`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد راتب صديق
ظهير الشباب .. وحامل المشعل
- حين تقدمت بلوحاتى فى عام 1966 الى اتيلية القاهرة لعرضها فى معرض خاص بى لاول مرة فى حياتى ، كنت ما ازال طالباً بكلية الفنون الجميلة ، وكان الاتيلية بمثابة قلعة ثقافية يعد العرض من خلالما اعترافاً حقيقياً بقيمه الفنان ، حيث كان على رأسه كبار النقاد والمفكرين ورواد حركة الحداثة والتقدم فى مصر .. لذا كم كانت سعادتى لدى ابلاغى بالموافقة فى اقامة المعرض بعد اطلاع القائمين على الاتيلية على نماذج من اعمالى .. وهكذا بدأت مسيرتى الحقيقية كفنان .
- وراء هذه الدفعه التشجيعية كان يقف الفنان الكبير الراحل محمد راتب صديق .. وليس بالنسبة لى وحدى ، بل بالنسبة لعشرات غيرى من الفنانين الشباب فى ذلك الوقت ، ممن أصبحوا فيما بعد من فنانى الصفوف الامامية فى الحركة الفنية ، وبعد ذلك المعرض بعشر سنوات كان راتب صديق يشجعنى مع غيرى ايضاً من شباب الفنانين للتقدم لعضوية مجلس ادارة الاتيلية .. حتى فزت فى الانتخابات فى مجلس ضم نخبة ممتازة من كافة الاجيال والاتجاهات الفنية والادبية والفكرية .. وشجعنى بروحه الابوية وايمانه بالشباب لاتولى منصب السكرتير ، وهو نفس ما فعله مع كثيرين غيرى ، اشتعلت بهم مجالات النشاط بالاتيلية طوال سنوات السبعينات .. واستمر ذلك كظاهرة تميز بها الاتيلية على امتداد الاعوام الثلاثين التى شغل فيها راتب صديق رئاسة الجمعية .
- هكذا اعطانا ذلك الرائد الفسيح القلب ، الواسع الثقافة ، الملئ بالاعتداد والالفة والحب ايضا .. اعطانا درسا لما ينبغى ان يكون عليه الفنان الكبير صاحب الرسالة ولكيفية تواصل الاجيال فى غير صراع او مزاحمة ، ففى العطاء متسع للجميع ، اما فى الاخذ فما اضيق المساحة التى يقف فوقها المتسابقون .
- وكان اعظم الدروس قبل وفاته ، هو اهداؤه منزله وتراثه مع تراث زوجته الفنانة الراحلة عايدة شحاته الى وزارة الثقافة ، ليكون متحفا للشعب تحت اشراف المركز القومى للفنون التشكيلية ثم اشفع ذلك برصد وديعة مالية ليخصص ريعها كجائزة سنوية للشباب الموهوبين .. الى هذا الحد كان ايمانه بدور الفنان فى مجتمعه ، ليس حاضراً فحسب ، بل مستقبلا ايضاً ، من خلال رعاية وتبنى واكتشاف رواد المستقبل .
- واليوم يأتى علينا الدور لنرد الدين اليه ، سواء بأحتضان مشروعه المتحفى العظيم بقرية المنيب ، بما يحتويه من مراسم للفنانين وملتقى للمثقفين كما كان الحال اثناء حياته ، او بمواصلة حمل مشعل الفن والثقافة والرأى بجمعية اتيلية القاهرة .. لتظل كما كانت دائماً : بيتاً مفتوحاً ومشعاً لكل المبدعين وأصحاب الرأى ، وساحة لاكتشاف الموهوبين فى شتى مجالات التعبير .
- وما احرانا ان نقتدى به ، وفى مقدرته على العطاء والتسامى فوق الصغائر ، وفى الكبرياء فى غير استعلاء .
أ.د/ أحمد نوار

الفنان راتب صديق يهدى منزله الى الشعب
- فى صباح الثامن عشر من شهر يونيو من العام الماضى ، تم التعاقد بين الفنان الكبير محمد راتب صديق ، والفنان فاروق حسنى وزير الثقافة على ان يتبرع الفنان راتب صديق لوزارة الثقافة بكامل أرض وبناء الفيلا والمراسم المملوكة له فى المنيب بمحافظة الجيزة ، بما تحويه من أثاث ومكتبة وأعمال فنية وله ولزوجته الفنانة الراحلة عايدة شحاته ، لتحويلها بعد رحيله الى متحف دائم للشعب ، يحمل أسمه واسم زوجته ، ويكون تابعاً للمركز القومى للفنون التشكيلية ، على ان تخصص صالات الفيلا الاربع بالتساوى لاعماله الفنية فى التصوير ولاعمال زوجته فى النحت ، بحيث لايحق لاحد مستقبلا تحت اى اعتبار تغيير هذا التخصيص ، او نقل الاعمال الفنية الى مكان اخر ، كما حدث بالنسبة لمتحف محمد محمود خليل وحرمه والا فسخ العقد من تلقاء نفسه ، وأصبح من حق اقرباء راتب صديق ان يطالبوا بحقهم فى الميراث .
- تبلغ مساحة الارض 5300 متر مربع ، وتضم حديقتها الواسعة عددا من المراسم ، قام بتصميمها مع الفيلا سنة 1979 ،وحقق فلسفته المعمارية النابعة من البيئة والتراث المهندس المعمارى حسن فتحى ، وتقدر قيمة الارض والمبانى حسب اسعار اليوم بحوالى 2.5 مليون جنيه ،ويجيىء هذا التبرع من الفنان راتب صديق ، لانه ليس له ابناء يمكن ان يحافظوا على اسمه واسم زوجته ، وعلى اعمالهما الفنية فى التصوير والنحت ، فقد تتعرض هذه الثروة ،فى حالة تركها للورثة من غير الابناء للتبديد او الضياع او التلف ، ولاتهدم الفيلا او تستخدم فى غير الغرض الذى كانت عليه ، حين كانت الحياة تسرى فيها فى حياة صاحبها مع رفيقة عمره .
- والاعمال التى اهديت للدولة ليتكون منها المتحف تتألف اساساً من خمسين لوحة تصوير زيتى للفنان راتب صديق ، وثمانية عشر تمثالا حجرياً للفنانة عايدة شحاته .
- ودرس راتب صديق الفن على نفقته الخاصة فى لندن عند الفنان اميديه اوزنفانت وهو فنان صاحب مدرسة (البيورزم) وكان راتب صديق قد التحق فى البداية سنة 1936 بمدرسة تشلسى غير انه ضاق درعا بأتجاهها الكلاسيكى المحافظ والراكد فى التدريس الذى لا يخرج الا حرفيين مهرة ، ويضيعون فى متاهه التعليم ، خارج منطقة التجديد والابتكار ، بعد ان صبتهم فى قالب واحد وجمعت نسخاً مكرره لما تريد .
- ونتيجة لتفوق راتب صديق فى اكاديمية اوزنفانت ، اعفى فى السنة الدراسية الاخيرة من المصاريف ، وفى نهايتها (1939) حصل على شهادة من هذا الفنان معترف بها من الدولة ، تفوق قيمتها فى نظره ونظر المتخصصين اعلى الشهادات التى تمنحها الاكاديميات العالمية لان اوزنفانت كانت له رؤيته فى فلسفة الفن ، وله منهجه فى خلق الفنانين ، أو بتعبير أدق فى مساعدة الدارسين من اصحاب المواهب الكامنة على اكتشاف مواهبهم وتجليتها بأقصى درجات الوعى والحساسية .
- وأثناء وجود راتب صديق فى لندن للدراسة فى الثلاثينيات كان رواد الحركة التشكيلية فى اوربا الذين كسروا القوانين والاعراف ( بيكاسو ، فرنالد ليجيه، مور،ماكس ارنست، ومن قبلهم سيزان الذى هام به الى حد تقليده ، ولكنه لم يلبث ان انصرف عن هذا التقليد الالى حين شعر ان اعماله لا تعبر عن نفسه ، وان بقى حبه لسيزان كما هو ، لم يضغط قط ، ويذكر راتب صديق بأعزاز بالغ مقابلته المنفردة مع فرناند ليجيه ، ثم مع هنرى مور ، ومناقشته الطويلة المتحررة حول الفن مع ماكس ارنست .
- مع كل فنان من هؤلاء الفنانين نمت خبرات الفنان راتب صديق ، واكتسب قيماً وافكاراً جديدة فتحت امامه مغاليق كانت خالية او مجهولة ، ثم غدت جزءاً من ثقافته الفنية ومن تجربته الابداعية .
- وبعد عودته الى القاهرة اقام راتب صديق بعدها وحده فى الفيلا ، لا يؤنس وحشته الا طيف زوجته الراحلة واعمالها النحتية الصامتة ، التى اودعت فيها شيئاً لاتحيط به المعرفة من كيانها ومن رقتها ومن حنانها ، وتركتها واقفة فى صالات الفيلا حول زوجها كما يقف الحراس الامناء فى الليل والنهار ... ثمانية عشر تمثالا او حارساً هى الشعاع الباقىمن حياة مضت ، كان فيها راتب صديق وزوجته عايدة شحاته شخصاً واحداً .
- ثم كان أول معرض مشترك لهما فى السودان سنة 1945 ، حيث عاشا هناك تسع سنوات ، انتهت فى 1951 واقيم المعرض الثانى لهما سنة 1976 ، وقد حصل راتب صديق على منحة التفرغ من 1960 الى 1988 حصل من فرنسا على وسام (الخدمة الانسانية) الفضى المطلى بالذهب .
- ويرى راتب صديق ان قوانين الرياضة التى تفرزها الطبيعة ونطالعها فى كل مظاهر العالم المادى هى جوهر الكلاسيكية التى تثرى الموضوع الفنى بالرموز والدلالات .
نبيل فرج

`موكب سلام` راتب صديق مسيرة بشرية تقودها النساء
اللوحة التى نراها للفنان الراحل الكبير محمد راتب صديق [ 1917 - 1994 ] أحد فنانى الرعيل الفنى المصرى الذى أسس لكثير من رؤى مصر الفنية.. هذه اللوحة جزء من ملحمة فنية لراتب صديق مكونة من عشر لوحات ضخمة جميعها بعنوان ` موكب السلام ` أنجزها خلال خمسة عشر عاماً مابين 1960 إلى 1975 بين الكلاسيكية والملحمية وتضم كل لوحة حشداً من البشر يتدافعون نحو هدف واحد فى تنظيم محكم يشمل كل عناصر اللوحة وإحدى لوحاته العشر تضم كتل من نساء عاريات متلاحمات متدافعات وفى أخرى نساء يتشحن بالسواد يسرن نحو الغاية الكبرى..
هذه اللوحة المكونة فقط من النساء الريفيات الحفاه حاملات لأطفالهن الرُضع العراه يبدون كجزء من ملحمة أدبية لمسيرة قدرية وكأنه لا مفر لهن منها .. ويتناسب مع تلك المسيرة لمسات الفرشاه السميكة ليتناسب مادياً والكتلة المادية المتحركة لتأكيد الوجود الإنسانى الذى يُشكل جسد المسيرة ذاتها ليكشف عن إهتمام الفنان بالجسد البشرى فى شموخه وإنبساطة الجسد فارعاً فى مسيرته كأنه لا بد وبالغ منتهاه رغم مشقة السير بأقدام حافية كأنه هو الإحتكاك الحميم والمصيرى بين ملمس القدم والطريق لبلوغ هدف المسيرة الإنسانية .. وقد إستخدم الفنان فى هذا الجزء من ملحمته الألوان الباردة فى اللون الأزرق وهو لون زرقة السماء ولون الصفاء والبراءة كالأبيض وإمتزج الازق فى لوحته باللون البنفسجى وهو لون رمز لنصف الحزن .. وبين الأزرق والبنفسج يكمن بالداخل اللون الأحمر رمز النار والدم والإذن بالحياة كما أن الأحمر الكامن فى لوحة راتب صديق هو لون الحب البشرى المعد للعطاء .. وأيضاً هو لون الشهيد .. ويبدو وجود الأطفال حديثى الولادة فى اللوحة يكشف عن رؤية فلسفية خاصة للفنان وكأن الأطفال يحملن البراءة ومغزى المسيرة التى ما تبدأ إلا لتسير مع إتجاه سير الزمن وحياتهم للأمام دون تراجع رغم أن وجوه الأطفال جميعاً متجهة لأحضان الأمهات عكس إتجاه المسيرة وقد حملتها عنهم أمهاتهن كأنه جيل يحمل جيل ليسلمه لإكمال المسيرة كما أن رمزية الطفولة المحمولة يضمن حماية من الجيل الحالى للجيل القادم كى يبلغ مسيرته الخاصة به فى زمنه الخاص ومبتغاه فى بلوغ معنى السلام .. وهى كمسيرة بشرية نراها مسيرة ممتدة عبر العصور والقرون رغم تغير الرؤى والمعتقدات ونمط الحياة إلا أنها تظل مبتغى إنسانيا منذ نشأة الحياة السائرة والمتجهة بالفطرة فى موكب سلام عبر العصور وتعدد المكان نلاحظ أن موكب السلام البشرى تقوده نساء الأرض الريفيات ..
فاطمة على
جريدة القاهرة 17- 12- 2013
الحلم بما تنفيه الحروب
كيف نستطيع ألا نسقط على هذه المظاهرة السلمية هبة الشعب المصرى فى ثورتى يناير ويونيو ؟ ألم تحمل كل منهما أمل الحياة برفع شعار العيش وكرامة الإنسان ؟ أما أن تكون المرأة الشابة هنا بوصفها حاملة الحياة واستمراريتها المتمثلة فى رضيع كل منها هى ذلك الرمز الذى جعل الفنان يسعى لتكريسه فى تلك المسيرة الرائعة التى أطلق عليها `موكب السلام` فما ذلك إلا لأنه يحلم بأن يتحقق هذا الحلم فى مجتمع ، أو مجتمعات تنكبت عنه بالنسبة لأغلب قواها المنتجة . فلا ننسى أن متوسط أعمار ربات البيوت فى مصر أثناء الأربعينات كان منتصف الثلاثينات من العمر . وما زالت المرأة فى أكثر ربوع مصر تعانى أبسط أسباب الحياة . أليست هذه `حرب اجتماعية ` تستدعى هذه المظاهرة السلمية التى رفعت فلذات أكبادهن العاريات وقد سلط الفنان الضوء على أردية الأمهات ذوات العود الغض سافرات الوجه والشعر حافيات القدم رمزا لاتصالهن بأرض الحياة على نحو حسى مباشر ؟ وها هى أياديهن تنشد عاليا أمل المستقبل من أجل الأجيال الصاعدة على صدورهن البضة ؟ ألا يشارك الفنان هنا زميليه محمود سعيد ، وراغب عياد وسواهما من أمثال `ميران جارابديان` ، الأرمنى المتعاطف مع المسحوقات المصريات ( أنظر إلى لوحته `الفلاحة ` التى أبدعها أثناء الحرب العالمية الثانية) ، ألا يشاركهم ذلك النداء الماثل فى تلك الأمهات الشابات الباحثات عن الخبز والسلام ؟ لا أدرى لم تستدعى هذه اللوحة بقوة فى ذهنى قصة دونها الأديب الألمانى الشاب ` فولفجانج بورشرت ` قبل رحيله متأثرا بأهوال الحرب العالمية الثانية ، وكانت تحمل عنوان ` ساعة المطبخ` فما أن قرأتها وأنا فى بداية العشرينات حتى وجدتنى أترجمها إلى العربية . كانت تحكى فى عبارات جد مؤثرة حلم شاب عائد من أهوال الحرب بالسلام الذى عاشه قبلها بينما لا يريد أن يصدق أن قنابل الحرب هى السبب فى توقف مؤشر الساعة فى مطبخ الأسرة عن الدوران ..فمنذ اكتشاف الفائض حرصت جماعة أو طبقة معينة على الاستحواذ عليه باحتراب الغالبية العظمى المنتجة له ، وقد صار ذلك الانتهاك أكثر تخفيا فى العصور الحديثة وراء حسابات البنوك ومعاهدات السوق العالمية . وما زالت البشرية تخوض صراعاتها من أجل البقاء ، فكيف لا يلتحم معها `صديق` فى حلمه التشكيلى بالسلام؟
د. مجدى يوسف
جريدة القاهرة 17- 12- 2013

- تعرف الفنان راتب صديق على عالم الفن من خلال رعاية اساتذته يوسف العفيفى ومحسن سيد الغرابلى بمدرسة السعيدية الثانوية حيث انضم إلى جمعية الرسم ليزامل الفنانين كامل التلمسانى وسعد الخادم وفؤاد كامل، وفتحى البكرى وكمال الملاخ ضمن أخرين.
- ثم سافر إلى لندن مع سعد الخادم على نفقتهما الخاصة فى الثلاثينيات حيث التقيا هناك بالفنان حامد سعيد الذى اختار أن يترك المدرسة الاكاديمية بها ليدرس فى مرسم رائد النقائية فى الفن، ` اوزنفاه` فعرف راتب صديق الذى لم يعجبه منهج التدريس فى معهد تشيلسى، والتحق بمرسم أوزنفاه بلندن، وهناك تعمق فى تأمل أيات الفن المصرى ، والاوروبى فى المتاحف بتركيز وتدقيق كبيرين ليكتشف اسرار البناء الكامنه فى كل عمل يختاره ففضلا عن النحت المصرى القديم فى المتحف البريطانى كان شغوفا بقراءة أعمال ` بيروديلا فرانشيسكر` - ` وبوسان`. و` تسيانو` - و ` ومزاتشبو`، وجيوتو وفيلا سكوير وسيزان.
- ثم يدرس لفترة قصيرة على يد النحات الاشهر` هنرى مور` بأكاديمية` اوزنفاه`، وينتقل إلى باريس ليدرس فى معهد الفنون الحديثة الخاص بالفنان بالفنان` فرناندليجية`، ويقابل ` جيمس إنسور` فى باريس ويتعرف على الشاعر المصرى جورج حنين فى باريس ويتصادقا، ويزورا معا تجمعات السيرياليين الصاخبة فى مقهى عجيب كسيت جدرانه بالمرايا ويدعوه حنين لمشاهدة الأفلام الصامتة ` لشارلى شابلن` وقد وجههه حامد سعيد إلى القراءة العميقة فى الصوفية والفلسفة والفن ووجهته صديقته الفرنسية سيمون إلى الاستماع إلى ` فاجنر` وبيتهوفن` وموزار، وعند عودته إلى القاهرة يتزوج الفنانة عايدة شحاته وعمل مدرسا للرسم لفترة فى مدرسة فاروق الأول الثانوية التى كان ناظرها الأستاذ محمد عبد الهادى ـ من رواد التربية الفنية الأوائل- ـ واستاذ حامد سعيد ويوسف العفيفى والغرابلى- كان يدرس الرسم بطريقة فرناندليجيه، فشجعه عبد الهادى وانتقل معه إلى مدرسة الابراهيمية ثم إلى المدرسة الثانوية المصرية بالخرطوم تحت نظارة عبد الهادى عام 1943 ويبقى هناك قرابة تسعة سنوات ويزور جنوب السودان فى رحلة استكشافية هامة عام 1944 ويشارك فى عضوية أتيليه القاهرة مع راغب عياد وفؤاد كامل، وانور كامل ، ويوسف العفيفى، ورمسيس يونان وزوجته ` يوكا ` وصدقى الجباخنجى وكنعان والبكرى وعلى الديب، ومن الادباء والشعراء لويس عوض وصلاح عبد الصبور.
- تتسم أعمال الفنان راتب صديق بالملحمة الأدبية حيث يصور مشاهد من الكتب المقدسة بأسلوب يقترب من الفن القطرى لأن تأملاته الفلسفية وطموحاته الفكرية كانت أكبر بكثير من مهاراته فى التلوين خاصة وفى خبراته التكوينية حيث يهدف إلى الرسم الواقعى ولكن تخونه قدراته فى التشريح والنسب والمنظور، بيد أن فى ذلك الاخفاق الأكاديمى تكمن قوة وأهمية هذا الفنان وقيمة أعماله المتميزة، ويتألق بصفة خاصة فى تصوير المجموعات الزاحفة المتلاحمة من شيوخ ورجال ونسوة واطفال فى مسيرة قدرية لا مفر لهم منها متجردين من ملابسهم . ويستخدم الألوان الدافئة ببراعة فى لمسات سميكة فوق سطوح تبدو وكأنها مطروقه فى رقائق النحاس ـ اذ كان يستخدم ألوان الزيت من دون اضافة الزيت أو التربنتينا ليحافظ على قوام اللون للتعبير عن الفورم موضوعاته تتضمن- موسى يناجى ربه - قابيل وهابيل- الهروب - موكب السلام وغيرها من الموضوعات المستوحاه من الكتب المقدسة. ولكن قدرة الفنان راتب صديق الهائلة تكمن فى دراساته المبكرة بالقلم الرصاص لاجزاء من الجسد البشرى، والتى تعكس نبضا وحساسية مرهفة، وهى الأعمال التى ابدعها اثناء دراسته مع ( اوزنفاه) على وجه الخصوص ، والتى ابدى هذا الأستاذ إعجابه الشديد بها.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
موكب السلام
- عندما تصاب الأذن بالصداع الساحق من صخب موسيقى ` البوب ` التى عاصرها وتشبعها طعنا ووخزا ولطما وصفعا طوال النهار فانها تهفو إلى بعض الاستكانة والنقاهة بين الأنغام الكلاسيكية الجادة تعيد للنفس بعض توازنها .
- وكذلك الحال فى مجال الفنون التشكيلية التى تطارد انسان العصر بتقلباتها الهستيرية واندفاعها الجنونى وتمردها على كل ما هو راسخ ومستقر فى وجدان الزمان .. ما أسفر عن تعميق الشعور بالحيرة والقلق واهتزاز الأرض من تحت الأقدام ..
- وإزاء هذا الشعور بالضياع يعاودنا الحنين إلى عصور الاستقرار التى تضم روائع العمالقة ، حيث يلتقى سمو الفكر وعمق التأمل ، وطول النفس وروعة التشكيل ، وبلاغة التعبير ، ووضوح الرؤية ، وعنف المجاهدة فى أعمال متكاملة تقف شامخة فى ساحة الخلود ...
- لذلك كان المعرض الجاد الذى يقيمه الفنان المصور ` راتب صديق ` وزوجته المثالة
` عايدة شحاته ` مثل الواحة الهادئة التى يلجأ إليها المرهقون هربا من ضجيج الآلات وصخب المدن .. انهما يعودان بنا إلى حظيرة الكلاسيكية المتزنة بما فيها من قيم كادت تنقرض فى زمان يؤله السرعة ، ويتسابق فيه الإنسان ليلقى مصرعه فى دائرة الضوء واللهب ....
- إن ارتباط الفنان ` راتب صديق ` بروح مصر من داخل ارتباط وجدانى غائر وعميق .. ونظرته إلى واقعها الاجتماعى نظرة فلسفية ` ملحمية ` تتشح بالرمز ، وتمد بصرها لكى تحتضن الزمان والمكان فى إحساس . جامع .. فبعودتنا إلى الرسوم الحائطية التى تكسو مقابر ومعابد مصر القديمة نرى أن الفنان كان يلتزم بالإيقاع الرأسى يسقطه فوق السطح مسترسلا فى اتجاه أفقى ثنائى الأبعاد وبذلك يقبض على الاتجاهات الأربعة - الفوق والتحت واليمين واليسار - كما أن أشكاله اصطلاحية تتشابه فيها القوالب والحركات .. فإذا تراكمت الاجسام فى تشابك نسيجى محكم الأوصال ، وحجب بعضها البعض الآخر ، فإذا الرؤوس والأطراف الخلفية تبدو فى مواقعها المتأخرة بنفس الأحجام دون أن ينقص منها القصر النظرى شيئا .. والفنان ` راتب صديق ` يتابع هذه الرؤية بنفس المنطق المكانى والزمانى ويبرزه بالايقاع الرأسى الذى ينظم نساءه السامقات كسيقان النخيل فوق التربة السمراء ، مظهرا الأذرع وأطراف الأصابع وهى تطل من حافة الكتلة البشرية كأنها أهداب سعف النخيل الشفيفة وهى تمهيد للانتقال من كثافة الأجسام إلى اثيرية الفضاء ...
- وإذا قارنا بين المجاميع البشرية فى رسوم مصر القديمة وفى رسوم ` راتب صديق ` نرى فنانا كسلفه لا يفرق كثيرا أو قليلا بين سحن أشخاصه العديدين .. فالإنسان عنده ليس فردا بعينه ولا شخصا بذاته ، ولكنه خلية فى المجموعة البشرية تتكرر تكرارا عدديا تصاعديا مكونة فى مجموعها النسيج الإنسانى الشاسع .. ولذا نحس فى تكويناته الافقية أو الحلزونية بالاستمرار الزمنى وكأنها قطاعات من لوحة بالغة الطول تمتد إلى ما لا نهاية - اسمها الزمن - حيث تنطوى الوجوه جميعا على ملامح متشابهة . وتنصهر الأجسام كلها فى قالب واحد . قالب اصطلاحى رشيق ، يتميز عن القالب القديم باستدارته وتلقية للنور والظل ليكتسب بعدا ثالثا يتخلله الهواء والضوء ، فى معالجة ` رينيسانسية ` رزينة .
- النساء عاريات . سمراوات كالجرانيت الوردى ، يحملن أطفالهن فى ` موكب السلام ` فى جلال وقور ، أو مرتديات الزى الريفى` الموحد ` الذى يلتصق بأجسادهن مظهرا قسماتها فى غير ابتذال جنسى .. وأضواء ` الجريكووية ` تتلألأ فوق الأعضاء البارزة فتنعش القتامة التى تخيم على البنيات والرماديات التى تسيطر على جميع اللوحات بلا استثناء ...
- والوجوه فى حالة فزع وهى تتطلع مستغيثة إلى السماء . والشفاه منفرجة عن صرخات مكتومة وزحام قطيعى فوق أديم الصحراء . وتكدس بشرى فى فراغ ضيق يوحى بالاختناق .. وطبيعة قاحلة جرداء زاهدة غير متبهرجة بصخب الألوان لاتلهى النفس عن التأمل الصوفى العميق تبدو على استحياء من خلال فجوات طارئة فى الكتل البشرية كنوافذ تطل على الفضاء السحيق ...
- ويحاول الفنان ` راتب صديق ` أن يقبض على ناصية الشعر والتشييد والحكمة .. فهو اذ يلصق ابصارنا بتكتلاته النحتية الثقيلة بكثافتها المادية وبنياتها الترابية فإنه يرتفع بمعنوياتنا فوق محفة من الشاعرية الصوفية التى يحف بها زهد لونى يحلق بالنفس فى آفاق لا تحد بحدود .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
الباحث عن الحقيقة .. راتب صديق (1917-1994)
- ` الذاكرة ` هى الفيصل بين الكائنات تحدد الرقى والانحطاط. التقدم والتأخر. ساد الإنسان الكائنات جميعا لأنه الوحيد الذى يملك `الذاكرة` يتقدم للمستقبل بقدر ما يعرف من تجارب الماضى¬. الكائن الذى ليس له ماض يعرفه.. لن يفترق أمسه عن غده. لولا معرفة الإنسان المعاصر بالنظريات العلمية منذ الفراعنة حتى الآن - مروراً بالإغريق والعرب لما اكتحلت عيناه بمرأى سطح القمر. ودبت قدماه على أحجاره.
- الحشرات والحيوانات فقط هى التى يبدأ تاريخها `الآن` بالنسبة لها. الفرد منها ليست له `ذاكرة` له جهاز عصبى يعمل بنظام `الارتباط بالاقتران`. على نسق كلب `بافلوف` الذى سال لعابه كلما دق له الناقوس..
- نذكر هذه السطور لإبراز أهمية دراسة `تاريخ حركتنا الفنية المحلية` بالنسبة لرسامينا ومثالينا الشبان، الذين لا يتذوقون إبداع روادهم القدامى. والحديثون يكتفون بأن يولوا وجهوهم إلى غرب أوروبا وشمال أمريكا يظن بعضهم أن تاريخ الفن المعاصر يبدأ منهم، وإذا كان لابد من جذور تضرب فى الماضى.. فإلى الفن الفرعونى والإسلامى دون أى التفات إلى الرواد الحديثين.
- كلمة `رواد` لا تعنى بالضرورة: العظمة والعبقرية. بل تشير إلى الصف الأول الذى خاض طريقاً لم يسبقه إليه أحد. هنا تكون `التجربة` و`الذاكرة`.. ويتعلم الخلف من السلف وتزدهر الثقافة والحضارة وتتحقق المنجزات الإنسانية. إلا أن الرواد يذكرون عندنا إذا كانوا `رسميين`. فى كل العالم يوجد فنانون رسميون لكنهم ليسوا الأفضل إذا كانوا كذلك فلا يعنى هذا أن `غير الرسميين` ليسوا بنفس الدرجة وربما زادوا محمود مختار ويوسف كامل وأحمد صبري ومحمد حسن وراغب عياد، رواد `رسميون` وممتازون بدرجات متفاوتة. يكمل هذا الطاقم الريادي الشهير: المستشار محمود سعيد والدبلوماسى محمد ناجى. لكن هذا لا يعنى أن: الشاعر الناقد جورج حنين والرسامين كامل التلمسانى ورمسيس يونان وفؤاد كامل، ليسوا رواداً موهوبين لمجرد أنهم لم يتقلدوا مناصب رسمية. رحلوا جميعاً بعد أن أسسوا جماعة `الفن والحرية` سنة 1940 مع اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية والغليان الفكرى الذى ساد بلادنا آنذاك. فى أعمال تلك الجماعة تكمن الخيوط الدقيقة لتفجرات الفنية التى نراها بيننا اليوم.
- محمد راتب صديق 66 سنة.. من الرعيل الأول الذى فضل الخوض فى طريق الفن بعيداً عن المناهج الرسمية فى قاعات مدرسة الفنون الجميلة العليا. نشأ فى قرية المنيب - جنوب الجيزة - بين الحقول الفسيحة والطبيعة البكر. استكمل تعليمه الثانوى فى المدرسة السعيدية حيث التقى بصحبة من الفتية البارزين الذين أصبحوا فيما بعد، من قادة الحركة الفنية: سعد الخادم.. كمال الملاخ.. أبو خليل لطفى.. والراحلين: كامل التلمسانى.. فؤاد كامل.. فتحى البكرى. جمعهم مدرسهم: يوسف العفيفى.. المفكر الفيلسوف.. الذى وضع أسس التربية الفنية في التعليم العام وأقام لها معهداً يعرف الآن باسم `كلية التربية الفنية` 1936.. التحق راتب بأكاديمية تشيلسى فى بريطانيا، لم يلبث أن تركها إلى استوديو أوزان فإن حيث رافق حامد سعيد. أمضى ثلاث سنوات حتى هاجر صاحب الاستوديو إلى أمريكا فانتقل إلى `استوديو فرنان ليجيه` في باريس. ثم اضطرته إرهاصات الحرب العالمية إلى العودة إلى الوطن بعد عام واحد فى يناير 1940.
- من العسير أن نلمس تأثير هذين العملاقين من الناحية الشكلية السطحية على إبداع راتب صديق. لكننا بالتأمل نستشعر هذا التأثير فى الحسابات الرياضية للتكوين، والمضمون الصوفى الذى يتخذ مظهراً أكاديمياً إلى حد ما. التحوير. والمواءمة بين الشكل والمضمون.. والرمز.. والإيقاع المتجانس مع المعنى.. والتعبير الحركي، كل ذلك يسفر عن اتزان مثير جذاب يشير إلى تأثيرات أوزنفان وليجيه، خاصة في لوحاته الصرحية ذات القيمة الكبيرة، لما تستنفره من أفكار وتأملات. قبل أن نسترسل فى الحديث عن لوحات فنانينا ينبغى أن نسوق شيئاً عن أستاذيه الفرنسيين اللذين لم يدرس على أحد بعدهما فى مصر سوى رفقة حامد سعيد منذ عودتهما من لندن حتى الآن.
- أميديه أوزينفان `المولود سنة 1886` كان رساماً مثالياً. اعتقد فى بعض مراحل حياته أن روائع الإبداع - ككل الحقائق - كائنة في ضمير الفنان. ما عليه إلا أن يكشف عنها، يزيح الأستار التي تحجبها. الأمر الذى يذكرنا بكلمات ميشيل انجلو - نحات عصر النهضة - حين قال أنه يرمى تمثاله فى كتلة الرخام الغفل. ما عليه إلا أن يحرره. أوزنفان هو صاحب نظرية `النقاء` - بيورزم - التى اشترك فى إصدار بيانها سنة 1919 تعنى اختزال الأشكال والألوان إلى أبسط عناصرها. يرسمها على درجة عالية من التنظيم المحكم.. لتستنهض كل طاقة الخيال والتصور عند المتلقى. تسجيل جوهر العناصر مجرداً من كل زيادات عارضة. يتبع أسلوباً صارماً فى تنظيم العناصر بحيث لا يترك منفذاً للعفوية.
- هذه النكهة `النقائية` نلاحظها في لوحات محمد راتب صديق. خاصة صرحياته الشهيرة: `فى موكب السلام` والتى صور فيها حشداً من الناس فى مسيرة رهيبة نحو هدف مشترك يجمعهم فى طريق. تذكرنا برائعة أوزينفان المحفوظة فى متحف الفن الحديث فى باريس بعنوان: `الحياة` والتى أبدعها في سبع سنوات (1931/1937) وتضم جمهرة من البشر يزيدون على المائة عدداً. بأسلوب `النقاء` البيورزم. كذلك ملحمة راتب صديق. صورها فيما يقارب الخمسة عشر عاماً، انتهى من رسمها عام سنة 1975. عشر لوحات تضم كل منها حشداً هائلاً من البشر يتدافع حول `الهدف` إحداها تضم كتلاً من نساء عاريات متلاحمات متدافعات. وأخرى يتشحن فيها بملابس سود.. ويمضين فى الطريق. نحو `الغاية الكبري`. أثر أوزينفان الذى نعنيه هنا، هو ذلك التنظيم المحكم الذى يشمل كل العناصر المرسومة فى `موكب السلام`.
- الرسام: فرنان ليجيه (1881/1955)، هو الأستاذ الثانى الذى انتقل راتب إلى مرسمه فى باريس بعد رحيل أوزينفان إلى نيويورك عام 1938. كان ليجيه فى إبداعه يختزل أشكال المرئيات إلى أصولها الهندسية الأولية.. لذلك اهتم برسم الابتكارات الصناعية ذات الطابع الهندسى مثل: قضبان القطارات والعجلات والإطارات، مدخلاً فى تكويناتها العنصر الإنسانى كالعمال والسائقين والبلهوانات. لكنه أبداً لم يصور `الواقع`. إنما هى `مدركات عن الواقع` تختلف عن مدركات اوزينفان الذى اعتقد أن ما يرسمه من أشكال كان كامناً فى عقله الباطن. لكنها فى نهاية الأمر `مدركات مستلهمة من الواقع` عند كل منهما. نجد هذا المدخل فى إبداع: راتب صديق أيضاً لأنه يصور `المدرك الفلسفى الفكرى` مجسداً فى ثوب الواقع.. متقمصاً عناصر نحتك بها فى حياتنا اليومية.
- إذا التقينا بلوحة أو تمثال وأحسسنا بجاذبية خفية وإثارة عاطفية وفكرية علينا أن نبحث عن السبب. ما هى الينابيع السحرية التى استمد منها `العمل الفنى` حيويته؟ إنه شخصية الفنان ومقدار ثقافته.. عمقاً أو ضحالة.. ضيقاً أو رحابة، الحرارة التى نستشعرها فى لوحات ليوناردو دافنشى، مستمدة من فلسفته ومعرفته وذكائه. ليس فقط من قدرته الأسلوبية وتمكنه من الصنعة والأدوات، وأستاذيته فى التشريح. ينصح علماء الجمال والنقاد بتأمل العمل الفنى ومعايشته حتى يفصح عن أسراره وتتبلور رسالته وتتجسم أمام عيني `المتلقي`. يتحقق هذا حين `يودع` الفنان لوحته أو تمثاله فكراً وفلسفة. ومن أين يأتى `الفكر والفلسفة` بلا قراءات مستفيضة فى العلوم الإنسانية؟
- لم يكن راتب قد بلغ العشرين حين وطئت قدماه الجزر البريطانية، كانت بصحبته هناك زميلان أصبحاً من كبار فلاسفتنا وعلمائنا، سعد الخادم، وحامد سعيد. بدأ على الفور مشوار القراءة المقدس فى كتب التاريخ وعلم النفس والفلسفة والتصوف ومختلف الأديان. بالإضافة إلى التردد على المتاحف والمسارح وحفلات الموسيقى.. وهى بدورها منابع ثقافية هامة فى الشعوب المتقدمة. كان انفتاحاً ثقافياً غامراً شاملاً تشتتت له أحاسيس الفتى القادم من الجنوب وتعقدت أفكاره.. وأوشك أن ينتحر يأساً وبلبةً وحيرةً. خاض مرحلة الشك الدينى بعنف.. لكنه تصدى لها بذكائه الفطرى حتى استراحت روحه القوية على شاطئ التصوف.
- ثلاث سنوات قضاها فى لندن مع أوزينفان وزميليه: سعد الخادم.. وحامد سعيد الذى كان يدرس معه فى نفس الأستوديو. لم يستخدم الألوان طوال دراسته فى لندن رضوخاً لتعليمات الأستاذ وربما كان هذا هو السر فى أن حامد سعيد اعتمد فى رسومه على القلم الرصاص بدرجاته حتى الآن. لم يبدأ راتب التلوين بالزيت إلا قليلاً فى باريس فى استديو فرنان ليجيه، الذى كل أقل انضباطاً وأرهف حساً وأكثر مرحاً من أميديه أوزينفان.
- كان أوزينفان يعتبر الصورة مجرد تخطيط، ما عدا تلك التى ينهيها بطريقة `الكشف` التى أسلفناها. وكان ليجيه يتسلق السلالم ليشاهد من أعلى كيف أحكم تنظيم تكويناته. أما راتب صديق فتطور أسلوبه عبر السنين الطوال. اتخذ الآن طابعاً خاصاً فى `طريقة الصياغة` مخالفاً بها كل الفنانين تقريباً. يبدأ من الجزء لينتهي بالكل. يرسم العين ثم الأنف.. ويكتمل الوجه رويداً رويداً.. وهكذا كان التكوين كله مرتسماً فى مخيلته منذ البداية على رأى أوزينفان. يفعل شيئاً كالتسبيح بلا تكرار. يحلم ويعيش فى الخطوط والألوان. يشعر بعمق لمسة اللون.. وموسيقية الخط.. وملمس السطح.. وحبكة التكوين.. حتى تكتمل اللوحة وكأنه أكمل الصلاة.
- على مدى عشرين عاماً بعد عودته من لندن، عمل فناننا بالتدريس فى التعليم العام فى مصر والسودان، ثم انصرف إلى العمل الحر فى التجارة والمقاولات المعمارية، مع إسهامات جانبية فى الحركة الفنية الحديثة مع `جماعة الفن والحرية`. إلا أنه انقطع تماماً عن أى نشاط فنى طوال أحد عشر عاماً تمتد من 1949 إلى 1960، حتى أعلن نظام التفرغ الفنى، أنشأت وزارة الثقافة هذا النظام لتكفى الفنانين مؤونة الانشغال بغير الإبداع الفنى. كان راتب صديق ضمن الفريق الأول الذى تمتع بالتفرغ.. جنباً إلى جنب مع: فؤاد كامل.. رمسيس يونان.. أنور عبد المولى.. تحية حليم.. محيى الدين طاهر.. وصمويل هنرى (آدم حنين). أما اللجنة الموكلة باختيار الفنانين فكانت تضم شخصيات مرموقة مثل: طه حسين.. عباس العقاد.. عبد القادر رزق.. زكى نجيب محمود.. حامد سعيد.
- عاود راتب مسيرته الفنية فى ظل التفرغ. اعتكف فى بيته الريفى فى قرية المنيب على بعد عشرة كيلومترات جنوب الجيزة، حيث الهدوء الشامل.. والحقول الفسيحة.. والحديقة غير المهذبة.. والترعة والقنطرة والمزلقان والكلاب التى لا تنام طوال الليالى.. تشيع الأمن وتزيل الوحشة. بدأ موضوعاته الدينية هناك. فى ذلك الجو الذى يشعره أنه أقرب إلى الله. لم يرافقه فى مسيرته تلك سوى زوجته النحاتة عايدة شحاتة. وحين أقيم معرض المتفرغين الأول سنة 1966، لفت أنظار النقاد والمعلقين بإبداعه المثير.. موازنة حكيمة بين الشكل والمضمون.. تكامل جذاب مع طرافة الموضوع.. طابع مسرحى مفعم بالحركة والشعور.. معالجات متأنية بألوان الزيت والفرش الدقيقة لرفع قيمة التفاصيل. كل ذلك كان جديداً على الحركة الفنية وهى تتأهب فى مطلع الستينات لتحطم القيود وتعيد النظر فى القيم الفنية التي مازالت باقية من سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية. فى ذلك المناخ الملئ بإرهاصات التغيير.. بدأ راتب فى ثوب محافظ. يجمع فى إبداعه بين الأكاديمية والرومانسية والواقعية. فى جو رهيب جليل يناسب القصص الديني ويفصح عن `المدركات الإنسانية`. لم تكن موضوعاته سوى إطار لـ`المدرك الاجتماعي المعاصر`. لوحة `قابيل وهابيل` التى اقتناها متحف الفن الحديث بالقاهرة نموذجاً لهذا الأسلوب الفريد. كذلك مجموعة اللوحات الشهيرة: `إبراهيم وإسماعيل`. `موسى يحدث الله`. `هاجر`. `سليمان وبلقيس`. بالإضافة إلى مجموعة زيتية للقواقع والمحار.
- إلا أن العمل الرائع أصبح علماً على فناننا هو مجموعة `فى موكب السلام` التى أشرنا إليها فى مطلع حديثنا وهذا هو العنوان الذى أطلقه على اللوحات الصرحية العشر التى أبدعها على مدى خمسة عشر عاماً.
- تتميز بأبعاد تضرب بجذورها فى تراثنا الكلاسيكى وأساليب الفن الحديث، هذه الملحمة التصويرية الفريدة التى قدم بعضها ضمن المعارض الجماعية خلال الأعوام الماضية، تمثل كل لوحة منها حالة نفسية للجموع البشرية فى زحفها المقدس نحو السلام. لكنها جميعاً ذات طابع شرقى. سواء فى المضمون الصوفى أو الأسس التشكيلية. نلاحظ الرقش الإسلامى (أرابسك) فى تشابك الظلال وتواترها لتعبر عن فكرة الاستمرار التى قصد إليها الفنان الإسلامى بزخارفه النباتية أيضاً `التوريقات`. أضاف راتب التكوين الدراسى والإيقاعات الغامضة.. ورفع من القيمة الجمالية للتفاصيل. أما العيون الشاخصة فى ابتهال.. والأذرع والسيقان المتدافعة فتصنع رقشاً آخر يزيد الموضوع وضوحاً والرسم جمالاً. إذا كانت الأجساد تجردت من ملابسها المادية، فقد اتشحت بظلال روحية شأنها شأن القباب الحجرية التى ارتقى بها الفنان الإسلامى عن طبيعتها الأرضية. حول راتب صديق أفكاره الصوفية إلى لوحات فنية. قرأ المؤلفات الصوفية وأديان الشرق الأقصى والأشعار الفارسية.. وفى مقدمتها ملحمة فريد الدين العطار ذات الـ700 بيت بعنوان `منطق الطير`. والتى تروى حكاية الطيور التى قادها الهدهد إلى الغاية الكبرى، رمزاً لسعى الإنسان للاتحاد بالحق.
- تكوينات عجيبة محسوبة بعناية. مرصودة الحركات والسكنات والنظرات، كل جزء قائم بذاته يؤدى دوره مع العناصر الأخرى فى اللوحة العملاقة. يدهش المتلقى كيف أوتى الفنان صبراً يرسم به هذه المسيرة المتدفقة المتدافعة. متساقطة تارة.. ماضية تارة.. كل يحمل طفله بين يديه أو يسحبه من خلفه.. وربما نسيه تحت قدميه وانطلق، الطفل يرمز لعمل الإنسان وهو يمضى لملاقاة الحق كما ولدته أمه.
- الروابط الخطية واللونية والملامس فى تلك اللوحات، تستحضر فى ذاكرتنا روائع الأعمال الفنية فى كل من الأدب والشعر والموسيقى. كل مشهد تفصيلى له مغزى ومعنى.. فضلاً على المضمون العام الذى يثرى الروح ويشحذ الهمة ويلهب الفكر ويوحى للمتلقى بأن يجعل من حياته شيئاً مفيداً للجموع التى ترافقه فى المسيرة عبر الزمان.
- مضامين عامة واضحة ومقرءة ما على المتلقى إلا أن يهدأ وينظر ويتأمل ويعايش شخصيات المسيرة التى تمضى فى طريق الآلام نحو السلام؟ شاهد راتب المهاجرين أثناء الحرب العالمية وهم يهربون بجلودهم من باريس إلى الريف. واستشعر العذاب فى داخله حين انفجرت كل القيم التي اصطحبها معه إلى لندن سنة 1936. كم بحث عن السلام فلم يعثر عليه إلا عند المتصوفين المسلمين وشيخهم الغزالى.
- تضافرت عدة عوامل كامنة فى ضمير الفنان حتى واتته الفكرة بعد قراءة ملحمة فريد الدين العطار. فى شهر ما.. فى يوم ما.. فى ساعة ما.. تتجمع الطيور وتمضى مهاجرة إلى مكان ما. لا تكل ولا تمل. يسقط من يسقط ويبقى من يبقى.. ليحقق ذاته فى نهاية المطاف.
- تشابكت الآراء حول `الفن الحديث` إلى درجة عز فيها التفريق بين `الفن` و`اللا فن`، اختلط الحابل بالنابل، وأصبح فنانا كل من أوتى الشجاعة لعرض أعماله التافهة. هكذا أحجم الذواقة عن المعارض الفنية لأنهم أصبحوا يشكون فى أحاسيسهم ويسيئون الظن بمشاعرهم وقدرتهم على إدراك القيمة الفنية. تحولت المعارض إلى منتدى لفنانينا فى أمسيات الافتتاح.. وانتهى الأمر. أما المثقف وخريج الجامعة والطالب النابه. الذين يتذوقون الشعر والموسيقى والرقص والتمثيل وباقى أنواع الفنون، يصدمون أحياناً بتشكيلات لا يدركون لها رأساً من قدم مما يخلع عليهم شعوراً خاطئاً بالنقص والجهل. بل إن أحد الفنانين الشبان المعروفين علق على النقد الذى وجه إلى لوحاته التجريدية التلقائية فى ندوة عقدت عقب معرضه بقوله: أنه يرسم لمزاجه الشخصى، ويعرض دون حرص على أن يرى لوحاته أحد، إنما هو كلاعب فى الطريق وحده لا يلعب مع أحد أو ضد أحد، إنه يلعب فقط.
- الفيصل فى مهارة الفنان هو قدرته على الرسم. محاكاة الطبيعة كيف يتسنى له أن `يحلل` و`ينشئ` و`يكون` و`يعبر`.. دون امتلاك العناصر الأولية التى يغيرها ويبدلها ويحورها. فى بعض أكاديميات الفنون فى إيطاليا، يدربون الطالب على رسم النموذج الحى بطريقة `المحاكاة الدقيقة`. ثم يضع على رسمه ورقة شفافة بنفس الحجم ليعيد الرسم مع التبسيط وإهمال الزيادات. تعاد الكرة على الصورة الجديدة. وهكذا حتى يتعلم الطالب `البلاغة التصويرية` التى هى أساس التجريد، الأصل دائماً هو الرسم والمحاكاة. شأن التدريبات الأولية فى أى فن آخر.
- محمد راتب صديق يتقن بديهيات الرسم التصويرى. لو تأملنا رسومه بالقلم الرصاص لاكتشفنا السر فى قوة التأثير التى تنضح بها لوحاته الصرحية. لا نجد قيد أنملة دون رسم وتلوين.. و`فعالية عامة`. التحورات محسوبة ومقصودة بعيدة عن التلقائية.` التلقائية` لفظ دخيل على الإبداع الفنى ابتكره هؤلاء الذين دلفوا إلى مسرح الفنون الجميلة من الباب الخلفى.
- فى لوحة `تأمل` التى رسمها راتب بالقلم الرصاص سنة 1964، تتبدى قدرته فى وضع الخطوط والظلال.. والتقاط الجوانب الشاعرية فيما يرسمه من نماذج.
- سيدة جالسة تقبض براحتها على كأس وتهيم فى عالم الأفكار. تكوين مستقر تلعب فيه الظلال دوراً جوهرياً. نحس بالقلم الرصاص كأنه ريشة العود أو قوس الكمان. السنوات الثلاث التى قضاها فى فجر دراسته فى لندن.. منحته أساساً صلباً للإبداع المتمكن. صورة `أصابع القدم` التى رسمها هناك ولما يبلغ العشرين بعد، افتتاح متحف الفن الحديث بالقاهرة. وهى نفس الصورة التى فازت بالمسابقة التى أجراها أوزينفان لتلاميذه.
- محمد راتب صديق من الفنانين القلائل الأحياء من جيل الأربعينات.. الذين اتسموا بالثقافة العريضة.. والمعرفة المنوعة، والبحث الدائب، والتطلع إلى التغيير.
الناقد: د./ مختار العطار
من (كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول)
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث