فاروق إبراهيم شحاته
- فاروق شحاتة: واحد من فنانى مصر المعاصرة، الذين قدموا لوحة الشرف لتجربة الفنان العربى، الذى يواجه تجارب الفن فى العالم قدمها بثقة وإصرار، وعناد لا حدود له، انه يرسم كما يتنفس ببساطة وجرأه وثقة بالنفس، حين كنت أستاذاً له وهذا ما نسميه بصدق المعاناة، وصدق التعبير عن هذه المعاناة، والقدرة الفائقة فى توظيف طاقاته الإبداعية اللونية من أجل خدمة التعبير الجمالى الشفاف لكل عنصر من عناصر إبداعه الفنى فى لوحاته، ففيها تقنيات مستحدثة فى عالم الطباعة الفنية المتطورة، حيث يرى الإيقاعات اللونية فى مرحلته الأخيرة التجريدية ، حلقات مدلولاتها التعبيرية ، لتعكس إيقاعات الوعى وإيقاعات العاطفة عبر الحوارات اللونية الغنائية الشرقية التى تشكل عودة إلى أجواء موسيقية اللمسة والمناخ الإنطباعي للوصول إلى ما يسمى بالتعبير التجريدي الإنفعالي مع الحركة مفتعلة مع إشعاعات النور ، حيث يصوغ باللمسة اللونية الغنائية نسيج أسلوبه التجريدي المعاصر .
البروفسور / ولف ساكن هايمن
مشتركا بين الفنان وجمهوره
- الفنان فاروق شحاته هو أحد النجوم البارزين من `جيل الوسط ` وهو الجيل الذى دخل حركة الفنون الجميلة بعد منتصف القرن العشرين وتألق وملأ الساحة الفنية فى الستينيات ، انه الجيل الرابع بعد ثلاثة اجيال قامت بارساء قواعد الحركة الفنية وحرية الفنان فى التعبير ..فكانت مهمة افراد هذا الجيل مزدوجة حيث وقع على عاتقهم تطوير الفن المصرى من الناحية الشكيلية فى الجوانب الخاصة بالارتفاع بمستوى التقنية والاداء، ثم المشاركة بالابداع الفنى فى الحياة الاجتماعية التى كانت احدائها ملىء الاسماع والاذهان وتمثل موضوعا
- وقد لعب الفنان فاروق شحاته، المولود بالإسكندرية عام 1938، دورا بارزا فى التطور بفن الجرافيك المصرى من الناحيتين التكتيكية والتعبيرية، وقد ذاع اسمه من منتصف الستينيات عندما عبر بلوحاته عن القضية الفلسطينية، فكانت لوحاته وثائق احتجاج ضد الظلم واهدار انسانية الآدميين، ثم انتقل الى معالجة قضايا اكثر شمولا مبرزا رعب الانسان وغربته فى العصر الحاضر، وذلك من خلال لوحاته التى تصور حيوانات وطيور توحى بهذه المعانى وترمز لها، وكانت كلها مطبوعة باللون الاسود وحده .. لقد حقق الفنان من خلال ممارسته للاسلوب التعبيرى والرمزى لوحات ذات بعد انسانى عام تغوص فى ذاكرة المشاهد فلا ينساها .
- ثم انتقل الى مرحلة صور خلالها المناظر الطبيعية ثم الاشكال التى تظهر من تحت المجهر ، وعبر من خلالها عن الاحساس بالوحشة والغربة والغموض.. ومن هذه الاشكال للكون الكبير والعالم المجهرى الصغير تطور بفنه الى مرحلة تجريدية ملونه تقوم على حسابات رياضية وتنظيمات هندسية تحقق الوحدة مع التنوع، فى تشكيلات لا نهاية لها، لكنها تتميز بالبهجة والفرح.. بعكس مراحله الاولى التى كانت مشحونة بحس تراجيدى مأساوى عنيف .
د/ صبحى الشارونى
الفنان التعبيرى فاروق شحاتة
- يمثل الفنان `فاروق شحاته ` أحد أعمدة الفن المصرى المعاصر بنوعية إنتاجه الذى يعد إحياءً معاصراً للمذهب `التعبيرى ` الذى بدأه `فان جوخ ` الهولندى و `ادوار مونش ` النرويجى ومن ناحية أخرى يحتل هذا الفنان مكانته لغزارة إنتاجه، ثم لنشاطه الدائم فى إقامة المعارض لنفسه ولزملائه من الفنانين المصريين، حيثما وجد فى مصر، أو فى الخارج .
- وهكذا استطاع `فاروق شحاته` فى سنوات قليلة أن يصبح رائدا معروفا للمذهب التعبيرى فى الفن العربى المعاصر ، مساهما من خلال تعبيريته فى الأحداث التى يمر بها وطننا العربى، والأحداث التى يجتازها الفنان فى حياته الخاصة .
-هذا إلى جانب أستاذيته فى فن الجرافيك ( أى الطباعة الفنية )، وأبحاثه المعملية ` حول هذا الفن والمتمثلة فى دراساته ، وفى استعراضات المهارة التكنيكية فى لوحاته التى تكشف عن العلاقة الشكلية بين `الكون الكبير ` و`الكون الصغير ` .
- التعبيـــريـــة
- و`التعبيرية ` هى نقيض `التأثرية ` التى تعتمد على الحواس، ولا تصور إلا مظاهر الأشياء . إن التعبيرية تصدر عن الانفعالات الباطنة التى تفيض على اللوحة ، ومنها إلى عقل المشاهد وعواطفه والتعبيرية التى يتبعها الفنان فاروق شحاته تتميز، وتختلف،عن الأنواع التجريدية من المذهب التعبيرى فهو ممن يعملون على النفاذ إلى جوهر أو روح ما يصورون `للتعبير `عن طبيعته الأصيلة، أى إبراز `نمرية ` النمر و `ذئبيه ` الذئب و`ثعلبة ` الثعلب، مع تصوير الوسط الذى تعيش فيه هذه الأحياء ، ولكن ليس من وجهة نظر الرسام الذى يشاهد هذا الوسط من الخارج، وإنما على نحو ما يراه وما يشعر به الكائن الحى ، بوصفه جزءا من الوحدة الكونية .
- وعندما تصدى فاروق شحاته لقضية فلسطين، وموضوع اللاجئين رسم عشرات اللوحات القوية التعبير ، بأساليب فن الحفر ( الجرافيك ) المختلفة التى يمارسها ببراعة، `فعبر` عن مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وجسد بشاعة العدوان الإسرائيلى على الوطن العربى فى لوحاته .
- التعبير عن المأساة
- ولد الفنان فاروق شحاته يوم 3 ديسمبر عام 1937بالإسكندرية، وظهرت مواهبه الفنية خلال دراسته الثانوية، حيث كان مدرسه للرسم هو الفنان `محمد عويس` الذى أصبح فيما بعد عميداً لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية .
- كان الفنان يرسم المناظر الطبيعية فى لوحاته بالألوان المائية وعمره 12 عاما فقط . وخلال سنوات المراهقة جرب كتابة القصة والشعر ، ولكنه استقر على ممارسة الرسم، وبخاصة عندما فاز فى مسابقة أوائل الطلبة وحصل على جائزة تتكون من مجموعة من الكتب الفنية .
- كان موقف الأسرة يعارض مسيرة الفتى فى طريق الفن . كانوا يريدون له أن يدرس الطب، لكنه لم يستجب لرغبتهم، واختار لنفسه طريق الفن، حيث لقى التشجيع من أستاذة فى المدرسة الثانوية الذى كلفه برسم لوحه عن العدوان الثلاثى على مصر عام 1957، فرسم انسحاب المعتدين من بورسعيد على لوحة ضخمة تبلغ مساحتها ستة أمتار مربعة ثبتت على واجهة المدرسة، وكانت هى السبب فى إقناع أسرته بضرورة التحاقه بكلية الفنون الجميلة فى القاهرة، حيث لم تكن بمدينة الإسكندرية كلية الفنون فى ذلك الوقت .
- وكانت علاقة الفنان الصغير بأستاذه `محمد عويس` فرصة ليتعرف على الكثير من المفاهيم الفنية حول دور الفن فى المجتمع، وفلسفة الجمال، وأهمية استخدام الفن كسلاح فى المعركة الاجتماعية .
-أتيح للفنان الصغير فرصة أخرى عندما تعرف بالفنان الرائد `محمود سعيد` عام 1954، فقد التقى به فى أحد المعارض العامة، وبعدها صار يرافقه ويزوره من حين لآخر، وانبهر بالألوان البرونزية، والموضوعات الشعبية التى كان يعالجها الفنان الرائد، وخاصة الأعمال المعبرة عن المآسى مثل لوحة ` العاطل` ولوحة ` زيارة المقابر` .
- وبدأ ميل فاروق شحاتة إلى التعبير عن المأساة فى حياتنا المعاصرة يتضح من ذلك التاريخ ، مستفيدا من توجيهات ونقد هذين الفنانين الكبيرين خلال جولاته معهما فى المعارض ، ومناقشاته لهما فى مختلف المفاهيم الجمالية .
- ويقول الفنان فى ذكرياته عن تلك المرحلة : `عندما ذهبت إلى الريف لأنظر إليه كفنان ، أحسست أن الريف لم يرسم إلا من وجهة نظر متفائلة ومنفصلة عنه ، وكل الذين سجلوا المناظر الريفية فى مصر التقطوا الجوانب السياحية ، ورسموا الألوان الجميلة ، لكننى عشت مع الفلاحين، ورأيتهم عن قرب ، فأحسست بمأساتهم ، وبالحياة القاتمة التى يحيونها . إن الساقية الجميلة ، فى لوحات السابقين ، هى فى حقيقتها أخشاب متهرئة تنعق وتبكى وتنوح ، لم أحس بجمالها على الإطلاق ، حيث لا فرق بين الآدمى والحيوان فى الريف لقد بهرنى اكتشافى لهذه المأساة ، وعدت إلى الإسكندرية لأشاهد معرض الفنان الألمانى ` فريتز كريمر ` الذى أقيم فى ذلك الوقت بمتحف الفنون الجميلة ، وكان يتناول مأساة الإنسان فى الحرب العالمية الثانية ، والتقيت معه فكريا . لقد أعجبنى وأدهشنى واستحوذ على عواطفى.. وكنت أجتاز محنة عاطفية ، فى حياتى الخاصة ، أحسست معها بالضياع .
- وهكذا التقى العام بالخاص ، والاجتماعى بالفردى ، فى مرحلة كنت أضع فيها قدمى على بداية الطريق . ومن هنا اتخذت التعبيرية مذهبا لى قبل أن أقرأ عنها شيئا أو أعرف بالضبط أبعاد هذا المذهب الفكرى ` .
- وبهذا يوضح الفنان الظروف والملابسات التى دفعته فى هذا الطريق ، وجعلته يفضل هذه المدرسة الفنية على غيرها، فكان فنه ` تراجيديا ` ينطبق على ظروف مصر الاجتماعية المطحونة ، ويعبر فى نفس الوقت عن المزاج المصرى الشعبى الذى يستخدم البكاء ( عند قطاع كبير من نسائه ) كوسيلة للتنفيس والتطهير . ومن تقاليده الشعبية زيارة المقابر ( القرافة ) فى أول أيام كل عيد. - هذا بالإضافة إلى ظروف الفنان الخاصة العائلية والعاطفية، فقد توفى والده ( الذى أحبه حبا شديدا)، فى نفس تلك المرحلة المبكرة من حياته ، وهو على أبواب الالتحاق بكلية الفنون الجميلة .
- فى ذلك العام 1957 أنشئت كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ، وتقدم فاروق شحاته للالتحاق بها ، وفى اختبار القبول كان ترتيبه الثانى .
- وهكذا تعرف الفنان على الأساليب المختلفة فى الفن ، واختار فن `الجرافيك ` لدراسته المتخصصة. وقد التقى خلال الدراسة بفنان `الجرافيك` العالمى ` فنسنت هلوجنيك` عميد أكاديمية الفنون فى `براغ ` وقتها، وهو من رواد المذهب `التعبيرى` الذى تتميز أعماله بالتراجيديا الإنسانية . وعندما التقى هذا الفنان بفاروق شحاته الطالب بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ، وشاهد أعماله قبله تعبيرا عن إعجابه، وأهداه بعض إنتاجه، وعددا من الكتب التى تحوى صورا لأعماله.
- وراح فاروق يبحث عن الدراسات والكتب التى تتناول هذا المذهب، وبخاصة عند الألمان الذين ابتدعوا التعبيرية فى الفنون الجميلة، وعندما عرف عن فاروق شحاته ولعه وشغفه بهذا الاتجاه، راح أصدقاؤه يرسلون له المطبوعات المختلفة التى تتناول أعمال الفنانين التعبيرين، فجاء من إنجلترا كتاب عن الفنان الإنجليزى الشهير `فرانسيس بيكون`، ومن المكسيك كتب ولوحات عن المكسيكيين التعبيريين وغيرهم .
- وتخرج الفنان عام 1962 من كلية الفنون الجميلة - بالإسكندرية بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف، وعين معيدا بقسم الحفر ( الجرافيك ) الذى تخرج فيه. وكان مشروع التخرج يدور حول القضية الفلسطينية واللاجئين. وقد فازت أعماله بالجائزة الأولى مرتين،على شباب الفنانين فى معارض `الطلائع `السنوية، التى تقيمها `جمعية محبى الفنون الجميلة ` بالقاهرة .
- لقد استطاع فاروق شحاته أن يعبر عن القضية الفلسطينية من وجهة نظر الفلسطينين أنفسهم ، وليس من رؤية خارجية تطل عليها من فوق أو من بعيد، وإنما تناول القضية مبرزا ` فلسطينيتها `، وموضحا المعاناة التى يلقاها من سلب منه منزله وأهله ووطنه، وأصبح مشردا ينظر إلى ديار طفولته وأرض أجداده من خلف الحدود، ومن وراء الأسلاك الشائكة، بعد أن اغتصبها مهاجرون من جنسيات متعددة، مثلما حدث من قبل مع الهنود الحمر ، السكان الأصليين لأمريكا،عندما اغتصب بلادهم منذ ثلاثة قرون .
** فن الحفر
- ولأن الفنان كان من البداية صاحب قضية، وله وجهة نظر يريد أن يعرفها جميع الناس ، ولأنه لا يمارس الفن من أجل متعة ذاتية أو من باب الترف الذهنى، وإنما باعتباره رسالة ووسيلة، بل وسلاحا فى معركة حضارية . فقد اختار النوع الذى يتيح له إشاعة فكرته بين أكبر عدد من الناس .
- إن فن الحفر أو `الجرافيك` هو شكل من الطباعة الفنية اليدوية، يتميز بأنه يسمح للفنان أن ينتج عددا من الرسم الواحد، يتميز بنفس حيوية وقوة وأصالة العمل الفنى الأصلى، لأن الفنان ` الحفار ` لا يستبقى عند طبع عمله بنفسه إلا النسخ التى تتوفر فيها هذه الصفات .
- إنه أحد روافد فن الرسم مضافا إليه خبرات تكنولوجية تجعل الفنان ينتج من العمل الواحد مجموعة متشابهة من النسخ ، وذلك بأن ينفذ رسومه وتخطيطاته على سطح صلب ، مثل : الزنك أو النحاس أو الحجر أو الخشب أو الجلد ، أو على ` شاشة حريرية ` وما يشابهها من الخامات المجهزة للطباعة على الورق .
- ويمثل هذا النوع من الرسم أسلوبا معاصرا رائجا فى وقتنا الحالى لعدة أسباب :أولها ارتفاع أسعار لوحات فن التصوير الزيتى الى أرقام خيالية لا تقدر على دفعها سوى المتاحف ومحترفى تجارة الأعمال الفنية . بينما لوحة فن الحفر التى يطبع منها عادة ما بين 12 إلى 100 نسخة ، يكون ثمنها فى متناول متوسطى الدخل .
- هذا بالإضافة إلى ما يوفره هذا العدد من النسخ فى نشر العمل الفنى الواحد على نطاق واسع،فعدد مستنسخاته يجعله يتواجد فى أكثر من مكان فى وقت واحد .
- أما استخدامه الاجتماعى والسياسى فيكفى أن نذكر أن الثورة الصينية استخدمت هذا الفن على نطاق واسع، لشرح القضايا السياسية للأميين ، قبل انتصار هذه الثورة، وفى أعقاب ذلك الانتصار . ولقد اختار فاروق شحاته هذا الأسلوب الفنى الذى يتمشى تماما مع أفكاره وأهدافه من ممارسة الفن .
** الحيوانات كموضوع تعبيرى
- ظل الفنان لمدة عشر سنوات من عام 1962عند تخرجه فى كلية الفنون الجميلة إلى عام 1972( عندما حصل على درجة الماجستير فى فن الحفر ) يساهم بفنه فى الأحداث الجارية معبرا عن الغليان والترقب، والرعب الذى يكتنف البشر من أسلحة الدمار الشامل، والحروب المحدودة فى أكثر من مكان، وبخاصة حرب فيتنام ..
- وبالإضافة إلى لوحاته المباشرة المعبرة عن هذه الأحداث ، وعن القضية الفلسطينية . رسم عددا من اللوحات تظهر فيها الحيوانات والطيور ، مثل : القط ، والذئب ، والحمامة ، والحصان .
- ويشير الناقد الفرنسى `رينيه ويج ` إلى ظاهرة اتجاه الفنانين إلى رسم الحيوانات وتشكيلها فى عصرنا الحاضر، فى أشكال مرعبة أو خرافية قوية التأثير ، إلى أن هذه الظاهرة هى انعكاس لحالة الرعب والخوف من الأحداث التى لا يملك الفرد تجاهها صدا أو ردا . وإلى أن هذه الحالة أيقظت فى أعماق الفنان الرعب القديم عند الإنسان الأول عندما كان يعيش فى الكهوف ، من الحيوانات والطبيعة الغادرة الملغزة. وكان الموضوع الرئيسى لرسومه لبضعة آلاف من السنين هو تلك الحيوانات التى يواجهها لصدها أو صيدها .
- وهكذا ظهر القط فى أعمال فاروق شحاته، معبرا عن الرعب النووى الذى يتربص بالبشرية ، متسللا فى الظلام، لينقض على العالم فجأة ويقضى عليه. أما ` الحصان فهو النبل الإنسانى الذى يرفض أن يخفض رأسه ويرفعها دائما حتى فى أشد حالات الألم متطلعا إلى السماء فى تضرع لإنقاذ الكرامة الإنسانية التى تهدر كل يوم على أرض فلسطين ، وفى جنوب إفريقيا، وشرقى آسيا . بينما نجد الذئب معبرا عن أزمة الاستعمار الذى وقع فى الفخ، فالتفت فى شراسة ليهم بافتراس نفسه والقضاء على كل شئ . ونجد ` الحمامة ` فى رسومه تبدو سوداء اللون فيحتار المشاهد : هل هى حمامة أم غراب ؟ هل هى طائر وديع أم جارح ؟ فهى تقف على الأسلاك الشائكة، أو خلفها، بينما الإنسان المعذب يرفع رأسه نحوها فى ألم وتضرع.. وهكذا كانت اللوحة دائما عند فاروق شحاته سلاحا فى معركة الإنسان من أجل كرامته ، وتعبيرا عن موقف واضح فى مواجهة التحديات .
** ` الجنس ` تحت الأقدام
- كان موضوع رسالة الفنان التى حصل عنها على درجة الماجستير بامتياز مع مرتبة الشرف من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية هو: `التعبيرية اتجاه فنى معاصر` تتبع فيها جذور هذا المذهب الفنى، ومختلف روافده ، ثم أقطابه قديما وحديثا ، ليثبت فى النهاية أنه اتجاه فنى، لم يرتبط بمرحلة معينة ينتهى بنهايتها، ويصبح بعدها مذهبا متحفيا، فما يزال يمارسه عدد من كبار الفنانين المعاصرين المبدعين لارتباط هذا الفن ارتباطا شديدا، وحتى الآن، بظروف العالم المعاصر .
- وكانت من أهم تجارب فاروق التكنولوجية التى أضاف بها إضافة جديدة إلى فن الحفر ، ليس فى مصر فقط بل وفى العالم أجمع، هو توصله إلى طريقة لحفظ لوحات فن الحفر ، التى تطبع عادة على الورق، من التلف بمرور الزمن عن طريق تغطيتها بمادة ` البوليستر ` الشفافة من الجانبين وتقوية اللوح الناتج بالألياف الزجاجية . وبهذه التجربة الناجحة توصل إلى حل مثالى لمشكلة صيانة وترميم لوحات الحفر الورقية، التى يتكلف أصحابها مبالغ كبيرة فى صيانتها ، كلما مر الزمن عليها .
- وسافر عام 1974 إلى ألمانيا لاستكمال رسالته العلمية، والحصول على الدكتوراه، فقد ظهرت التعبيرية فى ألمانيا عام 1919 فى شكل مدرسة فنية، تتبناها جماعة أطلقت على نفسها اسم جماعة : `القنطرة `، أو `الجسر` .
- وهناك فوجئ بحياة اجتماعية جديدة فى `دوسلدورف ` بأقصى الشمال، حيث تختلف التقاليد تماما عنها فى الشرق العربى، وبخاصة فى استخدام الجنس فى الإعلان للترويج للتجارة وكسلعة ، وامتهان جسم المرأة الذى له فى الشرق حرمه تصان، وحدود لا يمكن تخطيها . وبدأ الفنان الشرقى يعبر عن رؤيته لهذا المجتمع الجديد فى لوحات، من أبرزها لوحة لامرأة عارية الصدر على غطاء مرحاض .
- لقد أوضح فى هذه المجموعة من الأعمال كيف يمتهن الجنس ، ويداس بالأقدام فى المجتمع الأوربى الذى بلغ الرفاهية .
- وفى نفس هذه المرحلة تناول موضوعا آخر عن الدين فى هذا المجتمع . فالمسيح مصلوب فى غابات الشمال ، وهو يصلب من جديد كل يوم ، بينما يظهر - وكأنها احدى معجزاته الجديدة - فوق أطلال بيت تهدم فى الحرب العالمية الثانية ليحطم البندقية التى علا صوتها فوق كل صوت .
** المأساة فى المنظر الطبيعى
- وعايش فاروق المجتمع الجديد ، حريصا على أن يحقق أكبر فائدة ممكنة من التقدم التكنولوجى فى المجال الفنى الذى تخصص فيه ، دون أن تتهدم شخصيته ، أو تنهار أخلاقه التى تربى عليها وراح يقيم المعارض المتتالية لفنه وللفن المصرى والعربى فى مختلف قاعات العرض بألمانيا ، وبلجيكا ، وفرنسا . وراح يشارك فى المعارض العامة الألمانية والدولية . ولقد بدأ يلمس بنفسه الإقبال المتزايد من الناس العاديين على اقتناء نماذج من أعماله فى مختلف مراحله الفنية ، ولم يغير هذا النجاح من نزعته الفنية ، وإن تغيرت موضوعاته . لقد ظل ` تعبيريا ` ، ولم يختف من أعماله عنصر المأساة .
- وكل ما أضافه هذا النجاح هو إضافة الألوان إلى لوحاته التى كانت كلها مرسومة باللون الأسود فقط . ومع هذا ظل العنصر التراجيدى المأساوى فى هذه الأعمال وفى ألوانها ، واتجه إلى رسم المناظر ، ولكن فى جو من الغموض والرهبة ، حيث تحلق فوقها الطيور ، وكأنها العقاب ، أو كأنها تفلت من أسر الجاذبية الأرضية أو تهرب من فخ أو قفص .
- الغابات عند فاروق عارية من الأوراق ، وفيها امرأة مهزومة فى زى يذكرنا بالفلسطينيات فى لوحات مرحلته الأولى .
- لقد بدأ فاروق يستخلص أشكاله من تحت المجهر ، ويركبها فى علاقات جمالية ذات روح تعبيرية قوية ، ويستخدم تجهيزات معامل التصوير الفوتوغرافى فى تحقيق تركيباته التشكيلية الجديدة ، حيث ظهر فى أعماله ما يشبه الصخور والأحجار تنبت منها أشجار جرداء ، وما يشبه الصحراء الجليدية التى تمتد إلى ما لانهاية ، وكأنها صور التقطت لسطح القمر أو للمناطق القطبية بينما الطيور تنقض أو تفر ، وكلتا الحالتين تحرك الإحساس بالفجيعة والرهبة لدى المشاهد .
** الطريق العكسى للتجريدية
- أجرى الفنان أبحاثا رياضية حول علاقات الألوان ببعضها البعض ، عندما أثبت وجود علاقة شكلية بين صور `الكون الكبير ` المتمثل فى المناظر الطبيعية والصور الفضائية من جانب ، والصور الميكروسكوبية فى ` الكون الصغير ` من جانب آخر .
- وحصل فاروق على درجة الدكتوراه عام 1981عن بحثه الذى كون هرما يضم 144 لوحة تعتمد على التبادل والتوفيق فى استخدام الألوان الأساسية ( الأصفر ، والأحمر ، والأزرق ) مع عمل تركيب من الصور الفوتوغرافية التى التقطت لأشكال فضائية ، وللغابات ، مع الصور الملتقطة من تحت المجهر .
- وعاد فاروق إلى عمله أستاذا مساعدا لفن الجرافيك بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية . ثم سافر فى العام الماضى إلى ألمانيا لمدة ستة أشهر ، معارا من جامعة حلوان كأستاذ زائر فى أكاديمتى الفنون الجميلة بمدينتى `نورمبرج ` و ` دوسلدروف ` ، وخلال فترة إعارته أنتج مجموعة جديدة من اللوحات يمكن أن نطلق عليها اسم ` الطريق العكسى للتجريدية ` ..
- إن الفنانين التجريديين منذ ` كاندنسكى` و `موندريان `، يقفون موقفا عدائيا من الاشكال الواقعية والطبيعية . إنهم يختلقون الأشكال والألوان اختلاقا من أذهانهم ، وينزعجون إذا لاحظوا أى تشابه بين ما يرسمون وما هو موجود فى الواقع ، كما ينزعجون أيضا عندما يظهر أى طابع زخرفى فى لوحاتهم . لكن الدكتور ` فاروق شحاته ` سلك الطريق العكسى : لم يرسم شيئا ، ولكنه اختار مجموعة من الصور الفوتوغرافية غير الملونة التى التقطت لمجموعة مختلفة من الخامات من تحت المجهر . عشر صور فقط من ` الكون الصغير الميكروسكوبى `، اتخذت ، بعد أن كبرها آلاف المرات ، أشكالا تنافس أية لوحة تجريدية ، لكنها من الطبيعة حيث تصور مقاطع لعدد من الخامات : الأخشاب ، والحديد ، والزجاج ، وعالم الميكروبات ، والبكتريا . لم يختلق شيئا من ذهنه ، لكنه قام بتكبيرها على مساحات متساوية ( 38 × 38 سم ) ، وراح يطبعها فوق بعضها البعض ، لكى توحى بأشكال موجودة فى الطبيعة ` الكون الكبير ` . وهى غابات ألمانيا
- ماذا يرى فنان مصرى فى غابات شمال ألمانيا ؟ إنها الأشجار المتعانقة ، والفروع المتشابكة ، والأضواء المتسللة من هذا النسيج الطبيعى ، لتضئ الأوراق المتساقطة المتباينة الألوان ، مع التداخل بين الظلمة والنور .
- وتحولت الأشكال التجريدية فى الطبيعة إلى مشاهد واقعية ، وكأنها صور التقطت بعين حساسة للعلاقات الشكلية والجمالية.
- لكن هذه اللوحات برغم مظهرها التجريدى ، تتضمن تعبيرا قويا عن أشكال واقعية ، وتمثل ردا على فكرة اختلاق الأشكال من الذهن ، وتعمد الابتعاد عن الواقع ، سواء بأصولها الفوتوغرافية الملتقطة لأشكال واقعية أو بمظهرها النهائى المعبر عن الغابات أو المياه المتساقطة أو تسلل الأضواء وانعكاساتها .
- إن العمل الفنى الجيد هو الذى يغوص إلى أعماق الذهن ، ويحفر فى الذاكرة ، فلا ننساه أبدا .
بقلم : صبحى الشارونى
مجلة : إبداع العدد (1) يناير 1986
- حالة إيجابية.. وفنان له دور فعال فى فن الجرافيك .. ولعله يتفرد دون غيره فى اشتراكه بالمعارض الدولية وورش العمل والندوات العالمية، فأصبح له اسم محترم وسط فنانى الجرافيك هنا وهناك .. ولا يمر عام دون كسب دولى لمكانته .. وهذا العام يشارك فاروق شحاته بمعرض خاص يضم خمسين لوحة مستخدما تقنيات فنية مستحدثه .. ويقام المعرض بدعوة من قاعة الفن الحديث بمدينة ` أنتى فيرب `
- التابعة لمتحف بروكسل ببلجيكا.. يفتتح المعرض السفيرة المصرية
`فاطمة الزهراء ` والسيدة كريستين مديرة المتحف.. وجدير بالذكر أن قاعة العرض الدولية بالمتحف تختار كل عام عشرة فنانين من أوروبا شرقا وغربا كألمانيا وفرنسا والمجر وسلوفاكيا والتشيك واليابان وروسيا وغيرها ، وهذه هى المرة الأولى التى يدعى فيها فنان من مصر .
إبراهيم عبد الملاك
صباح الخير - 2009
لوحات فاروق شحاتة فى متحف بروكسل . عوالم إيهامية لأكوان فضائية فى لوحاته الأخيرة
فى قاعة الفن الحديث التابعة لمتحف بروكسل بيلجيكا استضافت أكاديمية الفنون البلجيكية لأول مرة عرضا للفنان الجرافيكى الكبير فاروق شحاتة كأول فنان مصرى تستضيفه قاعة متحف بروكسل التى تعرض كل عام اعمال ثمانية فنانين الأكثر تميزا من شرق وغرب أوروبا وأمريكا .
وتعرض هذا العام للفنان فى امريكا..هولندا..اليابان ..النمسا..فرنسا..سلوفاكيا..التشيك ..ألمانيا..ولأول مرة مصر.
- إلى جانب المعرض التقى الفنان شحاتة مع الفنانين واساتذة الأكاديمية فى ندوة حول الفن المصرى المعاصر وأهم الفنانين المصريين المعاصريين .
-المعرض ضم خمسين لوحة فى فن الجرافيك حديثة انجزها بتقنية فنية مستحدثة عالية خلال هذا العام أثناء تواجده فى ورش العمل الدولية كل من المجر وسلوفاكيا ..ويستمر المعرض حتى نهاية ديسمبر وقد صاحبه اهتمام كبير من اساتذة الجرافيك بالأكاديمية ووجهوا الدعوة للفنان لحضور ورشة الفن الدولى التى تنظمها الأكاديمية .
- لوحات الفنان الكبير توحى بالمنظر الطبيعى والمشهد الفضائى فى نفس اللوحة ..ففى اللوحة الواحدة يمكنك ان ترى جزئيات دقيقة توحى بشريحة تشريحية لعنصر لا ندركه الا تحت المجهر ..وايضاً كأنك تشاهد بالتلسكوب مشهدا فضائيا كونيا أو كأنك تشاهد منظرا طبيعيا جليدى كأنه فوق أحد الكواكب المجهولة..
- ويقول الفنان شحاته: ` اعتمد فى أعمالى على احداث حالة من التداخل والتقاطع حيث اتوصل عن طريق الحذف تارة والاضافة تارة أخرى لتحقيق عالم خيالى خاص يحدث بصرياً ` ملامس ايهامية..ايقاعية ` .
- وتقف اعماله من روعتها بين مشهد شديد الدقة ومشهد شديد الاتساع فى تنوع لا نهائى وقد بدت بعض مشاهد لوحاته كأنك تشاهدها عبر شبكة دقيقة من الخيوط كنهج مستحدث يجعل للوحة مستويين..أحدهما أمامى مباشر والآخر داخلى غامض بأبعاده الثلاثة..
- ويقول الفنان : `التطور السريع للتكنولوجيا المعاصرة والمستقبلية` قدمت دفعة كبيرة لفن الجرافيك وللفنان الجرافيكى العالمى التقنية فمثلها يعتمد فنان الجرافيك اعتمادا كبيرا على التقنية إلا آن عملية الإبداع واستحداثاته خاصة مرجعها مهارية وقدرته على تطوير تقنية خاصة لمسايرة التكنولوجيا ليجعل التكنولوجيا ` مسخرة لأفكاره `.. ويقول :`استمد موضوعاتى من الطبيعة كأول بصمة تحدد هوية اللوحة ثم مع العمل داخلها يكون تصميم التقنيات الجرافيكية المستحدثة هى نفسها مصدراً لتجسيد الصور والأفكار`..
- تؤكد اعمال الفنان الكبير فكرة الثنائية بشكل مبهر خاصة فى لوحاته المعروضة فى بلجيكيا حاليا حيث يحقق التقابل بين الدقيق والعام المتسع ..وبين المسطح والعمق ..وبين الكون الصغير والكون الكبير.. بين المشهد المجهرى والمشهد التلسكوبى .
بقلم : فاطمة على
أخبار النجوم - 2009
فنان الجرافيك العالمى شحاتة ..انحاز للإنسان .. واتسعت أعماله للفضاء الكونى
- رحل الفنان الكبير دكتور فاروق شحاته أستاذ فن الجرافيك فى مصر وأحد أهم فنانى الحركة الفنية المصرية والعربية بل أحد أعمدتها عن عمر التاسعة والسبعين .. وهو الأستاذ المتفرغ بكلية الفنون الجميلة بالاسكندرية منذ 1998 .. رحل الفنان بعد معاناة مع المرض سبقتها حياة فنية حافلة بالعطاء داخل مصر وخارجها .. والفنان الكبير تخرج فى فنون جميلة الاسكندرية 1962 تبعه ماجستير فى فلسفة الفن 1972 وعمل أستاذا ثم وكيلا بالكلية .. وحصل على درجة الأستاذية من أكاديمية الفنون الجميلة فى دوسلدورف بألمانيا بدرجة امتياز عام 1976 ودكتوراه من جامعة الفنون فى نورنبرج عام 1980 .. وحصل على جائزتى الدولة التشجيعية والتقديرية فى الفنون .. وتولى قومسيرا لترينالى الحفر الدولى الثانى والرابع عامى 1988 و2002 ورئيسا شرفيا للترينالى فى دورته الخامسة .. وتولى رئاسة الندوة الدولية فى بينالى مصر الرابع لفن الجرافيك 2003 .. ولمكانته الفنية المتميزة قدم التلفزيون الألمانى ثلاثة أفلام تسجيلية عن مراحلة الفنية وتطورها ودورها الفاعل مع فن الجرافيك العالمى حيث إنه كان مقيما بين ألمانيا والنمسا والإسكندرية ومشاركا دؤوبا فى الفعاليات العالمية لفن الجرافيك المعاصر ..
وجاءت بدايته الفنية قوية منذ صغره بتشجيع ورعاية أستاذه للرسم فى مدرسته الثانوية الفنان السكندرى الكبير محمد عويس الذى أصبح فيما بعد عميدا لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية وكانت فرصة للتعرف على الكثير من المفاهيم الفنية ودورها الاجتماعى والجمالى .. وأتيحت فرصته الثانية بالتعرف إلى أحد أهم رواد الفن المصرى محمود سعيد وانبهر بعالمه وألوانه .. ولقاءاته ومناقشاته .. وهذان الفنانان الكبيران رسخا لديه مفاهيم حول الفن والإنسان واتجه بكل قوة إلى التعبيرية .. ولتكون فيما بعد هى بحثه للحصول بامتياز على درجة الماجستير فى ` التعبيرية اتجاه فنى معاصر ` ..
وقد مارس فاروق شحاته أحد أهم الرموز الفنية الكبيرة المهمة العديد من التقنيات الجرافيكية تكشف عن تطوره وعالميته تقنيا وفنيا .. مع اهتمامه بالمضمون والمعنى الأدبى داخل الشكل التعبيرى الواضح المعالم وبدا هذا واضحا فى مرحلته التشخيصية التعبيرية شديدة الإنسانية التى بها ذاع اسمه منتصف الستينات حين عبر بالأبيض والأسود فى عشرات اللوحات وبتعبيرية قوية وتوثيقية حول مأساة اللاجئين والقضية الفلسطينية بلوحات منها : `اللاجئين ` ..`الشهداء` ..`نظرة إلى الوطن السليب ` ..` من خلال الأسلاك ` و`الحدود ` .. وقد عرضها كقضية احتجاج ضد القهر كرسالة فنية وصرخة للقضية الفلسطينية ليعرضها فى عدة دول أوروبية انطلاقا من ألمانيا ..
كان للفنان الراحل رؤية واصرار مواكبة أحدث التقنيات فقد أدرك مبكرا أثناء دراسته ثم بتواصله والحياة فى الخارج ومواكبته لأحدث الفعاليات الدولية مدى التطور السريع للتكنولوجيا المعاصرة والمستقبلية وما قدمته من دفعة كبيرة لفن الجرافيك ) الطباعة الفنية ( وللفنان الجرافيكى العالمى التقنية باعتماده الكبير على التقدم التكنولوجى كأساس رغم أن عملية الأبداع واستحداثاته تعتمد على مهارة وقدرة الفنان على التطوير ليجعل التكنولوجيا مُسخرة لأفكاره .. فبينما استمد الفنان الراحل موضوعاته من الطبيعة كأول بصمة وعلامة تحدد هوية اللوحة ثم بالعمل داخلها تصبح التقنيات الجرافيكية المستحدثة هى نفسها مصدرا وأيضا وسيلة لتجسيد الصور والأفكار .. وحقق الفنان شحاته بأستاذية تكامل بين التقنية الجرافيكية الحديثة وبين مذهبه التعبيرى .. فعبر عن غربة الإنسان فى العصر الحاضر .. وبرؤية فلسفية تمكن وبمقدرة عالية من تكشف العلاقة الشكلية والعضوية بين الكون الكبير والكون الصغير فى لوحاته .. وقد ذكر الناقد الراحل الكبير صبحى الشارونى عن هذه الرؤية فى إحدى مقالاته : ` انتقل الفنان فاروق شحاته من مرحلة صور خلالها المناظر الطبيعية إلى الأشكال التى تظهر تحت المجهر والتى عبر من خلالها عن الإحساس بالوحشة والغربة والغموض .. ومن هذه الأشكال للكون الكبير والعالم المجهرى الصغير تطور بفنه إلى مرحلته التجريدية الملونة التى تقوم على حسابات رياضية وتنظيمات هندسية تحقق الوحدة مع التنوع فى تشكيلات لا نهاية لها لكنها فى نفس الوقت تتميز بالبهجة والفرح بعكس مراحلة الأولى التى كانت مشحونة بحس تراجيدى مأساوى عنيف ` ..
لذلك انفرد وتميز فاروق شحاته أثناء تواجده الفعال فى عشرات من ورش العمل الدولية الأوروبية والأبحاث المعملية ووجوده الدائم فى المعارض والندوات الدولية محققا لنفسه اسم كبير لفنان رفيع المستوى والمكانة الدولية بين أهم فنانى الجرافيك .. وقد استثمر هذه المكانة الدولية بتنظيم واقامة معارض فى الخارج لزملائه المصريين ولم يدع مناسبة الا وقدم الفن المصرى فى الخارج بأعمال أهم الفنانين .. وكان له دور مهم فى خدمة الفن المصرى بتحريره فصل عن الفن المصرى المعاصر يضم سيرة 250 فنانا مصريا فى موسوعة الفنون ` ركلام فولاج ` ..
عن اأما عن رؤية الغرب له فقد كتب أستاذ الجرافيك العالمى ولف ساكن هايمن ` فاروق شحاته واحد من فنانى مصر المعاصرة الذين قدموا لوحة الشرق لتجربة فنان عربى يتواجه بقوة وتجارب الفن فى العالم ليقدمها بثقة واصرار وعناد لا حدود له .. انه يرسم كما يتنفس ببساطة وجرأة وثقة بالنفس .. وحين كنت أستاذا له ــ وهذا ما أسمية بصدق المعاناة وصدق التعبير عن هذه المعاناة ــ وبقدرة فائقة أبهرتنى فى توظيف طاقاته الإبداعية اللونية من أجل خدمة التعبير الجمالى الشفاف لكل عنصر من عناصر لوحاته .. ففيها تقنيات مستحدثة فى عالم الطباعة الفنية المتطورة حيث نرى الايقاعات اللونية فى مرحلته الأخيرة التجريدية فى حلقات مدلولاتها التعبيرية لتعكس ايقاعات الوعى وايقاعات العاطفة بحوراته اللونية الغنائية الشرقية التى تشكل عودة إلى أجواء موسيقية اللمسة والانطباعى للوصول إلى ما يسمى بالتعبير التجريدى الانفعالى مع الحركة واشعاعات النور ففاروق شحاتة يصوغ باللمسة اللونية الغنائية نسيج أسلوبه التجريدى المعاصر فى بساطة وقوة تأثير معا `..
الأعمال الملونة الأخيرة للراحل الكبير أراها توحى بالمنظر الطبيعى والفضائى معا فى نفس اللوحة .. ففى اللوحة الواحدة يمكنك أن ترى جزئيات دقيقة توحى بشريحة تشريحية لعنصر لا ندركة الا تحت المجهر .. وأيضا كأنك تشاهد بالتلسكوب مشهدا فضائيا كونيا أو كأنك تشاهد منظرا طبيعيا جليديا كأنك فوق أحد الكواكب المجهولة .. لتقف أعماله من روعتها بين مشهد شديد الدقة ومشهد شديد الاتساع فى تنوع لانهائى .. وقد بدت بعض مشاهد لوحاته كأنك تشاهدها عبر شبكة دقيقة من الخيوط كنهج مستحدث يجعل للوحة مستويين أحدهما أمامى مباشر والاخر داخلى غامض بأبعاده الثلاثة وقد تستشعر بالفراغ الهوائى فيما بينهما .. فأعماله تفاعلية فى حيوية كحالة من التداخل والتقاطع حيث يمكن للفنان التوصل بسهولة عن طريق الحذف أو الاضافة لتحقيق عالم خيالى خاص به كانت آخر العروض الفنية للراحل الكبير عرضه الاستيعادى فى مكتبة الإسكندرية منذ حوالى عامين من خلال مائتى وثمانين لوحة مثلث رحلته الإبداعية لأعمال أنتجها فى مصر والخارج على مدى أكثر من خمسين عاما مع الطبعة الفنية .
فاطمة على
القاهرة : 2018/1/16
الفن والإنسان
- فاروق شحاته ( فنان يتمتع بشهرة واسعة فى مصر.. وتقدير عال في أوروبا ..عاد إلينا بعد غيبة ..فى ألمانيا الغربية. أقام خلالها أكثر من عشرين معرضاً خاصاً ومثل مصر فى أكثر من معرض دولى. عاد إلينا بلوحاته المثيرة بكل من تشكيلاتها وألوانها استخدم فيها أسلوب ` الأستنساخ الفنى` أو ` الطباعة الفنية ` أو` الجرافيك`.
- وكل فنان يختار ما يناسب مواهبه من أنواع التعبير. البعض يختار الرسم التصويرى والبعض يختار تشكيل التماثيل .. وآخرون يختارون الرقص .. أو الشعر .. أو الموسيقى.
- حتى الآن .. لم تتوصل كليات الفنون عندنا إلى ترجمة دقيقة لفن ` الجرافيك` الذى هو نوع من الرسم يختلف عن الرسم التصويرى الذى يعتمد على الألوان بأنواعها .. والذى كان يعرف قديماً بأسم ` التصوير الزيتى ` حين كانت تستخدم فى إبداعه الألوان الزيتية فقط، ولايبدع صاحبه سوى لوحة واحدة فى كل مرة . أما فى ` الجرافيك` .. والذى كان يسمى ` فن الحفر` هو يسمح للفنان بأن يخرج عدة نسخ من اللوحة الواحدة تعتبر كل منها أصلاً فى حد ذاتها . كان يسمى فن الحفر لأن الفنان كان يحفر رسمه على سطح صلب، كالخشب .. أوالمشمع .. أو الزنك .. أو النحاس، مستخدماً أبرة أشد صلابة من السطح المرسوم، فيتحول الرسم إلى خطوط غائرة يملؤها الفنان بالحبر، ثم يبسط فوقها ورقة يضغط عليها ، فينتقل الحبر إليها وتظهر الصورة معكوسة . وبتكرار هذه العملية ، يحصل الفنان على عدة نسخ من الصورة الواحدة .
- الجرافيك إذن .. هو فن الرسم القابل للأستنساخ .. ومنه ` الليتوجراف` أو الطباعة على الحجر بدون الحاجة إلى الحفر. ومنه الرسم بإستخدام الشاشة الحريرية التى أصبحت الآن تختلط بإمكانات التصوير الفوتوجرافى، حتى أن المحاولات تبذل عبر العالم، لأستنساخ صور طبق الأصل بهذه الطريقة لأشهر روائع الرسم التصويرى.
- يلعب الفنان دوراً أساسياً في فن الجرافيك ولا يعتمد على الآلات الميكانيكية والمواد الكيماوية، إلا بقدر ما يعتمد الرسام على فرشاته وآلوانه، والنحات على إزميله وأحجاره .
- هذا هو الاسلوب الذى اختاره فناننا فاروق شحاته ليجسد خيالاته على الورق .. وليصبح إبداعه فى متناول الجميع .. واللوحات الجرافيكية رسائل جماهيرية .. تتوفر لها طبيعة الذيوع والإنتشار، وبعكس الرسم التصويرى الذى يبدو كأنه رسالة خاصة بين المبدع والمقتنى .. لأنه فن اللوحة الواحدة . تتحلى لوحات فاروق شحاته بصفة العمومية فى كل من الشكل والمضمون لكنها واضحة العناصر .. وعلى علاقة عميقة بمشاعر الإنسان فى كل مكان تعبر عنه وتتحدث إليه . إنها كالطبيعة .. تنطق بلغة الأشكال والإثارة التى نستشعرها فيها مستمدة من أنه يلمس أوتاراً خاصة فى أعماقنا . ويأخذنا بطائف من الرهبة والجلال والتفكير فى المجهول فنحس مع لوحاته بأننا جزء من هذا الكون الشاسع الذى لا نعرف له قراراً . وتشدنا شداً إلى ذلك الحقيقة . التى ننساها فى زحمة الحياة.
- قبل بعثته إلى ألمانيا ، اشتهر فاروق بأنه مأساوى الطابع، استناداً إلى ما كان يبدعه فى مطلع مشواره الفنى، حين دخل دائرة الضوء وأيام أن كان يشكل عناصر إبداعه من هيئة الإنسان المقهور .. مقروناً برموز الموت والدمار، عازفاً على الألوان بهدف المزيد من التعبير عن المحنة والفجيعة. كان حينذاك يصور شكل الإنسان أما الآن .. فهو يصور روح الإنسان التى هى من روح الكون الفسيح . لذلك نشعر مع إبداعه الجديد بأننا باقون فى هذا الكون الجميل .. ما بقيت الأشجار والصحارى . والكواكب والسماوات . أنه يكشف لنا عن سر الحياة .. ويترجم رموز الطبيعة التى تحدثنا بها فى كل ما نراه حتى ما نراه تحت المجهر حين نتأمل الذرات وخلايا الكائنات، مشيراً فى كل ذلك إلى قلق الإنسان وأشجانه لم ينحرف إبداع فاروق حتى التعبير عن ` الواقع الثانى` .. ذلك الواقع المستخفى خلف زخرف الحياة ومشاغلها . يحدثنا تارة بتشكيلات من الأشجار ومساحات من الأرض والسماء .. وتارة أخرى بوحدات من شكل الإنسان وأدواته فى الحياة وقد تبدو لوحاته كاملة التجريد فى بعض الأحيان ، لكننا لو أمعنا النظر لأكتشفنا أنها لا تختلف فى معناها ومغزاها عن غيرها من اللوحات .. حتى تلك التى كان يبدعها قبل رحيله إلى ألمانيا.
- ليس صدفة أن يجذبنا إبداعه فننسى أنفسنا في أجوائه الشاعرية الحالمة .. لأن صدق إحساسه .. وقدراته الفائقة على تجسيده على الورق ، والموهبة الغالية التى يتمتع بها ، هى التى تجذب انتباهنا وتثير خيالنا وتستنهض تفكيرنا .. وتدعونا إلى تأمل أنفسنا من جديد كعناصر ذات قيمة في الحياة من حولنا، طبيعية كانت أو إجتماعية. وإن تلك الحياة .. ليست سوى أنشودة رائعة . نحن أوتارها .. ونحن أنغامها ...
- رأى فاروق نور الدنيا فى حي محرم بك بمدينة الإسكندرية سنة 1938 إلا أن غشاوة حزينة سربلت مشاعره وأحساسيسه عن السنين . حتى رافقت إبداعه حين احترف فن الجرافيك فيما بعد. ربما يرجع ذلك فى حساسيته المرهفة نحو الآخرين وشعوره بآلامهم وأحزانهم كأنها آلامه وأحزانه وبالرغم من أنه يبدو مرحاً مبتهجاً دمث السلوك ، لا تكاد تطرق أبواب نفسه حتى تدهشك غابة من الأحزان متشابكة أغصانها .. مظلمة جنباتها ترف في أحشائها أسراب البوم .. وتسعى على أرضها ضباع وذئاب تفترس بهجة الحياة وزخرفها ، تلك المآسى الغامضة نستطيع أن نراها رأى العين .. فى لوحاته العديدة التى لفتت الأنظار طوال السنين ، قبل بعثته إلى ألمانيا فى عام 1975 .
- .. عرفنا فاروق شحاته لأول مرة حين تردد اسمه سنة 1957 فى الدورة الثانية لبينالى الأسكندرية الدولى ، حين اشترك بلوحات أربع مرسومة بالحبر الشينى، خلعت على المشاهدين غلالة من الرهبة والغرابة والخوف ، لما تضمتنه من مواجهة مرة لحقائق الحياة . لم يختلف أثنان من النقاد وكبار الفنانين حينذاك على أن فاروق شحاته هو ممثل الأتجاه ` التعبيرى` فى الحركة الفنية المصرية المعاصرة .
- إلا أن مستقبل فاروق كفنان، تحدد منذ طفولته منذ أن كان يصطحب شقيقته الكبرى وأستاذتها الفنانة المعروفة نازك حمدى، إلى حدائق انطونيادس ترسمان المناظر والتخطيطات. ثم توطدت علاقته بالرسم فى المرحلة الثانوية ، حين بهرته لوحات أستاذه حامد عويس بمساحاتها الصرحية ...وموضوعاتها الشعبية ...وتنويراتها المعبرة ، وحين ألتحق بكلية الفنون بالأسكندرية، اكتشف مبكراً أن الفن التشكيلي، شأنه كل الفنون رسالة جماهيرية وليس متعة شخصية، وأنه لا معنى لفن محبوس بين جدران أربعة. إلا إذا كان للزينة ولوحات فاروق قبل بعثته إلى ألمانيا، كانت أبعد ما تكون عن الديكور فموضوعاتها المأساوية المتسمة بالعنف والقسوة، كانت تظهر فى صراحة مريرة، عذابات الإنسان الذى أخرج من دياره قهراً .. وأضطر إلى التخلى عن أرضه قسراً بعد العدوان الثلاثى على قناة السويس ومن ذا الذى يزخرف بيته بلوحات فيها ما فيها من قسوة التعبير، وتحريف لشكل الإنسان المطحون. ورموز الموت والدمار والتحطيم: كالبوم والغربان .. والقطط الشرسة والذئاب. والطيور الممزقة بين مخالب الجوارح .. حتى الألوان نادراً ما كانت تتسلل إلى تكويناته كابية النغمات .. تعمق الإحساس بالفجيعة والمأساة . كل ذلك كان ينأى بلوحات فاروق عن الأمتاع والتسلية، مهما كان مدى صحة أراء هربرت ريد - عميد نقاد بريطانيا - من أن الجمال ليس بالضرورة قريناً للفن - فقد كان فاروق فى تلك المرحلة أقل الفنانين تسويقاً لأعماله. واقتصر اقتناؤها على المتاحف فى القاهرة .. والأسكندرية.. وباريس .. وموسكو اقتصرت عروضه على المحافل الدولية والمناسبات الوطنية.
- ست سنوات غابها فاروق عنا قضاها فى أكاديمتى دوسلدورف ونورمبرج فى ألمانيا عاد بعدها يحمل شهادة الدكتوراة ليعمل أستاذاً مساعداً فى كلية الفنون الجميلة بالأسكندرية ولكن .. من قال إن الشهادة أو الوظيفة تصنع فناناً؟ سافر فاروق فناناً مرموقاً .. عاد أكثر لمعاناً وتوهجاً . اكتسب مكانته من المسيرة الشاقة عبر السنين.. مبقياً على العهد .. صادقاً مع نفسه .. مخلصاً لقضايا الإنسان المتطلع إلى الأمن والسعادة .. بينما تحول معظم رسامينا ونحاتينا إلى التجريد اللاموضوع.
- تطور أسلوبه خلال غيبته فأصبح أكثر رشاقة وأشد إحكاماً. وداخلته الحنكة والدراية والتكنولوجيا. واختفت منه الكوابيس المفزعة لتحل مكانها التكونيات الهادئة الحالمة.. والمساحات اللونية الرقيقة والملامس الناعمة.. إلا أن هذا الثوب القشيب الذى يطالعنا به، لا يغطى عنا أجواء التوقع والقلق.. والإحساس بالعواصف الكامنة فى أحشاء الهدوء.والعزلة الممكنة المتوارية خلف الشجيرات اليتيمة فى بطاح الجليد أو الرمال.. وتفاهة الكائن البشرى فى ذلك الكون اللامتناهى.
- مازالت لوحات فاروق شحاته تمثل الوجه التعبيرى لحركتنا التشكيلية المعاصرة. لم يستلهمها من الغرب أو الشرق،وإنما استنبتها من أعماق أعماقه.ودفين مشاعره. ورغبته العارمة فى الكشف عن حقائق الحياة.
- ` الأتجاه التعبيرى` فى الفن التشكيلى قديم قدم الإنسان نفسه من حيث إنه تصوير للباطن دون الظاهر..وتجسيد للمضمون المستخفى للمرئيات،عن طريق تحوير الشكل السطحى للعناصر المرسومة.. سواء كانت إنساناً أو حيواناً ..أو أى شئ آخر، بما يناسب إظهار هذا المضمون على مسرح الواقع المرئى. عرف الإنسان القديم كل هذا فيما صوره من كائنات خرافية لا وجود لها فى عالم الحقيقة لكنها كانت قائمة فى عقله وخياله والمصريون القدماء فى تماثيلهم وتصاويرهم وما فيها من الرموز والكنايات. التى هى من صلب الفن التعبيرى.كما عرفه اليونانيون والصينيون، بل إن الإفريقيين لم يعرفوا فناً غير التعبيرية حتى الآن، وكانوا هم أساتذتها بالرغم من أصرار المؤرخين الأوروبيين،على أن الرسم التعبيرى قد ظهر أول ما ظهر بين فنانيهم في ألمانيا وفرنسا قبيل فجر القرن العشرين. إلا أن الذى حدث أنها بعثت فى أوروبا ، واجتذبت الأضواء ما بين عامى 1910 و 1920 . ثم استمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية ( 1945) . وكان الدافع القوى لبعثها هو رغبة شباب الفنانين الأوروبيين فى مواجهة انتشار الفن التأثيرى، الذى أهمل قضايا الإنسان .. وابتذل مشاعره ومآسيه . وانصرف عنها إلى التغنى بجمال الطبيعة الخلوية، وتطبيق نظريات علم الضوء على الألوان ومراقبة تغايرها فى أشعة الشمس من الشروق إلى الغروب، وكان كل شئ هادئ تماماً على الصعيد الإنسانى..لا حروب .. ولا أزمات.. ولا كوارث ومجاعات.
- حين نتحدث عن تعبيرية فاروق شحاته، لا ينبغى أن نرجعها إلى أى جذور أوروبية كما نستطيع أن نفعل مع معظم الإبداع التشكيلى فى مصر الآن .. وفى العالم الثالث بوجه عام لأن فاروق يضرب بجذوره بعيداً فى أعماق التراث البشرى .. يخاطب بفنه الإنسان فى كل مكان..لا ينظر أحد إلى لوحاته دون أن يسبح فى بحر من التأملات .. تزكيه من الزيف الذى يحجب عنه حقائق الحياة.
- كان فاروق فى بداية حياته الفنية مغرماً بالمساحات الصرحية، محفورة على الخشب المضغوط..أو مطبوعة على الحجر..أوالأوفست`وهو نوع من الطباعة الميكانيكية` أو بالمونوتيب ` وهو نوع من الطباعة ينسب إلى فن الجرافيك`، لن تتجه مساحاته إلى الصغر إلا حين اتبع أسلوب الإبداع بالشاشة الحريرية، قبيل بعثته إلى ألمانيا حيث ارتقى بهذا الأسلوب مستفيداً من التكنولوجيا الحديثة التى مكنته من إبداع الروائع التى شاهدناها بعد عودته.. وشاهدتها أوروبا قبلنا طوال 4 سنوات خلت حين مثل مصر فى` بينالى لوبليانا الدولى` بيوغوسلافيا سنة 1976 ثم فى خمس عشرة مدينة ألمانية من بينها دورسلدورف ونورمبرج وبون وفرانكفورت. إلا أن إبداعه لم يكن جديداً على أوروبا، فقد سبق له أن عرض فى باريس .. وروما وموسكو وأوديسا وصوفيا ومدريد وغرناطة ورشح سنة 1970 لتمثيل فن الجرافيك المصرى فى بينالى فينسيا الدولى فى إيطاليا.
- منذ إلتحاقه بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية لم يترك فاروق قلمه وأوراقه ليل نهار، وتلك هى من علامة الفنان كان شعلة من النشاط والحركة. يتألق نجمه ضمن الدفعة الأولى من طلبة الكلية الذين يلعبون الآن دوراً هاماً فى تنشيط وإزدهار المعركة الثقافية فى مصر، ويعتبرون من الجيل الثانى بعد سيف وأدهم وانلى ومحمود موسى هؤلاء الكبار كانوا أساتذة فى الكلية حين فتحت أبوابها، بالرغم من أنهم لم يحملوا وريقات البكالوريوس والدكتوراة. وكان أحمد عثمان - النحات الراحل - عميداً..وعبد الله جوهر رئيساً لقسم الجرافيك .. ولم يمض وقت طويل حتى عادت مريم عبد العليم من أمريكا وماهر رائف من ألمانيا، مما أضفى على الكلية جواً فنياً راقياً ترعرع فيه فاروق شحاته وصحبه.
- كانوا يقضون أصباحاتهم فى مراسم الكلية وأمسياتهم متجولين فى مقاهى الإسكندرية وطرقاتها . واتخذوا لنشاطهم مرساً خاصاً حتى تخرجوا فى عام1962فانقسموا إلى جماعتين:` التجريبيون` ومن بينهم مصطفى عبد المعطى وهم تجريديون بعيدون عن التشخيص أى مشابهة الأشكال الظاهرية لعناصر الطبيعة.و `جماعة الفن والإنسان`التى قادها فاروق شحاته وأقامت أول معارضها بعد ثلاث سنوات من التخرج فى قاعة الفنون الجميلة بالقاهرة التى كانت فى ميدان الفلكى.
- إذا كانت الفنون عامة نوعاً من الأغتراب النفسى- كما يقرر علماء النفس- فربما تكون ` التعبيرية` فى الفن هى أقوى أشكال هذا الأغتراب. إذ أن` الأغتراب` كما يقول أبو حيان التوحيدى هو` التخارج` بمعنى أن يعيش الفنان بوجدانه خارج الحياة الواقعية الملموسة التى تحيط به. وقد إزداد إحساس فاروق بالأغتراب حين رحل إلى ألمانيا، حيث أضاف إلى إغترابه النفسى اغتراباً مادياً أيضاً، خاصة وقد توفيت والدته قبل سفره مباشرة .. ولم يكن فى وداعه فى مطار القاهرة سوى شقيقه وزوجته . ثم طار إلى ألمانيا ليحيا فى مجتمع غريب عنه تماماً بين أناس لا يعرف لغتهم وطبيعة سلوكهم .. ويفتقد فيهم الدفء الشرقى، ويبدون فى عينيه كأنهم من طينة أخرى. تسيطر على حياتهم الروح العملية وحب المال. لم ير فى دسلدروف سوى المأساة الإنسانية بشكل آخر فمضى يصور الشيوخ العجائز..وهم يقاسون الوحدة القاتلة فى خريف العمر .. لا يجدون ملاذا لتعاستهم سوى الحدائق العامة يركنون إليها بالساعات .وبيوت المسنين يلجأون إليها .بعد أن تفككت الأسرة وتخلى عنهم الأصدقاء بعد الأبناء.. صور فاروق مجموعة كبيرة من تلك المآسى على لوحات كبيرة مثيرة بالأبيض والأسود، عرضها فى` بينالى لوبليانا الدولى` بيوغوسلافيا سنة 1976 تحت عنوان` الجنس والأغتراب` لم يدخل الألوان على رسومه استكمالاً للجو الحزين الذى يغلفها. ثم استفحلت المأساة حين داهمه المرض وأقام فى المستشفى شهوراً ثلاثة ، أجريت له خلالها جراحتان خطيرتان، فازداد شعوره بالوحدة والأغتراب.. وتعمق إحساسه بإنه جزء من هذا الكون، وواتته ، فكرة رسالة الدكتوراة ، التى أثبت فيها أن النظام الكونى موجود فى أصغر الذرات كما فى أكبر الأشياء، كان يقضى أوقاته فى تأمل الخلايا الحية وذرات الأشياء تحت المجهر الإلكترونى، فتبين أن التجريد فى الفن هو مجرد نظام وأنه ليس بعيداً عن مشابهة الطبيعة.. من هذا المنطلق.. نشأت أفكار موضوعات الشمس والقمر والصحارى، التى حقق فيها اللقاء الشرعى بين كل من التجريد والطبيعة فى الإبداع الفنى، صحيح أنه لا توجد صحارى فى ألمانيا . لكنها كانت قائمة فى نفسه وأحساسه ، رمزاً للوحشة .. والوحدة .. والعزلة .
- فاروق شحاته من الفنانين القلائل الذين سافروا إلى أوروبا ثم عادوا بدون منظار أوروبى، يرون مصر من خلاله ..ويفكرون بواسطته فى فلسفة الفن. ذهب مصرياً مغترباً .. وعاد مصرياً مغترباً، وكانت لوحاته دائماً تصويراً لإغترابه وحلمه وخياله وحياته الداخلية سواء فى مصر أو فى الخارج، استخدم للتعبير عنها الرمز والأستعارة والكتابة شبه الإنسان بالشجر. والعالم بالأرض .. والوحدة بالشمس والقمر. والفراغ بالصحراء. كل هذا فى بساطة وبلاغة ورقة بلا حشو ودخول فى التفاصيل. مضيفاً اللون ليعبر عن مزاجه النفسى واهتزازه العاطفى لذلك نشعر مع لوحاته أنه يحدثنا ويهمس لنا أحياناً، بعناصره المرسومة فى تكوينات محكمة، وألوانه البسيطة الواضحة غير مسرف فى خطوطه وألوانه لكنه يضعها حيث ينبغى لها أن تكون فتكتسب غنى وثراء.. وتسفر عن المعنى والمغزى، كأنها الكلمات تقال فى موضعها.
- فاروق ليس فنان` انتقائياً` يختار من أساليب الآخرين طرائف يشكل منها شخصية لوحاته. وليس` نمطياً` يلهث خلف أسلوب فنان معين يقلده، إنما هو فنان أصيل.. يرى ويسمع ويحس ويفكر ويتأمل ويتخيل ثم يعبر بمهارة وقدرة وموهبة فريدة فى الإبداع.
- يقول فاروق شحاته أشعر أننى شخصان واحد أراه حين أنظر فى المرأة .. يعرفه أصدقائى ومن يحطيون بى .. وآخر بداخلى أعرفه جيداً .. له أفكار وخيالات ورؤى هى التى أصورها فى لوحاتى .
- هذا هو الأغتراب .. وهذا شأن جميع الكبار الذين تنتابهم حالات من الوجد الروحى أثناء عملية الإبداع . لكن هذه الحالة لا تتوفر لأى فنان مهما بلغت موهبته، إذا لم يكن متمكناً لأقصى حد من أدوات الإبداع.
- لم تجتذب فاروق البدع الفنية والموضات التى تغمر أوروبا سنوياً بالمئات، والتى يتلقفها معظم فنانى العالم الثالث متوهمين أنها المثل الأعلى المحتذى. كان يتبين دائماً الخيط الرفيع الذى يفصل بين الصدق والكذب.. بين الرائعة الفنية والعمل الزائف الذى يدهش المشاهد بما فيه من ألاعيب حرفية قد تعجبه لأول وهلة . لذلك جاءت لوحاته الأخيرة دعوة أخلاقية وإنسانية تتضمن الحكمة فى رقة وجمال ودعوة للأرتفاع عن مستوى` الأنا` الصغيرة التافهة .. إلى` الأنا` الكبرى التى تضم بين حروفها كل الجنس البشرى..
بقلم : الناقد د. / مختار العطار
من كتاب رواد الفن وطليعة التنوير - الجزء الثانى
|