمطية ، مانارزمية ، فى تجربته ، ذلك أن رضا من هذا النوع الذى يحمل علة الثورة على القديم بالجديد ، وكذلك علة الثورة على الأنساق الخارجية بالأنساق الداخلية ، . أى برصيده المخزون عميقا منذ زمن . وأما السبب الثالث ، فهو لأنه فنان ` شكل ` أى أن الشكل عنده ` مسبوق الخلقة ` فى ضميره الفنى ، فالمعنى عند صالح رضا يتداعى زمانيا فترة بعد فترة فى عملية الممارسة النحتية حتى يكتمل الشكل على النسق المنشود . ومن هنا فقد اكتسب رضا خاصية التجديد ـ لأنه ` حر ` بالمفهوم الغريزى للحرية أمام العمل . ولهذا السبب فقد قدم صالح رضا تماثيله الراسخة الرصينة وهى تحمل اسم ` الجنين ` دون أن يكون هناك جنين و ` الزعيم ` دون أن يكون هناك زعيم ، و ` الصلب ` دون أن يكون هناك صليب .. و ` الولادة ` دون أن يكون هناك وليد . لقد اختفت الأشخاص ، والموائد ، والاحجبة ، والزخارف ، والفرسان ، والعرائس ، والعيون المكحلة ، .. ولحق بها الشطب ، والحذف والإضافة . أى أنه ذلك التجديد الذى يرتكز على حسابات الفنان الذاتية ، وخبراته البصرية ، وقوة نفاذه الفنى ، وهذا هو ما يفرق بين فنان مثل صالح رضا وبين السلفيين من الفنانين بدعوى الحفاظ على ` التراث ` .. وهو نفس ما يفرق بينه أيضا وبين أولئك الذين رهنهم النموذج الجاهز بدعوى العالمية ، فكذلك تكون معلبات السردين القادمة من اليابان وغيرها ، ولكن العالمية هى ذلك الفن الذى يخلق ` مشاركين ` لإشكاليته المطروحة من مختلف شعوب الأرض ، حتى ولو لم يكن هذا الفن قادرا على أن يمارس هذه المهمة لأسباب قهرية نتيجة لهيمنة العولمة وتنميطها للعالم .
- فى العام 1968 قدم صالح رضا معرضه الهام فى فن ` القطع والقص واللصق ` الكولاج ـ وكان عبارة عن مجموعة منتخبة ، مطبوعة جرافيكيا بنظام النسخة الواحدة ` المونوتايب ` ـ قام بتقطيعها ، وقصها ، وتثبيتها على أسطح معدة بالألوان البلاستيكية والورنيش اللاصق وكانت جميعها على وجه التقريب تتألف من عده شرائط وخطوط متجاورة ومتوازية ، ومنحنية الحواف ، بحيث تصنع عالما من الدوائر الكاملة أحيانا ، والدوائر المقتحمة ، أو المتقطعة ، أو المشقوقة ، أو المنقسمة ، أو المعاكسة ، أحيانا أخرى . كان التأليف رياضيا على نحو بليغ ، إذ كانت ` الصنعة ` التصميمية فيه هى محور العناصر ، والنسيج معا . جاءت هذه الأعمال و كأنها مقطوعة الصلة تماما بين الأفكار المتصلة لصالح رضا ، ووضعاته المميزة ، - غير أن أهميتها كانت تأتى من كونها تمثل إيقاعا عاليا للتمهيد لتوليفات محورية للغاية ، قادمة فى تجربته النحتية .
- وفى العام 1969 أخذ رضا يفكر فى تلوين أسطح منحوتاته ، وخلال السبعينيات كان قد أنجز مجموعة رائعة ، وعالية الأداء من النحت الخشب ، وقد بدت الطاقة التصميمية فيه وهى تعادل دور البطل الأصيل بحيث يتجاوز العمل فضاء الاصطلاح التقليدى للنحت إلى ` مفهوم النحت ` وجسده ، وباطنه .فلم تكن هذه المنحوتات الخشبية فى حقيقتها إلا تجسيدا للمعطيات التى فجرها معرضه الهام فى القطع واللصق الذى أقامه عام 1968 ، .. إذ كانت أعماله النحتية هذه فى معظمها عبارة عن مجموعة دوائر مجسمة مرتكزة على عنق خشبى يضيق وينتفخ ثم يستقيم حتى يلتقى بالقاعدة وكانت النسبة عنده من نوع ذلك الميزان ` الذهبى ` الذى يقيس الجسم بسبعة أمثال الرأس . فلو تأملنا الأمر قليلا .. لصرنا قادرين على لمس الخط الفاصل وكذلك الخط المتصل الدقيق بين عروسته التى أنجزها فى عام 1958 ومنحوتته الخشبية أو عمله الخشبى ـ الذى أنجزه اعتبارا من عام 1970 . بعد أن قام بتخليصها من السمات الوصفية للنمط المكرر ، والتباديل والتوافيق المعادة ، ثم استعادها إلى جوهرها الكلى وحقيقتها الكامنة . ولو قمنا بتصغير الجزء إلى عدة أضعاف فإننا سوف نجد أمام عيوننا قطعة من ذلك النوع الذى يقوم بمهمة ` التثبيت والوصل ` فى مجموعة منجزة لعمل ` أرابيسكى ` النسق .
- إن رضا يحلل الأصل ليصل إلى الجزء ويحلل الجزء ليصل إلى العنصر ، ويحلل العنصر ليصل إلى الوحدة ، … ثم يحلل الوحدة ليصل إلى الحالة ، ثم يحيا فى الحالة ليصل إلى الفكرة .. وحينئذ يفجرها ، ذلك التفجير النحتى ` المسبوق ` الذى تميز به رضا منذ بدأ حياته الفنية .
- يجتاز صالح رضا زمنا تركيبيا ، عقلى المنهج فى عملية الإبداع ، ومع ذلك فإن مجسماته لا يبدو عليها ذلك الاجهاد الذى نراه فى أعمال كثيرين ، ولا ذلك الظهور الأجوف على كبرياء ضائعة . ولذلك فإن منحوتاته تمتاز بالتلخيص ، والصرامة ، والحضور القوى ، ومسحة الروح فى ذلك الجمال القديم الشجى ، ولعل ذلك ظل من بين أسباب دوام أعماله زمنا يصعب محوه من الذاكرة ، وتبدو هذه الصفات على صورة أكيدة فى أعماله ` البرونزية ` الشديدة الحبكة واللمعان ، التى قدمها فى الثمانينات الأولى ، وتظهر من جديد علامات شجنه القديم بقطع وشق الماس والألماظ فى حى خان الخليلى ، لقد خرجت القواطع التى اقتحمت دوائره المجسمة رياضية الطابع ، ولكنها تبدو كما لو كان القطع قد جرى على حجر كريم .
- على أن صالح رضا عاد مرة أخرى ، وجعل من إعادة الوحدات سببا لتعميق زمن التركيز على الرمز الجوانى إذ ثمة ما دعاه إلى فصل الوحدات عن بعضها فصلا مكانيا ، بحيث سمح ذلك للفراغ ، وبالتالى للفضاء ذاته ، أن يقوم باتصال غير مرئى ، وبالتالى باتصال زمانى النسق بين كل وحدة وأخرى فى العمل . لقد انقضى فعل ` الشكل ` على الصورة ` الآلية ` القديمة ، فإن البداية والنهاية فى الحجم لم يعد يعوزها ` عقدة ` محورية فى الوسط حتى تستبين وحدة العمل واتزانه ، بل إن ` الزمن ` قد أخذ وضعا حلوليا فى أعماله كبديل لهذه ` العقدة ` التى نتحدث عنها ، وذلك عن طريق ذلك التكرار المعاكس لفكرة النمط ، فى نظام فصل الوحدات عن بعضها البعض . هكذا لم يعد الفعل عند صالح رضا عملا نحتيا بقدر ما هو حجم مجسم ، ولا عملا جميلا بقدر ما هو نظامى الطابع ، ولا عملا مكانيا بقدر ما هو زمانى المدركات ، والصفات والذكريات كذلك .
أحمد فؤاد سليم

بصمات مضيئة فى سجل الجمال المصرى
- تشهد قاعات الفن التشكيلى الخاصة..حالة من الحراك الجمالى الراقى ممثلاً فى باقة من المعارض المتفردة لنخبة من أهم فنانينا المعاصرين ممن حفروا بصمات مضيئة فى سجل الحركة التشكيلية المصرية .
- قاعة المشربية تستضيف نخبة من إبداعات فناننا الكبير د.`صالح رضا ` صاحب الـ 78 عاما والبصمة المصرية والشعبية الخاصة التى كانت وراء تتويجه بالعديد من الجوائز الدولية والمحلية توجها فى عام 2004 بحصوله على جائزة الدولة التقديرية ومن قبلها على جائزة الدولة التشجيعية ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى فى عام 1963.. وهو الأستاذ بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان وله العديد من المؤلفات صاحب 30 معرضا خاصا وعشرات المشاركات الدولية والمحلية.
- الدكتور `صالح ` له رؤيته الخاصة، أعماله فى التصوير أو النحت لها سماتها وشخصياتها الخاصة وهو ما نلمسه خلال معروضاته التى تشغل قاعة المشربية التى تتميز هذه المرة ببالتيه لونتية ناعمة ومتناغمة و`العروسة `الشعبية تستهوية كعادته وإن قدمها فى إطار عصرى تكوينات مبتكرة مستعيناً بخطوط وتشكيلات هندسية وعناصر ووحدات من التراث الشعبى وشخوص تتداخل وتتعانق معبرة عن عادات وأفراح ومظاهر شديدة المصرية وكذلك جاءت تماثيله راسخة شامخة تتميز بانسيابية خطوطها ورقة ثناياها وتكويناتها حتى تبدو منحوتاته كأنها تعزف على أوتار تنغيمات موسيقية راقية تعكس قدرة وخبرة طويلة عمرها 57 عاما من الابداع والجمال .
ثريا درويش
أخر الأسبوع - 18/ 11/ 2010
إبداعات صالح رضا فى النحت والتصوير .. بمعرض المشربية
- الفنان التشكيلى الكبير د.صالح رضا الحاصل على جائزة الدولة التقديرية، وهو من الجيل الثانى من رواد الفن التشكيلى المصرى، قدم أحدث إبداعاته الفنية فى مجال الرسم والنحت بقاعة المشربية بمحيى الدين أبو العز بالدقى. والذى ضم 40 عملاً فنيا ( 25 لوحة رسم ) و ( 15 قطعة نحت).. والفنان صالح رضا أبدع من خلال مجال النحت والخزف والحفر والتصوير الزيتى واستخدم مجموعات متنوعة من الخامات خلال رحلته الفنية التى بدأت فى منتصف الخمسينيات من الطين الفخارى والنحت الخزفى والبرونز والنحاس والصلب والخشب والجبس والحفر، ومارس الحفر على الزنك والنحاس والجلد والحجر والخشب .
- وفى التصوير استعمل الزيوت والأصباغ والأوانى البلاستيكية والقص واللصق على الأبلاج والكتان والقماش المعد.
- وفى النصف الثانى من الستينيات كان قد أحدث تفجيراً قوياً فى العمل النحتى على وجه خاص .
- كان قد تخلص نهائيا من مثيرات الاستعراض الكمى للجماليات الشعبية، ولنظام التوافق الفراغية.. وصار الفضاء على قدر نسيجه الكونى هى الاشكالية التى تمثل تحديا حقيقيا للعملية النحتية .
- وفى عام 1968 قدم صالح رضا معرضه الهام فى فن (القص واللصق)..الكولاج.. والذى يمثل إيقاعا عاليا للتمهيد لتوليفات محورية للغاية قادمة فى تجربته النحتية.. وفى عام 1969 أخذ صالح رضا يفكر فى تلوين أسطح منحوتاته وخلال السبعينيات أنجز مجموعة رائعة وعالية الأداء من النحت الخشبى، لم تكن فى حقيقتها إلا تجسيدا للمعطيات التى فجرها معرضه الهام فى القص واللصق .
- وفى هذا المعرض يقدم استعراضا قويا فى مجال الرسم مع خامة الحبر الشينى والأقلام الملونة فى تشكيلات أسطورية حالمة تعكس حالة من الرومانسية الشديدة والخبرة التقنية للفنان مع مجموعة النحت التى يلعب فيها الأسلوب التجريدى دورا كبيرا فى تلخيص الملامح واختزال العناصر المملة فى خطوط رشيقة بالغة الثراء إن رضا يحلل الأصل ليصل إلى الجزء.. ويحلل الجزء ليصل إلى العنصر ويحلل العنصر ليصل إلى الوحدة ويحلل الوحدة ليصل إلى الحالة، ثم يحيا الحالة ليصل إلى الفكرة، وحينئذ يفجرها، ذلك التفجير النحتى المسبوق الذى تميز به رضا صالح منذ بداية حياته الفنية .
- والفنان صالح رضا من مواليد 1932بالقاهرة - درس فى كلية الفنون الجميلة ( دراسة حرة مسائية) من 1946 إلى 1951 قسم التصوير وفى كلية الفنون التطبيقية (خزف).. وحصل على دبلوم الكلية 1957حيث تم تعيينه معيدا بقسم الخزف ثم سافر فى بعثة إلى تشيكوسلوفاكيا لدراسة الخزف، وحصل على درجة الكانديدات ( اسبونتورا) 1961 ( المعادلة لدرجة الدكتوراه) ثم فى بعثة إلى إنجلترا لدراسة الخزف، وحصل على دبلوم السنترال 1963وبعد عودته لمصر عاد إلى كلية الفنون التطبيقية وواصل مسيرته الأكاديمية حتى شغل منصب وكيل الكلية عام 1980ومقرر اللجنة العلمية لهيئة تدريس كلية الفنون التطبيقية. جامعة حلوان بالمجلس الأعلى للجامعات ومقرر اللجنة العلمية لترقية أساتذة للفنون التطبيقية 1992 وكان عميدا مشرفا على إنشاء كلية الفنون الجميلة. بجامعة المنيا من عام 1979 إلى 1983 وهو حالياً أستاذ متفرغ بقسم الخزف بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان منذ 1992وكان عضو لجنة المقتنيات بوزارة الثقافة على مدى عشرين عاما وعضو المجلس الأعلى للثقافة والفنون من عام 1983 إلى 1987وهو أحد مؤسسى نقابة الفنانين التشكيليين وعضو جماعة الفنانين العرب التى تم تأسيسها عام 1961بإنجلترا برئاسة الناقد العالمى السير هربرت ريد وعضو الأمانة العامة ومندوب الاتحاد لدى جامعة الدول العربية 1974: 1978.
- شارك فى تأسيس الاتحاد العام للتشكيليين العرب 1971 بسوريا ثم العراق 1974 وسكرتير عام نقابة الفنانين التشكيليين من 1978إلى 1982ونقيب الفنانين التشكيليين من 1978: 1987.
-أقام الفنان صالح رضا العشرات من المعارض الخاصة منذ عام 1954 فى القاهرة ولندن وبيروت والكويت والإسكندرية، كما شارك فى حوالى 20 من المعارض الجماعية المحلية : أما المعارض الجماعية الدولية فمنها: بينالى الإسكندرية لدول البحر المتوسط 1966- وبينالى فينيسيا 1966- وبينالى فينيسيا للحفر 1970 - وبينالى الإسكندرية الدولى للبحر المتوسط الدورة ( 7 ) 1968ومعرض فى بيروت ( الجامعة العربية) 1968ومعرض الفن المصرى بمتحف أسن بمدينة أسن بألمانيا الغربية 1970 وبينالى فينسيا 1986 ومعرض الفنون التشكيلية المعاصرة فى الكويت 1989، وبينالى القاهرة الدولى الثانى للخزف 1994 وضيف شرف بينالى القاهرة الدولى الثامن 2001.. ومن الأعمال الفنية الهامة فى حياة الفنان صالح رضا : تمثال بمترو الأنفاق ( محطة عبد الناصر ).. من النحاس من إنتاج 1970 ونصب تذكارى على ضفة النيل الشرقية للبنك الأهلى بارتفاع 18.5 متر إنتاج 1996 وهو يمثل المسلة المصرية الجديدة وتصميم مدخل ضاحية النخيل بمدينة الشروق 1998 ولوحة ( نحت بارز).. بانوراما 6 أكتوبر 3 × 6 أمتار ( معركة المنصورة -انتصار صلاح الدين ) 1993.
- أما الجوائز الدولية..فحصل على الجائزة الأولى لبينالى الإسكندرية 1966فى الحفر - والجائزة الأولى للبينالى الإسكندرية لحوض البحر المتوسط عام 1968 فى النحت - وجائزة مهرجان الفنون التشكيلية فى بغداد 1987عن تمثال الشهيد وجائزة لجنة التحكيم من بينالى القاهرة الدولى 1992. وله مقتنيات رسمية بمتحف الفن المصرى الحديث بالقاهرة والمتحف الوطنى (الكويت).. والولايات المتحدة الأمريكية .
- وهو أحد الأعضاء المؤسسين بمسرح المائة كرسى (المسرح التجريبى) بالمركز الثقافى التشكيلى 1965وعمل ديكورات للمسرحيات العالمية فى المسرح التجريبى.. وقام بتصميم ديكورات مسرحيات `سندباد` و` ما راصاد `.. لمسرح الطليعة ومسرحية ( رحلة الأعتام ).. لشوقى خميس.. وله العديد من المؤلفات والأنشطة الثقافية، منها كتب : `ملامح قضايا فى الحركة التشكيلية المعاصرة ` و`اللغة التشكيلية فى القرن العشرين وعلاقاتها باللغات الأخرى`.. بالإضافة للعديد من المقالات المكتوبة والمنشورة فى الجرائد العربية، وشارك فى الكثير من المؤتمرات الفنية الخاصة بالاتحاد وغيرها فى العالم العربى ( 20) عشرون بحثا عن الفن التشكيلى .
نجوى العشرى
الأهرام - 9/ 12/ 2010
هياكل الفرحة فى مجسمات هرمية
-عرض استيعادى ضخم فى الحجم ومنهج الرؤية والمعالجة إقامة الفنان المثال الكبير صالح رضا فى قاعة أفق1 لأعمال نحتية منذ الثمانينات وحتى آخر عامين بين أعمال التصوير والنحت لضم تجربته الثرية أعمالا نحتية من الجرانيت والنحاس وتشكيلات مجسمة من الأبلكاش المغلف بكرتون وتصوير بخامة أقلام الفلوماستر وأحبار على كرتون والتصوير الفوتوغرافى على شرائح بلاستيكية ليصبح العمل المجسم والذى هو السمة الأغلب منذ سنوات فى مجال الفن الحديث.
- المعرض حقق حالة خاصة وفريدة مشحونة بقدر كبير من الخيال تقدم نتائج غير متوقعة وذلك بسبب التشكيلات المجسمة الموزعة فى محيط الجاليرى الشاسع ليبدو ككائنات مادية فى فضاء مفتوح وليبدو كل مجسم ملون لامع أروع من وجوده الواقعى المجرد وقد تحول بغتة إلى هوية مختلفة مع كل نظرة إلى العمل من زاوية جديدة تجعله فى علاقة جديدة ومحيطه الفضائى خالقا برسوماته فوق مجسماته تأثيرا تلقائيا مختلف للحدث كفنتازيا لطيفة ما بين علاقة المسطح بالمجسم ذى السطح الملونة البراقة كالفايبرجلاس ذى الألوان اللامعة وأيضا تلك العلاقة الغامضة التى تسود العرض بين العضوى المرسوم والهندسى المجسم فى أنقى حالاته من خلال الشكل الهرمى .
- أثناء تصويرى لساحة العرض الشاسع شعرت بأننى لا أشاهد النحت فى انفصال ولا أسير حوله بل استشعرت كأننى أمشى فيه وداخل حكاياته المرسمة كأنها غابة بشرية بحكايات لها سمة الحكائية البصرية والتى ارتبطت بعناوين وصف بها الفنان حالاته المرسمة التى أصبح كل زاوية منها حالة تتكامل والحالات الأخرى داخل تلك الغابة البصرية المتوهجة - كوهج لونى صناعى- بروح الفنان وتلقائيته المبهرة التى تثير البهجة كأنها رؤية مستمدة من رؤية ( الدادا) خاصة فى إعجاب الفنان باللون والشكل التلقائى والأهم أن دكتور صالح رضا يعيد إبداع رؤيته لمنطق الفن والحياة فى سن الثمانين بروح شابة محلقة مدركة لمغزى حكايات الحياة ليتخذ من فنه وخبرته الطويلة العميقة المحترمة متكأ ليقدم فلسفته فى الحياة .
- فبعض أعماله تعالج أفكارا حول الحكايا وصارت الآن وسيلته المفضلة فى التعبير والفكرة المفردة يعاد وضعها فى سياق تغييرات جمة لكنها تدور دورة واسعة لتعود إلى عشق الفنان الدائم وحضارة مصر القديمة حتى نشعر أنها تبلغ غايتها القصوى فى بنائية متراكبة ومتكاملة من عمل إلى آخر بما يشبه الطوطمية فى بنائيتها الهرمية وإن راجعنا عناوين بعض أعمال المعرض قد ندرك زخم الحالة الإنسانية المرتبط بزمن حياته وزمن وطنه التى يمر بها الفنان الكبير مثل رجل وإمرأة فى الهرم مفتاح الحياة فى نصف الهرم يمثل الصعود الجديد هرم زوسر المدرج منظور لهرم خوفو يمثل الصراع الجديد حوله مسقط لهرم من أهرامات الجيزة ويمثل مداخله الأربعة أعمدة صاعدة وهابطة مع خضم الحياة وتقدمها الثلاث أهرامات وقرص الشمس فى نهايته التمر يسعى إلى الناس حاملا معه زكريات الغذاء والعشاء الذهاب فى المساء ثمار البلح والعربية الكارو مفتاح الحياة ثمرة الحياة لحظة صعود الشمس فى ريف مصر الثلاث بنات مع زحام البشر فتاة المستقبل والجيل الجديد صعود ميزانية العدالة الإنسانية من وسط القمر هرم سقارة فى حالة البناء والصعود بالبشر إلى أعلى زفة الحياة مع حصاد البلح على عربة الكارو يوم زفاف البلح فلاح مصر والثورة الإجتماعية من أجل نضوج الحياة زفاف البلح مع الجمل وعرس البلح بعد قطفه والبالونات الملونة رمز الحياة والآخرة الجالسات على نهر النيل وخلفهم النيل المستحميات يمثلون الفرح فى القرية المصرية إمرأة مصرية فى حالة من التجلى لشبابها إمرأة مصرية مبتهجة بعظمة الكون والحضارة المصرية القديمة إمرأة ورجل فى حالة من الحب والعاطفة حاملة الزلعة ثلاث سيدات يمثلن فرحة الأعياد .
وقد تعمد أيضا الفنان الكبير استعمال ألوان براقة فوق المسطح لتاكيد حركة الأشكال لتفريق ما هو ديناميكى عن غيره من الأشكال الساكنة هذا غير التحول من خامة الجرانيت العنيدة إلى خامة الكرتون المشكلة الطيعة ليؤكد أن الإبداع ليس بقدر الصعوبة بل على قدر البساطة .
- إضافة للتلقائية الإنسانية خاصة والكرتون خامة لها سمة إنسانية من صنع الإنسان يمكن صبغه بأى لون بينما الجرانيت خامة من صنع الطبيعة خشنة تتحول مع الفكرة إلى شئ عبقرى مبهر لعلاقة الإنسان وعطاء الطبيعة هذا العرض الإستيعادى مع تجربة الفنان الوجدانية الحكائية الخيرة بدا فى غاية الإحكام رغم التفاوت فى المعالجة والخامة وذلك لكونه رسام إلى جانب كونه نحات حتى لو استشعرنا نقص فى الكتلة والحجم فى بعض القطع وميلها للتسطيح وذلك عن قصد لتنوع قدرة الإدراك بين الكتلة والمسطح وربما يوحى هذا بفكرة الإمتداد بين المختلفات وأيضا صفائحه الكرتونية قليلة السمك قد ندركها تتحرك رأسيا موحية بوجود سطح رأسى تتحرك بينه أعمال الكرتون الشبه مسطح داخل فضاء حقيقى داخل قاعة أفق ذى أبعاد ثلاثة وهذا يخلصنا من مشكلة الوهم البصرى ومن الفضاء الحرفى كما أن الحدود المتعددة للرسم فوق مسطحاته جعلت الفضاء الحقيقى جوهريا أكثر قوة وخصوصية من لطخة لون على سطح مستو .
- أن بساطة الشكل الذى يقدمه الفنان الكبير صالح رضا يتعادل بشدة وعمق التجربة فتماسكت بقوة وشدة دون تهديد بإحداث حالة تجزئة داخل العرض وفكرته فى صيغته الموحدة لرؤية تجربة حياة لها أبعادها الثلاثة العميقة إلى جانب البعد الزمنى الأكثر عمقا والمرتبط بعمر خبرة الفنان الزمنية والحياتية وقد قدم صالح رضا بإخلاص كلمته وتجربته العميقة تاركا للمشاهد أن يملأ ما تبقى منها فى مشاركة إيجابية منه فقد نقل الفنان قوة التأثير من الشئ إلى الفكرة لتلائم حيزا معينا فى عرض استيعادى ذهنوى فنى لتجربة امتدت لما يقرب من الستين عاما .
- من جانب آخر نجد الفنان الكبير أنجز أعمال بأبعاد ثلاثة وأخرى ببعدين من كرتون براق ربما رغبة منه فى اختبار دور النحات الأكثر تقليدية وبتخيل الأشكال وبالإمتداد بالكولاج واللون إلى أبعاد ثلاثة أعتقد أن صالح رضا حاول أن يجعل الإنتصار للعلاقة على الشكل كأحد التيمات التى تجعلنا فى شك إن كان الشئ الذى ننظر إليه ثقيلا أم خفيفا وهو يعتبر إلى درجة ما فنا إيمائيا - تجريديا - وشخوصى .
- يمكننا فى زيارة معرض فنان مصر الكبير صالح رضا رؤية منحوتاته من أطراف وزوايا معينة لتبدو كنصب تذكارية لحكاية بلد امتزج تاريخه العميق وحكايا البشر شديدة الإنسانية وقد انصهرت تماما داخل وجدان الفنان عبر الزمن حتى أصبحت كهايكل فرحة راقصة .
فاطمة على
جريدة القاهرة - 22/ 1/ 2013
تماثيل بلا أسماء
- .. تخيل `الفورم` فى العمق.
- حدد بوضوح .. المستويات السائدة
- تخيل ` الأشكال` موجهة نحوك . كل الحياة تتدفق من مكان واحد تتفجر من الداخل إلى الخارج.
- لاحظ أثناء الرسم ، البروز وليس الخط الخارجى.
- البروز هو الذى يحدد الخط الخارجى...
- الشىء المهم هو: أن تتأثر. تحب. تتأمل. ترتعد.
تعيش. كن إنسانا قبل أن تكون فنانا!..
- كلمات بليغة فصيحة تحدد طريق الإبداع . قالها ملك النحت الحديث الفرنسى: أوجست رودان ( 1840-1917) مقتطفة من بين ألفى كلمة توصيات ونصائح لفت فيها الأنظار من جديد إلى عمالقة النحاتين عبر التاريخ وفى صدارتهم: الإغريقى فيدياس. والإيطالى ميشيلا نجلو. لو أننا تأملنا تماثيل عملاقنا المصرى: محمود مختار `1891 - 1934` لتبينا إلى أى مدى تأثر بنصائح رودان الذى عاصر أعماله فى باريس. كيف مزجها بالحديث الصامت للنحت الفرعونى. وطلع على العالم بتلك العظمة التى تكمن فى أصغر تماثيله. نسوق هذه السطور تمهيدا لاستعراض إبداع الفنان صالح رضا الذى رسا بفنه المتشعب الاتجاهات على شاطئ النحت منذ عام 1972 .إلا أن كلمة `نحت` أصبحت غير مناسبة للــ `مجسمات` التى يبدعها الفنانون فى العصر الحديث. لجأ إلى أساليب أكثر يسراً على رأى هربرت ريد.
- تحولوا من النحت فى الحجر والخشب والصلصال إلى تجميع وتركيب الخامات الجاهزة وإعادة تكوينها. الباب الرومانسى الذي فتحه أوجست رودان... دخل منه رسامون مثل : ديجا وماتيس ثم بيكاسو. دلفت منه المدارس الفنية فشاهدنا النحت التعكيبى والمستقبلى والتعبيرى والسريالى ثم أعلن ابن الفلاح الرومانى كونستنتين برانكوزى `1876 - 1957` بداية النحت المعاصر.
- تغير مفهموم فن النحت .. أو إبداع التماثيل.
أبدع صالح رضا تماثيله على شكل تصميمات هندسية تعبيرية يحلم. يتخيل يحسب يصمم. يختار الخامات : خشب أو نحاس. ثم يكلف الورش والحرفيين المهرة بالتنفيذ .إبداع فنى مكتبى على منضدة الرسم الهندسى. مساقط إنفرادات قطاعات رسوم تنفيذية تفصيلية لمختلف الأجزاء التى يتألف منها `التمثال` تصميم لكل وجه فالتماثيل ترى من جميع الزوايا. ورسم معمارى بعد تصنيع الأجزاء بالآلات الكهربائية: المناشير وفرش التلميع وأجهزة التفريز، يشرف على التجميع والتركيب حتى يخرج التمثال على درجة رفيعة من الدقة والإتقان. لم يختلف اثنان من النقاد على أن ` الصنعة ` مسئولة عن معظم قيمة العمل الفنى. تشكيليا كان أو غير تشكيلى...
- تماثيل صالح رضا بلا أسماء لكنها إيحائية تتقمص كيانا حيا غريبا. بعد قليل من التأمل نلمح فيها معالم `العروسة الشعبية`. الشهيرة بين الشعوب العربية والشرق الأوسط والقبائل الأفريقية. سحرية شاعرية بعيدة كل البعد عن `الإسقاط الفورى` والعفوية والفطرة. تعتمد على التخطيط والتصميم الرياضى. لكنها تنضح بالحيوية والديناميكية. تكاد تتحرك أمام أبصارنا تحدثنا فى صمت. ` أشياء كالنصب التذكارية` و` رموز` ما قبل التاريخ الأسطورية تغرينا بأن نراها عملاقة فى الحدائق والميادين ليست صغيرة كما هى الآن. لا يزيد أرتفاعها على متر أو أكثر أو أقل قليلا. محبوسة فى دواليب الزجاج فى المعرض أو المتحف. لا تندرج تلك ` المجسمات` الطريفة الجذابة تحت بطاقة `التجريد المطلق` المتمثل فى لوحات الهولندى: بيت موندريان` ليست تشكيلات هندسية مطلقة بل `تعبيرية مجردة ` نهج الرومانى: برانكوزى فى إيجاز بليغ فصيح من يصدق أن ذلك التكوين ذا الرأس البيضى مدبب الطرفين ليس كائنا حيا يوشك أن ينطلق، أنثى جميلة تزهو بفتنتها بنحاسها الأصفر اللامع والخط الأحمر الملكى الذى يقتسمها من قمة الرأس إلى أسفل القاعدة، خط غائر تخفي فيه كل أسرارها.
- العروسة كموضوع. الإتقان وبراعة الأداء كأسلوب يشكلان جانبا من تاريخ حياة صالح رضا، ولد بالقاهرة فى حى الحسين. فى الجمالية فى رحاب الشيخ صالح الذى سمى بأسمه تيمنا وتبركا.
- فتح عينيه على مهرجانات شعبية وموالد وطرق صوفية. ليالى رمضان بخيامها وسهراتها ومواويلها وفنونها. قليلون من فنانينا أتيحت لهم فرصة الترعرع فى هذا الجو الأسطورى الشاعرى الروحانى. طالما انبهر الطفل صالح برائحة البخور وإيقاعات الطبول المكاحل والمسابح وزخارف الخيامية ونقوش المساجد وعمارة البيوت المملوكية العتيقة.
- عرائس الحلوى وعرائس الحسد `وحصوة فى عين اللى ما يصلى على النبى` كثيرا ما جرى خلف بائع الحلاوة زمان يتأمل بإعجاب عصاته الخشبية السامقة. تلتف بها شرائط الحلوى الوردية المطاطة، تتسنمها شخشيخة يهزها فيتجمع الأطفال من حوله كما تقول الأساطير تماما صانع الكنافة يشيد فرنه قبيل الشهر المبارك ثم يغطيه بصينية فسيحة يرش عليها العجين السائل فإذا به خيوط رشيقة تتلوى بتأثير الحرارة كأنما تدب فيها الحياة.
- هكذا شب فناننا مرتبطا بشكل ` العروسة ` المعانى والمضامين المنوعة التى تتقمصها. ارتبط بهيئة الإنسان الشعبى القول الشهم المعتز بنفسه. الزخارف و` الموتيفات` الهندسية الإسلامية. التصق بالعروسة فى الإبداع الفنى منذ السنوات الأولى من التحاقه بمدرسة الفنون التطبيقية سنة 1952. وفى `براغ` عاصمة تشيكوسلوفاكيا حين بعث إليها لدراسة الإنتاج الكمى للمصنوعات الخزفية `1958 - 1961`... وفى مدينة ` لندن` حين سافر لنفس الغرض `1961 - 1964` لم يترك العروسة رأيناها سنة 1956 تمثالا نصفيا خزفيا ملونا مزخرفا بوحدات هندسية شعبية تماثل كامل بين جانبى التمثال كعروسة المولد. تماثل يلازم رضا على طول مسيرته الفنية. بعد عام واحد `1959` أبدع عروسة أخرى فى `براغ` أيضا. أسقط كل الألوان والتفاصيل. إقتصر على الأسود الكابى الملمس الخشن نموذج فريد بليغ لا يبلى سحره ولا نمل النظر إليه.
- ` المجسم ` الذى نشاهده اليوم تطوير وترشيد ونمو لمفهوم العروسة تحول إلى كائن مستقل ذى شخصية معبرة عن مزيد من معانى الحياة... زمان... كان ` ينحت` الصلصال بيديه فأخذت تماثيله طابعا خاصا نلمسه بعيوننا ونحس معه بوشائج عائلية. أما وقد دخلت `العروسة` الورش الميكانيكية، إختفت أطرافها وأصبحت أكثر عمومية مخاطبة ` الصفوة ` من المثقفين مبتعدة عن `الشعبية` التى لا تجد فرصة للإطلال من خلال خامة النحاس الأصفر وربما ` قشرة ذهب` تخلع مسحة أرستقراطية متعالية . مع دقة الأداء التى تكاد تبلغ حد الكمال دقة الأداء... والقشرة الذهب.. لهما قصة أخرى.
- صالح رضا هو الأوسط بين سبعة عشر أخا وأختا. كان والده. يمتلك متجرا فى الموسكى وورشة صياغة فى خان الخليلى. إصطفى ولده وصالح شقيقه الأكبر للعمل فى الورشة حين بلغ الثانية عشرة من عمره . بمجرد معرفته للأدوات وكيف يستخدمها في تشكيل الماس والأحجار الكريمة ونصف الكريمة . بينما ينشغل أقرانه فى لعب الكرة والعبث هنا وهناك. عكف فناننا منذ الطفولة على الذهب يصوغه. الماس والأحجار يشذبها ويهذبها وينحتها ويسكنها مكانها فى الخواتم والأساور والأقراط. تعلم وتدرب على براعة الأداء والأناقة واللياقة والحرص البالغ فى الإبداع. صفتان متناقضتان : شعبية المشاعر والأحاسيس والخيالات وأرستقراطية العمل والتخصص . لكنه شب يكره التجارة التى كان والده حريصا على إشراكه فيها. إتجه إلى الرسم والتشكيل الفنى طوال مراحل الدراسة بالرغم من ضغوط والده وإضطراره لكسب العيش أحيانا من عمل ` الأباجورات` فى حارة اليهود. لم يصبر حتى ينهى المرحلة الثانوية. التحق إبانها بالقسم الحر بمدرسة الفنون الجميلة العليا `1946 - 1951` درس الرسم مبكراً على يد رائد الأكاديمية أحمد صبرى `1889 - 1955` ومساعديه: حسين بيكار وصلاح طاهر. كما تعرف على النحاتين مصطفى متولى وعبد القادر رزق. عاش فى جو الإبداع الفنى حتى أنهى تعليمه الثانوى والتحق بالفنون التطبيقية.
- إستبدل صالح فى مجسماته الحديثة الزخارف السطحية بتفاصيل ذات حجم وشكل ومعنى تشكيلات نباتية أحيانا ترسى معانى النماء والخصوبة. تمثال مستلهم من ثمرة البلح. شكل بيضى مجوف فى قمة عمود ذى فلقتين تنفرجان عن عدة كرات نحاسية متراصة كالبذور مجددة الحياة قد يستعيض عنها بإضاءة الألوان .من بين أعماله المرموقة ثلاثية من المجسمات النحاسية كأنها عائلة تعقد إجتماعا هاما. تبادل الحديث والأفكار. توزيعات ألوان الأحمر والأزرق والأصفر تحدد شخصية كل من التماثيل الثلاثة. تؤكد مكانته بين الجماعة. استطاع صالح بتشكيلاته وألوانه أن يخلق موقفا دراميا. والدراما ليست بعيدة عن إهتمامات فناننا. سبق أن صمم الديكورات والملابس لمسرح المائة كرسى وعدة مسرحيات عامة.
- فرضت خامة النحاس والأجهزة الميكانيكية أشكالا مبتكرة على مجسمات صالح رضا. لم تفسح مجالا للزخارف والموتيفات التى كانت تكسو تماثيله الخزفية سنة 1956. تتحدث ` لغة شكلية ` عصرية. لا يدركها إلا خاصة الصفوة. بعيدة عن مفاهيم رجل الشارع والإستهلاك الثقافى العام. حيث اختفت أبسط معالم الجمال.
- فى الوقت الذى ينعدم فيه ` الإسقاط الفورى` بانعكاساته الدافئة من تلك المجسمات، نلمح علاقتها بالتشكيلات الخشبية الإسلامية التقليدية المخروطة بدقة لتؤلف المنابر والبرافانات بتعشيقات لا يدخل فيها اللصق بالغراء أو التثبيت بالمسامير. بدأ صالح تجربته بخرط الخشب. أحجام كبيرة تطاول قامة الإنسان أو تزيد طلاها بالألوان الدكو المنوعة .المعدنية أحيانا من بينها تمثال أبدعه تحية لعود سيناء.. طلاه بألوان العلم المصرى الأبيض والأحمر والأسود . مضيفا اللون الذهبى رمزا للحضارة.
- مهما كان المضمون خافتا هامسا عند فناننا فالمهارة والبراعة تلعبان دور مكبر الصوت. ويتضح `المضمون` جليا مؤثرا.. ومثيرا. إذ كان الشكل لغة الفن.. فمهارة الأداء هى الدراية بقواعد تلك اللغة والتحكم فى الخامات والأدوات. هكذا أتقن صالح رضا التعبير عن فكرة ` الاثمار` والتوالد وخروج الحى من الميت وأودعها تمثال الكرات النحاسية. يجتذب فكر المشاهد وخياله ويبعده عن مشاغل الحياة اليومية اللانهائية. وجه الطرافة هنا هو إثارة روح الكشف وإشباع نزعة التطلع إلى المستور`. فكرة أن الشكل الخارجى ليس كل الحقيقة. الكرات الذهبية اللامعة المستخفية بين شقى التمثال، ترمز للحقيقة. إستوحاه من ثمرة البسلة لكنه ليس هو. المضمون هنا كل شىء له ظاهر وباطن. دعوة للتفكير ومراجعة المسلمات.
- فنان متعدد الاهتمامات والاتجاهات والخامات والأساليب من جيل نهاية الخمسينيات متشعب التخصصات. ضرب بسهم فى كل من الجرافيك وفن الآنية والرسم والتلوين والكولاج والنحت الجصى والخزفى. أقام عدة معارض فردية شاملة. إشترك فى معظم المعارض العامة المحلية. وبعض المعارض الدولية: دورتان فى بينالى فينيسيا وأخريان فى بينالى الإسكندرية.
- عاصفة ` الحداثة والمعاصرة ` التى هبت فى الخمسينيات، أزالت حدود مجالات الفن التشكيلى وخلطت النحت بالرسم بالتصوير بالزخرفة بدأت تنحسر فى نهاية السبعينيات لتتضح الفروق مرة أخرى على أسس جديدة. هكذا تحدد اهتمام صالح رضا كمصمم `مجسمات` يمكن تنفيذها مكبرة فى الحدائق والميادين، وتقوم اعوجاج الذوق الجماهيرى.
- فى عام 1964 أقام معرضا كاملا للكولاج. ومعناه قص الأشكال والصور وإعادة لصقها بتنظيمات وتوزيعات مبتكرة. الفنانون عادة يقصون الصور الفوتوغرافية من الصحف والمجلات ثم يعيدون ترتيبها فى تكوينات من إبداعهم لكن فناننا يرسم على الزجاج تشكيلات تجريدية بالألوان الزيتية. يطبع نسخة أو اثنتين بطريقة `المونوتيب` بعد أن تتجمع لديه تصميمات مطبوعة مختلفة الأشكال والألوان والملامس، يقص منها وحدات يلصقها على لوحة خشبية `100 × 75سم` وقد يكمل التكوين على الخشب بألوان ذهبية أو حمراء أو سوداء. تصميمات بلا موضوع لكنها طريفة مثيرة وجذابة اشترك بإحداها فى `بينالى الرياضة` بأسبانيا فى الستينيات. ولا يستهدف من إبداعه تسويقاً وكسبا ماليا كما يفعل معظم فنانينا. فهو فنان محترف له طبيعة الهواة. لم يبع فى حياته شيئا يذكر لغير المقتنيات الرسمية ومتحف الفن الحديث بالقاهرة. أما باقى المقتنيات فهدايا لأصدقائه الفنانين والمثقفين. كل همه أن يبدع أشكالا مبتكرة تحت مظلة ` الفن للفن` لكن.. هل يوجد فن للفن؟.
- إذا كان صالح رضا فى إبداعه يتصف بالدقة الرياضية والهندسية، فقد اجتاز فى الستينيات مرحلة `حركية إنفعالية `.على نسق الأمريكى: جاكسون بولوك غير أن هذا كان يعبر عن الإيقاع السريع العشوائى الذى تتسم به الحياة الأمريكية. لكن صالح فى لوحته الخشبية العملاقة `120 × 120سم` عبر بانفعالات مباشرة عن جوهر الحياة الشعبية التى شب فى أحضانها فى حى الأزهر. بالخشب والخيش وخامات البلاستيك.. الجص، والزيت. أبدع سلسلة من الصور`الانفعالية التجريدية التعبيرية` مستخدما الأقماع والجرادل وكيزان مثقوبة كالتى يستخدمها. صانع الكنافة عبر فى إحداها عن `حلاوة زمان` لم يكن واقعيا. صور البائع المتجول بعصاته السامقة تلتف بها الحلاوة كالثعبان. بل صور الحلاوة نفسها تسيل على سطح اللوحة تجريد تعبير وليس مطلقا بلا معنى. بالرغم من العفوية تتسم اللوحة بالأناقة واللياقة وبراعة الأداء. عبر عن ليونة الحلاوة ولونها الوردى وطبيعتها المطاطة اللزجة أبرز ذاتيتها والانبهار الذى يستشعره الطفل حين يصادف بائع الحلاوة. ألوان دسمة تتجمد على الصورة كأنها مساحات من الحلاوة لاصقة بها. تعبير عن الفكرة المجردة للحلاوة بكل ملابساتها. موضوع مغرق فى ` المحلية ` فى لغة حديثة وأشكال معاصرة إلا أن فناننا لا يعنيه كثيرا ما يحدث لأعماله بعد إنجازها ليس `تجريدياً عبثياً` لكن أهدافه تنتهى بعد عرض إبداعه مباشرة. ربما ينساه أيضا فى غمرة تفكيره فى الموضوعات الجديدة. لا يشغل باله أن الموضوع بسيط لا تدركه `الصفوة` ولا حكام المحافل الدولية كالبيناليات. لا يقلل ذلك من المقاييس الجمالية الشكلية والتقنية. إلا أن الإسبانى بابلو بيكاسو حين رسم لوحة ` فتيات أفنيون` سنة 1907 أعلن مدخلا جديدا للتعبير الفنى. أما حين رسم رائعة القرن `جيرنيكا` فقد كشف عن مدخل للتاريخ!.
- الفن متعة وجدانية ونفسية وعقلية أيضا ورسالة من الفنان إلى المتلقى فى كل مكان لأنه أكثر شعورا بالماضى وإحساسا بالحاضر وتشوفا للمستقبل. أول المتمردين وآخر اليائسين. ما يبدعه تعبير عن المزاج العام لأنه مشحوذ العاطفة واسع الخيال. صالح رضا يقترح علينا فى إبداعه المتنوع رؤية جديدة للتراث يحطم المفاهيم الشكلية ` الدوجماطيقية ` التى ينتهجها بعض فنانينا `السياحيين` الذين ينقلون موتيفات التراث نقل مسطرة `المضمون` الذى يستهدفه هو` إعادة النظر فى المسلمات الموروثة ` التى لا تتفق مع الفكر العالمى المعاصر. بدأ عصر النهضة فى أوربا حين راجع الشاعر الإيطالى `بيترارك 1330` المسلمات التى استمرت ألف عام بلا تغيير. إذا صح رأينا فى `ماهية` مضمون أعمال صالح رضا، فلا شك أنها ذات قيمة ثقافية عالية، فهو لا يعيد ويقلد التشكيلات و`الموتيفات` التراثية بل مجدد يبدع أشكالا موازية ويعدل فى التراث. يحذف منه ويضيف إليه مستخدما `التكنولوجيا` التى تسمح بها ظروفنا. عند مطلع مشواره الفنى حتى الآن... تتسم لوحاته وتماثيله الخزفية والجصية والخشبية والنحاسية بالدرامية مفعمة بالأفكار والإيحاءات والإثارة الجادة. تختلف جذريا عن فنون الزينة المكملة للديكورات الداخلية التي يبتاعها السائحون من بعض المتفننين للذكرى. سرعان ما تنسى وتلقى فى ركن الإهمال بدلا من المتاحف والمحافل الدولية.
- الإبداع الفنى هو إيجاد علاقات تضيف إلى العلاقات القائمة منطقا مبتكرا يدخل ضمن المنطق العام والثقافة العالمية . يضيف `معقولية` جديدة يحول المستحيل إلى ممكن. هكذا نتبين أوجه الشبه بين العلم والفن. فقد صعد الفنان بخياله إلى سطح القمر قبل أن يصعد العالم بمركبته الفضائية.
- صالح رضا يعيد النظر فى التراث التشكيلى ولا يتناوله قضية مسلمة، لكنه لا يتخلى عن الجذور التى تربطه بحياتنا..
بقلم : مختار العطار
من كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر والعالم العربى
صالح رضا : الفن الإسلامى خلاصة كل الإبداعات الإنسانية
- وُلد الفنان التشكيلي صالح محمد رضا في حي الحسين العريق بالقاهرة، ويقول إنه ولد في شارع الصالحية بمنزل على ناصية الشيخ صالح، الذي طالما باركته أمه به وهو في أحشائها، وكان حي الصالحية في مدخل خان الخليلي يضج بصناع النحاس مما جعل المنطقة تسمى `النحاسين`، وكانت أمه قد تعوَّدت أن تقرأ القرآن قبل ساعات الولادة، وإذا بها تقف قبل نزوله إلى الحياة عند قصة النبي `صالح`، فكان اسمه مع ارتباطه أيضاً بضريح الشيخ صالح.
قال صالح محمد رضا إن تجارة والده كانت في شارع خان الخليلي مركز الفنون الإسلامية، وتخصص في الفيروز الذي يأتي من سيناء، وعلمهم كيف يصقلون تلك الحجارة ذات اللون الأزرق، وكان هذا اللون من الألوان المحببة إلى نفسه، وكانت محلات المجوهرات بذلك الشارع تتشكل، كما لو كانت رقعة ألوان زيتية متعددة الدرجات، ففي هذا الحي العريق عاش طفولته إلى بداية مرحلة شبابه، وبعد أن أكمل التعليم الثانوي والتحق بكلية الفنون رفض الأهل ذلك وطلبوا منه التحول إلى التجارة، حيث كان الفن غريباً على المجتمع، وهو ما أطلق في نفسه العناد.
الحنين للوطن
بعد إنهاء الكلية سافر في بعثة إلى تشيكوسلوفاكيا داخل المصانع، فقد كانت البعثة لدراسة صناعة الخزف، وهناك بدأ الحنين إلى الوطن يعاوده، فصنع أول تمثال، وكان لعروس النيل في حجم كبير يقترب من طول قامته، ثم حاملة الجرة وبعدها حاملة القلة، حيث كانت `القلل` تزين فتحات الشبابيك في منازل الحسين، وتعد من سمات ذلك الوقت وهي تتغير في أشكالها بين الرشاقة والحجم الكبير وألوانها بين الاصفرار المخضر ولون طينة مصر الحمراء التي تكون طمي النيل، ومن القلل الصيفي والشتوي تبعاً للاستخدام.
وقال إنه حينما كان في إنجلترا حدَّثه أستاذه بأن يترك التراث القديم ويتعلَّم الفن الحديث، فشعر بأنه شخصية ذات تركيبة غريبة، وربما ذلك جاء من مخزونه البصري من الفنون القديمة ومنها الفن الإسلامي، بالإضافة إلى إنتماءاته المحلية، وأنه أحياناً يحن إلى المواضيع التراثية القديمة من دون أن يحققها في أعماله، ولكنها تشحن مخيلته، واكتشف رغم تقديره للفنانين القدامى من الجيل الأول في مصر.
ويتذكر ذلك اليوم الذي صحب أمه فيه إلى القلعة لزيارة جامع السلطان حسن، موضحاً أنه أحد قمم التاريخ المعماري للفن الإسلامي، حيث يعتبر وجهة صادقة في مفهوم العمارة الإسلامية من الناحية الصرحية التي تميز بها الفنان المعماري المصري، وأنه هالته الرؤية الفوقية لتلك المقرنصات النحتية المنظمة بشكل علمي يذهل العقل والعين معاً، وكانت تتدلى من سقف الباب الرئيسي على هيئة تكوينات هندسية في أشكال مدلاة كأنها ثريات تنير المكان، شاهدها وهو صاعد درج سلم الجامع، كما راعته تلك الأشكال الحجرية الهندسية الشكل عند المدخل وبدأ الدخول إلى الجامع ماراً في دهاليز حتى صحن الجامع المتسع المترامي الأطراف ذي الأروقة الأربعة التي نقش على جدرانها آيات قرآنية، وكانت تلك الحجرات الأربعة تمثل المذاهب الأربعة في الفقه الإسلامي.
ثوب جديد
قال إن المستشرقين في كثير من الأحوال نسوا أشياء في تخيلهم لأصول الأعمال الإسلامية لبعدهم التاريخي عنها، فالحضارة الإسلامية ظهرت في ثوب جديد بعد أن جمعت الحضارات الأخرى وامتصتها بداخلها، ولعب الدين الدور الأساسي في ازدهار هذه الفلسفة، ومن المؤسف أن غير المفكر العربي يعجز عن هضم وتوضيح هذه الكنوز الحضارية التي لعبت دوراً خطيراً في تطور الشعوب والحضارات، ويتذكر قول الناقد العالمي السير `هربرت ريد` حينما التقاه في لندن عام 1960 وقت أن كوَّن مع عدد من الفنانين `جماعة الفنانين العرب` من مصر والعراق والسودان، وكانوا في لقاء دائم معه كل أسبوعين لمناقشة أحوال المجموعة وعرض أفكارهم عليه.
وقال ريد وقتها إن على الفنان العربي أن يبتعد في صوره عن الزخرفة، حيث أن الفن التجريدي ليس هو الزخرفة، لأنه لو صار زخرفياً فسوف يفقد أهم عناصر العمل الفني، والمتمثل في الدراما، وبذلك يتحوَّل العمل الفني إلى سطحية مطلقة، ولذلك عليك أن تبدع الشيء من اللاشيء، وهذا هو التجريد الحقيقي ذو المعرفة الدلالية في محتواه، ورفض ريد المقولات التي تحدد أن الفن التجريدي مأخوذ من أو متأثر بالمشربيات الإسلامية.
ومنذ تلك اللحظة أدرك صالح رضا ما يعنيه ريد تماماً، حيث أكد بشكل ما أنه لا يمكن أن تنتج في القرن العشرين فناً إسلامياً، بعد أن انعدمت المبررات التي صنعت ذلك الفن في عصره، لذلك قام بكسر الأطر في أعماله الأخيرة بإلغاء فكرة الصورة وتلك الأطر التي كانت غير قادرة على إنتاج فن جديد وهنا تكمن الحرية، كما أدرك هول المعرفة الشرقية للفنون الشرقية في كثير من أحوالها، أنها ليست زخرفية، حيث أن `هربرت ريد` وغيره من المستشرقين تناسوا إعادة الرؤية الفنية الخاصة بهم في زاوية حضارتهم وأفكارهم، وليس في ناحية إحساس الشرق بمدلولات ومعارف خاصة مغايرة للسيمولوجيا المعرفية العامة.
ومن خلال التصادم الحضاري الذي حدث له من بوابة الجحيم لرودان أدرك أن القيمة الحجمية أو الشعور بالكتلة مسألة تخص إحساس الفنان الشرقي بمعرفته بموازيين هذه الأبعاد والكتل، فلم يكن جامع السلطان حسن هو جامع شامخ كبير الحجم فقط، وإنما كانت أبعاده الحسية المتغيرة من أول باب الدخول المرتفع إيقاعاً عالياً، يعطيك الفرق الحجمي بين البوابة الشامخة والإنسان وضآلة حجمه، وعلى العكس من هذا كبر حجم الرأس التي تمثلت في المقرنصات المتدلية من سقف البوابة الرئيسية للدخول، وهنا يمكن الربط الأساسي بين عنصر الدراما الذي جاء من خلال القياسات والأبعاد والأحجام وتنظيمها داخل قالب متحد، وأيقن رضا أن الدرامية الموجودة في جامع السلطان حسن ليست هي درامية ناشئة من الزخرف الذي تكلم عنه هربرت ريد الذي قد يكون تأخر عنه نظراً لبعده عن إحساسه الشرقي بهذه العناصر التي قد تكون جديدة وبعيدة عنه أيضاً، وهذا التصور ليس تعصبا للفنون الشرقية، بل هو محاولة لمساعدة الرائي على القراءة الجديدة للمفاهيم التي كانت غامضة في فنون الشرق عامة.
مجدى عثمان
وُلد الفنان التشكيلي صالح محمد رضا في حي الحسين العريق بالقاهرة، ويقول إنه ولد في شارع الصالحية بمنزل على ناصية الشيخ صالح، الذي طالما باركته أمه به وهو في أحشائها، وكان حي الصالحية في مدخل خان الخليلي يضج بصناع النحاس مما جعل المنطقة تسمى `النحاسين`، وكانت أمه قد تعوَّدت أن تقرأ القرآن قبل ساعات الولادة، وإذا بها تقف قبل نزوله إلى الحياة عند قصة النبي `صالح`، فكان اسمه مع ارتباطه أيضاً بضريح الشيخ صالح
قال صالح محمد رضا إن تجارة والده كانت في شارع خان الخليلي مركز الفنون الإسلامية، وتخصص في الفيروز الذي يأتي من سيناء، وعلمهم كيف يصقلون تلك الحجارة ذات اللون الأزرق، وكان هذا اللون من الألوان المحببة إلى نفسه، وكانت محلات المجوهرات بذلك الشارع تتشكل، كما لو كانت رقعة ألوان زيتية متعددة الدرجات، ففي هذا الحي العريق عاش طفولته إلى بداية مرحلة شبابه، وبعد أن أكمل التعليم الثانوي والتحق بكلية الفنون رفض الأهل ذلك وطلبوا منه التحول إلى التجارة، حيث كان الفن غريباً على المجتمع، وهو ما أطلق في نفسه العناد.
الحنين للوطن
بعد إنهاء الكلية سافر في بعثة إلى تشيكوسلوفاكيا داخل المصانع، فقد كانت البعثة لدراسة صناعة الخزف، وهناك بدأ الحنين إلى الوطن يعاوده، فصنع أول تمثال، وكان لعروس النيل في حجم كبير يقترب من طول قامته، ثم حاملة الجرة وبعدها حاملة القلة، حيث كانت `القلل` تزين فتحات الشبابيك في منازل الحسين، وتعد من سمات ذلك الوقت وهي تتغير في أشكالها بين الرشاقة والحجم الكبير وألوانها بين الاصفرار المخضر ولون طينة مصر الحمراء التي تكون طمي النيل، ومن القلل الصيفي والشتوي تبعاً للاستخدام.
وقال إنه حينما كان في إنجلترا حدَّثه أستاذه بأن يترك التراث القديم ويتعلَّم الفن الحديث، فشعر بأنه شخصية ذات تركيبة غريبة، وربما ذلك جاء من مخزونه البصري من الفنون القديمة ومنها الفن الإسلامي، بالإضافة إلى إنتماءاته المحلية، وأنه أحياناً يحن إلى المواضيع التراثية القديمة من دون أن يحققها في أعماله، ولكنها تشحن مخيلته، واكتشف رغم تقديره للفنانين القدامى من الجيل الأول في مصر.
ويتذكر ذلك اليوم الذي صحب أمه فيه إلى القلعة لزيارة جامع السلطان حسن، موضحاً أنه أحد قمم التاريخ المعماري للفن الإسلامي، حيث يعتبر وجهة صادقة في مفهوم العمارة الإسلامية من الناحية الصرحية التي تميز بها الفنان المعماري المصري، وأنه هالته الرؤية الفوقية لتلك المقرنصات النحتية المنظمة بشكل علمي يذهل العقل والعين معاً، وكانت تتدلى من سقف الباب الرئيسي على هيئة تكوينات هندسية في أشكال مدلاة كأنها ثريات تنير المكان، شاهدها وهو صاعد درج سلم الجامع، كما راعته تلك الأشكال الحجرية الهندسية الشكل عند المدخل وبدأ الدخول إلى الجامع ماراً في دهاليز حتى صحن الجامع المتسع المترامي الأطراف ذي الأروقة الأربعة التي نقش على جدرانها آيات قرآنية، وكانت تلك الحجرات الأربعة تمثل المذاهب الأربعة في الفقه الإسلامي.
ثوب جديد
قال إن المستشرقين في كثير من الأحوال نسوا أشياء في تخيلهم لأصول الأعمال الإسلامية لبعدهم التاريخي عنها، فالحضارة الإسلامية ظهرت في ثوب جديد بعد أن جمعت الحضارات الأخرى وامتصتها بداخلها، ولعب الدين الدور الأساسي في ازدهار هذه الفلسفة، ومن المؤسف أن غير المفكر العربي يعجز عن هضم وتوضيح هذه الكنوز الحضارية التي لعبت دوراً خطيراً في تطور الشعوب والحضارات، ويتذكر قول الناقد العالمي السير `هربرت ريد` حينما التقاه في لندن عام 1960 وقت أن كوَّن مع عدد من الفنانين `جماعة الفنانين العرب` من مصر والعراق والسودان، وكانوا في لقاء دائم معه كل أسبوعين لمناقشة أحوال المجموعة وعرض أفكارهم عليه.
وقال ريد وقتها إن على الفنان العربي أن يبتعد في صوره عن الزخرفة، حيث أن الفن التجريدي ليس هو الزخرفة، لأنه لو صار زخرفياً فسوف يفقد أهم عناصر العمل الفني، والمتمثل في الدراما، وبذلك يتحوَّل العمل الفني إلى سطحية مطلقة، ولذلك عليك أن تبدع الشيء من اللاشيء، وهذا هو التجريد الحقيقي ذو المعرفة الدلالية في محتواه، ورفض ريد المقولات التي تحدد أن الفن التجريدي مأخوذ من أو متأثر بالمشربيات الإسلامية.
ومنذ تلك اللحظة أدرك صالح رضا ما يعنيه ريد تماماً، حيث أكد بشكل ما أنه لا يمكن أن تنتج في القرن العشرين فناً إسلامياً، بعد أن انعدمت المبررات التي صنعت ذلك الفن في عصره، لذلك قام بكسر الأطر في أعماله الأخيرة بإلغاء فكرة الصورة وتلك الأطر التي كانت غير قادرة على إنتاج فن جديد وهنا تكمن الحرية، كما أدرك هول المعرفة الشرقية للفنون الشرقية في كثير من أحوالها، أنها ليست زخرفية، حيث أن `هربرت ريد` وغيره من المستشرقين تناسوا إعادة الرؤية الفنية الخاصة بهم في زاوية حضارتهم وأفكارهم، وليس في ناحية إحساس الشرق بمدلولات ومعارف خاصة مغايرة للسيمولوجيا المعرفية العامة.
ومن خلال التصادم الحضاري الذي حدث له من بوابة الجحيم لرودان أدرك أن القيمة الحجمية أو الشعور بالكتلة مسألة تخص إحساس الفنان الشرقي بمعرفته بموازيين هذه الأبعاد والكتل، فلم يكن جامع السلطان حسن هو جامع شامخ كبير الحجم فقط، وإنما كانت أبعاده الحسية المتغيرة من أول باب الدخول المرتفع إيقاعاً عالياً، يعطيك الفرق الحجمي بين البوابة الشامخة والإنسان وضآلة حجمه، وعلى العكس من هذا كبر حجم الرأس التي تمثلت في المقرنصات المتدلية من سقف البوابة الرئيسية للدخول، وهنا يمكن الربط الأساسي بين عنصر الدراما الذي جاء من خلال القياسات والأبعاد والأحجام وتنظيمها داخل قالب متحد، وأيقن رضا أن الدرامية الموجودة في جامع السلطان حسن ليست هي درامية ناشئة من الزخرف الذي تكلم عنه هربرت ريد الذي قد يكون تأخر عنه نظراً لبعده عن إحساسه الشرقي بهذه العناصر التي قد تكون جديدة وبعيدة عنه أيضاً، وهذا التصور ليس تعصبا للفنون الشرقية، بل هو محاولة لمساعدة الرائي على القراءة الجديدة للمفاهيم التي كانت غامضة في فنون الشرق عامة.
مجدى عثمان
الاتحاد: 9-8-2011
الخيال روح الإبداع
- الخيال هو روح الإبداع ، بل هو أساس الفنون ، وأى فن من الفنون يخلو من الإبداع لا يعتبر فنا مطلقاً لأن الخيال هو صلب الموضوعات بل هو صلب الحياة..
- هذا ما أكده الفنان ` صالح رضا` أستاذ التصميم بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان الذى ولد فى فبراير 1932 م فى حى الحسين بالقاهرة ، ذلك الحى الذى كان له تأثير بالغ الأهمية على حياة الفنان الإبداعية وتكوين أسلوبه الفنى . فبعد أن تمرد على أسرته فى العمل بتجارة والده فى صياغة الألماس والأحجار الكريمة، التحق بكلية الفنون التطبيقية متخذاً لنفسه منحنى مختلفاً يتميز به عن أقرانه فى الحركة التشكيلية ، مكوناً لذاته منظومة ثقافية واسعة من القراءات المتباينة والمتعددة فى شتى مناحى الحياة ، مكتسباً العديد من الخصائص الفنية خاصة بعد بعثته إلى تشيكوسلوفاكيا وأخرى إلى إنجلترا لدراسة فن الخزف ، يعود بعدهما ليساهم فى عدد كبير من الجمعيات والجماعات الفنية ، ومشاركاً فى الكثير من المعارض المحلية ، وممثلاً لمصر فى عدد كبير من المعارض الدولية نال على أثرهما العديد من الجوائز وشهادات التقدير .
- لم يكتف الفنان ` صالح رضا` بكونه متخصصاً فى مجال الخزف ، بل تعددت مواهبه الفنية فى النحت والجرافيك وامتدت موهبته للمسرح ، فعمل كمصمم ديكور مسرحى ومدرس لهذا التخصص فى أكاديمية الفنون المسرحية.
- وقد أضاف الفنان لتاريخه الفنى هذا المعرض الشخصى فى قاعة ( أفق ) بمتحف محمد محمود خليل تحت عنوان ` نحو وجهه نظر جديدة ` والذى قدم من خلاله عدداً كبيراً من الأعمال الفنية حديثة العهد ، تنوعت ما بين التصوير والنحت والدمج بينهما فى صيغة جديدة شديدة الخصوصية . حيث يقول الفنان ` صالح رضا` عن تلك الأعمال: ( أعمالى ليست مجرد صور إنما هى أعمال بعيدة المدى عن الفكر البشرى من الصعب إدراكها واستيعابها إلا إذا توفر لديه قدر من الفهم والإدراك والوعى والقراءات المتعددة فى شتى المجالات ).
- وعن كيفية صقل الموهبة الفنية والإرتقاء بها يقول الفنان ` صالح رضا `: ( القراءة مطلب أولى لفهم وإدراك الحياة ومن غير القراءة لا يستطيع الفنان صقل موهبته والارتقاء بها) . مؤكداً على أن الحياة التى نحياها اليوم صعبة المنال والإدراك .
- صعبة فى الحصول على القوة التكنيكية التى تساعد الفنان على بذل الجهد وعمل حوائط متعددة لخلق فن جديد له شكل ذو مسحة جديدة ، والجديد هنا لا يعنى المعنى اللفظى لكلمة جديد بل هو صورة من الصور الأساسية فى صنع الحياة الإبداعية.
- إذا كان الفن التشكيلى جزءاً لا يتجزء من فنون الأدب والسينما والمسرح بل يتداخل ويندمج فى جوهره ضمن بوتقة واحدة ، إلا أن لكل منهم خصوصيته وآليته ، تتجاذب هذه الفنون وتتداخل عندما يتعلق الموضوع بالجانب الفنى وتتنافر حين تدخل فى التكنيك فكيف تؤثر تلك الفنون على أعمال الفنان ` صالح رضا ` خاصة وأنه يمارس بعضاً منها ؟ يضيف : نعم هناك ترابط قوى بين تلك الفنون فجميعهم يتداخل ويتجاذب وليس هناك صعوبة من الربط بينهم ، فالكلمة فى الأدب تستطيع أن تصف العمل الفنى . و اللوحة والتمثال قد يكونان ضمن مكونات العمل المسرحى إذن هناك تضافر قوى وعميق يجعل هذه الفنون دائمة التواصل ولكن كيفية الربط بينها تحتاج إلى حالة من الخلق والإبداع ، ليس فقط الإبداع التشكيلى ، ولكن الإبداع فى الفكر والإحساس والخيال .
- وعن أعمال المعرض يقول الفنان ` صالح رضا` ( لقد قدمت تشكيلات مجسمة تدخل فى إطار الفن الحديث حيث ألغيت معها الصورة بشكلها الافتراضى ذى البعدين وتمحورت حول أعمال النحت ليصبح كياناً واحداً فى هيئة عمل مجسم هو العمل الأكثر وضوحاً فى صيغته النهائية ).
- كما اهتم الفنان بتقديم نوع آخر من الأعمال تمثلت فى نحت الشرائح من خامة الجرانيت يتعامل معها من خلال مجموعة من القيم الفنية والجمالية ، وبتكرار الشرائح فى اتجاهات متباينة رأسية وأفقية وأخرى مائلة نتج عنها إيقاعات متنوعة فى صيغة بناء تجريدى أشبه بأنغام الموسيقى . تعادلت معه تلك الشرائح فى منظومة متوازنة مكونة صرح العمل الفنى.
- أما أعمال التصوير، فقد حاكى من خلالها الفنان ` صالح رضا` الفنون التراثية وعلى رأسها الفن المصرى القديم متخذاً من خصائص الهيئة الهرمية تنويعات متباينة مقسماً إياها إلى مجموعة من الأجزاء يتجسد فى كل منها كتل آدمية تتداخل وتتقاطع أجسامها فى ديناميكية عالية تشيع فى اللوحة حالة من الحركة مجسداً العديد من الموضوعات منها ( الموتى تتصاعد أجسامهن إلى السماء من أجل حياة جديدة أبدية ) .
- يتسم أسلوب الفنان ` صالح رضا ` بالبناء والصرحية ، فأعماله تقوم على مجموعة من المحاور الإنشائية الرأسية منها والأفقية حيث تتكون من قاعدة عريضة تمثلها جموع الأشخاص المتكتلة والتى تتحرك جميعها فى اتجاه رأسى تتطلع معه إلى السماوات العلا تظهر على وجوهها علامات البهجة ، وأخرى عابسة بائسة تحدق بعيونها الواسعة بنظرات متعجبة يميناً ويساراً أعلى وأسفل.
- حيث يرسم الفنان أوجه الفتيات ، ونساء مصريات بخطوط لينة ودائرية فتظهر شخوصهن ملتفة حول بعضها البعض أو يحتضن كل منهم الآخر فى صيغة تشكيلية جمالية .
أما الثنائية الشهيرة للرجل والمرأة ، فقد أخذت أهمية كبيرة فى أعمال الفنان ` صالح رضا` حيث اهتم بالتعبير عنهما فى عدد من المشاهد .فرسم رجل وإمرأة فى حالة من حالات التجلى النفسى . أما المرأة المصرية فكان لها مكانة خاصة ، فقد جسد إياها فى حالات البهجة والعظمة ثم لحظات التجلى والأنوثة فرسم مجموعة من البنات يمثلون الفرح فى القرية كما رسم الجالسات على نهر النيل. حيث جسد مجموعة من الفتيات اصطفت بجوار بعضها البعض تقاربت هيئتهم واتجهت نظرتهم الجانبية إلى خارج اللوحة محلقين بأعينهم إلى ما لانهاية .
- هذا بالإضافة إلى مجموعة أخرى من أعمال الفنان تجسد الريف المصرى فى أبهى صوره ، فجنى المحصول من أجمل وأسعد الأيام التى يعيشها الريفيون بعد عناء طويل من الجهد والصبر . وقد اختار الفنان حصاد محصول التمر ورسم بألوان الفلوماستر الفلاحين يجمعون ثمار التمر المتساقطة فى بهجة وسعادة أكد عليها الفنان من خلال اختياره لمجموعة لونية مشرقة من بينها الأصفر والبرتقالى والأخضر.
بقلم : صالحة شعبان
مجلة الخيال : العدد ( 35 ) فبراير 2013
رحيل صالح رضا .. روح الأصالة ولمسة الحداثة
- عن عمر يناهز 86 عاما رحل الفنان الشامل صالح رضا بعد ملحمة من التنوع فى الابداع .. فى رحلة حافلة بالشراء وعمق التشكيل والتعبير امتدت لأكثر من ستين عاما .. وقد اختار من البداية دراسة التصوير بالقسم الحر بالفنون الجميلة لمدة خمس سنوات ` 1946 ــ 1951` وعملا بنصيحة استاذه احمد صبرى التحق بالفنون التطبيقية ودرس فن الخزف وتخرج عام 1957 .. ورغم دراسته لهذا الفن بتشيكوسلوفاكيا وانجلترا الا ان لمسته تنوعت فى كل اتجاه من المسطح الى المجسم .. من التصوير والنحت والجرافيك الى الرسم والخزف وتصميم الديكور .. كل هذا بروح الاصالة ولمسة الحداثة فلم تغب ابدا فى اعماله تلك العلاقة بين الموروث والوافد .. الاصيل والمعاصر ويرجع السر فى ذلك الى نشأته الاولى وارتباطه وتعلقه من مولده فى قلب القاهرة الفاطمية بكل الصور التراثية وانفتاحه فيما بعد على تيارات الحداثة ..
وهو يقول .. ` قد يظن البعض ان الفن انعكاس للواقع الذى نعيشه !! ولكنه وفى الحقيقة ليس هو الواقع نفسه .. وبقدر ما يعطى الفن فى رسم خطى المستقبل بقدر ما يبتعد عن الواقع .. وإن لم يكن الفن هو حلم المستقبل فكيف يعيش الانسان بدون هذا الحلم فى تغيير واقعه الذى يعيشه .. `
قاهرة المعز
فى شارع الصالحية حيث مقام سيدى صالح بالقرب من خان الخليلى ولد الفنان صالح رضا عام 1932 .. بتلك المنطقة العامرة بالدروب والبوابات والكوى والمنافذ وسحر الاضواء والظلال من بداية الشروق الى نهاية المغيب او الغروب .. وقضى جزءا كبيرا من طفولته متأملا للروح الشعبية وحركة البشر فى حياتهم اليومية على هذا المسرح المتحرك من حيوية الصور التى لا تنتهى .. هناك مع آيات الإبداع من العمارة الاسلامية المتمثلة فى : الاقمر والازهر والاشرف برسباى والمؤيد شيخ بعناصرها من الماذن والقباب وفوانيس الاضاءة وهمس الزجاج المعشق من الشمسيات والقمريات .. كل هذا مع لافتات الخط العربى على واجهات المحلات .. والاسبلة والبوابات العتيقة التى تؤدى الى الحارات والأزقة ..
ومن هنا عكف على دراسة الفنون الاسلامية بتنوعها واكتشف فيها تلك الفلسفة الكونية التى ميزتها .. وكان الفنان المسلم كما يقول: يقدم اعمالا معاكسة للطبيعة تفيض بغنائيات التجريد فى بناء هندسى يحمل ايقاعات متجددة ومنظومات متكاملة فى التناغم اللونى والترديد اللحنى للوحدات الهندسية .. وقد افرز هذا الشغف اعمالا تواصلت ليس مع ثراء الفن الاسلامى فقط ولكن ايضا بوحى من الفن الشعبى والمصرى القديم .
تنوع التشكيل
استخدم رضا خامات ووسائط عديدة من الطين الفخارى والنحت الخزفى والبرونز والنحاس والصلب والخشب والجبس والحفر .. وهو احد تلاميذ سعيد الصدر ومن هنا جاء انجازه فى الاوانى الخزفية حالة متعددة فى اشكالها بين الجمال الخالص والوظيفة والاستخدام من الاشكال المحدبة والكروية والدائرية الى الاشكال الاسطوانية التى ميزت اعماله .. كل هذا مثلما مارس الحفر بوسائط عديدة ` حصل على الجائزة الاولى لبينالى الاسكندرية فى الحفر عام 1966 ` .. ومارس التصوير من الزيت الى الاصباغ والكولاج .
وقد كانت اعماله فى البداية جهيرة الصوت تحمل العديد من القضايا الانسانية خاصة وقد واكبت ثورة يوليو وربما جاءت لوحته حرب بورسعيد تجسيدا وطنيا وبصريا بمعالجة عصرية من خلال اسلوبه الحديث فى التكوين ومعالجة الشخوص مع توهج الضوء الاصفر الذى يتخلل اللوحة افقيا من منتصفها بين الاحمر النارى والاسود.. ومن التصوير الى التجسيم قدم النصيب التذكارى لشهداء بورسعيد .. تاكيدا على الروح الوطنية فى الابداع .
وفى تصورنا ان احدى ايقونات فن صالح رضا ` عروسة العرائس ` .. عروسته الخاصة والتى جسدها فى صور عديدة واقفة وجالسة .. يتصل ذراعاها وكأنه اتصال عضوى فى حركة قوسية واحيانا بشكل اسطوانى يندمج فيه الذراعان ` مثل عروس النوبة ` وهى عروس غنائية مشرقة بالتفاصيل حافلة بالدندشات ليست كعروس المولد الشعبية الكحيلة .. كما تختلف عن عرائس ممدوح عمار التى صورها بعين واحدة وكأنه كان يتطلع الى مصر من خلالها فترة البعثة بباريس .. عروس رضا فيها روح مصر الفرعونية والشعبية وايضا الاسلامية بشكلها الاسطوانى وتجمع بين الحسية والروحية واحيانا تجدها حالة روحية خالصة .
يقول صالح رضا : ` كانت امى تاخدنى الى الحمام الهندى فى خان الخليلى وكنت بين الرابعة والخامسة حين كانت تحملنى معها فان بقية الاخوة اشقاء وغير اشقاء كانوا يساعدون ابى فى قطع الاحجار الكريمة وصقلها فاذا دخلت الى ذلك الحمام المثير يلفح وجهك الحر الساخن وروائح اخرى لم اكن اعرفها بالاضافة الى استدارات الاجساد ` .. وحتى يمكن ان نتلمس شخصية عروسته نتأمل ما قاله الفنان احمد فؤاد سليم حول فنه بما يعكس ثراء التفاصيل وتنوع العناصر :` ان رضا يحلل الاصل ليصل الى الجزء ويحلل الجزء ليصل الى العنصر ويحلل العنصر ليصل الى الوحدة .. ثم يحلل الوحدة ليصل الى الحالة ثم يحيا فى الحالة ليصل الى الفكرة وحينئذ يفجرها ذلك التفجير النحتى المسبوق الذى تميز به منذ بدء حياته ` .. وهو يضيف فى دراسة متعمقة حول عالمه :
ومن هنا فقد اكتسب رضا خاصية التجديد لانه حر بالمفهوم الغريزى للحرية امام العمل ولهذ السبب قدم تماثيله الراسخة الرصينة وهى تحمل اسم ` الجنين ` دون ان يكون هناك ` جنين ` و ` الولادة ` دون ان يكون هناك وليد .. لقد اختفت الاشخاص والاحجبة والزخارف والفرسان والعرائس والعيون المكحلة ولحق بها الشطب والحذف والاضافة إلى ذلك التجديد الذى يرتكز على حسابات الفنان الذاتية ` . وهنا نتوقف متأملين النصب التذكارى الذى ابدعه على ضفة النيل الشرقية للبنك الاهلى بارتفاع 18.5 متر إنتاج 1996 وهو يمثل المسلة المصرية الجديدة .
التجريد الهندسى الخالص
فى عام 2012 جاء معرض الفنان بقاعة ` افق 1` والذى ضم احدث ابداعاته فى النحت والتصوير ضم 33 عملا فنيا تمثل احدث اعماله وتعرض لأول مرة : 13 عملا نحتيا فى حوار مع 20 لوحة مرسومة على ورق سميك بالوان الفلوماستر فى تجربة جديدة ومختلفة تعد امتدادا وتراكما لعالمه وفى الوقت نفسه تخرج عليه بما يمثل اضافة فيها الريف المصرى من الحاضر الى التاريخ بمفردات وعناصر جديدة ويقول الفنان صالح رضا : سيجد الملتقى رمزا يمثل الريف المصرى قديما وحديثا يتوسط تلك الأعمال بشكل رئيسى وهو ` مفتاح النيل .. وبينما تبدو اعمال التصويرغنائيات تتزاحم فيها الشخوص وثنائيات للرجل والمرأة فى مجاميع لونية هادئة من الأحمر والازرق ومن الاصفر والبرتقالى والرمادى .. وفى مجموعة من اعمالة النحتية اتجه الى الايقاع الهندسى الخالص من تلك الشرائح الهندسية الجرانيتية المتماسة بهيئة وحدة المثلث مع درجة من التحريف فى مجاميع تتقاطع او تتلاقى افقيا وراسيا فى بناء تجريدى صارم ومحكم يشكل موسيقى تحدثها درجات وزوايا الميل .. وقد تخلص الفنان من كل المؤثرات التراثية لكن تبقى الموسيقى البصرية التى تنبعث بفعل حركة الايقاع .. تذكرنا بموسيقى الايقاع البصرى فى الفن الاسلامى .
جماليات المدينة
وللفنان صالح رضا اسهامات تشكيلية من أجل الارتقاء بجماليات المدينة المعاصرة من بينها تمثال بمترو الانفاق ` محطة عبد الناصر ` وهو من النحاس من انتاج 1970 وتصميم مدخل ضاحية النخيل بمدينة الشروق عام 1998 .. مع لوحة نحت بارز ` بانوراما 6 اكتوبر مقاس ` 3ــ6 متر ` جسدت معركة المنصورة وانتصار صلاح الدين `.
وقد كان فناننا متفاعلا فى العمل العام وله دور نقابى كبير فهو من مؤسسى نقابة الفنانين التشكيليين وكان نقيبا لها من 1978الى 1987 ..
تحية الى روحه وسلام عليه بعمق لمسة تألقت بالتنوع والثراء فى كل اتجاه .
صلاح بيصار
القاهرة : 2018/4/17

- يعد صالح رضا من الفنانين متعددى المواهب، فقد مارس الرسم بالالوان الزيتية والباسيتل منذ مستهل حياته الفنية فور تخرجه مباشرة، ثم تنوعت تجاربه الفنية بين الخزف والكولاج والنحت بخاماته المختلفة، وكان له فى فروع الفن تجربة فنية وحياتية، اختلط فيها التصوير بالكولاج، والباستيل باللوحات المطبوعة بطريقة الـ `مونتيب` وتزاوج النحت بالخزف الزلطى.. وكانت أغلب المراحل الفنية عند رضا تستلهم قاعدتها الاساسية من الموروث القديم والشعبى.. وظل محافظاً على تلك الصفة حتى اليوم، الأمر الذى صبغ اعماله بالمحلية والعالمية فى آن واحد. ومما لا شك فيه أن تلك الممارسات الفنية فى المجالات المختلفة عند صالح رضا واعتماده بشكل مؤكد على الآثار المصرية القديمة والشعبية فى استلهام موضوعات أعماله.. مع خبراته المتراكمة عبر خامات مختلفة.. تلك - فى رأيى - هى القناة الوحيدة التى أهلته .. ورشحته للفوز بجائزة الدولة التقديرية هذا العام فى القاهرة من قبل وزارة الثقافة. وقبل شهور مضت.. وتحديداً فى فبراير من هذا العام أقام الفنان صالح رضا المعرض الاستعادى الشخصى لنصف قرن من الزمان بمجمع الفنون بالزمالك ثم بقصر الفنون بالاوبرا.. وبعدها انتقل المعرض إلى متحف الفنون الجميلة بالاسكندرية ويقول الفنان: ` قد يظن البعض أن الفن - هو انعكاس لهذا الواقع الذى نعيشه ولكنه فى الحقيقة ليس هو هذا الواقع نفسه، وبقدر ما يعطيه الفن فى رسم خطى المستقبل - حيث ان الفن فى صورته الحقيقية: هو ما بعد الواقع - وليس الواقع نفسه، وان لم يكن الفن هو حلم المستقبل - فكيف يعيش الانسان بدون هذا الحلم فى تغيير واقعه الذى يعيشه`. ومن واقع هذا المعرض الاستعادى للفنان رضا وسلسلة خبراته فى مسيرة حياته الفنية يمكننا ان نحدد عدة روافد اساسية فى تلك المسيرة . ففى تجربة التصوير الزيتى كانت له اعماله ما زالت شاهدة وباقية مثل لوحة `دنشواى` التى تصل ابعادها إلى 160× 110 سم ونفذها بالالوان الزيتية على توال عام 1956 وهى تمثل تلك الجريمة البشعة التى تعرض لها الكثير من ابناء هذا الوطن للمهانة والقتل والشنق.. فصدر فيها الخوف والفزع الذى يتمثل فى الاسرة التى تماسكت وبدا عليها لحظات النهاية المتمثلة فى العيون الجاحظة والايدى والاذرع التى استسلمت لما هو `قدرى`.. وعلى الرغم من كل هذا الجو الكئيب الذى عبر عنه رضا بالالوان الصفراء والخضراء والاطر الداكنة، نجد المشانق فى خلفية اللوحة يتدلى منها الكثير.. ونجد الاخرين فى انتظار دورهم. ولا شك ان الاحداث التى مرت بمصر قد تركت آثارها على الفنان صالح رضا ومن شاركوه هذا الجيل، فبورسعيد المدينة الباسلة التى لاقت العدوان وصدته وقاتلت واستبسلت لتدفع بالعدو بعيداً.. هى تلك اللوحة ايضاً للفنان رضا والتى نفذها فى نفس عام العدوان 1956 فكان لها أصدق الاثر وقتذاك. وقبل ذلك بسنوات كان رضا مشحوناً بالامل كأى فنان آخر فعبر عن الامل فى لوحة تمثل شخصاً جالساً متكئا بذراعه على منضدة وعلى الجانب الاخر جمجمة وضعت على منضدة اخرى صغيرة .. ذلك هو الامل فى الغد برغم الموت الذى يحيق بنا فى كل مكان.. تلك هى لوحة `الامل` التى رسمها عام 1948 بالالوان الزيتية على توال بمقاس 70 ×100سم. ولان دراسة رضا الاساسية كانت فى فن الخزف فمارس تلك التجربة فى عديد من التماثيل الخزفية، فكان `ابتهال` نحت فخارى ملون 45 × 20سم نفذ عام 1953، تأثر فيه صالح رضا تأثراً كبيراً بالفلسفة المصرية القديمة في الاتجاه بالمسلسلات الجرانيتية إلى عنان السماء.. فاطال فى جسم الفتاة رغم جلوسها على كرسى ضيق، وابتعد عن التفاصيل التى قد تؤثر على المشاهد للوصول إلى المعنى الدقيق الذى يقصده فاهتم فى هذا التمثال بالكتلة والعلاقة بينها وبين الفراغ والتناسب الحادث بينهما، كما قام بعمل نقوش ورسوم شعبية على قاعدتى الكرسى تشبه إلى حد كبير النقوش الفرعونية لكنها شعبية لتضيف إلى تمثاله عمقاً واثراء وتعبيراً.. وعلى النقيض من الاسلوب الذى تميز به تمثال `ابتهال` يجىء تمثال `عروس النيل` المنفذ من الخزف الزلطى عام 1955، فقد ابتعد قليلاً عن الاسلوب المصرى القديم وتأثر كثيراً بعروسة المولد التى تتشابك يداها فى استدارة جميلة تتآلف مع استدارة الوجه والشعر.. لكنه يحافظ على الاستطالة إلى أعلى حيث الروح الصوفية تسيطر على اعماله سواء المتأثر بالفرعونى منها او الشعبى. ولعل الخامة الصلبة عند رضا كانت ملهمته الاولى، فالصلابة ظهرت عنده فى التصوير والخزف والنحت.. لكن هذه المرة طوع الخامة الصلبة ` الحجر` ليرسم عليه ويطبع عبر سطحه بطريقة ` الليثوجراف` فأنتج مجموعة من هذه الاعمال باللون الاسود وكانت الوجوه الانسانية ذات الاستطالة الرأسية وبعض النقوش الخلفية هى توجهه الوحيد للتعبير عن تلك الموضوعات التى شغلته كثيراً. وانتقل الفنان صالح رضا بعد ذلك إلى `الكولاج` أى القص واللصق وان كانت له تجارب متباعدة قبل ذلك التاريخ، فلوحة عروسة المولد التى انجزها عام 1954 استخدم فيها ورقا مع ألوان باستيل مع الكولاج.. لكن مرحلة الكولاج عنده والتى بدأت فى الستينيات كانت تتسم بنماذج قصاصات الورق الملون مع طباعة `المونتيب` واسماها الفنان فى ذلك الوقت `تركيبات على مونتيب` والمونيتب يعرف بأنه التلوين على سطح الزجاج ثم طبعه لقطعة واحدة فقط. وضمن اعماله فى الكولاج والمونتيب مع قصاصات الاوراق الملونة، لوحة `العزف الثلاثى` التى نفذها الفنان عام 1964، وهى تتسم بالمساحات التجريدية الموزعة على ثلاثة محاور رئيسية طولية، قد يقصد الفنان من تلك التسمية ان هناك ثلاثة عازفين للموسيقى يعزفون على آلات مختلفة وهى فى مجملها توحى بتلك التنويعات والمفردات اللحنية المتمثلة فى ألوان الأوكر والأحمر والبنى والاخضر الفاتح. أما الاهتمام الحقيقى للفنان صالح رضا فكان لفن النحت.. وكان يمكن لهذا الفنان ان يوجه احلامه المستقبلية تجاه والده الذى يعمل فى صياغة الذهب والحلى.. لكن هذه الاغراءات التى قدمت اليه كانت كفيلة بأن يتخذ القرار منفرداً على عاتقه.. ويختار الطريق الاخر.. طريق الفن بشكل عام.. وفن النحت بوجه خاص.. والنحت عند صالح رضا شُعب متعددة.. واهتمامات متنوعة.. ومختلفة.. فمن الخشب إلى النحاس إلى الفوم والبرونز.. إلى الرخام.. ومواد اخرى يجد من واجبه عمل التجارب عليها.. فمجموعة الارابيسك.. هى عدة قطع من الخشب خرطت بمعرفته ليشكل منها توافيق وتباديل للزخارف المحفورة والبارزة على الاعمدة المخروطية الخشبية، واحياناً تكون فرادى واحياناً اخرى مزدوجة وكل منها يكمل الاخر حتى ليشعر المشاهد لهذه المجموعة بأنها لاشخاص يجمعها شىء واحد برغم تباين أفكارهم وتوجهاتهم.. تلك المجموعات المتراصة بحبكة درامية على قاعدة خشبية رقيقة ايضاً هى مرحلة هامة من مراحل الفنان صالح رضا والتى اشترك بها فى معارض عديدة وتعد علامة متميزة فى مسيرة الفنان. ولأن الفنان صالح رضا تحركه كوامن داخلية للتعبير بشكل دائم لذلك فهو باحث دءوب لخامات قد تكون غير تقليدية، لذا فلجأ فى منتصف الستينيات إلى خامة `الفوم` الصناعى الأبيض مستخلصاً فيه الشرائح الرقيقة والقطع المكعبة وشكل منها مجموعاتاً نحتية متجاورة ملوناً أياها بألوان الاكريليك ليبرز مفاتن تلك الخامة الهشة، والتى أضفى عليها بالانحناءات والزخارف اشكالاً يشعر المتلقى منها بأنها خامة صلبة رغم انها خامة خفيفة، لكنه نجح إلى حد كبير فى توصيل فكرته إلى المشاهد سواء من ناحية الفورم او من ناحية التلوين والتجاور. هذه الاعمال نفذت بخامة ` الفوم` امكن للفنان رضا السيطرة عليها وانجاز أعمال ذات أبعاد ورؤى متعددة خاصة القطع الصغيرة منها والمتجاورة والتى يشكل منها أشكالاً مجُمعة، أما الأعمال الكبرى منها فقد اضفى على بعضها الطلاء البرونزى او النحاس مع الملمس الخشن.. قاصداً من ذلك طرح قضية الخامة فى المقام الاول وكيفية تطويعها.. ولقد ادرك رضا فى وقت ما ان النحت بهذه الكيفية قد لا يصل إلى جمهوره الحقيقى، لذا فكر فى الخروج من قمقم المرسم والمحترف إلى الشارع فعندما عرضت عليه فكرة لتصميم وتنفيذ احد اعماله لتصلح ان تنفذ امام مبنى البنك الاهلى على كورنيش النيل، فلم يتردد، وراح يضع التصميمات وكيفية التنفيذ.. وبالفعل نفذت تلك القطعة النحتية التى تتسم بالاستطالة والاتجاه ناحية السماء ايضاً فى مجموعة شرائح بها استدارات ومنحنيات تتآلف في شكل ودى. ولما كان هذا العمل له صدى كبير للفنان صالح رضا جماهيرياً شجعه على المضى فى هذا المضمار فاستخلص من تلك التجربة بعض النقاط رأى انه من الواجب الاستفادة من هذه الفرصة لتحقيقها، فبدأ يستخدم الشرائح النحاسية والخشبية فى عمل تشكيلات زخرفية، تارة مستلهماً اياها من بعض زخارف المشربيات وتارة اخرى من رسوم الخيامية وهى رسوم شعبية لها اصولها المتوارثة.. فلم يتنازل طوال هذا المشوار عن هويته وقضيته تجاه وطنه بفنونه ومعتقداته.. وقد قام بعمل العديد من التصميمات الاخرى والدخول فى مسابقات مصرية وعربية.. وكلها نماذج توحى بقدرته على التعبير عن مضمون كل مسابقة. أما أحدث اعماله النحتية فهى مجموعة أعمال استخدم فيها شرائح حجر الجرانيت الوردى فى ارتفاعات تصل لاكثر من مترين.. تحدث هذه الشرائح ترديدات وتنغيمات من خلال الضوء والظل وقد اضاف لبعضها بعض الشرائح النحاسية على حروف تلك الشرائح. هى بحث سلسلة من التجارب القيمة فى مشوار حياة الفنان القدير د. صالح رضا.. واذا كنا قد عرضنا لنماذج من ذلك المشوار وليس كله.. وانما هناك الكثير والكثير.. فهو فنان شامل له حضور وطنى قوى فى كل المحافل المصرية والعربية.. والعالمية.. ولد الفنان صالح رضا عام 1932 بحى الحسين بالقاهرة ودرس التصوير فى كلية الفنون `دراسة حرة مسائية` من 1946 : 1951 ثم درس الخزف وحصل على الدبلوم عام 1957، ثم سافر فى بعثة إلى تشيكوسلوفاكيا لدراسة الخزف وحصل منها على درجة الدكتوراة، ثم ارسل فى بعثة إلى انجلترا ايضاً لدراسة الخزف. وقد اختير نقيباً للتشكيليين من عام 1983 إلى 1987 وساهم فى إنشاء الاتحاد العام للتشكيليين العرب 1971 وحصل على جائزة الدولة التشجيعية فى فن النحت 1964 مع وسام الجمهورية من الطبقة الثالثة.. ويعمل حالياً أستاذاً للتصميم بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان. ولقد جاء تقدير مصر لهذا الفنان بفوزه مؤخراً بجائزة الدولة التقديرية فى الفنون عرفاناً واعترافاً بفنه ومشواره الطويل. وبعد كل هذا.. إلا يمكننا القول بأن مشوار حياة الفنان صالح رضا كُلل مؤخراً بجائزة تقديرية نتيجة لتمسكه بهويته وبوطنه.. الأمر الذى يمكن أن يصل به للعالمية.
بقلم : عادل ثابت
جريدة اليوم السعودية : 28- 7- 2003
صالح رضا .. المشوار والخطوات
- القراءة الفنية لتجربة صالح رضا قراءة ممتعة ،لأن مشواره الحافل عبارة عن حلقات تطول إحداها وتقصر الأخرى ، ولكن هناك خيطا أساسيا يلحم بين خطوات المشوار الممتد ومن شاهدأعمال صالح رضا ، فى الخمسينات ، لابد أن يندهش لما يراه فى عروضه التى أقامها فى نهاية الستينات ، ويتعجب حين تلتقى عيناه بأعماله الأخيرة .
- ذلك أنه لم تتوفر رؤية ` بانورامية ` شاملة للحلقات المكونة للمشوار الفنى الطويل المتجدد لصالح رضا . وتلك الرؤية الشمولية المتواصلة الحلقات هى الهدف الأساسى من هذا البحث ، الذى يبدأ بتشريح الخطوات وتحليلها .علما بأن بداخل كل خطوة حالات من التنوع المتميز ، تبدأ بالانتساب الصريح لنهاية الحلقة السابقة ، وتنتهى بالتأهب للالتحام بالحلقة التى تعقبها .
- وقراءة المشوار الفنى لصالح رضا تصبح ذات مغزى أعمق ، حين ترى من منظور الزمان والمكان من ناحية ، ومن منظور المناخ الثقافى للبلاد من ناحية ، وما يعكسه كل من المنظور الأول والمنظور الثانى على تجربته بذلك يمكن وضع صالح رضا فى موقعه على خريطة الحركة الفنية فى مصر ، وتحديد موقفه منها سواء كان محركا ، باعثا ، أو مزاملا قياديا ، أو تابعا مخلصا لتيارات الحركة .
- حلقات المشوار الفنى:
- الخيط الأساسى الذى يلحم بين خطوات المشوار الممتد للفنان هو خيط التراث الفنى القومى ، وعلى وجه التحديد الخصائص البنائية فى ذلك التراث ، والتى تمثل بدورها الخيط الممتد عبر المراحل الزمانية للتراث المصرى، الفرعونى القبطى والإسلامى ، فهو كمعين صاف مخفف من التأثيرات الدخيلة التى زاحمت خيط الإبداع المصرى ، وجاهدت فى تقطيع أوصاله ، وطمس معالمه ، فوجدت نفسها مدفوعة إلى دمج عناصرها الدخيلة فى المسار الأساسى ، فكتب لها أن تكون مراحل توصيلية ومحكات لتحدى صمود خيط الإبداع المصرى ، وعناصر شحذ وتغذية لمقوماته ، لا عقبات فى الطريق أو عوامل تدفعه للتوقف والجمود .إننا نجد العناصر البطلمية ، والهيللينية ، والرومانية ، والساسانية، والبيزنطية ، والمغولية فى المراحل الكلاسيكية ، ثم نجد العناصر الغربية ، بتياراتها المختلفة فى المراحل الحديثة - تدخل التيار الثقافى المصرى فى حالات الركود والكمون ، ولا تلبث أن تسلم راياتها إليه فى حالات الصحوة ، حين يتملك المبدع المصرى قدرته على هضم عناصرها ودمجها وإخضاعها لتياره الممتد ، لتصبح جزءا مندمجا من مصطلحاته الذاتية .
- الحلقة الأولى :
- المرحلة الأيقونية ( 1951 - 1963 )
- الاتزان - الرصانة - الانتباه - التأملية - الرمزية . تمثل محاور أساسية فى الخيط المتواصل للإبداع التشكيلى المصرى وهى العناصر المشتركة فى خطوات التجربة التشكيلية لصالح رضا التى تميزت حلقتها الأولى بالتمثيلية المباشرة فى موضوع التعبير ، وفى الاستخدام المباشر للرموز الشعبية بصورة منزهة عن الأكاديمية فى النحت أو فى التصوير ، حيث أبدع مجموعة كبيرة من اللوحات التى تدور حول موضوعات : عروسة المولد، عروس النيل / الريفية الجالسة ، الشيخة. إلى جانب مجموعة من المنحوتات الخزفية لثنائيات ريفية تحت مسميات اندماج ألفة - حاملتا الجرة .... الخ .
- وتواكب فترة إنتاج هذه الأعمال - انشغال المصور` سيد عبد الرسول ` بأعماله التى تتميز بالتبسيط فى عناصرها ، وبالأوضاع المصرية القديمة فى صفها ، وفى تشكيل اتجاهات الأذرع والأقدام والأكف الممدودة ، والتحرر النسبى من المنظور الكلاسيكى ، واستبداله بالمنظور ثنائى الأبعاد الذى يميز الفن المصرى عبر عصوره المختلفة كذلك انشغل ` سيد عبد الرسول ` فى هذه الفترة باستخدام عناصر شعبية مصفوفة فى خلفيات أعماله ، وعلى سطوح الشخوص كوسيلة لتسطيح الأزياء ، والأوانى ، كالأزيار ، والقلل ..بزخرفتها بعناصر هندسية قوامها المثلثات والمعينات المتكررة .
- كما تواكب أعمال هذه المرحلة منحوتات السجينى فى الفترة من عام 1955 إلى عام 1962 والتى تمثل تحوله التدريجى عن التجسيم النحتى للتفاصيل إلى التحليل البنائى للمنحوتات ، وإضفاء المسحة الزخرفية على سطوحها .
- ويعد تمثال ` العروسة ` الذى نحته السجينى وسبكه فى البرونز عام 1955 من المنحوتات المحركة ، حيث أرسى فيه عددا من المصطلحات التى صارت فيما بعد مدخلا لعديد من الفنانين ومنهم صالح رضا ومن تلك المداخل : الوجه الشاخص، والرقبة المنتصبة الطويلة ، والكفان المتقاطعان على أسفل الخصر وفى نهاية الذراعين المنسدلين كحدود خارجية للشكل ، والجلسة المعتدلة ، وتحويل أجزاء من المنحوت إلى نحت بارز ، فقد اعتمد السجينى على كتلة نحتية عامة ونحت التفاصيل عليها نحتا بارزا ، وقد نحت السجينى فى هذا التمثال نموذجا لعروسة المولد ذات الدوائر الزخرفية الدائرية ، وإمعانا فى تأكيد الرمز ، صور ذراعى العروسة كالدائرة يلتقى كفاها أحدهما فوق الآخر عند الخصر ، مشابهة فى ذلك للعروسة الكبيرة التى تحملها ، وبينما صاغ الكتلة النحتية للعروسة الكبيرة مخففة من التفاصيل ، فقد أغدق على العروسة ` الدمية ` كثيراً من التفاصيل الزخرفية على بدنها ومن حولها لتكسو الدوائر المحيطة بها .ولأن السجينى نحات أكاديمى فى الأصل ، فقد كان من العسير عليه أن يتحول فجأة إلى الصياغة التحليلية للكتلة وللعناصر التكميلية على سطوحها ، الأمر الذى يتطلب انفتاحا أوسع وتخففا أكبر ، ولذا فقد أبقى على التفاصيل كالرأس والطرحة - أكاديمية الصياغة - وكذلك الكفان - مع ما بهما من مغالاة فى النسب ، فقد جاءا فى ليونة النحت التشريحى ، بينما برزت عروسة المولد المصغرة المنحوتة ببروز لطيف على صدر العروسة الكبيرة ، أكثر تحررا وتحويرا .
- ولأن صالح رضا فنان تمرس على التعامل مع الخامات المختلفة كالخزف ، والفخار ، والألوان بأنواعها .فقد جاءت الصياغة الفنية للرمز ذاته ( العروسة تحمل العروسة ) وللمصطلحات الأساسية التى يشملها ( الأكف المتقاطعة على أسفل الخصر - الجلسة المعتدلة - الوجه الشاخص والرقبة المشرئبة ) كخطوة أكثر تحررا وشبابا ،إذ عبر بحرية عن اندماج العناصر وحيوية اتصالها بالألوان الصافية المباشرة ، وقد استعان بالعناصر المكملة التى تحتل الخلفية باستخدام نوع من المنظور التمويهى للمقعد الذى يتناسب والمساحة المستطيلة لحجر الفتاة الجالسة ، فتبدو الفتاة والمقعد ، وكأنهما تمثال عبر عنه الفنان بالرسم، وتؤكد تلك الصفة الخطوط المتموجة واتجاهات الشرائط اللونية على سطح هذا الجزء من اللوحة ثم يستخدم ` صالح` العناصر الزخرفية الشعبية ، والطيور والدمى ، التى تصنع من السكر فى احتفالات المولد النبوى ، ويضيف بعض تلك العناصر على واجهه المقعد ، وكأنها لوحات منمنة ذات إطارات خاصة فيما يشبه الحشوة الزخرفية المحورة داخل ` الجامة ` أو المنطقة المحيطة بها فى تقاليد الفن الإسلامى .
- عند صالح - تظهر عيون العروسة شاخصة منتبهة ، ذات رواسب فرعونية ، وكذلك تتضح الفرعونية فى الوجه المثلث ، وفى الضفائر العمودية التى تحصر مساحتين مستطيلتين على جانبى الرقبة الطويلة ، كما تظهر فى تحليل الكفين والقدمين بشكل جانبى واضح ، وبأسلوب هندسى مباشر التسطيح .
- إن لوحة عروسة المولد لصالح رضا تحمل أيضا صفاه ، بنائية أساسية هى :
- أنها تجمع بين أكثر من إطار يحد كل منها لوحة قائمة بذاتها.
- أنها تجمع بين أكثر من إتجاه أغلبها رأسية وأفقية وأقلها مائل.
- أنها شديدة الترابط بالرغم من احتوائها على عناصر مستقلة فى ذاتها.
- أنها ملونة بأسلوب ومنطق غير أكاديميين مستمد من المنطق والأسلوب الشعبى فى توزيع الألوان .
- أنها تجمع بين نوعين من الإيقاع : أولهما يعتمد على صف العناصر ، على نسق متعامد رأسى - أفقى ، كما فى الشرائط الزخرفية فى الخلفية والتصميم العام للعروسة والمقعد ، وثانيهما يعتمد على تكرار صدى الأشكال كما فى المعاملة الخطية ذات الحلقات المتداخلة لسطح المقعد ، وكما فى وضع العروسة الصغيرة بيضاوية الشكل ، داخل الإطار البيضاوى المكون من الذراعيين والكتف ، إلى جانب ما جاء عن فكرة الحشوة والجامة .
- إن الصفات العامة التى نستخلصها من تحليل هذه اللوحة ، تمثل مفاتيح الشخصية البنائية فى فن صالح رضا كما سيتضح من عرض تطوره الفنى .وقبل أن نترك الحلقة الأولى لفن صالح نشير إلى أنه ينحت كخزاف ، فهو يبنى أشكاله بالشرائح لتبدأ مفرغة مؤهلة للحريق منذ بدء العمل ، ولا ينحتها ككتلة ثم يقوم بتفريغها من الداخل كما كان يفعل السجينى ، ولذا فإن سطوحه تتحكم فى بنائها موازين الأثقال فى معادلاتها مع سمك الجدار ، وما عليها من عناصر يتم خدشه فى السطح الفخارى ، بعد أن يموه بالأكاسيد الطبيعية الملونة كأكسيد الحديد ليكسبه الحمرة ، وأكسيد المنجنيز ليكسبه رمادية أرضية ، وأكسيد الكروم ليكسبه اخضرارا لا زورديا ، ورماد الكاولين ليمنح السطح طبقة عاجية .
- يخدش صالح عناصره الهندسية المختزلة كالمثلثات المتتابعة ، والمعينات المتداخلة ، والشرائط الخطية ، وخطوط التحديد للأكف والأصابع والقدم والتفاصيل فى الوجه ، وكذا التفاصيل الزخرفية للمقعد أو للأوانى التى تحملها تماثيله . وهو إذ يلجأ إلى الرمز نجده يستعمل رمز القلب تتوسطه العين ، بالإضافة إلى العين الشاخصة . وهو يتخلى عن التجسيم النحتى ، وعن السمات التشريحية كلية ، فتتحول ضفائر الفتيات إلى إسطوانات قائمة ، ويفتح ثغرات بيضاوية الشكل لتشف عن العمق الفراغى من ورائها ، وكذا فإنه يلجأ إلى التعبير عن العين أحيانا بأن يثقب مثلثين متقابلين ، يحصران دائرة الحدقة التى تتصل ببقية الوجة ، كما كان يفعل الفراعنة . ولذا فإن صالح يتعامل بالرسم والخدش والتكوين على سطوحه الأولية المبنية من شرائح الطين قبل تسويته ، بينما يتعامل جمال السجينى مع سطوحه الأولية بالنحت البارز والمجسم أحيانا.
- وفى تمثال ` وجه الفتاة ` نجد أن صالح كخزاف قد استعان بإناء له رقبة طويلة ، ثم قلبه رأسا على عقب ، وأضاف إليه الزوائد كالضفائر فيما يشبه يد الإناء المضفورة ، ثم أكمل التصميم بالرسم بالأكاسيد الملونة ، دون حاجة للتجسيم الكامل أو الجزئى ، فيما عدا إبراز الذقن.
- استمرت هذه الحلقة من مشوار صالح طوال الخمسينات وفى النصف الأول من الستينات .حيث تخرج من القسم الحر بكلية الفنون الجميلة عام 1951 ثم تخرج من كلية الفنون التطبيقية عام 1957 ، وخلال المرحلة ذاتها أوفد إلى تشيكوسلوفاكيا لتعميق دراسته الخزفية ، ثم التحق بالكلية المركزية بإنجلترا عام 1964 ، وأقام بالأعمال التى سبق توصيفها وتحليلها معرضين : أولهما عام 1956 بمتحف الفن الحديث - المبنى القديم بشارع قصر النيل - وثانيهما فى أتيلية القاهرة سنة 1959.
- الحلقة الثانية
- المرحلة الانفعالية 1967- 1973
- تعرض صالح فى تلك المرحلة لمؤثرين أساسيين أولهما الحالة السياسية التى ترتبت على الانكسار العسكرى ، وما أعقبه من حالة الهمة الوطنية ، لإثبات الذات ، والتعبير عن الصمود التاريخى للشعب المصرى ، وتآلفه فى فترات الأزمات ،حيث استشرت بين المواطنين روح التضامن القومى ، والاستعداد للبذل ، ورفض الهزيمة .
- فى تلك الفترة تفتق الإبداع المصرى عن أروع كنوزه ، وأحس المفكر والأديب والفنان مسئوليتهم نحو تأكيد فعالية الإنسان المصرى وتألق قدراته.
- وكان صالح قد أتم دراساته العليا فى كل من تشيكوسلوفاكيا وإنجلترا ، وأقام معارض فردية بانجلترا ، وشارك فى معارض دولية فى كل من إنجلترا والمكسيك وإيطاليا ، فزاد احتكاكه الفكرى بالحركة الفنية المعاصرة ، فى شرق وغرب أوروبا ، وفى المكسيك .ويبلور صالح هذا الاحتكاك فى الحلقة الثانية من تجربته التشكيلية ، حيث تخفف تماما من الرواسب الأيقونية ، وركز جل اهتمامه على المزج النشط بين البنائية والتلقائية .
- واستعان صالح رضا بأساليب تقنية جديدة لتناول الخامات والوسائط ، فاعتمد بصفة خاصة على أسلوب ` المونوتيب` أى توزيع مساحات لونية لزجة القوام على سطح مصقول ثم بسط الورق عليها وإعمال الضغط الخفيف حتى تلتقط الورقة بصمة من الألوان ، ويتحكم الفنان فى قوة التأثير اللونى ، ودرجة تحديد المساحات تبعا لقوة الضغط أو لطفة.
- وبعد أن يحصل صالح على عدد من الطبعات ذات التأثيرات اللونية والملمسية المنوعة والمتفاوتة فى درجاتها الظلية ، يقوم بقصها على أشكال مستوحاة من حبات المشربية الإسلامية ، وتوحى بكائنات بشرية شاخصة فى أطوال متباينة ، ثم يتولى إعادة تلصيقها فى تأليف ذى مذاق رصين البناء ، درامى التعبير ، على خلفية مموهة بدرجات محايدة من الألوان ومساحات قاتمة على شكل شريط فى أسفل التكوين ، وقرص بيضاوى فى الثلث الأعلى من الخلفية.
- ونتيجة لتفاوت أطوال وعروض الوحدات المقصوصة من المساحات المطبوعة ، وإعادة توزيعها ، فإن إحساسا متميزا بالمنظور البصرى يترتب على توزيع تلك العناصر الكبيرة فى الأمامية ، وتبدو العناصر الصغيرة فى العمق المنظورى ـ وتقع العناصر البينية فى مواقعها النسبية بين هذا وبين ذاك .
- والعامل المؤثر بصريا، فى هذا المنظور ، يعتمد على خطوط الزوال الموصلة بين رؤوس العناصر الكبيرة ورؤوس العناصر الصغيرة ، وهى ذات أكثر من خطين للزوال ، إذ تبدو كمجموعة هائلة من الأعمدة أو الأنصاب الشبحية فى فراغ أسطورى.
- وحين يلصق صالح عناصره على الخلفية تظهر الأجزاء الملصوقة على مساحات فاتحة اللون أو محايدة أو قاتمة ، وتبدو الأجزاء التى تغطى المنطقة البيضاوية القاتمة أكثر برواز بفعل خطوط التحديد الناتجة من بروز الشكل على الأرضية.
- ويضفى صالح على تلك الأعمال البنائية الطابع الدرامية التعبير نوعا من الوحدة والعمومية ، بأن يستخدم الألوان الزيتية المعتمة والنصف معتمة ، والشفافة ، فى تلوين العناصر والأرضية ، وتتصاعد تشنجات ضربات الفرشاة باللون العاجى على الأرضيات القاتمة ، تحدثه فيضا من الموجات العارمة ، تزيد من ضراوة التعبير وتحرك السكون الكامن فى العناصر الملصقوقة ، وتعاند الاتجاهات التكوينية الداخلة فيها.
- ثم يتحرك صالح خطوة أخرى بعيدا عن ` الأيقونية ` مبدعا مجموعة من التكوينات الجريئة التى يتخلى فيها عن أى إشارة إلى المنظور أو إلى خطوط التلاشى ، أو إلى خط الأرض .فالعناصر منثورة فى حزمة متضامة تحتل قلب اللوحة ، تاركة شريطين رأسيين فى الجانب الأيمن والجانب الأيسر ، وتتناوب المساحات اللونية المتباينة مواقعها فى المساحة الأكبر من اللوحة ، فيما يشبه المناظر الجوية للتضاريس والغابات والوديان والأنهار ، كمثل سجادة شرقية طريفة الزخرف ، وإذا ما اقترب المشاهد أكثر من العمل ، وتعامل مع مفرداته الجزئية ، وجد فيها معالجة تصميمية واضحة ، فمنها ما يشبه الطيور ، ومنها ما يشبه العمائر المنثورة على وادى النوبة.
- وتزيد التكوينات بنائية وتجردا بالتدريج فى أعمال تلك الفترة ، ويتصاعد الاتجاه نحو إبراز التفاعل بين السلبيات والإيجابيات كعناصر اللوحة الأساسية، وكأنها طبقات متراكمة من سلبيات العناصر التى تضمها للوحات السابقة على أرضية زرقاء قاتمة.
- ويستخدم صالح فى تلك المجموعة من الأعمال عائلات لونية ، وتأثيرات سطحية غير تقليدية فى توافق رائع.
- ويتحول صالح عن أعماله التلصيقية إلى أعمال زيتية تجريدية تحمل الفكرة ذاتها ، أى الدمج النشط بين التنظيمية البرنامجية البصرية ، وبين التأثيرات المشحونة بالتلقائية والانفعالية فى معادلة رصينة.
وفى عام 1975 أقام صالح رضا معرضا عملاقا بقاعة الفنون الجميلة بميدان باب اللوق يضم مجموعة كبيرة من أعمال ` الكولاج ` ومجموعة أخرى من المنحوتات الانسيابية الطابع تعتمد على معاملات بصرية أساسها تداخل الكيان الصغير داخل الكيانات المهيمنة وتتخذ تلك المنحوتات هيئات بيضية مصقولة الملمس بها فراغات تحتضن هيئات مشابهة ومصغرة .
- اعتمد صالح فى أعمال هذا المعرض من المنحوتات على توزيع الفراغات للتعبير عن العمق ، ولتوضيح المستويات ، وكانت غالبية الأعمال قائمة رأسية ، ومعروضة فى مجموعات سيطرت على الصالة الكبيرة بصورة رائعة .
- ويعتبر معرض باب اللوق محركا لكثير من الفنانين المصريين المعاصرين بما احتواه من أعمال تنم عن طاقة فنية ، يبشر بتحول فى المشوار الفنى لصالح رضا.
- الحلقة الثالثة
- مرحلة الصفاء البنائى من 1970- 1984
- انقطع صالح عن المشاركة فى المعارض القاهرية فترة من الزمن ، ثم عاد بنمنمات نحتية نحاسية مخروطة تتميز بالأناقة المفرطة ، وبإثارة الاهتمام بشكل قاهر .إذ تتخذ العناصر المخروطة ، فى تجاورها ، وفى ارتكازها ، على قاعدة بأطرافها السفلى التى تتخذ مظهر الكائنات الفضائية المتأهبة للانطلاق.
- ومرة أخرى يثبت صالح رضا بنمنماته النحتية المخروطة قدرته على تحريك مشاعر المشاهد ، وإثارته للتأمل وللتخيل ، بنفس القدر الذى حركته أعماله الكبيرة بباب اللوق عام 1975 ويبدو أن صالح قد أحكم سيطرته على الهيئات والكتل ، وعلى العلاقة القائمة فيما بينها ، فلم يتوسل بضخامة الكتل للتأثير فى المشاهد.
- وفى السنوات الأخيرة قدم صالح لجمهوره الفنى مجموعة من المنحوتات القائمة على الخرط فى المعادن والأخشاب ، تتميز بتمام تشطيبها ، وصقلها الكامل على السطوح المنحنية بانسيابية .وهناك فارق شديد بين القصدية العامدة التلقائية العشوائية ، ولا يجب الخلط بينهما فى أعمال صالح رضا خاصة ، فهو يوظف البقع اللونية ، والشذرات الممزقة بسابق أو بدون سابق تدبير ، فى تكويناته بدرجة من الوعى والقصدية .وهو بذلك يستثمر التأثيرات العشوائية للألوان الناتجة عن أسلوب ` المونوتيب ` وعن التطبيق غير التقليدى للألوان على السطوح ، كما يستفيد من حدود القطع المتوترة للحصول على عناصر جديدة فى وحدات الشكل ، وفى بنية العمل الكلية.
- يتناول صالح جميع المداخل والمثيرات التى تتوافر لدية من التعامل مع الخامات ومن الطبيعة الذاتية لتلك الخامات كمصادر لإلهامه ، وكموجهات للتحرر من النمطية الحرفية فى اتجاه البلورة الصافية للبناء النحتى .وبذلك فهو يروض تلك المداخل العشوائية ، وسابقة التجهيز أحيانا ، لخدمة أهدافه العليا فى التشكيل القصدى .
- وعليه فإن أعمال صالح رضا بصفة عامة لا تندرج تحت النمط التلقائى أو العشوائى ، كما يتصور المشاهد المتسرع عند تأملها .
- والزاوية الثانية لتناول أعمال صالح رضا تتعلق بدرجة زهدة عن الإطلال بوجهه على المشاهد من خلال علاماته المميزة ، فى أعمال تحتوى على نتوءات وتنويعات التضاريس النحتية ، وإضافات لونية حادة وفى أعمال أخرى تتميز باختزال التفاصيل والتنوءات ، وتختفى الشرائط اللونية لتترك الأسطح الصافية تتقبل المؤثرات الخارجية التى تنعكس عليها .
- فى هذه المجموعة الحديثة من الأشكال أضاف صالح بعدا جديدا على أعماله ، وهو البعد الرابع الذى يتأتى فى انعكاس مظاهر مرئية مكثفة ومختزلة على سطوح المنحوتات المتموجة ، فتتحدب وتتقعر وتنكمش وتتمدد ، وتنساب الخيالات اللونية المنعكسة على سطوح المنحوت مصبوغة وموحدة لونيا بلون المعدن اللماع ، فتحدث تأثيرات بصرية دائبة الحركة مع كل نسمة هواء أو حركة مشاهد.
- فالأعمال الجديدة صارت وكأنها ذات خاصة ` رادارية ` نستقطب الألوان والأشكال والحركات ، وتعيد صياغتها فى لغة ` مرموزة ` وتعكسها على سطوحها كرسالة ` كودية ` إلى المشاهد المتأمل الفاحص .
- وهكذا فإن صالح إذ يضع تصميم منحوتاته النحاسية التى يرسب على سطحها طبقة ذهبية لماعة ، فإنه يضع فى اعتباره تتابع مستويات السطوح ومنحنياتها ، فكأنه يصمم قالبا أو سلبية تستحضر العناصر التشكيلية الشبحية ، وتظهرها ، ثم تعكسها على المشاهد بصورة ` ديناميكية ` متفاعلة.
- وتتجلى تلك الخاصية الرائعة بصفة متميزة فى أعماله التى تختزل فيها التفاصيل البنائية إلى أضيق الحدود ، حتى لا تجتذب التضاريس المتفاوتة ، والعلاقات المتباينة انتباه المشاهد وتصبح الانعكاسات ثانوية التأثير.
بقلم : د./ مصطفى الرزاز
مجلة: إبداع ( العدد 5) مايو 1985
الفنان صالح رضا ( 1932 - 2018 ) بين الأصالة والحداثة
- لا تكاد الأجيال الجديدة تعرف من إبداعات الفنان صالح رضا إلا مرحلته التجريدية فى النحت ، التى تمتد منذ أواخر الستينيات، وهى مرحلة يغلب عليها ما يمكن أن نسميه : تفجير الطاقة فى الفضاء. ويتم ذلك من خلال منظومة جمالية معاكسة لقوانين النحت الكلاسيكى ، المرتكزة على قاعدة الرسوخ والتوازن للكتلة الهرمية أو العمودية، فيما نجد منظومته الجمالية تلاحق منجزات الحداثة الصناعية والتكنولوجية فى الغرب المعاصر، بعد أن يقلب موازين الكتلة بجعلها ترتكز على محور دقيق ، ثم يتضاعف حجمها كلما ارتفع التمثال فى الفضاء بمتوالية هندسية . وهى منظومة تعكس حالة من التشكل البصرى للأجسام بديناميكية النمو الذاتى وفق ذبذبات تنبع من قوة الدفع الكامنة فيها ولا علاقة لها بالواقع الخارجى ، لكنها لاتجد مكنونها من المعنى الدلالى الذى يقبل الأتفاق عليه ، إلا بمفهوم النظريات الهندسية عن تنامى الطاقة بقوة الحركة الديناميكية مع سرعة الانطلاق، ويتشابه الفنان فى ذلك مع كثير من فنانى الحداثة فى الغرب، حتى تبدو أعماله أحيانا وكأنها إعادة إنتاج لأساليب غربية بحتة تفتقد الروح المصرية ، وقد أثارت هذه المعرفة بإنجاز صالح رضا لدى الأجيال الجديدة من الفنانين والمتذوقين حالة من الإلتباس والتناقض بين مايرونه من إغتراب إبداعه وبين ما يتابعونه من آرائه حول فكرة الشخصية المصرية فى الفن.
- لذلك جاء المعرض البانورامى الشامل لرحلة إبداع صالح رضا على إمتداد نصف قرن ، والذى أقيم أولا بالإسكندرية ثم انتقل إلى القاهرة بقصر الفنون فى مارس 2003 ، ليحاول إزالة هذا التناقض، فقد تعرفنا على بداياته الأولى التى أفصحت عن إنشغاله العميق بالواقع الاجتماعى والسياسى من ناحية وبالتراث المصرى من ناحية أخرى، ويتجلى ذلك بشكل خاص فى مرحلة الخمسينيات ، مصاحبا لحالة المد الثورى الإجتماعى لفترة النظام الناصرى ، لاسيما من خلال لوحاته الزيتية المعبرة عن واقع الطبقات المسحوقة والكادحة صاحبة المصلحة الحقيقية فى الثورة بنزعة تعبيرية ومأساوية خطابية ينبع أسلوبها من عباءات الجماعات الثورية فى الأربعينيات مثل الفن والحرية ، والفن الحديث ، كما يستمد طابعها المستلهم من التراث من عباءة جماعة الفن المعاصر .. وكذلك استمده من رؤى فنانين آخرين أمثال السجينى وعبد الرسول .. وتم هذا التأثر بشقيه فى خضم موجة جديدة صاعدة من الفنانين الشباب من أبناء جيله أمثال عمر النجدى وأحمد عبد الوهاب وكمال خليفة .. وتتجلى محاولاته الأولى من خلال وسائط مختلفة كالنحت والتصوير والحفر والخزف والكولاج .
- لكن المتأمل لمسار تجربته الممتدة التى يضمها المعرض يلاحظ أن تلك المرحلة - بشقيها الدراماتيكى والفلكورى - تتسم بالطابع الاستعارى من مختلف المنابع المشار إليها أكثر مما تتسم بالإبتكار المتفرد ، سواء فى مجال الأعمال التعبيرية السياسية بلهجة خطابية زاعقة، أو فى مجال الاستنلهام من عناصر التراث، بل تبدو معالجاته لعناصر الفلكلور( خاصة عروسة المولد والعمارة الفطرية ) فى أوضاع جامدة، وكأنها تأبيد للسكون أو تمائم أو طواطم مقولبة أقرب إلى الرموز القبائلية، على عكس ماستقر عليه منهجه التشكيلى والتعبيرى بعد اكتمال نضجه الفنى .
- فيما نلاحظ أن الهاجس التجريبى والتجريدى هو الأكثر عمقا وأصالة على مدار رحلته الممتدة، حيث لايعنيه فيها الجمال الوصفى والتمثيلى لعناصر الطبيعة ، ولاتعنيه فيها الرسالة الفكرية أو السياسية المتجهة من صلب العمل الفنى إلى وعى المتلقى ، بقدر مايعنيه فيها تفجير الشكل البنائى والطاقة الكامنة فيه من منظور ذهنى مجرد وصولا إلى الحرية المطلقة، وبقدرمايعنيه تحقيق البنية الشكلية البصرية المتفاعلة فى المكان ( وإن بدت خارج الزمان ) - وقد تحاور بندية أحيانا - منجزات الفن الحديث فى الغرب، بدءاً من إبداعات هنرى ماتيس وبيكاسو وأرميتاج، حتى تجارب مابعد الحداثة .
- ويبقى الأصيل والثورى عند صالح رضا هو حالة التمرد الدائمة، التى تتمثل فى ولعه بالتجريب بالخامات المختلفة حتى الاستعراض المبهر بالتقنية، كما تتمثل فى انتقالاته الفجائية من وسيط إلى آخر، برؤى حداثية مثيرة للجدل .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية)
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث