`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
عادل أمين السيوى
وجوه تحمل حضارات
- يمكننا الدخول الى أعمال السيوى الاخيرة من باب الفراسة أيضا حتى وإن كان يقدم العلاقة بين الجسد والروح على نحو عرضى أكثر منه إرادى فوجه الإنسان هو مادة هذا الفنان لسنوات وان ابتعد بمسافة كافية عن تقاليد الصورة الشخصية .
- ويشكل الوجه فى الواقع لدى السيوى وببساطة حقلاً للفعل ومادة للتحرى الوصفى بصفة خاصة وللبحث النفسى فى المقام الثانى .
- واذا كان البحث الذى يقوم به على مستوى الشكل مكثفاً وطاغياً إلا أنه ليس غاية فى ذاته إذ أنه فى الحقيقة ينصهر مع التزامه الثقافى .
- وعلى أرضية العلاقة بين الشكل الفنى وقناعاته الأخلاقية الاجتماعية يبنى السيوى مادة للتفاعل الخصب والتناغم والتطور .
- أردت بهذه المقدمة أن اؤكد على أن العلاقة بين البعد الأيديولوجى والبعد البنائى فى أعماله ليست علاقة إخضاع أو سيطرة لبعد كل منهما عن الآخر ، والغريب ان السيوى برغم عمله سابقا كطبيب نفسى إلا أن نظرته للوجه تنحاز لما هو ثقافى واجتماعى اكثر مما هو نفسى وإذا اكتست أعماله أحيانا بغلالة مجازية كما يتجلى فى اهتمامه بالأسطورى فإن الاسطورة تصبح لديه ما يجب أن يعاد ابتكاره - ورد هذا التحديد الثاقب على لسان الفنان - والتى تبتعد فى جميع الحالات عن الرمزية المتعمدة .
- ويكشف كل عمل هنا عن التزام بتعدد الثقافات وتداخل الخبرات وتشابك المواقف كما يكشف أيضا حالة اجتماعية وجودية تتجاوز موروث النظرية الأحادية حتى وإن كان الأمر يتعلق بالميراث الثقافى العظيم للحضارة المصرية يتبنى السيوى هذا الموقف رغم عشقه للارتباط بالماضى إنها فى الأساس قضية علاقة نقدية مع الاشياء .
- فهذا توجه ربما ينبع من خبراته العلمية السابقة فى كل الحالات تظل وجهة نظره متحركة وهى أيضا محصلة تجواله خارج حدود بلده انطلاقا من تجربته الطويلة الإيطالية فى الثمانينات .
- ويقول الفنان عن استخدامه للذهب هو تحييد المكان وفتحه بشكل كامل وهو وفى الوقت نفسه حائل يعوق النفاذ لما وراءه .
- فلدينا هذا النموذج لميل السيوى لإصابة هدفين بحجر واحد حيث يجمع فى قبضته حقلين معا : الجمالى والأيديولوجى بحيث يخصب كل منهما الآخر ويزيد من فعاليته .
- إن حركة الفكرة والتعبير هنا تصطبغ بالسخرية التى هى توأم نقد الذات ويبدو لى أن هذا مدخل هام لفهم أعمال السيوى .
- فهذه السخرية هى التى تثرى موقفه النقدى كفنان إزاء الماضى وإزاء احتياجات التعبير المعاصرة أيضا وهى التى تخفف البعد النفسى والتعبيرى لديه فيصبح حضورا خفيفا لاهياً عابراً.
- تتميز أعمال السيوى وتجهيزاته فى فراغ العرض بأحجامها الكبيرة ولكنها لا تعطى انطباعا بالضخامة إذ تهتز داخليا بإيقاع سردى فراغى لا يستقر فيتولد لدينا الانطباع بأنها لحظة عارضة ننتظر أن تستقر الأشياء ونوقن أن ذلك الرسوخ لن يحل أبداً.
- يسود المشهد توتر سردى ولم لا ؟؟ فقد تخلى السيوى عن تأمل توتر مرضاه كى يتأمل توتره الخاص بما يتفق مع روحه فاختار التعبير عن ذاته وكشفها كمزيج متماسك ويقظ من الخصوصية والثقافة معا اختار أن يتواصل وأن يبوح تجاوز فناننا منذ فترة ملموسة طريقة عمله فى المرحلة السابقة حيث الأداء الحركى وسيطرة الأشكال والتى كانت تشكل شاهداً على احتياجه الى انتزاع مساحة رحبه لذاتيته حتى وإن كانت مؤقتة هكذا يزيح السيوى قضية الهوية وهى حجر الزاوية فى أى توجه متعدد الثقافات من دائرة الفردية الى دائرة الاجتماعية فتتراجع الوجوه المفردة التى أمعن فى تحليلها أمام جماعية الوجوه التى تتضاعف وتلتحم فى جداريته وبشكل خاص ` الوجه وما بعده ` والتى أنجزها عام 1997 ( 17 متر × 3 متر ) يحتوى العمل فى جاذبيته عدداً من المرايا الصغيرة المتقابلة تمسك خطوطه فيها بالفحم ومائياته ببقايا وجوه مستطيلة فقدت هويتها ربما لرهبتها الفراغ إن كان ذات يوم قد امتلكها يدعونا هذا العمل لتأمل علامات حول الثقافة يضمها بناء محكم فى الفراغ ذو قيمة رفيعة تنبع من بنائه للأعمال فى الزوايا الثلاث المتعامدة بالحجرة ، يجب أن نشير الى أن عملاً مثل الوجه وما بعده يعبر الحدود الثقافية دون أن يفقد شخصيته ، قد تستهوى المشاعر التى يبثها العمل العين الأمريكية أو الأوروبية وخاصة فى ألمانيا وإيطاليا إلا أنها تستثير فكرة الأرض، أرض خاصة وليست الأرض بشكل عام، أرض بعينها، نشعر بأننا يمكن أن نعرفها ونحددها إذا ما نظرنا بعمق لتلك الوجوه فهى تتسرب كعصارة لجغرافية خاصة يمكن ان تتجلى لنا عندما نشمها ونلمسها ونتذوقها جمالياً ستشعر بالخامة وبحركة اليد واهتزازات عمل يكتمل أمام عينيك، ستنقلك هذه المشاعر الى أفريقيا والأبيض المتوسط ولكنها ستعرج بك قبل ذلك عبر مدارات الفن المعاصر فتفقد هويتك وتظل واثقاً بأنك لم تفقد جذور تلك الهوية بمعنى الرائحة الأصلية لجسدك نفس الشعور سيخالجك مرة أخرى عندما تواجه عملاً آخر من أعمال السيوى يتطلب تأملاً خاصا وهو ست لوحات متقابلة تقدم فى مجموعها نسيجاً سردياً مكثفا تقطعه لحظات من التوقف
- اختار السيوى هذا العنوان لأكبر حكاية يقدمها لنا بداخلها أساطير معاصرة وقديمة وحكايات غامضة وبقايا بصرية على حد توصيف أندريه بريتون - مع علاقة مجردة تبدو حرة ظاهرياً ولكن الفنان يقودها أور كسترالياً ليحكم وقائع السرد وليصل لأكبر درجة ممكنة من الموضوعية دون أن يتخلى عن القوانين الفوضوية للفن قد تذكرنا هذه الأعمال بسبب تركيبها وجوها السردى المجرد ( بانسلم كيفر ) وبعيداً عن الجدل القديم حول الحداثة وما بعدها حتى وأن تماست مع وجوه السيوى ذات الثقافات المتعددة فإنه يظل فناناً لتلك اللحظة المركبة.
كارميللو استران
ميلانو ـ فبراير 1999
حكاية سحرية ..قراءة فى أعمال عادل السيوى
- فى أعمال عادل السيوى ، هناك عودة لمكان بينى للحكاية المجردة التى احترفها الفن التشكيلى، والحكاية الشعبية ذات التفاصيل الكثيرة والسرد المتاح .مكان بين الواقع المحسوس والخيال المجرد.مكان مشترك مع مجتمع ما، بعد أن تعذر أن تكون مفردات التشكيل المجردة مادة للتواصل فى عصر مفتوح بكل المعانى الإيجابية والسلبية،أصبح فيه من الصعب استقبال أو فك مثل هذا النوع من الموجات الأثيرية، وبالتالى بثها .
- وربما كذلك لأن خيالات ورموز التصوير أصبحت مقدسة أكثر من اللازم، لأن خيال العالم الكبير الذى تستقصى منه الرموز أصبح هو الآخر معقداً أكثر من اللازم، وفى لحظة لن تستوى فيها أو تستقيم تلك القداسه التى يضطلع بها الفن التشكيلى، مع هذه العشوائية والبرود الذين يغلفان العالم والمجتمع .
- وفى تلك اللحظة ماذا يفعل الفنان؟ربما يفكر فى أن يعود إلى مرجع شخصى، أو مكان شخصى، إلى لحظة مشحونة فى تاريخه، بعد أن يتخلى عن شمولية عالمه وكثافته. يعود إلى عالم قداسته نابعة من حرارة إيمانه،النسبية والمتلعثمة، وليست من أى ثقافة تفرض هذا المرجع أو هذه القداسة، أو أى فكرة أخرى لها سطوة، كالتحرر مثلا .
- تتحول الحكاية الكبيرة إلى حكاية شخصية .
-فى سلسلة `الوجوة `هناك تلك الوجوه المستطيلة، التى تخترق سطح اللوحة، وتستكمل بعدها، فى الفراغ، أو فى الأسطورة. الوجه يكسر الإطار متعمدا، الوجه بضخامته غير المعتادة، ربما هى وجوه لإناس يعرفهم الفنان،وربما هى وجوه آتيه من الذاكرة، ولكنها فى النهاية ليست بورتريهات، لأنها لا تطابق الأصل. لذا فالعودة اختيارية، ولها محطات غير تقليدية .
- تريد هذه الوجوه أن تتحرر من إطار اللوحة، الذى يطارد ويثقل بقسوة على رأسها .لأن حياتها مازالت هناك بالخارج. تريد أن تنتسب لعالم أكبر، متخلية هى الأخرى عن هويتها، ودقة ملامحها لتكتسب هوية جديدة تضمن لها أن تعيش.
- والوجه هنا له مهمة، لأنه مكان التعبير والتوصيل والذاكرة، مكان حوارظاهرى وباطنى .
- إنه المكان الجديد المشحون للالتقاء مع الجماعة.الوجه بما له من ميراث تشكيلى وإنسانى. وإنه أيضا مكان التأبين، ما يبقى من ذاكرة الجماعة عندما يموتون، تبقى الصورة سواء الحقيقية، أو ما تحمله الذاكرة لها. التشكيل كان دائما عليه عبء الاحتفاظ بالصورة، مهما حور بها، ولكنه يحتفظ بالأثر الإنسانى منها، مغربا أياه عن زمنه ليجعله خالدا .
- الوجه أيضا إحدى الحكايات.الوجه يربطنا دائما بحكاية صاحبه، حتى ولو كان مرسوما، فإن له صاحبا، سواء كان عائشاً أو ميتا فى مكان ما.الوجه يربط بين اللحظة وهذا الصاحب الغائب، الذى يطفو على سطح الذاكرة وسط مئات الوجوه التى عايشها الفنان .
- الوجه أيضا يذكرنا بوجوهنا، التى نسيناها عندما نتأملها، ونرى المفارقة بين وجه مرسوم ووجه حقيقى، إنها الرحلة فى عالم التشكيل، ومفارقة الفن. إننا لا نقترب من وجوهنا، أمام اللوحات، وإنما نقترب من أثر للوجه، لأنه أصبح ساحة للتشكيل، واللون ، والرمز، بديلا عن اللوحة. أصبح الوجه هو اللوحة، ولكن حدوده ليست مستطيلة صارمة كاللوحة،إنها تدور وتنثنى لتكشف عن مكان خبىء يستقى منه الفنان أشكاله .
- مهما تماست `الوجوه ` التى رسمها عادل السيوى مع وجوه نعرفها ، أو مع وجوه تاريخية، فهى ليست مضاهاه أو نسخا، وإنما توثيقا لتلك الوجوه التاريخية بما تحمله من دلاله فى تاريخ الإنسان . وبالتالى حفظ للذاكرة من النسيان.
- فى `نجوم عمرى ` يتضح هذا المنحى، فكل الوجوه التى رسمها عادل السيوى تنتمى لعالم الفن والسينما والغناء والكرة والفن التشكيلى. تلك العوالم الجماهيرية، التى تحتفظ بشحنات جماعية للعاطفة والتمثيل. هى الوجوه التى أشبعت مخيلتنا وذاكراتنا باللحظات المشحونة. وجوه لها حكايات، تتلخص فى لحظات السعادة والحزن التى أورثتنا إياها.إنها المكان العاطفى المشترك بين الفنان والناس، المرجع الثرى لفترات الخمسينيات والستينيات، التى نشأ فيهما الفنان وكون وعيه، وهى الفترات السياسية ذات الحكايات الكبيرة . فى لحظة يتخلى الفنان عن هذا الحلم الكبير للذاكرة ويستبدله بالفن، بالحكايات الصغيرة الذاكرة .
- الحكاية حكاية أشخاص، صور من الذاكرة، أو حنين الذاكرة . ولكن اللون وصياغته للوجوه، ولتلك الصور يتعارض مع هذا الحنين. الفن ليس له وضع الاستسلام مهما حركته العواطف والمشاعر الساخنة، ومهما كان ما حوله باردا، فمن ضمن أدواته أن يكون `جدليا ` و ` دافئا ` مثل أى فن كبير .فى لحظة ما، يتنازل الفنان، عبر مقايضة ضرورية، عن متخيلة، الرمزى،إلى رمز محدد، وصورة محددة، مقابل أن يغرب هذا الوجه، ليبعده عن الحنين .
- بالتأكيد التشكيل الآن صراع بين أدوات لرؤية الماضى أو إعادة انتاجه بصورة حديثة، لينشأ ما هو متناقض مع الحنين، وهى اللحظة الحديثة، الحكاية الحديثة لـ` نجوم عمرى `. وهو ما يفرق التشكيل عن الصورة الفوتوغرافية، التى تسقطك فى حنين لافكاك منه، أما اللعب على صور النجوم، فهو تطوير لهذا الحنين .أو بمعنى أصدق أنها قدرة وسيط اللون، والذى يعتمد عليه عادل بقوة، على تغيير الإحساس الأصلى بالأشياء، أو انسلاخها من الحس الأصلى، ودخولها لمناطق إحساس جديدة، لايوفرها إلا الفن بوصفه الوعد بأن نرى الأشياء بأشكال متعددة وخاصة ، مهما كانت معادة .
- ضخامة اللوحات، وعدم اكتمال عالمها، أو قلة مفرداتها كما فى مجموعة ` الأخر `، يشعرك بأن هذه الوجوه أو الأجسام تحن لأن ترجع لأصل ما موجود خارج اللوحة، ليس أصل الوجه أو الجسم الحقيقى الذى فارقته، ولكنه أصل موجود بالمخيلة أو الذاكرة فالمخيلة وحدها هى التى تضخم الأحجام بهذا الشكل. المخيلة أو الذاكرة الأسطورية للطفل. فى الطفولة بعد أن نودعها، تتداخل المخيله مع الذاكرة، وتتضخم الحجوم والتفاصيل، ويهرب الواقع أمام هذه القوة الجبارة للتذكر .إذن المكان البينى الجديد الذى يبحث عنه عادل السيوى هو أحد مفردات هذه الذاكرة الجماعية .
- أمام اللوحة تقف صغيرا، كفرد، أمام ذاكرة الجماعة، فى لحظة بريقها وتألقها.
- الجسم أحيانا يظهر كجدار متآكل، ترى طبقات زمنية ولونية تتخلله،أنه جسم عابر بأزمنة، وهذه الطبقات اللونية الداكنة، توحى، بجانب كونها حسا تشكيليا خاصا وله ذائقة خاصة، بما عبر به هذا الجسم من تحولات الجسم كمكان الأزمة، ومكان تداعى الرموز، كأنه محتوى يحفظ بداخله كل ما يخص تاريخ التشكيل، وقادر على استيعابه،إنه فى لوحات عادل السيوى .بجانب الوجه، يقوم مقام الإطار .الجسم والوجه هما الإطار، بما يحملانه من رمز لتاريخ الإنسان أو تاريخ الفرد فى مواجهه الجماعة، هذا العبء النفسى القديم، وهذا الانضغاط وهذا التحول، وهذا الخوف.الفرد هو أحد الأماكن المهمة لظهور تلك المشاعر الأصيلة.
- التحول من الإطار ، الموجود بالقوة ، إلى أن يصبح الجسم والوجه هما الإطار المجازى للوحة، هو تحول فى نوع السرد، سرد داخلى ، باطنى ، زمن مستعرض.وتحول أيضا فى نوع الحكاية، وفى مستقبلها وفى مرجعها. يتعامل الجسم والوجه مع الزمن بشكل آخر ، بشكل أكثر مادية ، عبر اللون ، وليس عبر الفراغ .الكل محشور داخل وحدة مكثفة .وكذلك النظرة تأتى من الداخل للخارج، عبر الاسترابة والعزلة والفضاء الذى يغلف الأجسام والوجوه.إنها حكاية فرد، فنان ، يحاول أن يتماسمع تلك الذاكرة الجماعية ، بما يحفظ له ولها استقلالهما، ومكان تداخلهما.ربما هذا يفضى إلى غنائية ما، ولكنها غنائية داكنة، مشحونة بالتساؤلات والحيرة واللعب والفرح أيضا.
- فى سلسلة `وجوه ` هناك حضور للوجه وللملامح الأنثوية، وكذلك كون أغلب الوجوه قرعاء، يمثل حضورا للأنثى المجردة الصافية، بلا أى علامة عليها سوى الخطوط الملساء والاستدارات.ربما ينسحب هذا التأويل أيضا على الأجسام فى مجموعة `الأخر `، لذا يمكن أن نرى الحكاية من زاوية عين الأنثى، هذا النزاع القديم بين الانفصال عنها، وبين تقديسها، وبين حداثتها كمادة للتحرر من سيطرة الذكر. وهى إحدى علامات التحرر الحديثة،التى غلفت الفن الحديث بشكل عام .
- داخل الجسم والوجه وما يحيط بهما، هناك نجوم ورسوم هندسية، وزهور ، وموتيفات شعبية، وزواحف، وأجسام صغيرة، وماركات لماكينات الخياطة، كلها تشكل فضاء لعالم آخر يسبح فيه هذا الجسم، الوجه .فضاء أسطورى، يعبر بأكثر من زمن.ربما هو فضاء الذاكرة. إنه زمن سحرى ،كما أن الحكاية سحرية .كما تسيح الأشكال خارج الإطار، إلى حجمها فوق الطبيعى، ترتد الحكاية لحكاية فوق طبيعية، حكاية جديدة بها تفاصيل الحياة ،وبها خيال الفنان، ليربط الأرض بالسماء، ليربط الأرض الحالية بأزمنة شاردة، قبل أن يحدث الانفصام النهائى بينهما .
- فى حكايات السيوى`نقف على عتبة أخرى للذاكرة .تنتقل الحكاية الشخصية، أو الحكاية الصغيرة من مكان لآخر، من فكرة لأخرة، من مكان مركب لمكان أكثر بساطة، من تعقيد السرد إلى أقصى درجة لوضوحه ومباشرته .
- الذاكرة هنا ليست كتلة واحدة،وليس لها زمن واحد، أو مرجع واحد، هناك سيحان غير منظم لهذه الذاكرة. ولكن فى المجمل هناك رغبة فى الإفصاح،فى تلمس قاع هذه الذاكرة بكل عيوبها وجمودها، وأيضا توهجها. فى قاع هذه الذاكرة نجد السرد يترجل وسط إضاءة خافتة .
- الحكاية الصغيرة ليست أحادية الأبعاد، أنها لها نفس مواصفات الحكاية الكبيرة باستثناءات من يقوم بحكيها.حكاية لها زوائد ومسارات منتهية، وأخرى مازالت مفتوحة .
- تتحول الأجسام إلى أيقونات خالدة وشعبية أحيانا، بدون خجل ، لأنه مكان الانحياز القديم للفنان.تكشف الذاكرة عيوب تركيبها، أو بمعنى آخر تكشف عاطفتها المعطلة منذ زمن ،لقد جاء الوقت لتصعد للسطح ببعض نماذجها المدفونة .بعد أن أخذت فى رحلة الطفو ثقل التجربة واللون عبر سنوات الإخفاء والتخفى.
- أيضا فى مركز اللوحة كان الوجه ،ثم جاء الجسم، ثم أتت الثنائيات، ولكن فى كل الأجوال ينظر الجميع فى عين الكاميرا ، أو المشاهد، أو الفنان، وهو فى وضعه المثالى ،لصورة ستعيش فى المستقبل. ينظرون المستقبل سيعيشون فيه بعد أن يختفى الفنان، لذا وجودهم له ثقل يتعدى اللحظة الحاضرة .
- انهم لا ينظرون لأحد، ولا يعنيهم أحد، إلا المستقبل،الذى سيفسر تلك القوة التى اكتسبوها، برغم ضعفهم وخجلهم وقلقهم البادى، ليكونوا أحد الشهداء الصامتين عليه .
- حتى ولو كان الجسم يقع فى المركز ،فليس له حضور الأيقونة، ربما لأن هذه الحكاية التى تحكى بدون خجل ،وفى حضور الثنائيات، كشاهد على حوار ما، وارت الجسم قليلا.كأن هناك سطحا شفافا من اللغة يتحرك فوق سطح اللوحة، ليكمل الحكاية. الحكاية هنا لها حضور مادى سواء كانت حكاية سياسية أو حكاية عائلية، أو حكاية أصدقاء، هناك وقائع غير مرئية وغير مكتوبة تتناثر على سطح اللوحة .
- ربما ما يؤكد هذا هو وجود بعض الأشخاص ومن ورائهم خلفيات لها حس هندسى مفصولة عنهم ،كأنهم انفصلوا عن عالم التشكيل بدرجة ليقولوا مالم يقله وجودهم فى لحظة اندماجهم فى هذا العالم،كأنهم يقفون على خشبة مسرح، ليتكلموا .
- أما الأجسام المتماهية مع الخلفية، فهى الحكاية المركبة للذاكرة، الحكاية ذات الأبعاد والثنايا، ولابد لها من أن تعيش داخل زمن متسق، لأنها أتت من منطقة الإيمان، فوضوحها سيكون مخلا بدون أن يصاحبها كل الرغبات والأحاسيس التى تولدت من الإيمان ، أو الحب القديم لفكرة أو لشخص، أو لجسد،أو لحلم، أو لطموح، أو لطبقة اجتماعية، أو غيرها من تلك الأشياء التى لم نلمسها، ولكننا أحسسنا بثقل ومرارة وفرح عبورها على قلوبنا .
طارق الطاهر
أخبار الأدب - 2010
يتحرر من اسر الذكريات والحنين ويخرج إلى الطبيعة
- يصور ويرسم البحر فى الشتاء ، وفلاحى ايطاليا ، بعد إن كان قد وقع فى المعرض السابق، أسير للذكريات والحنين لأزمنة تربطه بها وشائج حب وود، خرج إلى الطبيعة متدثرا بخيوط من ذهب وفضة تمتد فى الزمن اللانهائى ، فقد كشف المعرض الأخير للفنان عادل السيوى بقاعة أفق واحد ، عن تجاوزه مرحلة الحنين إلى الماضى القريب، التى انتابته ورسم وجوه رموز عالم الفن والسينما والغناء ، والفن التشكيلى ، والكورة ، فى معرضه الذى حمل أسم نجوم عمرى، جاء المعرض ككل وكأن السيوى أراد أن يسجل موقفا من الواقع ، لكن بدون تفاصيل ، متخليا عن المسحة الزخرفية التى اقتربت ببعض لوحات معرض ( نجوم عمرى ) لصالح معانى مطلقة ، ورؤى مدهشة ، وعلى الرغم من اتساع دائرة الموضوعات لتشمل أغلب مناخى الحياة ، الا أنه أنتزع الشخوص الشعبية التى رسمها من خلقيتها ومحيطها ، وواقعها ، لتظهر خلفية خالية تماما من أى دلالة درامية ، باستثناء اللون والذى فى بعض اللوحات على نحو لامع ، وكأنه يفضلهم عن الواقع فى مواجهة هواجسهم الوجودية ، أو أن الواقع الحالى يمثل عنده فراغا ، لايستحق التناول الصريح .
- فى الوقت الذى ركز فيه على الثنائيات ، فى حياتنا الاجتماعية ، والأقتصادية ، وحتى السياسية ، عندما قدم خميس وبقرى ، العاملان اللذان دافعا عن حقوق عمال مصنعهم ، بعد ثورة يوليو ، والأم والابن ، والراقصة والطبال ، فبدت أغلب هذه الثنائيات فى حالة اندماج ، تكاد أن تتلاصق .
ويحافظ السيوى على تقليد يقوم به فى كل معرض عندما يقدم لوحة من وحى أعمال الفنان عبد الهادى الجزار ( 1925 - 1966 ) وهنا يقدم حلاق أسمه عصام محروس كشخصية واقعية ، يقوم بقص شعر شخصية قارئ الطالع بطل أحدى لوحات الجزار الشهيرة ، وكان فى معرض سابق قدم رؤية لتناول شخصية الرجل الأخضر لوحة الجزار الأشهر ، والتى أقتناها رجل الأعمال نجيب ساويرس بمبلغ مليون جنية .
- اللون أحد الملامح المميزة فى المجموعة الجديدة ، لون يماثل لون التاريخ فى أذهاننا ، فيبدو وكأنه يجسد طبقات التاريخ المتراكمة ، ليست بكثافة الطبقات اللونية عند الفنان سيد عبد الرسول ( 1917 - 1999 ) ، لكنه لون يحمل رهافة الرومانسية المعبرة عن شجن ، وحوار دائم بين الشخصيات والمحيط فى تفاعل حميم - وعلى نحو جرئ استخدم اللون الأسود .
عرفت الحياة الفنية عادل السيوى ، بعد أن ترك الطب ، وتفرغ لعالم الألوان ، فى رحلة تعتمد قدراته الذاتية ، بعيدا عن المؤسسات .
- يعد أبداع السيوى معادلا موضوعيا للحظة المركبة والتقاطع القسرى مع قضايا الواقع الراهن سواء فنيا أو سياسيا أو أقتصاديا ، فلم يبتعد كثيرا عن الذائقة الجماعية ، منتخبا أسلوب يوازن بين طرفى المعادلة ، سواء بإصراره على عمق التجربة الإبداعية ، أو حرصه على إحساس الناس بها ، واللقاء معهم فى مساحات للود والتعارف فنراه يجمع بين التشخيص والتجريد والرمزية ، على نحو يفك شفرة التلقى والتجاوب مع فن متهم دائما أنه فن نخبوى .
- طرح السيوى مع مجموعة من فنانى جيل الثمينات واقعا بديلا فى الحياة الثقافية واقعا ظل يتنامى على مدار حركة التشكيل المصرى المعاصر يظهر أحيان ويختفى ويتقاطع مع مسارات أحيان أخرى ، وهو الاستقلال الفنى سواء من حيث حرية رؤى الفنان أو موقفه السياسى ، أو تجاوزة الاعتماد على المؤسسة الرسمية فيما تمنحه من هبات وعطايا ، وأتخذ فى بعض الأحيان موقفا رافضا لممارسات وتوجهات المؤسسة الفنية ، التى ظلت متمسكة بدور أحادى رغم تبدل وتغير المعطيات والظروف والمناخات وأيضا التوجهات السياسية ، فى الوقت التى تنامت فيه دور القاعات الخاصة سواء من حيث الكم أو الكيف ، بل طرحت بديلا للقاعات الرسمية يمكن الوثوق فى أدائه ونتائجه .
- كما جمع السيوى بين الإبداع التشكيلى والإسهام بالكلمة فى مجال دعم الحياة الفنية بالترجمات والكتابات والمطبوعات التى شارك فيها .
سيد هويدى
مجلة الخيال - مايو 2010
` بهجة ` تحية كاريوكا
رسمها مرتين ، مرة فى معرض نجوم عمرى ( 2006 ) ومرة فى معرض حكايات ( 2010 ) لكنه فى كل مرة ، لم يقترب منها فى لحظة الرقص ، لم يرسمها ترقص ، لم يرسم حتى جسدها ، اكتفى عادل السيوى بالوجة الضحوك ، بعيدا عن النجومية والاغواء ، كان يقصد بالتأكيد كسر الهالة ، وكسر التوقع والخروج من صورتها الثابتة كراقصة ، ربما الخروج من جاذبية الشخصية العامة والتى دفعت قائمة طويلة من الكتاب والفنانين للهيام بها من ` سلامة موسى ` الى ` محمد عبد الوهاب ` ومن ` مصطفى أمين ` الى جلال أمين ` ( أنها تستطيع أن تعطيك كل مالديها من فن ، فى مساحة لا تزيد عن متر واحد ) هكذا رأها عبد الوهاب ، بينما كانت الشخصية الأكثر تاثيرا فى حياة المفكر الفلسطينى ` ادوارد سعيد ` .
لكن عادل السيوى يقدم حكاية أخرى عن تحية كاريوكا ، حكاية غير متداولة ، وغير معروفة ، حكاية تخصة وحده ، تخص مشاعره وزمنه الشخصى هكذا يكتفى بالوجه الضحوك ( فى اطلالة الوجه حركة الروح ... أن الوجه هو الكائن بأكمله ) ولعل رغبة السيوى فى صياغة معرض كامل ( للبهجة ) أو لنجوم عمره من الفنانين الذين أحدثوا تأثيرا مبهجا فى حياته ، هو ما دفعه الى تحديد هدفه من الوجوه التى يرسمها ... تحية كاريوكا إحدى مفردات البهجة فى عالم السيوى ، لا يهم صورتها كراقصة لا يهم جسدها ، ولا الغواية والإغواء ، ولا أى صورة ثابته فى الاذهان .. مايهم هو البهجة التى ملأت حياته .
عبلة الروينى
جريدة الأخبار 29- 9 -2014
كائنات عادل السيوى السحرية
لم أتخيل أن ما درجنا على تسميته ` الحيوانات ` سيكون ضيف الشرف المهيمن على لقائنا بعد سنوات لم يرفيها أحدنا الآخر ، برغم أن كلا منا لم ينقطع وجدانيا عن استحضار صاحبه كلما تردد الاسم فى إبهاء الذاكرة ، أو فى الواقع الثقافى المصرى الذى نتحرك فيه . وهذا ما تيقنت من وجوده لدى عادل فى الدقائق الأولى من اللقاء ، بقدر ماكنت متيقنا من وجوده لدى . كان هناك منطق ما فى أن أحمل له نسخة من كتابى ` حيوانات أيامنا ` لكن هذا المنطق لا يمكنه تفسير متوالية الاكتشافات فى جديد عادل السيوى ، الحياتية والفنية ، التى لم أكن أعرف شيئا عنها ، والتى جعلت للحيوانات هذا الحضور المهيمن علينا فى ذلك المساء . اخترت أن أهدية نسخة من كتابى ` حيوانات أيامنا ` ليس لانه بنصوصه يستلهم وجود هذه الكائنات ككاشف عن تراجيديا الصراع البشرى فى عصرنا ، كما أحسب ، ولكن لأنه كتاب مُدجَّج برسوم عالية للفنان الكبير محمد حجى ، فهو كتاب فى الفن التشكيلى . إضافة لنصوصه الأدبية ، ويليق إهداؤه لفنان تشكيلى ومثقف حقيقى . ولم تكون هذه البادرة هى نقطة البداية التى استتبعت جذب نقاط أخرى تتعلق بالحيوانات فى عالمه ، صنعت قوسا صار دائرة مفعمة بوجود ورسوم سيرة ` الحيوانات ` لأن النقاط التى توالى ظهورها فى أثر نقطة البداية ، كانت موجودة أصلا فى عالم الصديق الفنان دون أن أعلم عنها شيئا ، وهو ما جعلنى مدهوشا بعد تلك الزيارة ، وأستدعى فى نفسى تلك العبارة من المأثور الصينى القديم التى تقول عن الخوارق ، أو الأعاجيب ، أو الصُدَف ` إنها ليست معجزات بل قوانين لم تكتشف ` .
كان دافع الزيارة بعيدا تماما عن ` ثيمة ` الحيوانات ، ويتعلق برغبتى فى تزيين نص أدبى لى حول مطربة وجداننا ووجدان أهلنا ، وأبنائنا وأحفادنا عندما يتذوقون لوعة الحب وعسله المخطوف ، وسيتذوقونه ، أم كلثوم ، ولأننى درجت فى الفترة الأخيرة على الاهتمام بنشر ما أكتبه من أدب فى الصحافة ، وضمن هذا الاهتمام تجميل النص الأدبى ببعد بصرى من رسوم عالمية أو محلية عالية تتناغم مع النص ، ولا تتهور بكشفٍ مُبكر لمحتواه وهذا ماينزلق إليه معظم رسامى الصحًف رحت أبحث عبر الانترنت عن لوحات أبدعها فنانون تشكيليون عرب أو أجانب ، عن هذه الفلاحة معجزة الشدو ، وكليَّة الأنوثة ، فى رأيى. كنت أعرف ثلاثة من فنانينا الكبار الذين أنجزوا لوحات بديعة تحلق مع طفو نجمة حبنا الملوَّع مخطوف الحلاوة . مكثت طويلا أتامل اللوحات لأختار منها ما يتناغم مع ما كتبته ، وبرغم أن الأعمال كلها كانت رائعة ، إلا أن يقينى استقر على إحدى لوحات عادل السيوى ، وكان طبيعيا أن استأذنه فى السماح لى بنشر اللوحة مع السردية التى كتبتها ، فأم كلثومه كانت مرسومة بشفافية ورهافة رأيت أنها القراءة التشكيلية الأبعد غورا ، والأعذب جرأة ، لحقيقة هذه الأنثى المصرية الخالصة ، فلاحة الملامح الريانة وقوية الجسد الريفى الموروث عن الشقاء التاريخى للفلاحات فى قرانا المصرية ، والتى استصفاها شدوها المُعجز ، فخفَّت ورفت وشفَّت فى أرهف حنايا صدوَرنا ، كما فى بورتريه عادل السيوى لها ، فقد كانت أم كلثومه مرسومة بحب شفيف للغاية بتقنية تُشعر المتأمل لها وكأنها تتراءى من وراء غلالة بالغة الرهافة ، أنثى طليلَّة النعومة وطاغية الأنوثة فى آن . طفيف نافذ الحضور ، بعيد وقريب معا ، حلم واقعى ، أغنية .
غاب عادل عن القاهرة وعرفت حينها أنه هجر الطب بحسم لا صخب فيه .. وسافر الى إيطاليا قبلة الفنانين الكبار من كل الدنيا
لم أكن التقيت بعادل منذ سنوات ، برغم أنه ظل حاضرا داخلى بأقوى من حضور كثيرين ألتقيهم بوفرة ، هاتفته ظهرا ، واتفقنا بسعادة مشتركة أن نلتقى فى مرسمه بوسط البلد فى السابعة مساء . وفى نحو السابعة كنت أشق طريقى الى مرسمه فى إحدى البنايات العتيقة البديعة فى شارع هدى شعراوى ، وبدا لى أن ` المشوار ` كله جميل جمالا استثنائيا بشكل غامض ، فوسط البلد كان فى ذلك المساء يبدو وكأنه نفض عن نفسه ضوضاء وغبار وعوادم زحام السيارات والبشر ، واستبدل وهج الشمس الحارقة وسطوعها القاسى بنسائم عذبة تتماوج عبر فضاءات التصميم الأريب للشوارع العتيقة . بدت لى الأضواء أنيقة الالتماع ، وبدا البشر وكأنهم غير بشر النهار ، لا احتقان فى وجوههم ولا توفُّز فى حركتهم ، سواء كانوا مسرعين أومبطئين .
جعلنى المشى بانتعاش فى هذا المدى المسائى الأنيس بوسط البلد ، قلب القاهرة الخدوية التاريخى ، أتذكر أن من لفتنى إلى جماليات المدينة التى يتجلّى لى بعضها فى هذا المساء ، هو عادل السيوى نفسه ، فى نصوص موجزة علَّق بها على لوحات عن المدينة ، فقادنى إلى رؤية الجميل والحيوى فى قلب الاحتشاد والصخب ، آمن روعى شبه الريفى من التوحش الافتراضى للمدينة . وعادل السيوى عرفته قبل أن أراه ، من خلال رسومه ولوحاته فى مطبوعات مختلفة ، ومن خلال عدد ممن زاملتهم طبيبا نفسيا فى مستشفى العباسية ، حدثونى جميعا عن عادل السيوى الفنان التشكيلى وخريج طب القاهرة المتفوق ، الذى اختار التخصصى فى الطب النفسى الذى كان يُعَّد فرعا رجيما حينها ، خاصة وأن تفوقه كان يضمن له التخصيص فى أحد الفروع المرموقة اجتماعيا حينها ، كأمراض القلب ، أو جراحة المخ والأعصاب ، وقد كان ذلك استثناء نادرا يدل على شئ ما عميق الصدق الروحى ، والاستقلال النفسى ، واحترام الذات حرة الاختيار ، وعدم الخضوع للسائد .
أيامها فكرت قبل أن ألتقيه ، أن شخصية كهذه لابد أن تكون ` جبارة ` و ` عنيدة ` وتصورته قبل أن أراه فارعا متين البنية ، صلب الملامح بشكل ما ، لكن لقاءنا الشخصى بعد ذلك قدم لى روحا ذا رفيف أنيق وخلاب ، فى كيان دقيق ورقيق ، متمرد فى رسومه على الأنماط السائدة دون زعيق ، ومثقف حقيقى يغوص أعمق فيما يقرأ أو يُشاهد أو يسمع ، ويخرج بنفائس تمثل الجوهر فيما يرتاد من أعماق . أدين له بتغيير احساسى بالمدينة ، كما أسلفت ، فأحالنى ، وأحال غيرى كثيرين بالتأكيد ، لفضيلة التأمل فى حياة المدينة ، ناسها ، وبناياتها ، وشوارعها ، جعلنى وجعل غيرى ، نأنس الى الجمال العفى فى زخم حياة المدينة ، والإنسانية عميقة الغوص فى حركة كائناتها ، وتلك الظلال الفوارة بالخفقان الخفى فى الشوارع والزوايا والمقاهى . ثم اختفى عادل غاب عن القاهرة ، وغبت أنا الآخر ، وعرفت حينها أنه هجر الطب بحسم لا صخب فيه ، وسافر إلى إيطاليا قبلة الفنانين الكبار فى كل الدنيا ، الذين ينهلون من تراثها الكلاسيكي ويتمردون عليه فى الوقت نفسه ، فيعبِّرون عن خصوصياتهم بمتانة تقنية وتألق جمالى متفرد . كنت أطَّلع على منجزه الفنى والثقافى ، فأستعيد عبارة لأحد الروائيين العالميين الكبار قال فيها عن أحد شخصياته التى ذات التغيُّر العاصف ` كان متفوقا فى الدراسة ذلك التفوق الذى لاينطفىء بريقه أبدا ` ، وهو هنا التفوق العقلى للمبدع . قرأت ترجمات لعادل فى مجال الفن التشكيلى تتسم بالجمال والقدرة على النفاذ ، وترجمة الأعمال الكاملة لأونجارتى ، وأدهشتنى مؤخرا ترجمته الصافية لكتاب فى الثقافة العلمية هو ` أجمل نظرية ` للفيزيائى الإيطالى الكبير ` كارلو وفللى ` وكانت من أجمل الترجمات لكتاب جميل بالفعل وشديد الثراء برغم إيجازه . إنه عقل ` المتفوق دراسيا ` . واختراقات الفنان !
وهأنذا أدلف إلى مدخل البناية العتيقة التى يقع مرسمة فى طابقها الرابع . درج من حجر أشهب وسَمَته أقدام أجيال من الصاعدين عبر عشرات السنين بنحت أملس ولامع فى الدرج المُعتَّق ، بين الجدارات الراسخة القديمة متآكلة الطلاء ودرابزين الحديد المشغول بروقان وذمة أزمنة تناءت ، وها هى غرفة الاسانسير ، برغم أثقال السنين والترميم الركيك الذى يحمل طابع آخر الزمان ، تظل تحفة من الخشب الثمين والبلور الصافى والمقابض النحاسية التى لم تذهب بأناقتها دُكنة الأكسدة ، وهى لا تزال تعمل ، تعمل حقا ، وتحملنى صاعدة كأنها ترتفع من عمق قرن مضى الى سماء الليل ، على مهل إلى أعلى ، إلى أعلى ، وها هو : ` عادل السيوى ` أقرأها على الباب ، وأضغط الجرس فأسمع صوته المضياف وطيفه قادما وراء الزجاج المصنفر لشراعتى الباب العتيق ، نسلم ونتعانق هاتفين ` والله زمان ` ` آه والله زمان ` وإذ على بلاط الردهة الإيطالى الذى قارب عمره المائة عام ، دون أن تبهت أو تتخدش رسومة البديعة ، وبين أقدامنا : فقط !
بداية حيَّة لوجود تلك الكائنات فى لقائنا ويعرفنى عادل بالمتطلع الصامت الىَّ من اسفل ، بعينين مدورتين غامضتى وسابحتى النظرة : ` ميرو ` سمعتها لأول مرة وهلة ` ميدو ` ثم انتبهت إلى ` ميرو ` عندما جلست فى أحد الفوتيهات العائد طرازها الى زمن أليف مضى ، ووجدت القط يقعد على الارض بقربى ، رافعا وجهه ومحدقا فىّ بإمعان فانتبهت الى شىء غير عادى فى عينيه ، كانت الحدقتان متوسعتين للغاية ، وكأنما بتأثير قطرة أتروبين مما يستعملها أطباء العيون لتوسيع حدقات مرضاهم ، أخبرت عادل بملاحظتى ، فأجابنى : ` خايف `! ولماذا الخوف ؟ سألت متوجسا أن يكون القط بحواس ` الحيوان الاستثنائية قد أكتشف فى شيئا يخيف . وطمأننى عادل أن الأمر معى أبعد مايكون عن ذلك ، فهذه أدنى حالات خوف ` ميرو ` من الناس ، وهى أقرب إلى الريبة والرغبة فى الاكتشاف لا أكثر، فثمة زوار يشتبك معهم ، يخمشهم بأظافرة ويهاجمهم بتوتر ، لكن خوفه التاريخى أوقفه أمامى فى موقف المستكشف . اطمأننت إلى كونى لم أصل الى موقع الشرير فى حدس هذا الكائن من فبيلة الكائنات التى لاتتملق ولا تكذب فى تعبيرها عما تحس به . ثم طمأنتنى أكثر القصة التى تقف وراء خوفه التاريخى ، فطمأنتى على حدسى بشأن صديقى ، بشأن الإنسان فى الفنان ...
بعد ثلاث ساعات من بدء لقائنا ذاك ، ظننت أن الوقت شارف على الانتهاء فأخرجت نسخة ` حيوانات أيامنا ` التى كتبت عليها إهداء وقدمتها لعادل ، فإذ به يهتف بسعادة ` آاااه ` وتناول الكتاب وراح يتأمل رسوم الكبير محمد حجى على الغلافين الأمامى والخلفى ولسانى الغلاف وداخل صفحات الكتاب ، وقد سرنى بالطبع احتفاء عادل بالكتاب لكن الذى سرنى أكثر هو هذه الروح الاستثنائية لفنان نادر الوجدان ، فقد كان يتأمل رسوم الكتاب معبرا عن إكباره للفنان واحتفاله بالرسوم ، وهذه الروح هى التى سألاحظها بافتتان فيما بعد ، وتحيلنى الى الافتتان بسلوك الفنان الصديق ، الذى هو سلوك فنى وليس أخلاقيا فقط ، فما من مرة كان يُذكر فيها أسم فنان أو استذكار لوحة ، إلا وعبَّر السيوى عن اعجابه بشىء جميل فيها ، كأنه يرى الجمال فقط فى كل ما ينظر إليه ويَعرض بجمال عما عداه . تصفح الكتاب بتمهل ومحَبة ، ثم طواه بامتنان أسرنى ، ثم فاتحنى وكأنه يريد أن يُفضى بسر ` عايزك تشوف آخر شغل لى ` ، ونهضنا يقودنى هو عبر غرفة وسيطة بها كمبيوتر وصور للوالد والأسرة على الجدار ، المكان كما غرفة الاستقبال نظيف للغاية برغم القدَم ، ومرتب ترتيب غرفة طبيب متفوق قديم ، ثَم كانت غرفة الرسم وعشرات اللوحات مرصوصة بحرص على الجدار ، لوحات كبيرة المقاس ، أخبرنى عادل أنه اختار مقاسها مُتناسبا مع الارتفاع والمدى اللذين تستطيع يده أن تَصل إليهما بارتياح ، وراح الحضور الغامر لكائنات عادل السيوى السحرية ينهمر ، فانهمر لم أستطع مساعدته فى استخراج اللوحات من مكامنها دقيقة الترتيب لأننى بالفعل كنت مسحورا ، سحرا أحس باختطافه لى دون أن أدرك له تفسيرا ، ودون أن أحاول تفسيره . ارتبكت واربكت عادل وأنا أحاول معاونته فى استخراج اللوحات الضخمة من مرابضها المرتبة ، فبعد مشاهدتى لأول لوحة والتى سيتبين أنها واحدة من ` سباعية ` لكائن برأس ذكر ماعز وجسد بشرى شديد الأناقة فى ثيابة ، أناقة فخمة بلا بهرجة ، عتيقة الطراز بلمسة حداثة لا صخب فيها ، وبألوان فرحة فرحا دمثا لا صياح فيه ولا تقافز ، احسست أننى حيال قطع فنية ثمينة ، ثمينة جدا ، ومن ثم خفت أن يصيبها ارتباكى بأى خدش ، وقد أدرك عادل هذا الارتباك ، فقال لى بود صادق ` لا لا خليك أنت ` . وراح وحده يخرج اللوحات الكبيرة فى شاسيهاتها الضخمة ، والتى هى ثقيلة بالتأكيد ، ثقلا ينوء بها جسد رجل فى مثل عمرينا المتقاربين ، لككنه كان يفعل ذلك بهدوء ، ودون عنت . وهنا وجدت قول بيكاسو عن الطفل فى الفنان ومعجزة الاحتفاظ به مع التقدم فى العمر تتجسد أمامى . فعادل الذى تجاوز الستين مثلى ، وبرغم أنه يصغرنى بسنتين ، إلا أن الشيب غزا شعر رأسه وحاجبيه بغزارة ، مما يعطيه سمت حكيم هندى يكلل الشيب وقاره ، لكنه ما ان يتحرك أو يحكى حتى يشع بحيوية فتى رائق النضارة ، وهو حكاء جميل ، يرسل سردا واضحا بالغ العذوية ، ودقيقا فى معلوماته التى تعكس ثقافة رحبة ومتشبعة دروب المعرفة فيها ، ومنها ما يتعلق بلوحاته عن هذه ` الكائنات ` التى سحرتنى : الخلفية التاريخية لعلاقة الإنسان بما نسميه ` الحيون ` وما يقف وراءها من ` طريقة الرؤية ` ومحاولة توصيف ` النظرة ` المتبادلة بين هذين ` الزميلين ` فى الحياة على هذه الأرض ، وعادل هو الذى دلنى على أهمية ` جون بارجار ` فى هذا السياق ، خاصة كتابه ` لماذا نحدق فى الحيوانات ` وهل هناك سحر ، وانسحار ، وسحرية . كما فى نظرة الأطفال إلى الحيوانات ؟
طلبت من عادل أن يضع لى صور اللوحات على فلاشة كبيرة السعة لم تكن متاحة ليلتها لأتاملها طويلا وحدى ، محاولا استجلاء سر انسحارى المفتون بها ، خاصة وأنا مولع ليس فقط بموضوع تلك الكائنات التى درجنا على تسميتها ` حيوانات ` ولكن لأننى جوال دؤوب فى دروب رسومها ، وأقتنى نسخا رقمية من إبداعات فنانين عالميين قدامى ومُحدثين لها ، تحسبا لاحتمال أن أستعين بها فى تجميل ما أكتبه عن هذه الكائنات عند النشر فى الصحافة ، هذه الكائنات التى بت أنفر بل أتوتر ، من تسميتها ` حيوانات ` بعد أن ابتذل البشر معانى هذه التسمية وما يتوارى خلفها من نرجسية بشرية وسادية تابعة لهذه النرجسية ، وحماقة طغيانية على ` رفاق الحياة ` ، تلك الكائنات التى كانت ` أول المؤنسات ` لوحدة الإنسان الأول فى فجر حياته على الأرض و` أول الرموز ` فى قراءته للوجود من حوله ، وأول ` الوعود والرسائل والتحذيرات النبوئية ` و` أول ود بلا شروط ` من كائنات أنست إليه وإنس إليها ، واستأنسها ، و` أول نوع من التواصل دون كلمات ` وهذه الأوليات كلها هى أصداء قراءتى لجون بيرجر ناقد الفن وفيلسوفه الرائع . لكننى ، برغم علو وسطوح رؤية جون بيرجر ، فضلت ان أترك نفسى مع لوحات عادل السيوى عن هذه الكائنات السحرية ، محاولا استكاه سر سحريتها ، بالحس قبل وبعد أى شىء آخر .
رحب عادل السيوى بطلبى صور اللوحات ، وقد فرحت بترحيبه ، فهذا يعكس استئمانا لصديق على مُنجزه الذى لم يخرج من مرسمه بعد ، فأن تكون صورا عالية الوضوح للوحات لم تخرج من مرسم الفنان بحوزة أىٍّ من يكون ، هى مغامرة خطرة ، من هنا كان فرحى ليس فقط بتحقيق رغبتى ، ولكن فى عمق هذا الفرح ، بفنان لم يحتفظ فقط بالطفل المبدع فى داخله ، لكنه أيضا احتفظ ببراءة الطفل فى النظر الى أصحابه .
ما من فنان كبير إلا وداخله إنسان كبير ، هذا يقين لدى مما تابعته من سير ومعرفة فنانين كبار هنا وهناك ، وعادل السيوى هو أحد فنانينا الذين دُشِّنوا فى عمر صغير نسبيا ، فنانا كبيرا بمقاييس عالمية إذ اقتنت لوحات شهيرة له متاحف عالمية كالمتحف البريطانى ، ومتحف ` جوجناهيم ` العالمى الذى أسعدنى كثيرا أنه اقتنى لوحة ` أم كلثوم ` بالذات ، وكذلك متحف الفن العربى الحديث بباريس ، وهناك الكثير من لوحاته حاضرة فى أنحاء عديدة من العالم ، بكرامة وجدارة ، أما قصة القط ، فهى من واقع يكاد يكون فنيا لا يُلقى مراسيه إلا فى مرفا إنسان كبير ، فميرو ، الذى أسماه عادل تكريما ، وأكرر تكريما ، التى سيتأكد معناها فيما بعد ، للفنان ` ميرو ` شاعر التجريدين فى لوحاته ذات النثار الخلاب من الأشكال التى تبدو هندسية للوهلة الأولى ثم بالإمعان يتكَّشف الشعر فى تكوينها وفى تشكيل اللوحة . وميرو القط شاعر أيضا ، لكنه شاعر تم استنقاذه من الضلال فى الشوارع ، فهو فى الأصل قط شوارع ، جاءت به سيدة كرست نفسها لإنقاذ مثله من الكائنات الموهوبة المُهانة ، ثم بعد تنظيفها واستخراج القدر الكافى من التهذيب داخلها ، تُسلِّمها لمن تأتمنه على مواصلة إخراج من مهانة الماضى ، واستخراج مواهبها . وكان عادل السيوى من استأمنته على هذا القط ، وهو كما شاعر حقيقى مسكون بالقلق وبالغ الحساسية للمتغيرات ، ويحمل بين جوانحه ذكريات آلام شديدة مديدة ، الذعر من سيارة تدهسه ، أحدهم يرفسه ، كلب يطارده ، قط آخر ينهشه ، ذكريات خوف وألم وجوع لم تخفت داخله ، وإن راح واقعه الجديد يهبه من يحاول محوها ، إنسان فنان ، أو فنان إنسان ، وقد تيقنت فى زيارة تالية ،أن الفنان كان جديرا بالتقاط همسات القلق ونبسات حساسية القط المفرطة وبتلك البداية فى ذلك المساء ، خطا بنا ميرو القط ، خطوة حية ، إلى عالم الحيوانات .
رحب عادل السيوى بإهداء بورتريه أم كلثوم للسردية التى كتبتها مستلهما طيفها السارى واستخراج من ذاكرة حاسوبه صورة عالية الوضوح لأنقلها على فلاشة حملتها معى ، بل سمح لى بنقل صور للوحات أخرى أبديت افتتانى بها من مجموعته التى ينتمى لها بورتريه أم كلثوم ، صار بإمكانى أن أميز أعماله دون أن أرى توقيعه ، خاصة فى تلك اللوحات الكبيرة التى تعكس نوستالجيا المسافر ، صور نجوم زماننا ، وحياة المصريين فى أيامنا ، ولكن بتقنية موهوب ودؤوب كبير ، تقنية تعكس ترجمة إحساس الفنان الداخلى وثقافته الواسعة ودربته المثابرة . لا أدعى أننى ملم بنقد اللوحات ، لكننى أزعم بقوة إحساسى بها ، وبتعبير أدبى أعبر عن انفعالاتى بلوحات عادل السيوى فى ` نجوم عمرى ` فأقول : إنها أيقوانات جدارية بألوان وخطوط فنان كبير وروح طفل . وهذا يذكرنى بقول بيكاسو ` كل طفل هو فنان ، والمشكلة كيف يظل الانسان فنانا حين يكبر ، وكان طفل عادل السيوى الفنان جليا فى أيقوناته الجدارية ، بذلك الاختزال للخطوط المحدِّدة لشخوص اللوحة وتخفيف انصباب النور وارتماء الظل فى إظهار الملامح ، واستخدام تلك الألوان البعيدة عن زعيق أو جهر الألوان الأساسية ، فهو يخلطها كأنما باللون الأشهب للحجر الجيرى المتقادم فى أبنيتنا العتيقة . ومزيج البنى والبرتقالى المتخافت لورق شجر الخريف والأخضر الداكن الخفيف فى ورق الشجر المعمر دائم الخضرة فى بيئتنا ، خاصة أوراق المانجو المكسوة بالنعومة الصبور لغبار عشرات السنين فى حدائق البيوت القديمة ، والحدائق مئوية الأعمار ، كل هذا الإحساس بالقدم كان ينعكس فى خليط ألوان السيوى فى مجموعة ` نجوم عمرى ` فلا يجعلها كابية ، بل مشرقة الدفء إشراقا كأنه يعبر عن خجله من إظهار حنينه الحار لزمن مضى ورموز ذلك الزمن ، فيضع أمام المشهد غلالة تهذب صراخ ما يخفيه داخله من حرارة الحنين ، فلا تبرد هذه الحرارة ، بل تشبع فينا مزيدا من دفء الروح ، تنادى زمنا جميلا من أعمال جيلنا ، وتستعيد لنا حضور مخلوقات جمالية من ذلك الزمن . وقد كانت لوحة أم كلثوم التى فتنتنى ضمن هذه المرحلة التى أتذكرها بقوة ، وأشعر بالزهور كصديق للفنان لرؤية بعض لوحاتها ، على جدران مرموقة أفسحت لها صدرها فى أبهاء مهمة . وهذه مرحلة لم أكن أعرف أن عادل السيوى سيغادرها ، وسيبوح لى بسر مغادرتها هذه الليلة ، لأكتشف أنها ليست مغادرة فراق ، بل مغادرة لقاء ، مع تقنية جديدة ، ومواضيع جديدة لروح تتجدد ، وتسحرنى .
لكن الصور لم تكن جاهزة لأحملها معى فى هذه الزيارة إضافة لضآلة ما تستطيع حمله الفلاشة التى كانت معى ، بينما كان عادل على وشك سَفرة تمتد لخمسين يوما إلى البرتغال ، ليتنفس نضارة هواء المحيط فى هذا البلد الوداع على الشاطىء الشرقى للأطلسى ، بعد نشوة العناء أو عناء النشوة فى إنجاز هذه المنظومة من لوحات معرضه عن تلك الكائنات . فما الحل ؟
كان الحل عند ` بيجو ` وبيجو هو تدليل لاسم بيشوى ، أحد أخلص تلاميذ الفنان الكبير الشبان ، مَثال واعد نذر مساحة عرضة من نفسه الطيبة ليكون فيها قريبا من عادل السيوى ، معاونا ومساعدا ومشاركا ، تلك الشراكة التى تدل على وضاءة العلاقة بين فنان كبير وفنان شاب فى سمو الفن . وتسامى الإنسانية ، فكانت الرعاية الإنسانية الفائقة لتلك ` الكائنات ` فى تكوينات تشكيلية بديعة ، على فضاءات رحيبة من قماش التوال الذى ساعد بيشوى المثال الرسام فى شده على براويز الخشب الفسيحة . أحضر لى بيشو نسخا عالية الوضوح على فلاشة للوحات المعرض أوصاه عادل بإيصاله ، وكان يحمل ` لاب توب ` عرفت أن الصور نفسها فى ذاكرته . عندها طلبت منه أن نتأمل معا عدد من صور اللوحات ليحكى لى عن ملابسات إبداعها كحاضر دائم بصحبة الفنان . ولكم وددت لو سجلت تعليقات بيجو أو بيشوى على صور اللوحات التى نستعرضها على شاشة الكمبيوتر ، لقد كانت جزءا حميما من روحه تكونت وهو يتشرب تجليات الفنان الكبير أمامه يوما بعد يوم ، وبالإضافة للتكوين الفنى والثقافى السابق على صحبته لعادل السيوى ، كان بيشو أو بيشوى مما وضح لى فى تعليقاته العاشقة والمتوحدة مع الرسوم ، يقدم أمثولة تُجسِّد كيف أن العلاقة بينهما ، تُشَّكل نوعا من الجامعة الإبداعية لتخريج فنانى المستقبل . شكرت بيشوى وشكرت الله لوجود حالة مثل عادل السيوى فى حياتى الثقافية ، وحياتى الشخصية الداخلية أكثر من الخارجية بشكل ما . وهرعت بالمعرض الذى حملته كله على فلاشة تسعه إلى شاشة حاسوبى ، متشوقا إلى استعادة ذلك السحر الذى مسنى حين رأيت اللوحات لأول مرة ، ومتحيرا أتساءل : من أى الأسرار ينبع ؟
لست ناقد فنيا ، أوكد ، بل أكثر من ذلك ، وبعد مطالعتى المتكررة للوحات ، لم أود أبدا أن أكون ناقدا أو أفتش بعين نقدية فى اللوحات ، فقط كنت أترك نفسى ليغمرنى ذلك السحر . ما السحر ؟ أعتقد أنه شعور بانخطاف جمالى ، بتحيُّر لذيذ ، بإكبار منذهل ، بكل هذا وبغير هذا مما أحسه ولا أعرف كيف أسميه ، إحساسا ما يهديك الغبطة ، وجدت ذلك فى اللوحات ، وأذكر منها وأتذكر على وجه الخصوص ، مجموعة الكائن ذكر الماعز المتأنق مع حبيبته وابنه الذى يشبهه ، ولوحة إبراهيم أصلان الذى يحط طائر البلشون على أصبعه المرهف بخفة الروح بالغة العذوبة للفنان كما الطائر ، والقرد الصغير الذى يقلب الكرة الأرضية بين يديه معتليا أجمة خضراء تحت ثريا تتدلى من زرقة العالم الدمثة ، القط أمام الجرامفون وسط هيولى من طيران زخرفى حولهما ، والرجل الأخضر متين الغموض فى مواجهة حضور الغزالة الحلو ، والضبع الهائم منفردا فى صحراء من رمل ذهبى أبيض . لوحات عصية على التوصيف اللغوى لكنها مشعة بالسحر .
شعور بالسحر لا أحب تعسُّف العقل الواعى أو ` الواعية ` فى فض أسراره ، لان سحريته تكمن فى نفاذها المباشر الى ` الخافية ` أو اللاوعى ، خاصة وهذه اللوحات عن هذه الكائنات عند عادل السيوى ، أوقن أنها مدينة فى إبداعها أكثر ماتكون إلى حس ` الخافية ` الى ذلك ` الإحساس ` الغامضَ بالوجود والموجودات والكائنات دون تحديد فج من العقل الواعى ، ففيها مظهران واضحان يشيران الى ذلك السحر النابع من الخافية ، أولهما الطفل الفنان داخل المبدع ، وثانيهما مشهدية الأحلام ، خاصة الأحلام الملونة ، وبالأخص ` الأحلام الرائقة الملونة ` أى تلك الأحلام التى تأتينا ملونة ، ونكون ونحن نعيشها مدركين فى الحلم إدراكا غامضا بأننا نحلم ، وأعتقد أن الفن المدهش كله ينبع من هذه المنطقة التى يبرع فيه الفنان حال دخوله لحظة الإبداع ، بالنزول من سطوح الوعى الى أعماق اللاوعى ، من الواقع إلى الحلم فالحلم داخل الحلم . وقد خطر لى ذلك وأنا ` أحس ` بفارق واضح بين لوحات عادل السيوى عما يسمى ` الحيوانات ` وبين اللوحات العديدة التى شاهدتها من فنانى الكلاسيكية الحاذقين فى التصوير ، وحتى الواقعية الجديدة أو الواقعية الفائقة ، التى تبهر عيوننا فنهتف ` ياه .. كأنها طبق الأصل ` لكنها لا تبعث فنيا هذا الشعور بالسحر ، تلك ` اللحظة السحرية ` التى يُعِّرفها ` غاى ليون بليفر ` فى كتابه ` السحر والطب والمعجزة ` بأنها النقطة التى يتوقف عندها المجهود الواعى لتهيمن الطبيعة العجائبية ` ، والعجائبية هنا ناتجة من إبداع تلك الخافية المدهشة التى تُحدِّثنا فى أحلامنا بالرموز المجسَّدة ، ممتلكة منطقها الخاص عميق الأثر الشعورى فينا ، والعَصى على التفسير فى آن لهذا تنتابنا الحيرة تجاه أحلامنا ، التى هى مشاهد أو شذرات من مشاهد ، ألاحظ أن خلفياتها جميعا غامضة وغائمة وغير محددة التفاصيل ، مقارنة بحركة الشخوص والأحياء التى تمور بصمت أمام تلك الخلفية ، أو الستارة ، وهى ملاحظة لافتة فى كل أو معظم لوحات كائنات عادل السيوى السحرية تلك ، اللهم إلا نَبشَة زُخرفية بالغة الخفة أو ترقيش خفيف للغاية فى لون الخلفية ، بينما شخوص الحلم الملون ، وهى هنا ` الحيوانات ` والأحذية ، والفراشات ، بل الماكينة فى إحدى اللوحات ، فهى واقعية التأثير فى إحدى اللوحات ، فهى واقعية التأثير برغم لاحَرفية تشكيلها ، أليس هذا ماترينا أياه الأحلام ؟
وكما الأحلام الملونة ، المبهجة منها خاصة ، فان ما أثار انتباهى المشدوه هو هذا التلوين الشفاف وعالى الوضوح فى الوقت نفسه ، كأنها رسوم بألوان أثيرية على زجاج أثيرى ، وقد أضاف عادل فى هذه المرحلة ، علو الوضوح ` إذا جاز أن استخدم هذا التعبير الرقمى High resolution كمجاز فنى ، ` مقارنة بألوان ` نجوم عمرى ` التى توحى بالقدم الدافئ ، هنا وضوح لونى فَرِح بعذوبة وتَواضع ثمين ، أما الظلال فكانت فى دكنتها التى تحاول ` تجسيم التلوين ` تتسق مع تقنية التلوين ذاتها ، فهى ليست مُغرقة فى الدكنة عند الحواف والحنايا لإبراز الملامح ، بل خفيفة ومختزلة تذكرنى برسوم الأطفال وبالمُنمنمات الملونة فى المخطوطات التى أبدعها الإنسان فى طفولة النشر الأول . أما خطوط تحديد التكوينات ، الشخوص ، الكائنات ، فكانت مقتصدة إلى أبعد حد ، تذكرنى أيضا بطزاجة نظرة الطفل الفنان إلى الكائنات والموجودات عندما يحددها بأقل وأرهف الخطوط . وثمة رافد آخر ساحر ، هو هذه الأناقة المبهجة فى ثياب سباعية الكائن برأس ماعز . وهى الاناقة المبهجة التى تُشعُّ بها كل لوحات هذا المُنجَز الفنى الكبير . ومَن المدهش أننى أجد تعريف عالم بيولوجى ، لا ناقد فنى ، يتهادى نحوى فى محَاولة الإمساك بهذا الإحساس بالسحر ، فهو وإن كان يتحدث عن ` العالم الحقيقى ` من خلال تجلياته العضوية التى يرصدها ويتعقبها العلم ، إلا أننى أراه ينطبق على ` العالم الفنى ` الذى يبدعه الإنسان الفنان انعكاسا لـ ` العالم الحقيقى ` الذى هو هنا ما يسمونه ` الحيوانات ` يقول ريتشارد دوكنز بغض النظر عن آرائه التى نتفق أو نختلف معها فى كتابه ` سحر الواقع ` : ` إن العالم الحقيقى ، طبقا للفهم العلمى ، يمتلك سحرا نابعا من داخله هذا الذى أسميه السحر الشاعرى : الجمال المُلهم الذى هو كله سحر متزايد ` وتلك الكائنات عالَم حقيقى لا ينتبه لحضورة قوى الإيناسِ ، وغيابه قوى الوَحشة ، الإ فنان حقيقى ، وهو عالَم أهتف له بالهتاف ذاته أطلقه دوكنز : ` ذلك السحر المختلف عن سحر الخوراق أو الخدع ببساطة تماما هو مدهش ، مدهش وحقيقى ` بل مدهش لأنه حقيقى ، تلك الحقيقة الفنية فى هذه الكائنات ، كائنات عادل السيوى السحرية .
محمد المخزنجى
القاهرة : 25-4-2017

- بشارة الوجه
- سلسلة لا تنتهى من وجوه مجهولة تتابع فوق أسطح ذهبية لتصنع فضاء للبشارات ، حيث يتعين على المشاهد أن يتحرك عبر الممر ليطالعها ولينظر فى الوقت ذاته، إلى المرايا المثبتة على الحائط المقابل. من الواضح أن التشخيص ذا العبق القديم وإضاءة اللون الذهبى والايهام الذى تخلفه المرايا، كل هذا يثير تداعيات ترتبط بمقبرة فرعونية ، حتى لدى أولئك الذين لم تطأ أقدامهم مقبرة فرعونية قط . كانت تلك مساهمة عادل السيوى تحت عنوان ` الوجه وما بعده ` فى معرض` الحداثة والذاكرة ` فى بينالى فينسيا السابع والأربعين . وعندما دعى إلى المعرض ذاته ، الذى أقيم فى الفضاء المهيب لمركز دولة باشة الثقافى فى أسطنبول عرض ست لوحات كبيرة ، كانت عبارة عن منتخبات من سلسلة انتهى من إنجازها فى 1998، إنها ست لوحات ذهبية تعرض وجوها عملاقة وهيئات أسطورية أنيقة وصغيرة وحيوانات فى أوضاع مركزية .أثارت وجوه السيوى إرباكا واهتماما ملموسين فى المعرضين لأنه لم يكن من السهل وضعها فى المكان الذى جرت العادة على أن توضع فيه الاعمال الفنية التى من خارج الحضارة الغربية .
- الفن يجدد دوره
- ولطالما أعلن النقاد الغربيون ` موت التصوير ` الذى كان يولد مرة أخرى ، رغم ذلك ، بقوة جديدة ، ليس فقط لأن الفنانين يجدون مخرجا من الطريق المسدود ، بل ولأن المشاهد يدرك وجود إمتدادات جديدة لهذا الوسيط . وفى لوحات السيوى تتجسد هذه العملية .
- وما جعل هذه الوجوه جديرة بالاهتمام أنها تعكس نوعاً من التعبير الرفيع المنتقى وأنها تمارس الاختزال بروح حى ، وتقيم حواراً ودوداً مع تاريخ الفن الحديث ، وفوق ذلك فإن المحتوى التاريخى والتراثى المحلى يتم التعبير عنه بكثير من الفطنة وخفة الروح .
- الارتداد للصورة الاولية
- ولوحات السيوى تتميز بمعالجة أقل تعبيرية فهى تجنح إلى تجسيد ` المفارق ` بالمعنى ما بعد الحداثى أكثر من جنوحها إلى ما هو مفعم بالعاطفة ومحكم ، إنها ترتد إلى الصور الأولية فى إشارة تسعى إلى الكشف عن حساسيته لفن فى حالة مؤقتة ، وأكثر من ذلك فأن عفوية التعبير تتميز عندة بدرجة من الإتساق .
- وقد أكتسب الوجه أهميته فى أعمال السيوى مع بداية التسعينات ، وعندما تحول إهتمامه إلى ظاهرة الوجوه أدرك السيوى الغموض فى تلك الإطلالة الواثقة ، فهل كان ذلك شكا فى تلك الثقة ؟ بدأ بتفكيك ماهو مصمت ومهيب، ما هو مختال وقديم مما يمثل الذات المغلقة ، يفككه إلى ما هو متدفق وثانوى ومضحك وساخر وقد استعان بمفهومه الخاص ` للصورة الذاتية ` لانجاز هذه المهمة .
- المشخص والمجرد
- يستخدم السيوى التنشخيص والتجريد معا ، ففى لوحات 1988 كانت المساحات كبيرة وذات أسطح تكاد تكون أحادية اللون تستوعب الاشكال المنفذة بعناية . وفى سلسلة الوجوه يتجنب السيوى أى تشابه أو تماثل قد يعوق إدراك المشاهد ، وهنا ترتفع الخلفيات الملونة إلى مستوى التزامن فى الادراك ، وهو يعمل داخل الفضاء ` المابينى` الواقع بين التشخيص والتجريد ليمضى بالمشاهد إلى التأمل الذهنى . وننظر إلى التشخيص ، عادة ، على أنه يصور الواقع لكن المشكلة هى أن هذا التصوير يجد نفسه الان فى مواجهة مع الدخلاء ، مع السينما والتليفزيون فهما يحاكيان الواقع ويعيدان إنتاجه ، ورغم أن التصوير يتحول إلى ساحة يخسر الواقع فيها فأنه يكسب وظيفة أخرى : إنتاج مجازات أبعد من الصور التقليدية للسينما والتلفزيون وتحويل الفكر الفلسفى والنقدى إلى مرئيات . وهاتان الوظيفتان هما أكثر ما تحتاجه البيئة الفنية فى بلدان مثل مصر وتركيا ، حيث تسود هذه البيئة بالتبادل موجات من سيطرة واندحار الأساليب التصويرية الدعائية والتزينية .
- لونان للذهب
- ويلعب اللون دوراً هاما آخر فى أعمال السيوى ، شديد الارتباط بهاتين الوظيفتين. هناك لونان ذهبيان متمايزان .أحدهما ذهبى أصفر قد يعنى الحكمة والموروث ، والآخر ذهبى قاتم قد يكون لون التظاهر والخيانة ، هنا أيضاً، يحيلك السيوى إلى الأصول التى يتتبعها وإلى الحضور اليومى لما هو محاكى ، وعلى وجه الاجمال ، فإن هذه الوجوه تشير إلى ما يطرحه الفنان من إشكالات نظرية .
- تحيزات متقابلة
- وتحيلنا تجميعات الوجوه للسيوى فى المقام الأول إلى تلك القضايا المتعلقة ببناء المشهد ، والمشهد المبنى هنا يعنى تحقيق المتطلبات البصرية للمستهلك ، وفى هذه الحالة هناك مستهلكان مختلفان أى جمهوران ، الجمهور المحلى والجمهور الدولى وكلاهما ، على الأرجح ، متحيز فى منهجه ، الدولى لازال متحيزا إزاء إنتاج فنان غير غربى ، ورغم وجود تحولات مهمة فإن بقايا حنين هذا الجمهور للصور النمطية الشرقية تحجب موضوعيته . وفى هذه اللوحات قوبل هذا كله بترتيب مثير للصور يبدو أن القصد منه هو تحفيز الجمهور ، وتعطى غرابه الوجوه والرموز والحيوانات المنفذة كرسوم رائعة إشارات سريعة للأيقونة الإستشراقية ، لكنها فى الوقت ذاته تحول دون تبرير المشاهد للتحيزات بما فى التصوير من قوة . فى جهة أخرى فإن الجمهور المحلى لا زال يمر بمرحلة السعى إلى التعامل مع مفاهيم الفن ما بعد الحداثى وكذلك إعادة تصور التاريخ من خلال الأعمال الفنية . وفى بلدان مثل مصر وتركيا ، حيث الإمبريالية والحداثة تمثلان الدافع إلى أستعادة متصلة للتاريخ لإعادة صياغته ، يتميز الفنانون بوعى خاص نتيجة ما تكرر من انقطاع وخسائر وتغيب وغياب فى اللغة والفن والعمارة والحياة الاجتماعية ، وقد تعامل فنانون كثيرون فى هذه البلدان مع موضوع التاريخ ، بإستخدام الصور والرموز وعناصر الفن القديم ، فى رسوم وأعمال نحت حداثية بوصفها من عناصر الهوية القومية والتراثية . وقد أعتبر هؤلاء مقلدين إما للتراث الغربى أو الشرقى ، وفى الحالتين كانوا يسعون إلى الوصول إلى الهوية القومية والأصالة التراثية ، وأيا كان ما صنعوه فقد تلقاه الجمهور كجزء من الثقافة الرسمية وكثمرة للتغريب والعولمة ، فقد كانت السياسات الثقافية للدولة الوطنية والايديولوجيات الرسمية ذات النطاق العالمى حاضره فى كل أرجاء المشهد الفنى فى مختلف أنحاء العالم . ورغم ذلك ، فمع اقتراب هذا القرن من نهايته ينسلخ الفن عن ايديولوجيات الدولة ليبجر فى بحار الهرطقة التى لا ترتفع فوقها أية راية . فالفنانون فى البلدان غير الغربية يستخدمون ما بعد الحداثة ، بشكل مستمر ، كمنصة يقفزون من فوقها إلى أدوار مختلفة . فقد تحدوا خرافة الفن الحديث فى المركز والهامش وأطلقوا قوى التنوع وخلق البدائل خارج مسار المركزية الأوروبية . كانت هذه هى العملية الرئيسية فى الثمانينات وقد وصلت إلى خلاصات مهمة فى التسعينات . ولم تكن مغامرة السيوى سعياً إلى صياغة هويته الفنية مجرد محاولة للمزج والصهر والتقابل بين متناقضات ، مثل ما هو فرعونى وما هو عربى أو إفريقى أو أوسطى أو إسلامى أو ماركسى ولكنها تمثلت أيضاً فى الإدراك الشامل لإستحالة المركزية.
- وباللعب على مساحات غامضة وحفز الإرتكاسات والرغبات لدى هذين الجمهورين فإن السيوى يتحدى المشاهد ويسحره . وهكذا فإن الفنان قد نهض بواحد من أهم ما تدعو إليه ما بعد الحداثة من مهام . وفى الوقت ذاته فإنه لا يسمح للمشاهد ` بتأسيس الفكرة أو الإستجابة على فهم للتاريخ ` وهنا فمفهوم التاريخ هو مفهوم راسخ ويرتبط ، أوثق إرتباط ، بالذكرى التاريخية السلبية وبالصورة التى تم تكوينها بما فى ذلك من أيديولوجيات راديكالية . وهناك جانب آخر للصورة التى ينتجها السيوى ، وهو جانب يرتبط بالتراث الراسخ لتصوير ما هو مقدس ، ففى نهاية القرن نشعر بإرهاق من البث المتصل للرموز والموتيفات منذ آلاف الأعوام ونعانى من مشكلة حقيقية مع الصور فى` الوعى الجماعى` حيث أنها لعبت ، ولا تزال ، دوراً أيديولوجيا مزعجاً داخل ثقافاتنا . وعندما نتطلع عبر هذا المنظور فإننا نميل إلى الإعتقاد بأن التصوير الذى أنطوى على القداسة العابرة للثقافات أو التواريخ يجدر به أن يموت ، والسيوى واع بهذه الإدانة للفن لكنه مدرك أيضاً بأنه فى العملية الفنية ، عندما تخسر شيئاً فإنك قد تكسب شيئاً أخر وتتطابق أفكاره ، بشكل وثيق مع أفكار بونيتو أوليفا . ` الغريب أن موت الفن يصبح إثباتاً لخلوده فهو يكشف عن القوى المنتجة الثقافية والإقتصادية التى تمتلك قواها الذاتية حتى وهى تصر على أن وجودها معجز رغم أنه محروم من كل وظيفة ويتحدى كل نبوءة ` .
- ويجب أن تقيم أعمال عادل السيوى كمثل أعلى للإنتقال ، بعد تمهيد استمر قرناً ، من فن قومى ومقدس ومغلق للعالم غير الغربى ، إنتقل إلى ` أرض مجهولة ` بكل ما تنتجه من وجوه متاحة ، ودائمة التوالد .
بقلم : بيرال مادرا فبراير 1999
من كتاب وجوه سيوى
عادل السيوى شهوة الحركة.. فى حوار المرئى واللامرئى
- لم يبقى إلا الحركة التى تفصل المحِّرك عن المحَّرك ليوناردو دافنشى
- ربما نذكر جميعا، أن الفيلسوف اليونانى القديم `هيرقليطس`، هو الذى قال:( أنت لا تستطيع أن تنزل النهر مرتين). ولست أذكر الآن اسم المفكر المعاصر الذى أضاف: (... ولا حتى مرة واحدة!)، لينزع بذلك عن النهر ما هيته الخالدة، أو (نهريته) الأبدية الواحدة، الثابتة الشاملة، الساكنة الصامتة، الجامعة المانعة، ويدفع به إلى مساحة لا نهائية من الحيوية والحركة، والتدفق الدائب الذى يحل فيه الماء الجديد محل القديم؛ هكذا، فى تلاحق آنىَّ لا يعرف التكرار، ولا يخضع لعقم الرتابة، لأنه لا يعرف قانونا، اللهم إلا قانون الميلاد الدائم المتجدد. وهو ليس قانونا صارما بمعنى الكلمة، لأنه مُختَرق دائما بمفاجأة بكر هنا، أو استثناء طازج هناك.
- كهذا النهر يتبدى فن `عادل السِّيوى`: لا لوحة تشبه أختها، لا تكرار تميله الحرفية الحاذقة من خلال آلية الخلق، ولست هنا بحيث أستطيع أن أقوم بالتقديم الأوفى لأعمال الفنان عادل السيوى، إلا بمقدار ما كان هو نفسه قادرا على أن يترجم قصائدى إلى ألوان وخطوط موازيه، ومع أن الكلمات لا تملك حرية الخط ولا مرونة اللون، فليس بوسعى إلا أن أقترب من عالم السيوى بكلمات تجاهد أن تتنسم هواءً غير هواء سجنها، فهل تستطيع كلماتى أن تختزل هذا العالم، على النحو الذى اختزلت به لوحته التجريدية، جوهر الزبرجدات فى غلاف (زمان الزبرجد) مع ذلك علىَّ أن أستسلم لإغراء المحاولة؛ عابرا ذلك على البرزج الوريف بين النص البلاستيكى والنص الأدبى، رائيا كيف أن الوهية `زيوس` فى شعر `هوميروس`، لا تكتمل إلا بإنسانيته فى نحت `فيدياس`؛ فمادامت القصيدة نشيداً - بمعنى ما - والكلمة صورةً - بمعنى أيضا-، فإن الشعر قابل لأن ينحلَّ إلى موسيقى خالصة، والشواهد كثيرة من أعمال `موزار` و`ببيتهوفن` و `فاجنر`..الخ، وإلى تصوير كذلك، فالأناجيل وأسفار العهد القديم انحلَّت إلى آلاف الصور والأيقونات، مع أنها لم تصف أية واحدة منها. والتصوير من ناحية أخرى قابل لأن ينحل، إما إلى شعر، كما انحل درع أخيل على يد `هوميروس`، وامرأة `بيكاسو` الجالسة على يد `كوكتو`؛ وأيضا إلى موسيقى، كما كان يؤكد `جوجان` فى إحدى عباراته الشهيرة.
- صحبت عادل السيوى منذ خطواته الفنية الباكرة، وهو بعد طالب فى كلية الطب، التى تخرج فيها عام 1976م، ليجد أن الفنان فيه قد غلبه على الطبيب، فكانت شجاعة الانحياز إلى الاختيار الصحيح، وتفرغ للفن، بدلا من أن يصبح نصف فنان ونصف طبيب.
- فى أتيلية القاهرة، أقام `عادل معرضة الأول منذ بضعة عشر عاما، ولاحظ الفنانون والنقاد أن المعرض شهادة ميلاد حقيقية لفنان جرئ ينشد التمايز وإثبات الذات وسط ركام المتشابهات والمنسوخات. كانت المرحلة (الزرقاء) مهد التجليات اللافته، حيث لعبت تقنية (البخِّ) دورا رئيسيا، بوصفها بديلا عن لمسات الفرشاة الخشنه، وحيث ظهر أثر الدرس التشريحى فى كلية الطب، ذلك الأثر الذى أمده - كما لاحظ الفنان عز الدين نجيب - بمعنى شبه ثابت عن ضعف الإنسان وتعرضه الدائم للفناء؛ مع التحفظ على فكرة (المعنى الثابت) التى لا تتوائم أبدا مع حيوية عادل الفنية، ومقاومتها لكل أشكال الثبات، ماديا ومعنويا.
- خلص `عادل` من المرحلة الزرقاء، ليواجه أسئلة التشكيل الكبرى، فأصبح التشكيل عنده - كما لاحظ ماجد يوسف - يتم عن طريق الحذف والإضافة، وينبثق الضوء على حين فجأة فى أثناء عملية الحوار المباشر بين الفنان والسطح، محتلا مكانه المناسب فى التصميم، فى عفوية محسوبة، وفى علاقة محددة بالشكل العام لمعمار اللوحة.
- كانت هجرة الفنان إلى إيطاليا، كعبة الفن التقليدية، امتداداً طبيعيا متوقعا لقراره السابق الحاسم بالتفرغ لفنه، حين هجر مهنة الطب، وخلال عشرة أعوام تقريبا فى رحاب تلك الكعبة، تلقحت خبرة الفنان بعناصر خصبة متنوعة، وتشبعت علاقاته بالفنانين والمفكرين، وتعمقت ثقافته، وتعدلت هيراركيتها، ليحتل الفن القمة التى كانت تزاحمه فيها الايديولوجيا الخاصة. منذ الدراسة المبكرة لذلك الماركسى القديم، عن (تماثيل الملوك وتماثيل الخدم). ولعل هذا التطور يتبدى فى الدراسات الأخرى التى يعكف عليها الآن، حول `ليوناردو دافنشى`. وآراء الفلاسفة حول الفن. خلال هذه المرحلة تواترت معارض `عادل` فى إيطاليا والمانيا، وفى مصر، وكان معرضه الأخير بقاعة `المشربية` بالقاهرة، فى الفترة من 11/12/1990 حتى 18/1/1991م. شاهداً على مستوى رفيع من النضج والخصوصية، قل أن نجده فى زحام المعارض التى يغص معظمها بثرثرة الخطوط ونثرية الألوان.
- نعود من نهر `هيرقليطس` الذى لا يمكن للمرء أن ينزله مرتين، إلى النهر المضطرم بالحياة والحركة فى لوحات `عادل السيوى`، كيف احتشدت فى هذه اللوحات كل تلك الطاقة الخصبة والحياة المفعمة؟ هل يكفى أن نقول: إن الفنان لم يهتم بالأشياء نفسها، فى ذاتها المنسجمة مع مظهرها، وفى سكونها الصامت وثباتها الرهيب، بل اهتم بالعلاقات الحية بين هذه الأشياء وبعضها من جهة، وبينها والإنسان من جهة أخرى؟
-من الممكن أن تكون هذه الإجابة فى ذاتها مقنعة إلى حد كبير، إذا ما تذكرنا أن الجمالىَّ علاقة فى جوهره. هذا هو ما أدركه `عادل السيوى` حين استبدل العلاقات بالأشياء؛ وحتى حين كانت الأشياء تفرض نفسها عليه، أو يقوم هو باستدعائها، فإنه لم يكن يستسلم لمظهرها الخارجى، بل كان يبحث عن العلاقة بين مظهرها وجوهرها، ليكتشف أن كل شئ ليس مطابقاً لشيئيته، أو لما يمكن أن يكون عليه مظهره، الشئ إذن أكثر حقيقية مما يبدو، إنه أكبر من مكوناته وأثقل من حضوره النفعى المباشر، لكنه فى الوقت نفسه، أخف من وزنه، لأنه يستطيع أن يطير فى فضاء المخيلة البشرية ليتصل بغيره من الأشياء والأدوات فى سماء الذكريات الغائمة (انظر لوحتى: خفة الأشياء - ريش). وربما كان فى ذلك إحساس صوفى يفرض نفسه ويتسلل إلينا، واصلا بين عالم الظاهر وعالم الباطن، كما يمكن أن نلاحظ فى لوحة (أشياء قديمة). التى ينبثق فيها الضوء همزة وصل بين هذين العالمين.
- الأشياء لا توجد إلا فى مكان، ومن محصلة العلاقة بينهما وهذا المكان، ينشأ جدل حى وحميم، تصبح المسافات من خلاله جسورا ضوئية، تصل بين كل ما لم نكن نتخيل أنه قابل للاتصال، انظر مثلا لوحتى (الكرسى - السرير)، حيث لا يكتسب الكرسى قيمته التشكيلية المهيمنة إلا بوصفه إمكانية لشبكة لا نهائية من العلاقات، ليس بين ما هو حاضر فقط فى اللوحة من أشياء وأشباه أشياء، ولكن بين ما هو غائب أيضا. السرير والكرسى كلاهما، مخزن لطاقة روحية تشير إلى حضور الإنسان الغائب، كأن الإنسان لا تكتمل إنسانيته إلا بما حوله من أشياء.
-لا ينظر `عادل` إلى المكان كمجرد حاوٍ للأشياء والكائنات، ولذا فهو لا يهتم كثيراً بقواعد المنظور، وإن كان يوظفها أحيانا بشكل جزئى كلما دعت الضرورة، انظر مثلا لوحة (حياة فخمة)، بل ينظر إلى المكان كمخزن للعلاقات البصرية بين المرئى والمرئى من جهة، وبين المرئى واللامرئى من جهة أخرى، ولهذا فعلى العين أن تتدرب على أن ترى ما يند عن حاسة البصر، عليها أن تكون نافذة للخيال وباباً للروح.
- المكان عنده ليس مكانا قَبْليا مطلقا. إنه مكان خاص جدا، ولذا فهو حميم جدا، لأنه مرتبط دائما بتجربة خاصة، وبالتالى فإنه مشدود إلى لحظة زمانية فريدة غير قابلة للتكرار. إنَ المكان عنده شريحة زمكانية مقتطعة من ديمومة الزمان وسيولة المكان، إذا ما استعرنا مصطلحات `صموئيل الكسندر`. هى شريحة ذات ماضٍ ومستقبل إذن إنها تشى بما كانته وتشير دائما إلى ما ستكونه، ولننظر - بالإضافة إلى لوحتى (الكرسى) و (السرير) إلى لوحات مثل (سيد المكان - غرفة يدخلها الضوء - أشياء قديمة - رماد - خفة الأشياء - المقهى).
- هذه الشرائح الزمكانية التى يختارها عادل السيوى ويلح عليها، هى مصدر الدينامية الحية فى فنه والتجدد الخصب فى عالمه، وربما يذكَّر ذلك بالاتجاه الدينامى فى التصوير الأمريكى المعاصر، وهو اتجاه أثار جدلا بين فلاسفة الفن وعلماء الجمال، من مرحب به. مُطرٍ على ما يزخر به من حرارة وطاقة حسية انفعالية تصل إلى درجة الصوفية أحيانا، أو رافض لمبالغاته وإيغالاته، التى تعود به أحيانا - لفرط الذاتية - إلى مستوى التعبيرية، كما لاحظت - الفيلسوفه المعاصرة `حنة أرنت`.
نجت دينامية `عادل السيوى` إلى حد كبير من هذه الإيغالات والمبالغات التعبيرية، ونستحضر لوحتى: (ريش - طيور صغيرة وطيور كبيرة)، لنجد هذه الحالة الذاتية العارمة، المثقلة بخفة النشوة، فالريش هنا تجسيد رمزى لهذه الخفة، وليس هناك سبيل آخر يمكن أن نلج منه إلى عالم الباطن، يقول الفليسوف الإيطالى المعاصر `روبرتو بورديجا` فى حديثه عن `عادل السيوى` :(ليس هناك عالم خارجى علينا أن نصوره، وإنما هناك عالم ينبغى الدخول إليه).
- ويقودنا عالم الداخل هذا، إلى جحيم الأسرار فى جنة الروح، وهكذا نبتعد خطوات عن الفن الذى يخاطب العين، إلى الفن الذى يخاطب الروح، كما كان يقول `كاندنسكى` ويرسم، وإن كان `عادل السيوى` يميل إلى مخاطبة الروح والعين جميعا، فالتناقض الذى رآه `كاندنسكى` يمكن حله إذن. وقد نجح `عادل` إلى حد كبير فى إيجاد هذا الحل، عن طريق تقنية خاصة يتسول بها، بدءاً من (الخامات المتنوعة) التى تسعف فى المحافظة على حرارة الانفعال؛ (مثلا لوحة: الحياة الفخمة)، إلى توافقات الخط واللون وتبايناتهما، فى منظومة توظف الحذف، وتؤكد الحضور بالغياب، يتجلى ذلك بوضوح فى لوحة مثل (وسط البلد)، حيث يكمل الخط بحضوره، ما يفعله اللون بغيابه، وحضور الخط هنا ليس أُحاديَّا، بل يتراوح بين المنحنى والمستقيم، والأفقى والرأسى، وتحديد الكتلة وتمييعها، ويبدو مشهد المدينة من منظور علوى، تأكيداً لسيطرة العين الواعية على واقعها، ويمكن مقارنة هذا المنظور فى هذه اللوحة بمثيله فى لوحة (المقهى). أما غياب اللون فتؤكده الرماديات التى سادت درجاتها.
- وَى!
- لكأن الكون / اللونَ تبرَّج
- فاتحد الزرق بالأحمر
- .. ثم توهَّج
- صار بنفسج
- فى لوحة (رماد) نعثر على سرَّ من أسرار خبرة `السيوى` باللون، فالرماديات بدرجاتها تشكل العنصر الحى فى هذه الخبرة اللونية، متضافرة مع البنِّيات بدرجاتها أيضا، ولذا فمن حق `السيوى` علينا أن نصدقه - بحذر- حين يتحدث عن الاقتصاد اللونى فى لوحاته، والحذر هنا، لأن الاقتصاد على المستوى اللونى، يقابله بذخ على مستوى التنويع والتوقيع بين درجات البنيات والرماديات وبعضها من جهة، وبينها والمساحة المتاحة على سطح اللوحة من جهة أخرى، فى جدل مشبوب يسعى إلى نفى الفراغ، ربما لأنه لا وجود فى الواقع لما يسمى بالفراغ، ومن هنا نفهم هذا الملاء المفعم الذى يستغل سطح اللوحة بأكمله، فى محاولة لاستنفاد كافة الممكنات البلاستيكية التى يتيحها السطح، واستقصاء كافة الاحتمالات التى يمكن أن تنشأ عن الحوار بين المفردات والجمل التشكيلية: (لوحات: حى شعبى - حياة فخمة - ريش). فى هذا الملاء المفعم إلى حد السرَف، ينشأ تحد صعب، يقبله `السيوى` بجرأة، بل هو يسعى إليه سعيا، واضعاً نفسه فى اختبار لا بديل فيه سوى النجاح.
- ولا شك أن فى ذلك مغامرة لا يقبل عليها إلا من امتلك أدواته وطوعها لخياله، ومصدر المغامرة هنا، أن وحدة العمل الفنى ستكون مهددة، وقد يصدق ذلك على بعض مغامرات `السيوى` إذا ما كانت الوحدة التى ننشدها وحدة بصرية فحسب، أما إذا كان ما ننشده هو الوحدة الشعرية، فليس هناك خطر كبير.
-لا يعنى ذلك أن أعمال `السيوى` تخلو من الوحدة البصرية، فالأمر على العكس من ذلك تماما، هناك وحدة بصرية، ولكنها من نوع غير مألوف، لأنها تجمع بين رمزية اللون ودينامية الخط، فهناك سبيلان معروفان لتحقيق هذه الوحدة، سبيل العلاقات اللونية التى تحقق العمق والتماسك التشكيلى، وسبيل التحديات الخطية التى تحقق الإيقاع والحركة، وقد أختار `السيوى` أن يجمع بين السبيلين، فلم يتطرف فى الأولى تطرف`سيزان`، ولا فى الثانية تطرف `مونش`، (انظر لوحات: ملاك قديم - حى شعبى - جدار أصفر - رماد - غروب - فاكهة).
- جسدى الجائع..
- جسدى الصديانْ
- يبحث فى دوامات العبثِ
- الأزلىِّ/ الأبدىَّ..
- وفى جُبِّ الزَّمكان
- عن لحظةِ عشقٍ مرت كالطيفِ
- .. وعن حبٍّ كانْ
- وقد حال تمكن السيوى`، وأصالته الإبداعية، دون الوقوع فى توفيق مفتعل بين المدرستين، والأمر نفسه، يصدق على التجريد والتجسيد عنده، فلم يوقعه الأول فى أسلوبية جامدة محفوظة، ولا الثانى فى محاكاة جافة منسوخة، (انظر اللوحات الثلاث بعنوان: امرأة ترتدى قبعة)، ولاحظ المحاولة المستميته للهروب من قبضة الانطباعية.
- تحية لذلك الفنان المبتكر الجرئ، الذى حاول - وسط غابة موظفى الفن الحكوميين والرسميين من خريجى معاهد الفنون الجميلة وكلياتها - أن يصنع أساطيره الخاصة الحميمة، فبدلا من الهالات على رؤوس القديسين، ينبثق الضوء ليطمر بكيميائه الأشياء القديمة والمعتادة، وبدلا من البلاغة الملحمية القديمة، تنشأ آخرى عَبر العارضِ نفسه، هذا العارض الذى يتجسد من خلال لحظة فرح، أو ترح، أو ربما تأمل.
- إنها كيمياء الضوء الذى يجلو صدأ الروح، ويقشع ضباب الذاكرة والحس جميعا، فى عالم فنى غنى، من الطراز الأول.
بقلم : حسن طلب
مجلة : إبداع (العدد 4) إبريل 1991
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث