`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
عدلى رزق الله عبد المسيح

- على مدار عمر حركة التشكيل المصرى المعاصر والتى قاربت على المائة ، برزت تجارب فنيه متميزة ، ومتفردة ، وهو ما يدعونا باستمرار الى تقديم فكرة المعارض الاستعادية ، التى تتيح بقاء هذه التجارب حيه فى ذكراتنا ، وايضا ذاكرة الاجيال الجديدة ، فاذا كنا نجنى ثمار حياة فنية مزدهره الان ، فيرجع الفضل فى ذلك الى عطاءات اجيال تعاقبت ، وقدمت لأمتها خلاصة فكرها وابداعاتها .
- وتأتى تجربة الفنان : عدلى رزق الله ` واحدة من تلك التجارب ، التى حرصنا أن يطلع عليها أكبر عدد من متذوقى الفنون الرفيعة ، بأعتبارها تجربة تمتلك ابعاداً متعددة لجوانب الابداع ففى الوقت الذى يختار فيخ المائيون العرب موضوعا اثيراً للوحاتهم ، لا يتعدى المنظر الطبيعى ، او تسجيل جانب من الطبيعة ، وتخليد ظاهرة مكانية ، تميز الفنان ` عدلى رزق الله ` بأقتحامه منطقة جديدة للتعبير بهذه الخامة الرقيقة الشفافة والعنيدة فى الان نفسه ، متجاوزاً تلك الطبيعة الخاصة للخامة ليخلق لنفسه اسلوبا متفرداً ، ومغايراً بعد أن شحن الوانه بطاقة تعبيرية ديناميه هائله ، معبراً عن الرموز التى توحدت حولها الامه كالنخلة ، والطابع المعمارى المميز ، والقباب ، والصحراء ، كما لجأ الى صياغة جديدة كان الفنانون العرب يتعاملون معها بحذر وهى استخدامه للون الاسود فى الوانه المائية جرأة متفردة أضافت على ابداعاته صفة الاختيارات الصعبة فى التناول والمعالجة .
- وفى واحد من أختيارات الفنان الصعبة اتجه بقوة يحسد عليها الى عالم مطبوعات الاطفال ، حيث أضاف الى المكتبة العربيه نماذج متفردة ومؤثرة فى هذا المجال الظمأن ، بعد ان تميزت ابداعات بلغه مصرية واعية وبليغة ، تصال الى حد التعقيدة الثابتة التى كانت غائبة فى هذا المجال .
أ.د/ أحمد نوار

وصية عدلى رزق الأخيرة
رحل رائد التصوير بالألوان المائية بعد نصف قرن من الإبداع
- أحدث رحيل الفنان الكبير عدلى رزق الله صدمة كبيرة فى الوسط التشكيلى والثقافى خاصة بعد رحيلة بأيام من رحيل الفنان الكبير محيى الدين اللباد .. وكلاهما قيمة تشكيلية كبيرة لجديتهما فى مجالهما الإبداعى وما حققاه من مدرسة فنية خاصة بكل منهما .. كما أن كلا منهما عملا فى دار الهلال لسنوات .
- ورحيل الفنان عدلى أفقد مجال التصوير بالألوان المائية أستاذا كبيرا تميز بقدر هائل وجاد من البحث مع الخامة والموضوع ذاته خاصة المرأة وبذلك التعامل بدقة أداء ورهافة حس مع الخاصة والموضوع .. ولتكون خسارة الحركة التشكيلية كبيرة باختفاء قامتين كبيرتين ومهمتين فى مجال الفنون التشكيلية .
- وقد رحل الفنان عدلى عن عمر يناهز 71 عاما بعد صراع مع مرض سرطان المثانة بمستشفى السلام وكان قد دخل الى غرفة العناية المركزة الاحد الموافق 12 سبتمبر وكانت حالته صارت فى تدهور مستمر .
- والفنان الكبير أستاذ الألوان المائية من مواليد محافظة أسيوط وعمل رساما بدار الهلال وبعدها درس فى معهد الدراسات القبطية والتقى وتعلم عن الفنانين حبيب جورجى .. راغب عياد .. وويصا واصف وعاش الفنان لعشر سنوات فى باريس فى السبعينيات ودرس الفن بمعهد الفنون ونهل من منابع الفن فى متاحفها الكبرى وحقق لنفسه نجاحا ملحوظا .. وقرر أن يعود الى مصر ثانية.
- ومنذ ثلاثين عاما قرر أن يتفرغ كليا للفن التشكيلى الى جانب اهتمامه بقوة وحب لعالم مطبوعات الاطفال الذى أثراه بأعماله بالرسم والكتابة مضيفا الى المكتبة العربية نماذج متفردة ومؤثرة فى هذا المجال ونال شهرة كبيرة فى مجال رسوم الاطفال ومما كتب للأطفال : ` مين ومينيت ` صدر فى باريس 1978 ` الأوزة البيضاء ` 1980 .. ` القط يحب الغناء ` 1983 .. ` الفانوس والألوان ` 1983 .. ثم مشروعه المتميز ` العب .. العب .. العب وتعلم ` وهو مشروع تعليم الاطفال بصريا عن طريق الفن .. والفنان عدلى طوال حياته الفنية متميز بمكانته الفنية الرفيعة المستوى انسانيا وخلقيا بين المثقفين والفنانين والادباء وكان له موعد أسبوعى فى مرسمه يلتقى بهم يناقشون احدث الابداعات والاحداث الفنية والأدبية فكان هذا الملتقى المصغر بؤرة ضوء ومداد يمده بالحيوية وسعة الافق تجاه الاتجاهات الفنية الحديثة وما بعد الحداثة كإتجاهات وأسباب التجديد فى الفنون والآداب .
- وكان لتجربته الفنية فى التصوير بالألوان المائية أهمية كبيرة ومتفردة فى الخروج بالتصوير بالألوان المائية من حيزها الضيق الى رؤى تجريبية أوسع كما أنه أهتم بخامة الورق كإهتمامه باللون نفسه فكان يهتم بملابس الورق لتضيف ابداعا بدرجات امتصاصها المختلفة للون ولكثافته المائية فكانت خامة الورق مشاركة فى ابداعاته خاصة أن خامة الورق هى ذاتها من ألياف شجرية رويت فى شكلها الاول بالماء فكان هذا الاتصال والتواصل حى وحيوى فى التعامل بين ألوان مائية فوق أوراق الماء له نصيب فى تكوينها السابق .. وبذلك أضاف ما يثرى الخامة بشكل تبادلى شديد الحساسية والرهافة .. وحقق لنفسه بذلك تجربة متفردة فى تميزها البحثى .
- كما أن الموضوعات التى عالجها فى لوحاته المائية لم يجعلها مقصورة على المنظر الطبيعى كما هو معتاد التعامل مع الألوان المائية بل جعلها بحث مزيد فى جزئيات من الطبيعة المرئية بنباتاتها الرهيفة الرقيقة وبايحاءات الاهتمام بالمرأة كجزء حيوى فى لوحاته .. وإلى جانب هذه الرهافة فى تعامله مع العضويات ومع رهافة الزهور والعشيبات الرقيقة نراه فى تحد صعب أقام حس معمارى راسخ فى لوحاته مستوحى اياه من القباب والنخيل محققا علاقة تبادلية بين الهيئة المعمارية والحس العضوى الرهيف .. ومن إنجازاته الجزئية بألوانه المائية أن ادخل اللون الاسود لنجد بذلك أن بحثه الفنى قام على التحدى الدائم مع نفسه والخامة وكان تحديه الأكبر فى قراره العودة الى مصر رغم نجاحه فى باريس مثلما سيقه تغيير عقيدته ارضاء لقناعاته وربما يرجع هذا التحدى القائم المستمر مع نفسه وفنه الى قراءاته الاولى وتأثيرها عليه فقد قرأ فى شبابه كتاب ` هذا تكلم زرادشت ` للفيلسوف الالمانى نيتشه وقد دله هذا الكتاب على السر الاعظم داخل الانسان وهو الارادة والقوة الداخلية .. وقد بدا بعد نظره حتى فى ساعاته الاخيرة حيث اوصى قبل وفاته بساعات ألا يقام له سرادق عزاء بل أن يقام معرض خاص بأعماله الفنية كتأبين له .
فاطمة على
مجلة أخبار النجوم - سبتمبر 2010
الصعود إلى النهاية
- وفى وقت لم نفرغ فيه من الحزن على رحيل الفنان محيى الدين اللباد .. والذى رحل فى بداياته .. لاحقنا الموت برحيل الفنان عدلى رزق الله والمسافة بينهما لم تتجاوز ثلاثة عشر يوما .
رحل رزق الله بعد صراع ومعاناة مع المرض عن عمر يناهز 71 عاما لكن ما يعزينا أنه ترك ثروة إبداعية ضخمة تمتد من رسوم الأطفال ` آلاف من الرسوم والنصوص ` فى لفائف أسطوانية .. وقد حول جدول الضرب إلى 5500 رسم يلعب به الأطفال أثناء تعلم ` الضرب ` ومازالت تحت الطبع .. هذا مع مائياته التى تتجاوز الألف لوحة ببضع مئات .. وتألقت لشمس مصر المحروسة فى الشروق والمغيب أو الغروب .. جعلت منه شاعرا تشكيليا .
- وليس أجمل من تتبع سيرة ومسيرة فناننا من خلال كتابه ` الصعود إلى البداية ` والذى كتبه فى قمة تألقة .
- تتصدر الكتاب كلمة تعكس شخصيته العاطفية : ` أنا أعرف أعرف أنى لا أعرف .. تعطينى وصيفاتك قطرات لكنك أنت وحدك .. تملكين المعرفة ..لولاك ستكون حياتى عبثا .. أتمنى ألا يصيبنى الوهن قبل أن أصلك لتضمينى ضمة المعرفة .. الموت !! ` .
- ويقول : ` الفن بداية أبد .. الفنان على طريق البداية حتى موته الجسدى .. والوصول خدعه لو اعتقدها الفنان كان فى هذا الاعتقاد نهايته .. الفنان خارج على قانون وخالق لقانون فوضوى وملتزم فى آن واحد !! كيف ؟ هذا هو سر جمال الفن ` .
- ولدت عام 1939 بأبنوب الحمام أحد مراكز محافظة أسيوط فى صعيد مصر .. ومازلت أذكر روائح الصعيد الحارة والحريفة والمزاحمة لك أبدا فى كل مكان .. وحين تهب نسمات هواء تميل أذرع النباتات وتخرج روائح .. تنساب عطرة ذكية .. كل حقل له أريج وكل نبات أيضا وكل ثمرة مثل البلح الأسيوطى .
- كانت تفوح من أمى روائح شتى .. روائح العجين من الخميرة إلى العجين الطازج إلى روائح الفرن .. ويفوح من جسدها وجلبابها روائح اللبن بعد حلب البهائم أو بعد وضاعنا .
- وتفوح من جلباب أمى رائحة الصابون النابلسى وغيره .. ورائحة تراب الفرن الأسود الناعم الذى يجلى الأوانى النحاسية كأحسن ما تكون .. ورائحة رغاوى الصابون مختلطة بالعرق والتراب ثم الرائحة الرائقة الصافية للصابون فى ` الفم الأخير ! ` .
- مرت سنوات الطفولة المبكرة سريعا .. ورحلت الأسرة إلى القاهرة وأقامت بدير الملاك .. كانت دراسته فى الروضة والابتدائية بالمدرسة الإنجيلية .. وقد فتحت مجلة سندباد طفولته النهمة على عوالم سحرية وطاقات من الجمال لا حد لها .. شخصية سندباد الرحالة بزيه العربى وعمامته الكبيرة والعصا على الكتف حامله ` بفجة ` الملابس .. والكلب نمرود ملتصق به .. ` رحلات خيالية بقلم الأديب محمد سعيد العريان مكتوبة بالعربية الفصحى الرصينة مع رسوم بيكار فارس المجلة الأول الذى شكل وجدانى البصرى والخيالى ` .
الفنون الجميلة
- وحين حصل عدلى رزق الله على التوجيهية عام 1955 .. التحق بالفنون الجميلة .. وهناك أخذ يجتهد بكل جوارحه .
- ` كان الأساتذة يتكلمون عن النسب والظل والنور .. ملمس السطح والتكوين والنقل عن نماذج إغريقية .. ثم الطبيعة الصامته والموديل .. اختطفت البعثة منى عبد الهادى الجزار الوحيد الذى همس فى أذنى ببعض الفن وكان يعطى من نفسه لنا نحن الصغار بدماثة وعذوبة كما لو أننا كبار ونفهم .. كمال أمين يعلمنى بعضا من استخدامات الفن فى الحياة .. الأساتذة يتمركزون فى حجرتهم هربا من المراسم التى ندرس بها ومن ملاحقتهم بأسئلتنا التى لا تنتهى ` .. وبعد تخرج فى الفنون الجميلة وحين نشرت دار الهلال إعلانا فى الصحف المصرية تعلن فيه عن حاجتها إلى رسامى أطفال تقدم للمسابقة وكان ترتيبه الأول على المتقدمين .. وهكذا أصبح رساما للأطفال دون سابق إنذار أو تصميم أو تخيل أو حلم .. وكان عليه مع أبناء جيله من فنانى مصر : حجازى وحلمى التونى واللباد وبهجت وإيهاب شاكر ومصطفى حسين ومحمد التهامى .. عبء تمصير المجلة والانتقال بها إلى الروح المصرية .. بحكايات التراث والحكايات البصرية لكتاب وشعراء مصر من فاروق خورشيد وصلاح حافظ وفؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحيم منصور ومجدى نجيب ووليم الميرى .
- وقد تألقت رسوم عدلى رزق الله بلغة غارقة فى البساطة والاختزال تقترب من التجريد . وتقابل مع مبدع كبير وحساس : مع الشاعر فؤاد حداد فى حكاية شعبية غاية فى الرقة والشاعرية .. حكاية ` البلبل الصداح ` .. جاءت فتحا جديدا فى ميدان أدب الأطفال ، وقد رفعت من شأن الأدب الشعبى علاوة على الرسوم التى كسرت أسوار الكوادر للرسوم المسلسة فجاء المسلسل جديدا فى القصة والرسم . عشر سنوات قضاها عدلى رزق الله بدار الهلال بمجلة سمير من عام 1961 وحتى 1971 .. وعندما تدق النكسة قارعتها عام 1967 .. يختل توازنه ويفقد القدرة على التوصل .. ولا يعرف ماذا يفعل بنفسه ويظل هكذا إلى أن يرحل إلى باريس أوائل السبعينيات ليتعلم من جديد ويعود ليعلن تفرغه الكامل للفن .
مدينة النور
- فى باريس مدينة النور ينشر بشكل مستمر فى مجلات الأطفال هناك من بينها مجلة ` بوم رابى ` ومجلة ` أوكابى ` ومجلة ` برلان وبمبان ` وحين قدم رسما على صفحة لمجلة ` أوكابى ` رسم فيها المربع والدائرة والخط المستقيم والمستطيل يلعب بهم شخصيتان صغيرتان معهما أقلام صغيرة .. وبإضافة خطوط قليلة يتحول الشكل التجريدى إلى شكل حى متحرك .
- يسأله رئيس التحرير : أين تعلمت الرياضة الحديثة .. لقد حولتها إلى لعب ممتع وأطلق على الشخصيتين ` مات وماتيك ` ومعناها معا رياضة .
- يقول عدلى رزق الله : وبفضل تلك الإشارة أو الإضاءة التى أعطاها رئيس تحرير المجلة ` دينس برش ` ولد مشروع ` العب .. العب .. العب وتعلم ` لأطفال مصر والعرب .
- ومع إبداعاته فى رسوم الأطفال وكتابة النصوص .. جاء مشروعه ` اقرأ .. اقرأ .. وتعلم ` حول الفن الحديث والمارس الفنية فى القرن العشرين .
مائيات الإشراق
- جاءت مائيات عدلى رزق الله مساحة تعبيرية مسكونة بالرموز تمثل إيقاعا جديدا ولحنا متفردا .. ولقد تنوعت مراحله الإبداعية كل مرحلة تمثل إضافة لعالمه وتراكما مسكونا ببلاغة الشكل والمعنى .
- ولقد جاء معرضه الاستعادى الشامل ` عشرون عاما من المائيات فى ألف لوحة افترشت قاعات قاعات قصر الفنون بالجزيرة .. تنوعت من اللوحات الصغيرة إلى اللوحات الصريحة المتسعة .. كان ذلك عام 2000 ثم توالت معارضه وكان آخرها عام 2009 أقامته له الهيئة العامة لقصور الثقافة بمدينة طهطا احتفاء ببلوغة البعين وقد أهداه إلى روح رائد الفكر المصرى الحديثة رفاعة الطهطاوى .. وصاحبه ملصق ` بوستر ` من تصميمه جمع فيه بين روحانية الفن القبطى وروح الارابيسك الإسلامى مؤكدا على المعنى الحقيقى للوحدة الوطنية .
- فى أعماله الأولى بعد عودته من باريس والتى والتى أطلق عليها ` البللوريات ` يأخذنا بعيدا عن الصخب والضجيج من طنين الآلة وضغوط المدن المزدحة إلى أشعار تشكيلية تتسم بعالم فنتازى حالم .
- وينقلنا رزق الله من الطفولة إلى الأمومة .. حيث تتوحد المرأة مع النخلة والجبل فى كائن واحد .. وهنا تعكس الرمز المعنوى لمصر من العطاء والخصوبة وقوة التحمل .
شهادات الغضب
- وتمثل لوحات فناننا الراحل ` شهادات الغضب ` و ` القدس ` معادلا لعالمه الفنتازى ، فعدلى الذى صور حديث الفراشة للوردة هو نفسه الذى شكل هذا العالم المأساوى المسكون بقوة التعبير والذى يدين الغشم والجهالة ويؤكد تلك الروح العالية للمقاومة .
- وفى لوحات الأقصى تطل الأشلاء فى شموخ تقاوم وتقاوم .. هذا الجرم الذى يسد السماء بمثابة آلة الحرب .. ويقف المسجد الأقصى بفتحاته شاهدا على جرائم تظل فى سجل التاريخ لا يغفرها الزمن .
- وألوان الفنان هنا يغلب عليها الأسود والرمادى مع الأحمر والأزرق موغلة فى المأساة مجللة بالحزن والسواد فى شاعرية شديدة وشفافية تمس القلوب .
صلاح بيصار
مجلة المصور - سبتمبر 2010
ورحل فنان المائيات
- رحل منذ أيام فنان المائيات الشهير عدلى رزق الله الذى تعبد فى محراب الألوان المائية دون غيرها ، تلك الخامة الرقيقة الحساسة التى يهجرها الفنانون فى مصر ربما لصعوبتها أو تدنى قيمتها المادية بالمقارنة بلوحات الألوان الزيتية ، ظل رزق الله مخلصا لها ساعيا بها نحو اكتشاف حلول تشكيلية خاصة ، وامتلك زمامها لتبوح له بأسرارها من خلال موضوعه التشكيلى فى عشقه للوطن لتاتى مفرداته مشبعة بالحنين إلى الطبيعة وتوالد أرحامها ، الأم وطنه والفن ملاذه ، بحث عن نفسه كفنان بعد تخرجه فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1961 واستغرق هذا البحث 10 سنوات كاملة ، فى باريس وجد ضالته ليعترف بولادة أولى لوحاته أثناء محاولته تجربة بعض الألوان .
- لم يتقصر إبداعه على اللوحة المؤطرة لكن إسهاماته امتدت ليكتب ويرسم للأطفال كما أبدع فى الكتابة عن سيرته الذاتية والتى يعترف أنها ` منطقت ` له حياته ورتبتها ووضحتها مؤمنا أنه من حق الغير أن يعرفها ويطلع عليها كتجربة حياة بدأت فى صعيد مصر وانتهت تحت ثراه . فقد عاوده الحنين للعودة إليها عام 1980 ليعدل ميزان حياته وفنه وتزداد سيمفونياته المائية تألقا مع ` الصعيديات ` بعد نضج ` البللوريات ` ويعيد حضوره على الساحة التشكيلية فى مصر . لقد ظل رزق الله طفلا فى إبداعه فهو يعترف بأنه يتحول إلى طفل أكثر إنسانية حين يرسم واتخذ الفن محترفا يصحو وعمله فى الحياة هو الفن واللوحة كان يبيع بشكل يومى حتى داهمه المرض ووافته المنية .
د. محمد الناصر
مجلة نصف الدنيا - 2010
عدلى رزق الله الرسام والشعر
التزاوج بين الرسم والشعر كان أحد الملامح البارزة للحركة السريالية الفرنسية قبل النصف الأول من القرن العشرين ، وللحركة السريالية المصرية فى الثلاثينيات والأربعينات من القرن العشرين .
` التصوير شعر صامت ، والشعر رسم ناطق ` كانت هذه جملة الإمام محمد عبده ( شيخ الجامع الأزهر قبل قرن تقريباً وهو يصف الصلة الوثيقة بين اللوحة والقصيدة ،أو بين اللون والحرف..وهى الصلة الوثيقة التى آمن بها الفنان التشكيلى الكبير عدلى رزق الله (1939 - 2010) الذى رحل منذ أيام قليلة عن واحد وسبعين عاماً ، بعد صراع مع المرض الخبيث الذى تمكن من الكبد لمدة ستة شهور قضاها الفنان فى مركز المنصورة الطبى ، ثم فى مستشفى السلام بالمهندسين .
وكأن فناننا الكبير الراحل وهو يتبنى كلمات محمد عبده ، يتواصل كذلك مع عبد القاهر الجرجانى وهو يشرح فى ` دلائل الإعجاز ` تجاوب التمثيل الحسى للمعنى ما بين الشعر والرسم ، فى دائرة الاستعارة التى تفتح إلى مكان المعقول من القلب باباً إلى العين ` .
وقد اعترف رزق الله بانشداده إلى ` الكتابة ` فى سيرته الذاتية التى أصدرها حينما بلغ الستين فى عام 1999 بعنوان ` الوصول إلى البداية : فى الفن وفى الحياة ` حينما قال :` كان للكلمة دور فى حياتى لا يقل عن دور الصورة منذ الطفولة الباكرة تزاوجت الكلمة المكتوبة والصورة فى تربية وجدانى ` ..أقبلت على تلقى الأدب المكتوب بنهم عارم لكننى خفت دائما من اقتراف جريمة الكتابة `..ويلخص رزق الله هذا التداخل بين اللوحة والقصيدة بقولة ` إن اللون هو لغة الفن التشكيلى ، وإن اللغة هى اللون فى الكتابة `.
ونحن نعرف أن العلاقة العميقة بين الكتابة والفن التشكيلى قديمة قدم الحضارة المصرية الفرعونية التى امتزج فيها الحرف بالرسم ،بل إن حروف اللغة الهيروغليفية نفسها كانت على هيئة رسوم لأسماك وأشجار وطيور وقديمة قدم الحضارة الإسلامية التى كان فيها ` الأرابيسك ` أشكالاً وكلاماً ،بل إن ` الخطوط العربية للحروف ` هى صور وتشكيلات وتكوينات تشكيلية ، مما استلهمه فيما بعد رسامون عديدون : فارسيون وغربيون وعرب (مثل الفنان التشكيلى المصرى الضخم حامد عبد الله ) وكذلك الحال فى الحضارة الآشورية والبابلية والصينية والمسيحية .
كما نعرف أن التزواج بين الرسم والشعر كان أحد الملامح البارزة للحركة السريالية الفرنسية قبل النصف الأول من القرن العشرين ، وللحركة السريالية المصرية فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين .
عدلى رزق الله ، إذن ، استمرار وتواصل لهذا الميراث الطويل من تداخل اللوحة والكلمة ، منذ الحضارات القديمة حتى حياتنا الحديثة والمعاصرة
ولقد بدأ توجه الشعر إلى رسوم رزق الله منذ أوائل السبعينيات ، أثناء إقامته فى باريس ، حينما أقام معرضه المستقل الأول ، وكتب الشاعر المصرى أحمد عبد المعطى حجازى ( الذى كان مقيماً كذلك بباريس بعد مطاردة السادات للمثقفين المصريين بمصر ) قصيدة ألقاها فى افتتاح المعرض وألقى ترجمتها الفرنسية الكاتب الجزائرى جمال الدين بن شيخ ..القصيدة الجميلة بعنوان ` آيات من سور اللون `، ويقول فيها :` قطرتان من الصحو /فى قطرتين من الظل / فى قطرة من ندى / قل هو اللون / فى البدء كان / وسوف يكون غداً /فاجرح السطح إن غداً مفعم / ولسوف يسيل الدم / قل إنه الطين /فلينظر مم خلقناه /قل هو ماء`/ وما هو ماء ولكن دم /نخلة أنت أم سلم / وأنا خنجر طالع / أم هلال تحدر بين الترائب/ حتى اختفى فى الذوائب / ثم بدا جدا / وارتدى جسدا ` .
وعندما عاد رزق الله من باريس فى أوائل الثمانينات توثقت عرى الصداقة بينه وبين شعراء الحداثة من جيل السبعينيات وما بعده ،فصار يستلهم قصائدهم فى لوحاته ، وصاروا يستلهمون لوحاته فى قصائدهم واتجهت قصائد عديدة إلى لوحات رزق الله ،منها قصائد للشعراء :عبد المنعم رمضان وأمجد ريان والسماح عبد الله ووليد منير وكاتب هذه السطور ..يقول أمجد ريان فى قصيدته ` مقاطع إلى عدلى رزق الله `: يغنى لونك المغول /حاملاً طعم الأوجاع / وفى كفك : المحاور القزحية /تتغنى بالشهادة ترتمى فى العشق حاراً /ونواة اللون فى كفيك `.
على أن أوثق علاقة كتابية مع لوحات رزق الله كانت تلك التى تجلت فى كتابات إدوار الخراط ،حيث أصدرا معاً كتيب ` سبع مائيات وسبعة تأويلات `، وحيث كتب الخراط العديد من النصوص الأدبية حول لوحات رزق الله وهى نصوص تشرح اللوحة ،وتشرحها ، وتقرؤها من منظور الكتابة ،ثم غنها قبل وبعد كل ذلك - تقيم ` لوحة كتابية ` موازية للوحة اللون ، فكأنه نص على نصر ، أو لوحة على لوحة ،إن أجواء رسم زق الله تتجاوب مع أجواء كتابة الخراط ، حتى أن الخراط قال مرة لرزق الله :` أنت ترسم ما أحلم بكتابته `: لذلك فمن الطبيعى أن تقرأ النص التالى للخراط عن لوحة مائية لرزق الله ، فلا تدرى هل هو حديث عن لوحة الرسام أم هو نص أدبى من صميم تجربة الكاتب الروحية والثقافية والحياتية ..يقول الخراط عن ` زهور المحاياة `: ` جسد الدكنة الغالبة يشفى على السواد الأدهم / قتامة كتابية داخل بللوريات موصدة نهائية الإحكام /ممرات مضمرة تنفذها من وهدة اليأس /النغمة الجنائزية الزرقاء المندمجة بالدهمة / لم تسقط فى القنوط /صرخة الزهور عارمة جامحة ترد على مقبرية الإحباط `
ما سر هذه العلاقة الوثيقة بين شعر وكتابات الحداثة وبين رسوم رزق الله ؟ ..حاول رزق الله نفسه تفسير هذه العلاقة فيتحدث عن تعرفه على شعراء ` إضاءة ` و ` أصوات ` من جيل السبعينيات ، بعد عودته من باريس ، وحرصه على أن يلتقى الشعر والرسم فى معارضه ، فيلقى هؤلاء الشعراء شعرهم داخل معارضه ،فيلقى هؤلاء الشعراءشعرهم داخل معارضه محاطين بألوانه ولوحاته ثم يوضح أن سبب هذه العلاقة الوثيقة هو أن فى لوحته تكثيفاً شعرياً لا حكياً قصصياً أو روائياً.
ونستطيع أن نضيف إلى عامل ` التكثيف الشعرى ` ثلاثة عوامل أخرى صنعت هذه الأرض المشتركة بين رسوم رزق الله ، وشعر الحداثة المصرى :
الأولى : هو الحسية الجسدانية الساخنة التى ينهض عليها رزق الله وشعر الحداثة.
والثانى : هو التركيز على ` جزئية ` فى أى موضوع والتركيز عليها والغوص فيها وتشريحها والوصول منها إلى ` كليات ` أعم وأشمل .
والثالث : هو الابتعاد عن الزعيق السياسى المباشر الذى يهمل الجماليات لصالح ` المضمون الفاقع الصارخ.
هذه هى العناصر المشتركة الأربعة بين رسوم رزق الله وكتابة الحداثة ، مما جعل رسومه كأنها ترجمة للاتجاهات الحداثية فى الشعر ، وجعل الشعر الحداثى كأنه ترجمة لتراكيب الرسام اللونية ، مع استقلال كل منهما بذاته، الرسم رسم والشعر شعر لكن ` الأوانى المستطرقة ` بينهما هى التى تعطينا مصداقاً جديداً ومتجدداً لمقولة الإمام محمد عبده :` التصوير شعر صامت ، والشعر رسم ` ناطق ` .
رحم الله عدلى رزق الله الذى أحب الشعر والشعراء ، وأحبه الشعر والشعراء ، وأحبه الشعر والشعراء وكانت لوحته ` قصيدة لونية ` ساخنة وطازجة ، وكانت حياته قصيدة من المحبة والبهجة والتفرد .
بقلم / حلمى سالم
نهضة مصر سبتمبر 2010
التشكيل بألوان الماء وألواح النحاس
- مرت سنوات طويلة قبل أن يظهر فنان يملأ فراغ النحات الرائد جمال السجينى فى ميدان التجسيم بألواح النحاس ، محققا - فى لوحات جدارية - ملاحم تشكيلية تعكس نبض الشعب .. وهو يملأ فراغه الكبير، وإن لم تخل الساحة من مبدعين يتعاملون مع هذه الخامة بأساليب مختلفة .. كذلك مرت سنوات طويلة حتى ظهر فنان يملأ فراغ جيل المصورين بالألوان المائية من أمثال : شفيق رزق ، حبيب جورجى ، بخيت فراج وغيرهم .. الذين صنعوا بألوانهم الشفافة معزوفات تشكيلية من وحى ريف مصر .. وهو الفنان عدلى رزق الله ، الذى رحل عنا بدوره فى سبتمبر الماضى، بعد أن كرس حياته الفنية لإبداع تجليات بالألوان المائية ، لكن قريحة الإبداع المصرى لا تكف عن طرح المبدعين فى كل مجال .. ولو طال الزمن .
- دعونا نبدأ بالفنان عدلى رزق الله، الذى نظمت أسرته ومحبو فنه معرضا تذكاريا لأعماله ، كان بمثابة حفل تأبين له، وضم العشرات من لوحاته المائية من مراحل فنه المختلفة حتى عام 2010 أى حتى عام المعاناه الكبرى مع المرض التى انتهت بوفاته، ما يؤكد أن الفن كان بالنسبة له مثل عملية التنفس والخلاص، وأن ويلات الألم الجسدى لا تستطيع أن تطفئ إشعاعات الأمل وبريق الروح فى نفس الفنان .
- ولد عدلى رزق الله بقرية أبنوب الحمام بمحافظة أسيوط التى سكنت ذكرياتها وجدانه وذاكرته، بمفردات الطبيعة وعلاقة الإنسان بالأرض والزرع وفكرة النماء ومن ورائها فكرة ارتباط الإنسان بالكون وروح التجدد وتجليات البعث والولادة . وساقه عشقه المبكر لفن الرسم إلى القاهرة عام 1956 للإلتحاق بكلية الفنون الجميلة، وبعد السنه التمهيدية اختار التخصص فى فن الحفر، وهو ما أهله - حتى قبل تخرجه عام 1961 للعمل كرسام بمجلات الأطفال بدار الهلال، وبعد سنوات من التفرغ لعمله ومن التميز بأسلوب خاص شعر أن بداخله هواتف للإبداع أكبر من القوالب النمطية التى كانت تلتزم بها مجلات الأطفال آنذاك محاكية مثيلاتها الأجنبية، تدعوه لإبداع جديد يعبر عن خصوصية أفكاره وعمق وجدانه.. وهكذا سافر عام 1972 إلى فرنسا وعمل لفترة فى بعض دور النشر الخاصة بكتب ومجلات الأطفال، ففتحت أمامه الحرية المطلقة للتجريب، خاصة مع توافر الإمكانات الطباعية المتقدمة، فحقق فى وقت قصير مكانة مرموقة فى باريس، وانطلق بخياله لتحقيق الحلم الذى جاء من أجله وهو التصوير بالألوان المائية برؤى جديدة مغايرة لا حققه جيل الرواد فى هذا المجال، الذين كان منظورهم هو محاكاة الواقع عبر المناظر الطبيعية .. لقد بات مشغولا بالسيطرة على `الشكل الفنى` بأحجامه ومسطحاته وإيقاعاته النغمية ولغته البصرية البحتة، وترجم ذلك بإحالة سطح اللوحة إلى مايشبه السلم الموسيقى الذى تتدرج فوقه مساحات وشرائح لونية ، محققة حركة متصاعدة وهارمونية متناغمة ، متماهية حينا مع غيرها من الشرائح ، ومتقاطعة حينا آخر - إلى درجة التصادم - مع مساحات أخرى، وهو ما كان يجعل لوحاته وتشكيلاته اللونية الشبيهة بقوس قزح تقترب من عالم التجريد ، لكن بحس شرقى يتلاقى مع روح الطبيعة والحس المصرى .
- وعندما عاد إلى مصر بعد حوالى عشر سنوات كان مشحونا بأفكار ورؤى جديدة فى اتجاهين متوازيين : الأول هو ضخ أفكار إبداعية جديدة فى حقل التربية الفنية للأطفال فى البيت والمدرسة ، مؤمنا بأن خلق ذائقة جمالية لدى المجتمع تؤهله لاستيعاب ثمار الفنون الجميلة بكل مدارسها واتجاهاتها ، بل وللقدرة على استيعاب قيم الجمال فى الطبيعة وإطلاق طاقات الخلق الكامنة فى الإنسان، لابد أن تبدأ بتغيير نمط التربية الفنية السائدة بالمؤسسات التعليمية والثقافية، نحو تعميق حالة المشاركة الابتكارية للطفل، بل ذهب فى حلمه بالتغيير إلى إمكانية صنع أنساق جمالية يتم من خلالها تعليم المواد الرياضية والطبيعية وفى سبيل ذلك تقدم بمشروعات صالحة للتطبيق إلى جهات مختلفة، لكنها لم تجد الاهتمام اللائق بها .
- أما الاتجاه الثانى فهو التصوير بالألوان المائية، وقد تطور أسلوبه من تصفيف الشرائح اللونية المتدرجة وفق سلم ألوان قوس قزح والمحومة حول عالم التجريد، إلى التعبيرية الرمزية مستخدما أشكال الزهور والنباتات لحظة انبثاقها وتفتحها وتصاعدها، كناية عن طاقات التلاقح وعمليات الولادة فى الطبيعة والإنسان، وامتلك `رزق الله ` مهارات عالية فى السيطرة على عفوية انسياب الألوان المائية وما تحمله من شفافية وذوبان فى محيط لا نهائى. إن التحدى الذى خاضه هو كيف يجعل من الشكل المحسوس معنى مطلقا، ومن المعنى المطلق شكلا محسوسا، وهو مادفعه إلى أن يوظف مفردات من الطبيعة مثل الزهرة والشجرة والنخلة والبيت ووجه الإنسان وبهض أعضاء جسمه، فى منظومة مجازية تتخلى عن ماديتها وعالمها الأرضى وتحلق فى عالم كونى يومئ إلى معانى الإخصاب والولادة والتفتح والنمو، وربما يتصاعد إلى معنى الوطن .
- لكن التحدى الأكبر لتجربته الفنية فى التصوير هو تطويع خامة الألوان المائية المعروفة برقتها الهامسة وشحوبها الحلمى وهشاشتها القاصرة عن إقامة بنيان صلب ، لتصبح قابلة لتشكيل `فورم ` قوى ومتماسك، ووضع حدود خارجية لكل شكل تعصمه من الذوبان والتهامى فى الأشكال المجاورة، وذلك بدون أن يضحى بأى من خصائص الألوان المائية.. من شفافية وانسيابية وهمس لونى ينأى عن الخشونة والتصادم.. إن تحقق تلك المعادلة الصعبة اقتضى منه اللجوء إلى حلول غير مألوفة أو مستحبة فى الرسم بالألوان المائية ، مثل تأطير الأشكال المرسومة بخطوط خارجية تحدد مساحاتها وإن تكن باهته أقرب إلى الهمس، ومثل وضع خلفية سوداء حالكة للأشكال الأمامية المضيئة، وهو ما يجعل منها أشكالا أقرب إلى الكتل البللورية من زجاج أو صخر، قادرة على أن تخترق الظلام بوميض نورانى يتجاوز الحس المادى إلى آفاق من الخيالات والرموز اللامحدودة، ويجعل لكل لوحة أيضا نبضها الإنسانى النابع من الجوهر قبل المظهر أحيانا .
عز الدين نجيب
الهلال - نوفمبر 2010
عالم الحب والجمال
- ثمة علاقة متبادلة بين الموسيقى وسائر الفنون. لكن هذه العلاقة تأكدت فى الفن التشكيلى عقب مؤلفات ` كاندينسكى` فى مطلع القرن. بعد أن وصف اللوحة التجريدية بأنها `سيمفونية` أو `ميلودى` أو وسط بينهما. ورغم إمكان قراءتها كما نقرأ النوتة الموسيقية. إلا أن هذه المقابلة ` شكلية ` تتعلق بالقيم الفنية المطلقة وليس `المضمون` فالإيقاع ` قيمة` نجدها أيضا فى الأدب والمسرح والسينما ضمن جوانب أسلوبية تساعد على صياغة ` المضمون` وتجسيده . يرجع إليها الفضل فيما يتسم به العمل من جاذبية وإثارة وشاعرية وطرافة. أو إنتقاض من قدره إن لم يحسن الفنان موازنة العلاقة بين ` الشكل والمضمون `.
- .. أشير إلى هذه المداخل قبل أن ندلف إلى عالم الحب والجمال مع الرسام الملون: عدلى رزق الله. لوحاته ليست خالصة التجريد لكنها تتفق مع أفكار `فاسيلى كاندينسكى` التى ضمنها كتاب: `روحانيات الفن`.
- يشعر المتلقى أثناء تأملها بتأثيرات موسيقية يسمعها بعينيه فى الملامس ودرجات الخشونة والنعومة، وكثافة الألوان وشفافيتها أو توافقها وتباينها، واقتحام البنى والأزرق مجالات الأحمر والأصفر ووشوشة الخطوط وهى تنحنى وتستقيم وتتكسر. مقابلة مرئية لحوار الآلات والنغمات بالارتفاع والانخفاض . ربما تفسر هذه الوشائج عشق الفنان فى يفاعته للموسيقى ولهفته على دراستها وإحترافها، لم يمنعه سوى تكاليف الخوض فى هذا الطريق الصعب.
- قد لا يختلف اثنان على أن `عدلى` يصور الجسد الإنسانى. مهما اتخذت رسومه شكل النبات وأوراقه وأزهاره وثماره أو تنغيمات تجريدية، يحس المتلقى أديم البشرة الآدمية المتدفقة بالحيوية فى الاستدارات والانحناءات والملامس المسامية... رصعتها ذرات العرق كأنها قطرات الندى على ورود الفجر. أتقن الفنان إختيار ألوانه المائية وكسا بها الورق المرسوم طبقة فوق طبقة ،كأنما يبنى نسيجا يكاد ينبض بالحياة . وضعها بمهارة الخبير الذى يعمل عدة ساعات يوميا لسنوات وسنوات، شأن الموسيقى والرقص والكاتب والرياضى فالمهارة والبراعة والقدرة لا تكتسب بالكلام والتفلسف فى المعارض أو بالمؤهلات والوظائف ، إنما بالعلم والعمل مع الموهبة قبل كل شىء .
- يبدو أن فناننا عشق الجسم الإنسانى بكل روعته كما عشقه `ميشيلانجلو` المثال والرسام الإيطالى عبقرى عصر النهضة. كان يقدر جمال وعظمة الجسد وحركاته حتى أنه خلع ثياب الآلهة فى القصص الرمزية التى رسمها فى سقف كنيسة `سيستين` بروما وجرد الملائكة من الأجنحة. كان مجيدا خالدا شامخا فى كل ما صوره من أجسام عارية مؤمنا أنها أجمل ما خلق الله فى هذا الكون . تحين كل الفرص ليصور آيات جمالها أو حركاتها لذلك رسم الجنود عرايا فى المعارك الحربية بدعوى أن الأعداء باغتوهم فى وقت الراحة يستحمون فى مياه النهر.
- لكن `عدلى رزق الله` لم يصور الجسد الإنساني جملة وتفصيلا كما فعل `ميشيلانجلو` .. بل صور ` الحيوية ` و `التفجر` و` الإزدهار` و `الخصوبة ` و ` السمو` تخيل ثم جسد ما تنطوى عليه البشرة الإنسانية من أشياء تختلف فى مبناها ومغزاها عن أى نسيج حى آخر. من هنا كان ` التجريد` يتضمن قدرا من ` الواقعية ` لا يعتمد على القيم الفنية المطلقة بل يغوص فيما يرسمه ويلونه ويستعرض ما يفوت على النظرة العابرة المتعجلة. كما لو أننا نظرنا فى مجهر إلى خلية حية فتخيلناها صورة تجريدية للرسام النحات الفرنسى `هانز آرب` المولود 1887، مع أنها منتهى الواقعية. إلا أن `عدلى` يضيف إلى ما يرى مضمونا إنسانيا وحساسية مرهفة . تتشكل تكويناته فى سكون لا يخفى حركاتها الهادئة الناعمة.. نموذج ممتاز للفن العاطفى المتشح بغلالة من الحياء تزيده إثارة وجاذبية.
- وتدفعنا إلى مزيد من التأمل والتخيل والاحترام.
- ولد `عدلى رزق الله` سنة 1939 فى مدينة ` أبنوب الحمام` بالقرب من ` أسيوط` لوالد فلاح أشتهر بأنه نساج ماهر. لكن الطفل لم يستمتع طويلا بمشاهد النخيل والقرى والحقول... نزح إلى القاهرة مع والده ولما يبلغ من العمر أربع سنوات، شب فى العاصمة يهوى الموسيقى ويهيم بالرسم والتلوين، يتعجل سنوات التعليم العام حتى يلتحق بكلية الفنون الجميلة بالزمالك. كثيرا ما أطفأ لهيب شوقه بالسير إليها والطواف بأسوارها يتطلع إلى حديقتها المنسقة، وقد زرعت فيها التماثيل مع الزهور ونباتات الظل والأشجار الباسقة. ترعرعت أحلامه وآماله كلما أطال التأمل وأثمرت خيالا رحبا صور له أنه سيصبح فنانا بعد خمس سنوات يقضيها فى هذا المعبد الفنى. إلا أنه قضاها فى قسم `الجرافيك` ما بين عامى 1956 و 1961 فازدادت الشقة بينه وبين الفن إتساعا ولم يكتسب سوى بعض المهارات والمعلومات وتعرف على الأدوات والخامات وأسماء الفنانين.
- لم يدر ساعتها أن ذلك الإحساس بالنقص كان البداية الحقيقية لما بين أيدينا من لوحات ذات طابع خاص. لا أذكر أننى شاهدت لها شبيها فى قواميس الفن ودوائر المعارف وأدلة المتاحف العالمية. خاصة هذا النحو الفريد غير المسبوق فى التلوين المائى. إنه يستخدم الألوان المائية بمهارة وبراعة ويحسن إختيار نوعيتها مع الورق المرسوم . يضعها شريحة بعد شريحة بأسلوب خاص فتتحول إلى ما يشبه ` الألوان الزجاجية غير اللامعة ` أو ` المينا` الكابية. أو قل ` المساحيق الصخرية المعدنية` أو `برادة الحديد` أو كأنها سطح معدنى متوهج. تحولت ألوانه المائية إلى لغة تجسد المعنى والمغزى وتساعد على صياغة ` المضمون ` بإحكام.
- إختلف إستخدام الألوان المائية لأول مرة عند `عدلى` عن الأسلوب التقليدى الذى عرفت به أيام الإنجليزى : بول ساندباى `1725 - 1809` وشاع بعده فى كل إنجلترا فى رسوم المناظر عند : جوزيف تيرنر `1775 - 1851` ومعاصريه.. إنتقل نفس الأسلوب من بعدهم إلى فرنسا فى القرن التاسع عشر ثم إلى مصر فى فجر القرن العشرين فى لوحات `جماعة الدعاية الفنية ` بريادة الراحل `حبيب جورجى` كما كان الفنان: شفيق رزق... يثرى حركتنا التشكيلية بمناظره المائية الكلاسيكية.
- تتسم لوحات `عدلى` بعاطفة قوية لا يخطئها المتلقى. بحث طويلا عن كيفية تضمين لوحاته تلك السمة حتى إستطاع تحقيقها على هذا النحو الراقى سنة 1972 أثناء هجرته المؤقتة إلى باريس `1971 - 1980` كانت السبعينيات وكان هذا النوع من الموضوعات يجتاح أوروبا وأمريكا. لكن الجديد عند `عدلى` أنه لجأ إلى الرمزية والكناية والاستعارة إعتمد على بعض العناصر الطبيعية كالأزهار والثمار والصخور ومزجها بأشكال مستمدة من هيئة الجسم الإنسانى : خطوطه ولونه وملمسه وحيويته . يبدع صوره فى `مجموعات` من ست أو سبع، من بينها مجموعة بعنوان `وردة.` تنويعات على شكل أساسى محدد. تقطر رقة وشاعرية . فيها حمرة الخجل ووردية الأفكار وزرقة السماء، وملامس تشعر المتلقى بحرارة الحب وبرودة الانفعال في آن واحد منطق الخيال الذى تلفنا به بعض السمفونيات أو ألحان : سيد درويش وهو يغنى بصوته ` أنا عشقت` أو ` أنا هويت` لا نزعم أن فى إبداع `عدلى` أى` جذور شكلية تراثية` كالوحدات الفرعونية والقبطية والإسلامية. لقد قام بهذه المحاولة مرة سنة 1960 كما فعل غيره من الفنانين ومازالوا يفعلون. إكتشف حينذاك أن القدامى حين ابتكروا أساليبهم كانوا يعبرون عن معان عميقة فى نفوسهم، وفى شخصية ومعتقدات وفلسفة مجتمعاتهم .كانت ` الموتيفات` التى إبتكروها سداها الإيمان ولحمتها الصدق. تقليدها بعد آلاف السنين إفتعالا لا يعبر عن الحقيقة. درس بعض تلك الوحدات فى معهد الدراسات القبطية سنة 1960 والتقى هناك بالمهندس ` رمسيس ويصا ` منشئ مشغل سجاد الحرانية، و`حبيب جورجى` رائد التلوين المائى فى مصر، وراغب عياد ` الرسام الرائد الذى استفاد من الفن الفرعونى فى أسلوبه التعبيرى.
- كما ناقش قضايا الفن والفكر منذ التحاقه بالكلية مع طليعة شباب الفنانين فى الخمسينيات مثل: عبد الهادى الجزار وكمال خليفة وتأثر جدا بفلسفتهما قرأ كثيرا وتردد طويلا على مكتبة متحف الفن الحديث فى مقرها القديم، لينصت إلى الموسيقى الكلاسيكية ويبث رفاق الطريق هواجسه، عسى أن يعثر على إجابة شافية لما يعتمل فى فكره من علامات الاستفهام. كان يبحث عن ` الشكل` الذى يستوعب خواطره ويجسدها. من هنا.. لا ينتمى إلى جذور محلية ` شكلية ` كالوحدات المتمثلة فى العيون اللوزية المصرية أو عيون الفيوم القبطية الواسعة أو وحدات خشب الخط الإسلامية. لكنه قد ينتمى إلى أبعاد أخرى تظهر فيما تتشح به أعماله من حياء ورقة وترفع ونبل. يعكس روح الشرق الإنسانى... الشاعرى. صاحب التعبيرات الرشيقة الأنيقة.. والحس المرهف .. والإشارات الهامسة من بعيد. هكذا ترتقى لوحات `عدلى` بالمشاعر العاطفية الحارة إلى أفاق سماوية تحف بها موسيقى صرحية تعبر عن عظمة الإنسان حين يصنع الحياة. بذلك يختلف جذريا عن فنانى أوربا وأمريكا الذين عالجوا نفس الموضوعات وكان معظمهم من النساء. إنتهجوا أسلوبا رخيصا يتسم بالصراحة الفجة. إشتهر من بينهم فى السبعينيات الرسامات الأمريكيات: جودى شيكاجو، نانسى سبيرو، سيلفيا سلبى، لندا بنجليز.. والعجوز اليس نيل المولودة سنة 1900.
- فى العام التالى `1972` تزوج فى لندن من رفيقة العمر ثم أقام فى باريس أول معارضه التى توالت بعد ذلك سنويا. سادت لوحاته فى البداية روح الحنين للديار والرغبة الملحة فى العودة . لكن حدثا جديدا تدخل فى حياته وترك بصمته على تفكيره وظهرت آيات فى لوحاته قبيل ميلاد طفلته الأولى سنة 1975. راقب ما طرأ على شكل زوجته من تغير على مر الشهور حتى منحته إنسانا جديدا شاهد لحظة خروجه للحياة. أحس بعظمة الخلق. وتتابعت التشكيلات المنتفخة المكورة تحمل ما يشبه الأجنة فى حناياها. صور موضوعات الأزدهار والتفتح والانفجار... والانسلاخ والتوالد والإنبات.. والتفرع والتكاثر، وتعامل ` الفورمات` المبهمة فى علاقات عاطفية حارة، تزيدها الألوان تعبيرا وتزيل عنها الغموض بدرجات الأحمر والأصفر والأزرق، وتداخلها الديناميكى فى توزيعات درامية تجذب المتلقى إلى عالمها النقى المفعم بالعواطف الجياشة. هذه المسحة التى تزاوج بين الصوفية والواقعية هى التى تكسو إبداع ` عدلى رزق الله` حتى معرضه الذى شاهدناه فى ` أتيليه القاهرة ` فى نهاية عام 1983.
- يخطئ من يظن أن فناننا ليس ذاتيا تماما يعبر عن نفسه المطلقة وخيالاته الخاصة مهما قيل عن علاقة إبداعه بالحياة الإنسانية والإجتماعية. عناصره رمزية شخصية تصل إلى حد الشفرة أحيانا فلا يدركها سواه. لذلك تستلزم ` المضامين` التى يتناولها قدرا عاليا من الفهم وسعة الخبرة بلغة الفن الحديث. بالإضافة إلى رهافة الحس. إلا أن المتلقى العادى لا يملك إلا أن تهتز مشاعره فى مواجهة تلك الدرجة الرفيعة من ` الصدق والإيمان` التى أودعها الفنان تشكيلاته ` التعبيرية المجردة ` وما تنضح به من واقعية مبهمة. وفى رأينا أن لوحات `عدلى` هى المثل الأعلى الذى كان يتطلع إليه الرسام الألمانى الراحل `يوليوس بيسييه` الذى استضاف مجمع الفنون أعماله فى عام 1983 وتناولناه فى حينه بالتحليل والتعليق.
- كمعظم الفنانين الحديثين فى مصر، لا يطلق `عدلى` أسماء على لوحاته. يرسمها فى مجموعات كما أسلفنا ويطلق على كل سلسلة عنوانا مثل ` الهرم.. الوردة.. الفاكهة. والواقع أن العنوان بالنسبة للعمل التشكيلى يفتح للمتلقى نافذة يطل منها بخياله وأفكاره . ينشر قدرا من الضوء يسمح بإستجابة خيال المتلقى لخواطر الفنان. إلا أن عناوين `عدلى` فضفاضة لا تتصل مباشرة بالموضوع المرسوم لأنها مجرد رموز وكنايات وتشبيهات تترك للمتلقى فرصة إختلاق ` المضامين` كعملية إبداعية إضافية، لا يتصدى لها سوى المتلقى الواعى ذو الحس المرهف نادرا ما تكون الرموز واضحة تحمل مدلول العنوان كما فى لوحة ` زهرة ` من مجموعة `الهرم` شكل هرمى يضم أضلاعه على زهرة تشبه عصفور الجنة. كناية عن حمل الأنثى للجنين الذى يشبه زهرة ليست سوى حلقة جديدة فى سلسلة الحياة إلى هنا يبدو الأمر بسيطا للغاية لا يحتاج تفسيرا أو تحليلا. لكن تأمل الوحدات والتفاصيل والملامس والجو العام، يخرج بنا عن الانطباع الأول ويتجه إلى الأحاسيس العاطفية البشرية. تلخيص بليغ لتكوينات أكثر تعقيدا تعبر عن نفس المضمون مثل مجموعة ` المنظر` التى ترمز للانطلاق والالتحاق العاطفى. فيها ما يشبه صخورا صلبة متكسرة متفرزة.. لكنها ذات مسحة أنثوية إنسانية بالغة الرقة والوداعة لا يفرغ حوار ألوانها الملتهبة مع درجات الأزرق والأبيض وهى تعانق تشكيلاتها فى أنحاء التكوين تصميم مفعم بالحيوية والحركة الديناميكية الدرامية المعبرة تخرج بإبداع `عدلى رزق الله` عن إطار التجريد العبثى .
- فى إحدى لوحات مجموعة ` المنظر` صور ما يشبه الجسد الإنسانىمحلقا فى السماء تزفه السحب المضيئة فى جو ملائكى شفيف، لكنه يحمل كل المقومات البشرية من لون وملمس وهيئة. إستطاع أن يمزج بين المادية والروحانية بأسلوب مبتكر يغلب عليه التصميم المعمارى البنائى ليزيده واقعية. هذا الطابع الفريد هو الذى يمنح إبداعه قدرة على `المخاطبة` حتى ليكاد المتلقى أن يسمع همس العناصر وموسيقى التكوين. من الغريب أنه يصور موضوعا واحدا فى جميع لوحاته دون أن تشعر بالملل. ينتهى المتلقى من جولته فى المعرض متمنيا المزيد. مرجع ذلك إلى صدقه الذى لا يبالغ فى إخفائه بل يحيطه بهالة من القداسة الأرضية. ألوانه ليست بسيطة ساذجة إنها ركيزة أساسية فى تعبيراته العاطفية . فى قوة وأهمية تعبيرية العنصر التشخيصى اللون فى لوحاته ` يقول` الكثير ولا يمكن نقله بالطباعة خاصة الصور الكبيرة التى قد تصل مساحتها إلى 105 × 82 سم. تكسوها ألوان كأنها خارجة من الفرن. نحس بها فى الأصل طبقات فوق طبقات نشعر بما تحتها وما فوقها، ونرى درجاتها العديدة المنوعة من مشتقات الأصفر والأزرق والأحمر، أحسن `عدلى` صياغتها حتى أن المتلقى يستدفئ وهو يتأمل الأحمر المتفجر بالحيوية، مثله كلون الرمان الذى بلغ قمة النضج وتفتق عن حباته القرمزية.
- الرسام السكندرى ` فاروق وهبة` عالج موضوع ` الجسم الإنسانى` فى معرضه عام 1983 بالألوان الزيتية كذلك ` آمال معتوق` التى إستخدمت الألوان المائية واتجهت إلى الموضوع والحركة مباشرة من دون الرمز والإشارة، الفرق بينهما وبين `عدلى` أنه يجمع بين الرؤية العينية والشعور الوجدانى معا . كأننا به يردد مقولة الرسام الألمانى: فوليس: `أنا أغمض عينى لكى أرى أفضل` يصور الموضوع مضافا إليه المضمون فى أشكال مثيرة جذابة ، تشحذ الخيال متشحة بغلالة عاطفية رقيقة، تظهر التضاريس والملامس ومتتابعات لونية وظلال فكرية تلهب الوجدان بشرارات مقدسة.
- `عدلى رزق الله` طراز متفرد فى حركتنا التشكيلية، رسام متفرغ محترف لا يعتمد فى حياته على غير إبداعه الفنى وتسويقه فى معارضه الشخصية وإسهامه في العروض الجماعية التي تنظمها الدولة أو المؤسسات .لا يستدر دولارات السائحين بتضمين رسومه `موتيفات` شعبية أو إسلامية أو فرعونية كما يفعل الكثيرون من فنانى العالم الثالث الانفتاحيين. طبع من بعض أعماله مستنسخات كبيرة وصغيرة يقتنيها المتلقى المثقف الذى لا يستطيع اقتناء الأصول. كما وضع كتبيا ضمنه آراءه فى رسالة الفن والفنان، وإن كنا نرى أن العلاقة واهية بين ما يسجله لغويا وما يجسده بالخطوط والألوان... لكنه ليس ` تجريديا ` على أى حال. له موقف وفكرة يعبر عنها و` يقولها`. يعبر عن ` الحب والسلام` وبهجة الحياة ، قد يرى المتلقى زهورا وورودا وفاكهة وصخورا وقواقع. كل يرى على قدر خياله وعاطفته وخبرته وثقافته كل يرى ما يريد أن يراه. لكننا نحس دائما أن هناك شيئا فى الأعماق لم يفصح عنه بعد. هذا الغموض هو بعض الفتنة والجاذبية والإثارة التى يتمتع بها إبداع فناننا.
بقلم : مختار العطار
من كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر والعالم العربى
الفنان عدلى رزق الله والعزف بالألوان
- ولد الفنان عدلي رزق الله عام 1939وخلال الطفولة والصبا كان يحلم بعالم الموسيقى ، لكنه كان قد تربي في أسرة بعيدة عن هذا الميدان ، وأدرك بذكاء الطفل الفقير عدم توافر الظروف الاقتصادية لممارسة العزف ، أو حتي هواية الاستماع ، فتحول بأحلامه إلى الرسم ، ولم يتصور يومها أنه سيرسم فيما بعد ( معزوفات ملونة ) .
- لقد كان الوضع الاجتماعي لأسرته لا يسمح له بالأنطلاق في ميدان الموسيقى ، بينما كان أبوه حرفياً صناعته نسج الصوف يدوياً .
- وكان تحول احلامه إلى احتراف الرسم مقبولاً في مجتمعه الصغير الذي يمارس فيه أهله الرسم على النسيج ، وكانت هذه الرسوم زخرفية بسيطة .
- وانتقل عدلى مع أسرته عام 1942 من بلدة ( أبنوب ) بصعيد مصر إلى العاصمة . وفي القاهرة هجر أبوه وأعمامه حرفة النسيج ، وتحولوا إلى تجارة المنسوجات ، ولم يجد عدلي الصبي في متناول يديه غير قطع الورق المقوى التى تلتف حولها أثواب الأقمشة ، فراح يرسم عليها آلاف الدواب ، خاصة الحمير ، من جميع الزوايا وتأكد أن لديه كفاءة فنية عندما نشرت له مجلة صباح الخير في نادي الرسامين بعضاً من رسومه ، لقد أصبح الأمر يقينا ًوعندئذقرر أن يزور كلية الفنون الجميلة .
- سعى عدلي إليها ولم يجرؤ على دخولها تطلع إليها من الخارج عبر الأسوار ، متخيلا أن هذه الأسوار هي الحاجز الوحيد بينه وبين عالم الفنانين ، الذين رسم لها صورة ذهنية تصورهم سابحين فى عالم لون ، يطلقون لحاهم وشواربهم ، ويحيون ليلهم ونهارهم في عالم ساحر ( عالم الفن ) .
- وراح يتابع ما ينشر في الصحف والمجلات عن كبار الفنانين ، وواصل دراسته الثانوية على مضض ، فقط لينفذ قراره بالانتماء لهذا العالم الساحر .
- وتحقق له ما أراده عام 1956 ، فالتحق بقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، وتعرف على الواقع الذي لم تكن له أى علاقة بالصورة الخيالية المذهبة التى رسخت فى ذهنه . وكان أهم اكتشاف عرفه هو أن الفن لا يعلم ، وأن الدراسة الفنية لا تتركز على الفن والإبداع الجمالي ، وإنما تنصب على تعليم مهارات وتدريس الجوانب الحرفية المتعلقة بالصنعة .
- وفى مواجهة هذا الاكتشاف قسم نهاره قسمين الصباح يتعلم فيه الصنعة كتلميذ مجد ، لا هم له إلا اكتساب المهارات في دراسة أكاديمية . أما بقية النهار فكان يقضيه باحثاً عن الفن في مكتبة الكلية ، ومتحف الفن الحديث ومعارض الفنانين .
- ولم يتبق في ذاكرة الفنان من فرسان تلك المرحلة إلا بضعة أسماء ، رأى في إنتاج أصحابها ما ينشده من إبداع فني هم : راغب عياد ، عبد الهادى الجزار ، و كمال خليفة . لقد وجد في معارضهم التى أقاموها ما أثار إعجابه ، وما ينشده من قيم فنية .
- أما الجوانب النظرية في الفن فكان يجدها فى محاضرات الدكتور ( يوسف مراد ) والدكتور ( زكي نجيب محمود ) وذلك خلال متابعته للنشاط الثقافي الذي أقامه الفنان ( صلاح طاهر ) عندما كان مديراً لمتحف الفن الحديث وكانت تلك المحاضرات تتحول إلي ندوات ثقافية فتحت عينى الفنان الشباب على مواطن الخلق والابتكار والتجديد فى الفنون .
- وقبل أن يتخرج الفنان من كلية الفنون الجميلة عام 1961 بدأ يتردد على معهد الدراسات القبطية حيث تعرف عن قرب بالفانين ( حبيب جورجى ) صاحب تجربة الفن التلقائي عند الأطفال والفنان الرائد ( راغب عياد ) الذى سجل الحياة الشعبية والريفية فى مصر بأسلوب تعبيري متميز ، والمنهدس ( رمسيس ويصا واصف ) صاحب التجربة المبهرة ( لسجاد الحرانية ) وهى التجربة التى كرس حياته من أجلها .
- وأمام هؤلاء الفنانين الكبار وإنجازاتهم أحس عدلي بمشقة الطريق ، وأنه لم يتجاوز بعد أعتاب الفن . واستمر تردده على هذا المعهد لمدة عامين ، ثم بدأ يشارك في المعارض العامة : معرض صالون القاهرة الذي تقيمه سنوياً جمعية محبي الفنون الجميلة ، ومعرض الربيع الذي تنظمه جمعية خريجي الفنون الجميلة ، ثم معرض بينالى الأسكندرية الذي يقام مرة كل عامين بالثغر .
- حياة الصعلكة
- وبعد التخرج كان عدلي يتمني أن يلتحق ( بمرسم الفنون الجميلة بالأقصر) ، ليقضي عامية في بعثة داخلية يعايش خلالها الآثار الفرعونية ويتعرف على الحياة الريفية في صعيد مصر، بعد أن اكتملت مهارته الفنية . لكن هذه الأمنية تبددت بسبب ضعف المكافأة الشهرية لعضو المرسم ، مع الظروف الأقتصادية المتعسرة للأسرة التى كانت تنتظر أن يتم عدلي دراسته ليعاون فى النفقات .
- ويعمل عدلى رساماً فى مجلات الأطفال التى تصدرها دار الهلال منذ عام 1961 حتى 1971 . عشر سنوات عاش خلالها حياة الصعلكة ، مصاحباً ( جيل الستينات ) من الأدباء والفنانين : محمد جاد ، سيد حجاب ، يحي الطاهر عبد الله ، نبيل تاج ، محى اللباد ، نذير نبعه .
- لكن عدلي رزق الله أحس أن حياته بدأ يحددها إطار ثابت ، فقرر أن يتمرد على تحكم الأقدار . وكان أثر هزيمة 1967عنيفاً على كيانه : المرارة والضياع والأقتراب من حافة الجنون ، وإنتابه رعب من الحالتين : الضياع أو الجنون .
- وضاعف الإحساس بالمرارة أنه قبيل الهزيمة مات عبد الهادى الجزار ورمسيس يونان ثم كمال خليفة ، وقد ترك فراق الأخير في نفسه جرحاً عميقاً يضاعف الإحساس بضرورة إعادة النظر في مسار حياته .
- قرر أن يتعلم الفن من جديد ، أن يبدأ من الصفر وتصور أنه يصبح فناناً حقيقياً إلا إذا سافر إلى الخارج ليتعلم من البداية . وتحقق له ذلك عام 1971 في مغامرة من مغامرات الشباب ألقى خلالها نفسه في الغربة . إلى بيروت أولا ، ثم إلى باريس ، بتذكرة ذهاب بلا عودة !
- اختار باريس ليدرس الفنون الجميلة هناك ، طالباً الاستزادة من الدراسة الأكاديمية لكنه اكتشف أن دراسة الفنون الجميلة فى باريس تتساوي مع مثيلتها في مصر .
- الرسم للأطفال
- وبعد هذا المعرض عمل بتدريس الرسم بجامعة ستراسبورج حتى عام 1978 ، وراح يقيم معرضاً للوحاته كل عام .. فى ( جالارى لوراتلاج ) عام 1974 ، ثم تولت بلدية باريس تنظيم معرضه التالى فى صالة (بوجرونيل) عام 1975 . وقد أقام في نفس العام معرضاً فى قاعة المركز الثقافي المصري بباريس . ثم المركز الثقافي العراقي بباريس عام 1976 ، ثم في جالاري (لارو) عام 1977 ، وانتقل هذا المعرض ليقام في جالاري ( ايديا ) بلاهاى في هولندا ثم عرض فى المركز الثقافي المصري بباريس مرة أخرى عام 1978 .
- ثم عاد عدلى إلى القاهرة عام 1979 ، ليتولى الإشراف فنياً على دار الفتى العربى المتخصصة فى إصدار كتب الأطفال لأعمال مختلفة ، لكنه لم يلبث أن استقال من عمله عام 1980 ، ليتفرغ تماماً لرسم لوحاته الفنية ويقيم لها معرضاً سنوياً باتيليه القاهرة عام 1982 ، وقد انتقل هذا المعرض إلى صالة المعلمين بالزقازيق في نفس العام .
- رسام الأطفال
- وقبل أن نتعرض لتطور فن عدلي رزق الله الذي يظهر من من خلال معارضه المتتالية ، علينا أن نقف قليلاً أمام رسومه للأطفال التي تمثل مهنته الأولي .
- كان عدلي قد عمل بمجلات الأطفال التى تصدرها دار الهلال بالقاهرة عشر سنوات متتالية ، بين عامي 1961 ، 1971 ، واستطاع خلال إقامته في باريس خلال السبعينيات أن ينشر رسومه وأفكاره للأطفال فى مجلات (بوم دابي) و (أوكابي) و (برلين بمبان).
- أما تصميماته للبطاقات البريدية وبطاقات الأعياد وصور لوحاته الفنية ، فقد طبعت بعضاً منها دار النشر (جوردون فريزر) في انجلترا ، ودار (فراي) في سويسرا ، ودار النشر (أبي بريس) فى الولايات المتحدة ، وهذا بخلاف رسومه لمجلات الأطفال فى الوطن العربي .
- ورغم هذا النجاح عاد إلي بلاده ، لإيمانه بأن دور الفنان الحقيقي في وطنه وليس في الخارج ، وهو يعترف أن سنوات الغربة أفادته ، وأثرت تجربته ، وأغنتها . ويعترف أيضاً أن الرسم للأطفال يستحق من الفنان نفس الدرجة من الجدية والاهتمام ، والتوفر على صياغته تماماً مثل اللوحة الفنية .
- وامتد نشاطه في هذا المجال إلي اختيار عدد من لوحات النسيج الشعبى الذى تنتجه مدرسة إخميم بصعيد مصر ، التى اشتهرت بالرسوم الفطرية المنفذة على القماش بالإبرة والخيوط الملونة ، والتى يقوم بتصميمها وتنفيذها أطفال الفلاحين الذين احتفظوا بنقاء روح الطفولة وفطريتها وعمق تعبيرها . وقام بطبع هذه اللوحات التي اختارها على بطاقات التهنئة بالأعياد وقدمها مع البطاقات المطبوع عليها صور أعماله .
- وقد وصف الناقد الفرنسى (كلود لافاى) رسوم عدلي للأطفال فقال: ( هذه الحيوانات التى تقفز بين أشجار عرائسية ، وهذه الأفيال الإنسانية ، والفئران التى لانثير الخوف لدى أكثر الأطفال حساسية ، وهذه الأشخاص الصغيرة ذات الأشكال المستديرة التي حلت قلوبها محل رؤوسها ... إن التعبير الذي يعيطه الفنان ببضعة نقط صغيرة تتحدث إلى أرواحنا فالأطفال يدخلون فى عالم الأحلام المسحورة ، فلسنا فى حاجة إلى جذب الأطفال إلى هذا العالم ، لأن مفتاحه موجود دائماً ، عندما يختفي السحر وراء العقل ، وعندما تلحق الجنية ببابا نويل في هذا العالم المسحور ، سيكون من الصعب حينئذ الرجوع إلأى مثل هذه اللحظات الخلابة ).
- مراحل فى حياة فنان
- ذات يوم قال لعدلي ناشر انجليزي كان يطيع تصميماته على البطاقات ، عندما شاهد لوحاته ، واقتنى مجموعة كبيرة منها:( لا تضيع وقتك فى تصميم البطاقات ورسوم الأطفال . إن ميدانك هو الفن ) .
- وقد استمع فناننا إلى نصيحة الناشر الإنجليزي ، بما لأنها لمست في نفسه ذلك الحلم القديم الذي دفعه إلى التمرد على قدره فتوقف عن رسم البطاقات ، وضاعف جهده في رسم اللوحات ، وجعلها مهنته الأولى ، بعد عودته إلى مصر . وبعد أن استقال من عمله كمشرف فنى على دار الفتى العربى .
- كانت فى المرحلة الأولى قد بدأت من قبل إثر تخرجه في كلية الفنون الجميلة ، واستمرت حتى هزيمة يونيو1967 . وفي هذه المرحلة كان لعدلي أن يبحث عن طريقه ويجرب . وكانت تجاربه في تلك الفترة تسير في طرق مسدودة - وعلى حد تعبيره - من هذه الطرق السائدة بين الفنانين المصريين التي تتلمس ركيزة أو (عكازاً) تعتمد عليه ، مثل الأخذ عن الفن الشعبي أو الفرعوني أو القبطي أو الأسلامي أو الخط العربى ، وقد حرص عدلى رزق الله على ألا يقدم لوحات في المرحلة الأولى فى معارض للناس ، لأنه كان يعتمد أن اكتشاف أسلوبه المميز فى رسم الأشرطة الأفقية الملونة ستكون هي البداية لتاريخه الفني عام 1972 ، وأن الفن لابد وأن يقدم جديداً ، وأن يكون نتاجاً لعصره ، وتعبيراً عنه .
- وفى المرحلة الثانية حينما تم لعدلي اكتشاف أسلوب الأشرطة قام عدلي وهو بباريس ، ببحث جاد عن الإيقاع الموسيقي في العمل الفني ، وكان يظهر بين الأشرطة المتجاورة ما يشبه أن يكون طائراً مهاجراً أو هرماً أو نهراً لقد كان الحنين إلى الوطن يملأ هذه اللوحات ، وهو في باريس .
- وكانت صورة مصر ورموزها ، فى لوحاته هذه ، جميلة التقاطيع ، كصورة الغائب الذي تحن إلى رؤيته ، ملامحها هلامية غير محددة ، لكنها فاتنة ، ملونة بألوان راقصة .
- كانت رحلة الفنان الأوروبية ، وإقامته في باريس ، قد وسعت رؤيته لتاريخ الفن ، وكان قد تعرف من قبل في مصر على تطور الفن من عصور الأسرات إلى القبطي ثم الإسلامي ، ولم يكن قد شاهد من فنون البلاد الأخرى غير الصور المطبوعة ، لكن متاحف فرنسا ، ثم نتاج الفن المعاصر ، علماه كيف يدرك التتابع في حلقات تاريخ الفن المتعاقبة . فأصبح التراث الأوربي تراثاً إنسانياً مختزناً في أعماقه ، مع مخزون الفنون الشعبية والتاريخية في مصر . وبدأ يظهر أثر هذه الثقافة عندما كان يرسم ، مستخرجاً انفعالاته العميقة .
- وطرأ على حياة الفنان شئ جديد ، حين حملت زوجته ، وأصبح الاستعداد لأستقبال القادم الجديد إلى الأسرة ذا أثر عميق في أعماله ، وتسرب الإحساس بالجنين الذي ينمو إلى لوحاته . ولم يكتشف الفنان ذلك إلا عندما عرض لوحاته على أستاذ في تاريخ الفن بجامعة ستراسبورج حيث يحاضر ويعلم الرسم ، وكانت الأبنة الصغيرة لأستاذ الفن بصحبتهما تتفرج معهما على اللوحات ، وتتساءل عن دلالة رموزها بحرية ، فكان الأستاذ الفرنسي يشرح لها أعمال الفنان ، ويشير إلى الرموز الجديدة للحمل والإخصاب في لوحاته . لقد تسرب هذا التعبير إلى لوحات الفنان من اللاوعى ، لكنه بعد الوعي بهذه العناصر والرموز ، أصبح يقصدها وينميها ، إلى أن بدأ مرحلة جديدة في فنه لم تخل من تشابك مع المرحلة السابقة .
- وفى هذه المرحلة (الثالثة) كانت الألوان فى لوحاته تشبه ألوان قوس قزح الشفافة ، وهي تتحرك أفقياً وتتشابك مع الأشكال الأخرى أمامها وخلفها : الهلال والوجوه والأجنة والهرم والحمامة ، التى يغمرها الضوء فتعطي إحساساً موسيقياً منغماً . وهي تظهر في شكل تجريدي لمن يشاهدها لأول وهلة ، لكن المشاهد كلما تأملها وتابعها بغير ملل ، فيها عناصر جديدة . بينها عناصر رمزية ، يتعمد عدلي تغليفها وتغطيتها ، لأنه يعتقد أنه ليس من الضروري أن تكون لوحته مقروءة ، فهو ضد اللوحات التي يراها المتفرج ، كأنه يقرأ في كتاب .
- أما المرحلة الرابعة والحالية في فن عدلي رزق الله فقد اختفت منها الأشرطة ، أو كادت وحلت محلها أوراق الورود ، والزنابق ، أعضاء التكثير مكان الأهرامات والأجنة ، وصارت لوحاته تتضمن إسقاطات وإشارات إلى العلاقة بين تفتح الزهرة وتفتح المرأة للحب ، حتى اعتقد البعض أن الفنان يقصد أن يصدم المشاهدين بإرشارات جنسية .
- عدلى يعتقد أن الجنس موجود في كل عمل فني جيد ، فالطبيعة فيها الجنس ، لكنه يفضل أن يستخدم لفظ الإخصاب بدلاً من الجنس لأنه يتناول هذا الأمر من وحي الزهور والبراعم والورود . والقضية عنده هي تركيز الرؤية من جانب المشاهد وأسلوب العرض : هل هو فج أم راق ؟! فالتعبير عن الإخصاب ينقل البشر من المرحلة الحيوانية إلى المرحلة الأنسانية ، ومن الغلظة والخشونة إلى الرقة والأناقة .
- مائيات عدلي رزق الله
- يعشق عدلي الألوان المائية في لوحاته ، لأنها فيما يراه تعطي ترددات ضوئية لا حدود لها ، وهي أقدر من الألوان الزيتية على التعبير عن الشفافية والنور .
- إن أهم ما يميز مائيات عدلي هو التعبير عن الضوء والفضاء ، كي يحس المشاهد أن مفرداته يغمرها ضوء الشمس ، وأن عوالمه ملونة .
- وعدلى يعبر في لوحاته عن طاقة لونية هائلة ، مصوراً عالماً أثيرياً من النور المصفي ، وكأننا نتطلع إلى العناصر من خلال طبقات كريستالية متتالية ، حتي تبدو ألوان الطيف وكأنها امتزجت بقطرات الندى في ثنايا إيقاع يرتفع من مستوى الهمس الممثل في اللون القريب من الأبيض ، وفي معزوفة تتردد نغماتها بمهارة وإحكام ، فتطرب العيون . ذلك أن عدلي يعتقد أن اللوحة رسالة إلى القلب والحواس ، تصل عن طريق العين ليتنور بها القلب ، حينئذ تحدث المعرفة التى يختزنها العقل فتصبح وعياً باعتبارها تجربة سابقة . فالقلب لا يلغى العين والحواس لا تلغى العقل . وكذلك المعرفة عن الفن : ليست ذهنية فقط ولا حسية فقط ، لكنها مزيج من الأثنين ، والفن يتضمن ما نعرف وما لا نعرف ، وهذا ما يجعل الفن طريقاً للمعرفة والتعلم . وهنا تكمن جدلية الفن ، فيصبح قصداً لا يحتمل الغيبيات أو العشوائية أو الصدفة .
- بقى أن نشير إلى ظاهرة فريدة في لوحات عدلي رزق الله وهي مخاطبتها حاسة اللمس فينا . إن قدرة عدلي رزق الله علي الإيحاء بالتجسيم ، وتعبيره عن كتلة العناصر ، وثقلها ودقة التنقلات من درجة لونية إلى أخرى ، تجعله قادراً على الإيحاء لنا ، بالرغبة في الملمس القطيفي لأوراق الورد فى لوحاته .
- إن التعبير عن الشفافية والضياء ، مع الإيقاع الذي يجعل اللوحات معزوفات مرسومة ، ثم المهارة في التعبير عن الملابس ، هى السمات الأساسية الثلاث التى تميز أعماله في بناء متماسك داخل لوحات متكاملة متوازنة .
- عن لوحات عدلي قال الناقد الفرنسى (كلود لافاى) : إن ( أعماله تحس أكثر مما ترى ، فليس فيها عنف ولا عدوانية ، إنها تتسرب إلى داخلنا وكأننا نستقبل دماً جديداً وهواء نقياً . وأعماله ليست تشخيصاً ، وليست أيضاً تجريداً عندما تتعود عيوننا على الألوان والخطوط ، في لوحاته ، نلحظ عنصراً هنا وعنصراً هناك ، وكأنه يشع من ثنايا الشكل الذي أمامنا ، والذي يتركب من خطوط رقيقة متشابكة ، مع أشكال تتفتح بفضل انحناءات رشيقة تزيدها مرونة ، وبدرجات لونية متعددة ، وشفافية ورهافة لا منتاهية . وألوانه الناصعة تصدمنا ، لأنها نتاج منطق وحساب وضع برقة وذكاء ، وفق توافق أو تضاد موضوعى ) .
- وقد عرض الفنان حسين بيكار الفنان فقال : إن تقابل الأضواء الشكلية في لوحاته ، الشفيف والكثيف ، الأحمر والأخضر ، الفاتح والداكن ، المادي والاثيرى ، الثابت والمتحرك ، الأملس والخشن ، العقلانى والتلقائي ، كل هذه العناصر تتصادم وتتفاعل معنوياً فيتمخض ذلك الإحساس الغامض الذي يجعل المتلقي فى حالة نشوة غيبوبة مجهولة الصدر ، هذه نفس النشوة التي تصاحب الفنان ساعة ملامسة فرشاته لسطح اللوحة . هذه الملامسة النبيلة بين فاعل ومفعول به ، بين سالب وموجب هي من إنجاب ( الثنائية ) التى تشكل قطبى الحياة فى كل شئ ولذلك تفرض هذه الثنائية نفسها ساعة الإبداع أو الإخصاب إرادياً أو لا إرادياً ، ليصبح قانوناً تشكيلياً يفرض نفسه لا شعورياً ساعة التكوين ولحظة الخلق ).
- آيات من سورة اللون
- ولقد استطاعت لوحات عدلي رزق الله أن تحرك الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ونادراً ما حدث ذلك بين شاعر وفنان فاستوحاها في قصيدة بعنوان ( آيات من سورة اللون ) نقدم منها هذه المقاطع التي تتطابق من أعمال الفنان ، وتعبر عنها فى ميدان فنى آخر .
- ( قطرتان من الصحو
- فى قطرتان من الظل
- فى قطرة من ندى
- قل هو اللون
- فى البدء كان
- وسوف يكون غداً
- فاجرح السطح ان غداً مفعم
- ولسوف يسيل الدم )
- وفى موضوع آخر يقول :
- ` وردة أم فم هذه الورقات التى تمسح الآن صدرى وقبرة تتنفس تحت الأصابع أم برعم نهدها `
- إلى أن يقول في قصيدته الملونة :
- ` تعالوا نلون كما تشتهى هذه الأرض أو نشعل النار فيها
- كما يشعلون الصواريخ فى ليلة المولد النبوى
- فتحملنا وتطير
- وتسقطنا مطراً قزحياً
- وتزرعنا شجراً موقداً
- ها هو الهرم
- رحم
- فتعالوا نولد ولداً `.
بقلم : صبحى الشارونى
مجلة إبداع العدد (4) إبريل 1984.
`مائيات 85` عدلى رزق الله
- معظم من كتبوا عن أعمال عدلى رزق الله تكلموا عن الشفافية فى عمله، عن ولعه وافتتنانه بالضوء عن الموسيقية، والرقة اللامتناهية فى النغمات والخطوط، عن النور الوهاج، الأبيض الساحق الذى يحقق متعة بصرية خالصة، عن التألق المشع، والمناخ الشعرى، وهو كله صحيح، صحيح بقدر ما يذهب إليه فقط، ولكنى أحس أنه لا يذهب إلى القدر الكافى وأن وراء - وعبر - ومن خلال هذه الشفافية والضوئية والموسيقية هناك شحنة من العنف قائمة، هى وحدها التى تنقذ أعمال هذا الفنان من مجرد التسايل والخفة، وتنأى بها تماماً عن مجرد هفافة الإيقاعية الضوئية الموسيقية.
- وليست الرقة، ولا العنف، قيما مجازية، فقط. هى قيم مجازية وتشكيلية فى الوقت نفسه.
- هى، أولاً قيم مجازية لأن هذا العمل يفرض على المتلقى رؤية، وحسا، وتفهما، مجازية كلها. المجاز هنا مرهف ودقيق ومستخفى به، هذا صحيح، ولكنه قائم، وصحيح أيضا أنه لا ينفصل بحال عن التشكيل، وأن البديهية النقدية التى لفرط صحتها أوشكت أن تكون مبتذلة مازالت صحيحة مع ذلك: أنه لا انفصال ممكنا بين مقوّمى كل عمل فنى حق: المضمون والشكل، الظاهر والباطن، الرؤية والصياغة، المعنى والأسلوب، وهكذا وهكذا. وهى مقولة تنطبق فى النهاية على كل المذاهب الفنية - فى الفنون التشكيلية وفى الفنون القولية، بما فى ذلك - حتى - `المذهب` التجريدى، والمذهب الشكلانى نفسه، ولكنها مقولة تفرض نفسها علينا فرضا عند هذا الفنان بالذات، إذ يصعب أن نعتبره تجريدياً بل سوف نكون قد شططنا شططا كبيرا لو تصورنا ذلك - كما تصوره أحد النقاد بالفعل - وإن كان من الواضح أيضا أن عمل هذا الفنان لا يمكن أن يعد تشخيصيا فى الوقت نفسه. وليست المسألة كما قال ناقد آخر أن `هذا الفنان يقف على الحدود الغامضة بين التجريدية والشخصية`، أو أنه لا يمكن أن يدرج بين التجريديين أو التشخيصيين` إنما الحل فى تصورى هو - كما قلت - أن القيم المجازية عنده منصهرة بلا انفصال بالقيم التشكيلية، بل لا توجد. أصلا لوحته إلا بتوحد كامل بين هذين النوعين من القيم، متفارقين ومتداغمين فى آن.
- وكما يقوم هذا التزاوج الحميم الذى يصل إلى حد الاندماج - فى معظم الأحيان - بين هذين السلمين من القيم: المجازية والتشكيلية، ففى تصورى أن هناك تزاوجا حميما آخر متضافراً ومؤيداً للتزاوج الأول، فى داخل كل سلم من سلمى القيم، تزاوج بين الرقة والعنف، على سبيل التبسيط، وفى الوقت نفسه تزاوج بين الأبيض والأحمر، على سبيل التبسيط أيضا, مع تراوح غنى ومتنوع فى النغمات، على كلا السلمين.
- هذا هو المشروع الذى أقترحه لتلقى أعمال هذا الفنان، مع التسليم ببديهية أخرى هى أن تجربة تلقى العمل التشكيلى لا يمكن أن تترجم إلى وسيط آخر (وهو ما ينطبق بالدقة على كل الأعمال الفنية) الخبرة الحميمة المباشرة بين العمل ومتلقيه شىء فذ وخاص، أما `الكلام` عن هذه الخبرة فليس إلا مجرد إشارات على طريقٍ ما اتخذته هذه الخبرة نفسها عند متلق ما، وما أصعب الإفصاح دائما عن مثل هذه الخبرة. وذلك أن النظر النقدى للعمل الفنى لا يمكن أن يكون فضاً لأسرار هذا العمل، بل مجرد مقاربة له.
- وقبل أن أمضى فى هذا المشروع للفهم والتحليل، أو على الأصح هذا الاقتراح للتلقى من خلال النظر إلى الأعمال الفنية المتحددة، أريد أن أفيد من هذا المشروع نفسه فيما يتعلق بالخامة الأولية، الأدائية، الحرفية، للفنان:
- المائيات، `الأكواريل` عند عدلى رزق الله.
- المائيات، عادة، خامة أو أداة رقيقة، بل بهفهاقة، وشديدة الحساسية، وناعمة الملمس، وخفيفة الإيقاع. وهى قيم موجودة بالفعل فى عمل هذا الفنان، موجودة إلى حد أن كثيرين من نقاده لم يروا وجوداً لشىء آخر، تقريبا.
- لكن خاصية عمل الفنان أن هذه القيم الآتية من مجرد خامة العمل تتحول، بنفس الكمياء التى قدمت بها هذا المشروع، إلى نقيضها المزّاوج الحميم، ويمكن أن يصبح الأكواريل فى يديه عجينة كثيفة، وحارة وعنيفة، فى سياق نظام محكوم ودقيق على مستوى ما، وفى مرحلة ما، وأيضا فى مرحلة أخرى حديثة، بحيث تخرج على هذا المستوى القريب المتاح من النظام إلى نظام أعقد، وفيه نوع من التدفق والعرامة، بل العريدة التى لها تركيبها الخاص دون أية شبهة من الانهمار المنفلت. ومصداق ذلك فى مرحلته الأخيرة التى أسماها `شهادات الغضب`.
- ولا يمكن أن يخطىء المرء فى مائيات عدلى رزق الله - فى كل مراحلها - تلك القيمة الحسّية، العضوية، الجسدانية الملمس، التى تتزاوج مع قيم الشفافية، والصفاء المطهر، والنقاء الأثيرى البلورى اللصيق عادة بالمائيات.
- كما لا تخطىء العين قيمة صَرحًية، وإيحاءً صخرياً ما، فى مرحلة جديدة من مراحل عمل هذا الفنان.
- أظن أن `مائيات 1985` هو معرض فارق فى مجموع أعمال عدلى رزق الله. وأنه علامة تحول أساسى فى عمله، وأن الفنان هنا قد بلغ ذروة من ذروات ازدهار - شرس وغنى - لمرحلة كاملة من مراحل عمله، ثم أخذ حصيلة هذا الازدهار ليضرب ضرباته الأولى فى منطقتين - على التحديد - جديدتين، تتمثلان بالتأكيد كل إنجازات المرحلة - أو المراحل إذا شئت - السابقة، وتغامران فى أرض وسماء جديدتين، وليست الجدة تامة بالطبع، وليست انقطاعا، بالقطع، ولكن فيها تفتحا آخر، ومساحات أكبر، ومغامرة أبعد.
- فلنسلم إذن، مع الفنان، أن فى `مائيات 85` ثلاث مجموعات متميزة أو منمازة عن إحداهما الأخرى، وإن كانت - بديهياً - متواشجة ومتولدة أحداهما عن الأخرى.
- ولنسلم أن المجموعة الأولى التى يسميها `الوردة - القوقع - المرأة` هى مواصلة وإغناء لعمله السابق الذى يمكن أن نتبين فيه، على الفور، خصائص معينة:
- أولاً: من الزاوية التشكيلية، أو الشكلية:
-الشرائح اللونية المتجاورة، أى قطاعات اللون المنحدرة أساسا من أعمال سابقة حيث كان الخط واللون متحدين، أى حين كان اللون متحددا بخطوط أفقية متراكمة على الأغلب فى شكل هرمى صاعد نحو قمة التوهج، ولكنها بعد ذلك لم تعد - هذه القطاعات - تتمسك بالاستقامة الهندسية تقريبا، وإن لم تفقد التحدد الخطى، هنا نجد شرائح اللون قد اتخذت - باطراد - انحناءات دائرية غير كاملة، واكتسبت لدونة جديدة، ولم يعد التجاور ضرورة رياضية بل سرت فيه دماء عضوية - كأنها بيولوجية - وإن كان المسعى اللونى والتشكيلى ظل يحتفظ بنمطه الأساسى: الاتجاه من الكثافة أو القتامة، بشكل عام فى البؤرة، إلى الشفافية والتشمع فى الأطراف، سواء كان ذلك باعتماد بؤرة واحدة أو مركز واحد للتشكيل، كما هو الغالب هنا، أو بإيجاد تعدد للبؤر. والمراكز كل منها ينبثق من بذرة تشكيلية مركزة إلى محيط تشكيلى مخفف بالتدريج حتى التلاشى فى الأبيض، الأبيض دائما، الذى تنتهى عنده كل المساعى، الأبيض الذى يحيط بإشعاع المسيطر.
- التنويعات النغمية البارعة والنتوءات التى تدخل مع ذلك إيحاء بعفوية أساسية وفطرية - على تشكيل الدائرة المقطوعة، والمخروط الأسطوانى المدور الجوانب المقطوع، أو المسطح بتقويس خفيف لدن. وهى تنويعات فيها كل مكر الصنعة وبراءة الرؤية فى آن واحد. لأنها هى التى تحكم تجاور الشرائح اللونية وتضادها، ولأنك سوف تجدها متكررة ومتساوية سواء على السلم اللونى القاتم أو الدافىء أو المشتعل بنار داكنة أو المحتقن بدماء غضرة، من ناحية، أو على السلم اللونى الفاتح الضوئى المتراوح بين درجات الأخضر الذى يزداد شفافية فى اتجاهه إلى طرف أو محيط الدائرة، أو الرمادى بتلوينات الزرقة الشاحبة المتجهة إلى بياض مجسم فى البداية يتخلى عن جسدانيته بالتدرج حتى يصل إلى قمة الفراغ. ولكن الفراغ الأبيض عند هذا الفنان فى كل الأحوال ليس انعداما للقيمة اللونية, ليس مجرد خلفية بيضاء خاوية، الأبيض هنا دائما امتلاء؛ أما محيط بالعمل، يسبح العمل كله فى موجه الشفاف، أو متخلل للعمل، موجود بداخله، يعطى للألوان الأخرى قيمة إضافية بمجرد وجوده، وسواء كان هذا الوجود بريئا تمام البراءة لا شائبة فيه أو مشوبا بأهون زرقة، أو بشبح حمرة أو بسيولة رمادية ما، والرمادى عند هذا الفنان ليس تابيا بأى حال، بل هو مزيج صاف من زرقة خفيفة جدا أو بنفسجية كادت تفقد بنفسجيتها نفسها أو تضرج شديد الحياء والخفوت ولكن فعال، وهكذا..
- فى هذه المجموعة - أو هذه المرحلة - تنتظم لنا حركة تشكيلية واضحة، هى التى تحكم ثنائيات العمل، وتسيرها. الحركة التى أسميتها منذ قليل السعى من الكثافة إلى الشفافية ومن الدكنة إلى الإشعاع. ويمكن أن نسميها هنا حركة الانفجار من المركز إلى المحيط. وفى معظم لوحات هذه المجموعة، هنا، سوف تجذب عينك على الفور، هذه الحركة الصادرة، بقوة ملحوظة، من بؤرة اللوحة الواحدة والمتشعبة بالتدريج إلى أجنحتها أو أطرافها. يفرض هذا النمط نفسه فى كل لوحات هذه المجموعة، فيما عدا لوحتين بالتحديد حيث تحل التعددية والتركيب محل واحدية المركز، وحيث تتكرر البؤرة وأن كان لا يصعب أن تجد ما يضفى غنى وتعقدا على اللوحة وأن كان يفقدها نوعا من فعالية الوقع، ويخفف شيئا من قوة التفجر.
- الملمح الأخير، من الناحية التشكيلية، فى هذه المجموعة على الأخص، وإن كان ينطبق أو يتضح فى الأعمال الأخرى أيضا، بجلاء، هو ما يمكن أن أسميه ثنائية المنظور، أو تسطح المنظور الذى يكمن فيه مع ذلك بعد قلق مجسم. فإذا سلمنا بداهة أن بُعد التجسيم ليس من أهداف هذه الحساسية الفنية أساسا، وأن الإيهام بالمنظور منفى بداءة، وأن التشكيل يعتمد أساسا على الأفقى والعمودى وليس على التخييل بالعمق، أى ليس على محاكاة المرئى، بل على ابتعاث حس تشكيلى محصور فى الإحداثيات الرأسية والأفقية، وحدها، للوحة، فإن ذلك كله مع ذلك يبعث حساً بالتجسيم، كأن هناك بعدا ثالثا خفيا قد تخلق من مجرد القيم اللونية والتشكيلية وليس عن مقصد بالإيهام بالتجسيم، ويتأتى هذا البعد الثالث - الموجود والخفى فى آن - من حسية لمسات الفنان الفنية، ومن تدرج اللون وحده، لا من تخطيط هيكلى ينبع من قواعد المنظور، أى أنه إذا صح القول بعد غير منظور بل محسوس، ليس نقلا للمشهد كما تراه العين بل ابتعاثا لخاصة العضوية والجسدانية كما تفيض عن اللون، ولعل فى ذلك تفسيرا للرغبة - التى أدركها أحد نقاد عدلى رزق الله - فى لمس اللوحة، كأنما العمل الفنى هنا نابع من ومثير لنزوع حسى أولى فى الوقت نفسه الذى يشع فيه بطهارة ضوئية متحكمة.
- ثانياً: بالتساوق مع هذه القيم التشكيلية، وبلا انفصال عنها، يمكن أن نتبين سمات القيم المجازية، أو المضمونية إذا شئت، التالية:
- القيم الانفعالية المتوازنة والمتصاعدة، وهى غالبا القيم التى تنبع كما يقول الفنان من `حبه الشديد للحياة`.. من `التوحد مع الطبيعة والذات`.. من `التوافق والكشف والحب` ومع أن الفنان - وأنا أوافقه تماما- يرى أنه `ليس من الضرورى أن تكون اللوحة مقروءة`.. وهو ضد أن يرى المتفرج اللوحة وكأنه يقرأ فى كتاب، إلا أن الإيحاء بحب الحياة، وبالحب، بالعشق للجسد باعتباره مستودع كنز الحب نفسه، فى نفس الآن الذى تحيط فيه شفافية متسامية - كأنها صوفية عشق النور - باللوحة كلها، هذا الإيحاء لا يمكن أن يغفله المتلقى، بل أظن أنه من الضرورى أن يغزو وعى المتلقى.
- البؤر الواحدة هنا، فى قلب الرؤية، هى بؤر رحمية، ليست فقط من حيث التشكيل العضوى الحار المفتوح عن طبقات لحمية محتقنة بالدم والسخونة، بل أيضا من حيث الحس بالمركزية والمقدرة على الإخصاب، والاكتنان على إمكانية التوليد، وكثافة الحمل الجنينى، وهى نفس قيم البذرة الكثيفة المحتوية فى داخلها على إمكانيات التفتق والازدهار والانتشار، فإذا كان لابد من استعارة مجاز البللورة فلتكن هى البللورة الحية الدافئة بل المتوهجة بحمرة الاشتعال، وإذا كان لابد من استعارة مجاز الوردة، ففيها أيضا طبقات الورق الملتف حول كأس دفينة متفتحة، ونعومة إنحناءات أوراق الورد الحانية حول سرها الخفى الواضح فى آن، وإذا كان لابد من استعارة مجاز الشفتين المضمومتين والمفترتين فى الوقت نفسه عن ابتسامة البهجة ونشوة الاحتدام معا فلا تخطىء العين إمكانية تعدد دلالة الشفتين، الشقين الملتحمين والمفتوحين معا، وأخيرا إذا كان لابد من استعارة مجاز القوقع - أو القوقعة - فإن مركز الدائرة المخروطية المنبثقة عن كنّ القوقعة الحامل للحياة العضوية النابضة هو الذى يشد الانتباه. القوقع المبتور أو المفتوح أو المنبسط الجناحين إنما هو دائما تشكيل للتفتح منبثقاً عن بورة للاشتعال.
- مدارات الحركة من الكثافة إلى الخفة، من الاحمرار إلى البياض، ذهاباً وعودة عبوراً بنفحات الأزرق الفاتح والأخضر المترقرق والرمادى المتموج الشفافية، فى تشكيلات متخذة من وريقات الوردة وأحناء الجسد الأنثوى معا، هذه الحركة مع ذلك قد تصطدم وتهدأ أمام تكوينات سكونية ثابتة موقفة لحياة اللوحة نفسها، عندما تتجاوز الشرائح فى نسق أسلوبى هندسى حيث المربعات المتجاورة توحى بزخرفة ثابتة وحيث الأسلبة Otylisgtiom واضحة تكاد تصل إلى حد السفسطة.
- النار - الرحم - الوردة - اللب - البؤرة - الشفة - النبتة - القوقع وأحيانا السمكة المشتعلة المكتنزة كلها، إمكانيات للرؤية وللحس، وفى الوقت نفسه هى البؤرة التى تجذب إليها تلك الحركة الدوارة الغائرة إلى عمق عميق، تلك التى تتخذ مسارين لا ينفصلان: انفجار من المركز إلى الأطراف، وانجذاب - كانجذاب الدوامات فى البحر - من المحيط إلى العمق، تلك الحركة التى تدور، بعنف، فى قلب سكون ضوئى غامر أبيض، سكون بضم مدارات الحركة ويحتويها، ويعطى للوحة وللرؤية، كلتيها، توازناً يتجاوز التوتر ولا ينفيه، كأنما هو توازن فلكى حقا، بين البهجة والنشوة التى تضم فى رحمها نواة مخصبة من الاحتدام والتوتر.
- المجموعة الثانية التى تفاجئنا فى `مائيات 85` هى المجموعة التى أسماها الفنان `البيت` والتى ربما آثرت أن أسميها `النخلة`.
- ومع ذلك فهى لا تفاجئنا تماما، فهى تمت برحم إلى مجموعة القباب أى مجموعة القدس، وإذا كانت مجموعة القباب تلك تنثبق، تشكيليا ومضمونيا، من مجموعة الوردة، لونيا وتخطيطيا ومن حيث الإيحاء الانفعالى فى آن، إلا أن مجموعة البيت تعنى اختلافا أساسيا، ونقلة أساسية. لا تعنى انقطاعا، بأى حال، ولكنها بلا شك تنطوى على مغامرة جديدة.
-فى مجموعة البيت، أو مجموعة النخلة، سوف نلاحظ على الفور عدة أشياء:
- أولاً: أن سمات التجريب - بمعنى بدء السير فى طريق جديد غير مسبور - تتضح فى صغر مساحة اللوحة. ليس صغر المساحة - كما لا أحتاج أن أقول - معيارا جامعا ونهائيا، كما هو يدعى، ولكنه هنا، على التحديد، يشى بأن الفنان يتلمس، وكأنه يضع اسكتشات أولية.
-لماذا؟ لأن مجرد تصور النخلة - السامقة، الشاهقة، الباسقة - فى هذه المسطحات الصغيرة إذا كان لا يوحى لنا بالقلق فلأننا كأننا نراها من خلال تيلسكوب مقلوب، يصغرها ويحجمها وهو نفس الإحساس المتأتى عن البيوت التى توحى، بلا شك، بأنها صروح شامخة ولكنها بأحجام مكعبات صغيرة بأحجام اللعب.
- ولكن هذه اللوحات الدقيقة - كأنها منمنمات - تحتفظ مع ذلك ببذور كل القيم التى أتصور - وأعرف - أنها ستتحقق فى أعمال قادمة مكتملة.
- نلاحظ أيضا خلل التناسب بين النخلة وبين البيوت، النخلة هنا نبتة تمت لها كل مقومات النضج فى داخل هيكل محاصر ومحصور، لا أريد من هذا بطبيعة الحال أن أبحث عن تناسب تقليدى وفق قواعد المنظور، فليس لهذا كله سياق أصلاً فى عمل هذا الفنان، وإنما أبحث عن تحقق لحضور النخلة بإزاء خلفية صرحية لا شك فى حضورها.
-سنلاحظ فى هذه المجموعة تأكد عنصر تشكيلى، أتصوره جديدا - على الأقل بمثل هذا الوضوح - على الفنان. سوف أسمى هذا العنصر، بداية، عنصر الصرح القضيبى صحيح أنه كان قد ظهر قبل ذلك، ولكن بتجسيد عضوى متحرك ومتنز، ولكنه هنا يتبدى مكررا على شكل صرح يكاد يكون نحتياً، أو معماريا. وهو صرح معطى لنا من خلال المساحة الضيقة الصغيرة بحيث لا يفقد مع ذلك طبيعة الصرحية. وسوف نلاحظ تكرره وشموخه إما معلقا فى فضاء اللوحة أو راسخاً على صخر اللوحة. ومقابلا لوجود أنثوى هو وجود هذه النخلة الوديعة المنمَقة الجدائل، المنحنية دائما برشاقة نسائية المحتضنة دائما بين الجدران الصلبة والحانية معا، النخلة باخضرارها الخاص وزرقتها الخاصة، يسرى فى عمقها شريان بنى كأنه تيار مُخصِب ملىء بالطمى, النخلة بحراشيفها الناعمة اللدنة إزاء وجود العمود القائم المنتصب، تنصهر فيه قيم الحجر والتشخيص العضوى معا، وتتجاوز الحسية والصخرية معا، بل فيه قيمة نباتية كالصبار المدور الذى يختزن خلف جلدته الحجرية عصارة كثيفة تتراسل مع النخلة. وتتجاوب معها، وسوف نجد فى هذا العمود درجات الأبيض المزرق، والأزرق المحتقن بالبنفسجى، وسوف نجد أن الفلقتين العضويتين فيه قد اتخذتا فى الوقت نفسه نسيجاً حجريا فى اللون وفى الملمس الموحى به على السواء والوجود الحجرى الصرحى يقابل ويعدل الوجود العضوى الحى.
- وسوف نجد أن هذين العنصرين: عنصرى الأنوثة النخلة، والذكورة العمود المشقوق الرأسى، متواجهان فليس التماس هنا متحققا، أبدا، بل النزوع المتبادل فى نوع من الوله النباتى الصخرى الآتى عن التجاور لا عن التداخل. الوحدة فى اللوحة لا تتحقق إلا بوجود عنصر البيت - عنصر الجدار الصرحى الذى يشتمل على العنصرين المتضادين المتجاذبين - وان كانت بؤرة هذه الوحدة فى رؤيتى، إنما تميل ناحية العمود الذى تستند إليه اللوحة كلها، حتى لو كان كما يحدث غالبا، عموداً مائلا، جانحاً ليس نحو أنوثة النخلة وحدها، بل نحو نقطة للجاذبية كأنها تقع وراء اللوحة، أو على الأصح وراء جداريات البيوت المتضامة.
- فى هذه المجموعة أيضا نجد تيمة أو تشكيلة الدوران المشقوق: ما يوحى بأنه تفاحة مشقوقة، ما يبدو وكأنه زهرة مشقوقة، وما يلوح كأنه عمود فيه شق علوى، ولكنها تيمة ليست غريبة على عمل الفنان، فسوف نجد بسهولة، تساوقات متعددة لها فى لوحاته السابقة.
- جداريات البيت فى هذه اللوحات تثير انتباهنا إلى واقعة تشكيلية كامنة فى كل أعمال الفنان لكنها هنا تتحقق بوضوح وتوفيق لم يبلغ هذه الدرجة من قبل. هذه الواقعة هى أن النور ـ البياض ـ عند هذا الفنان ليس آتيا من مصدر خارجى، ليس هو نور الشمس أو ضوء النهار، مثلا، بل هو قيمة تشكيلية داخلية إذا صح القول، جدران البيت هنا ليست جدرانا - على رغم صرحيتها - بل هى اندياح ضوئى لا فاصل بينه وبين النور المحيط باللوحة كلها، بل أكثر هى الضوء نفسه، أما الخارج الذى كان ينبغى أن يكون هو النور، فهو محدد بدقة، ونسيجه هو النسيج الأكتف. الجدار هنا هو النور بكل شفافيته أما الخارج، النهار، الوجود الواقعى إذا شئت فهو الذى تشوبه تظليلات ماكرة وخفية جدا ولكنها واضحة، النور الخارجى مشوب إذا شئت، غير نقى وغير صاف تماما بمعنى ما، والجدار هو النور الداخلى المطهر الذى لا تشوبه شائبة.
- فى قسم من هذه المجموعة ألمح شيئا كان دائما يخامر عمل هذا الفنان، ويهدده ولكن الفنان كان ينتصر عليه دائما، إلا فى هذه اللوحات القليلة.
- ذلك أن حساسية هذا الفنان تقف فى تصورى على حافة ما أسميته بالأسلبة المسرفة، أو خطر الزخرفة والتوشية. وهو يحقق الانتصار ويؤكده لأن الخطر قائم، فلو لم يكن هذا الخطر مشارقا ومترصدا دائماً عند الركن - كما يقال - لما كان لهذا الانتصار روعته بل لما كان هناك انتصار أصلا، مشارفة الخطر فى الفن وتجاوزه هو تحقق ينأى العمل عن سوقية الروتين وابتذال الأمان.
- ولكنى أجد أن بعض اللوحات من هذه المرحلة - مع كل احتفاظها بمقدرة الفنان وتمكنه - هى لوحات أقرب إلى الزخرفية، نعومتها الشديدة فى اللون والملمس والتشكيل، وتناسقها الذى يشفى على السيمترية فى مواقع معينة، وتوشيتها بموتيفات تذكرنا بالنوفوآر المزهرة، وسهولة مرآها، نفسها، تجعلنا ندرك فجأة كم فى لوحاته الأخرى من إنجاز، وعمق.
- سوف أصل بعد ذلك إلى المجموعة الثالثة والأخيرة فى تطور عمل عدلى رزق الله، وهى التى يسميها الفنان `شهادات`.
- هذه المجموعة، فى رؤيتى، اقتحام، واختراق، وتحقق كبير.
- وفى لوحات هذه المجموعة لم يعد العنف مكنونا، مكبوبا، مركوزا فى بؤرة عميقة واحدة، ومحكوما بقوانين مستوى أول من التوازن، بل أسفر عن ذات نفسه، فى انطلاق عارم يكاد يشفى على عربدة ما، وأصبحت قوانين التوازن معقدة والهارمونية خفية وكامنة.
- وعندما قال عدلى رزق الله، مرة أنه بُهر وصدم عندما اكتشف قوة بيكاسو ومقدرته فلعله كان يستشرف فى نفسه طاقة مستعدة للتدفق بقوة ومقدرة، وجدت سبيلها لهذا التدفق بتمكن وثقة.
- من الممكن أن نتلمس سمات وخصائص هذه المرحلة التى حققت الكثير فى تصورى وتعد بتحقيق الكثير فى أملى، بأن نطوف باللوحات، نتلبث قليلا عند كل لوحة، ثم نستخلص القسمات العامة بينها.
- بداية، نرى النقلة بوضوح، وتفاجئنا الصرحّية فى البناء، والملامح شبه التشخيصية، والجرأة - الكشف فى الغرفة بين نسب المنظور، وفى استخدام الأبيض بتنويعاته - إذا صح أن للأبيض تنوعات - لإكساب المشهد التشكيلى رحابة تكاد تكون لا متناهية.
-ما من شك أن التماسّ مع بيكاسو، هنا، فعال لكنه تماس حميم، لا أقول أن فيه ندية بل فيه مودة بل محبة؛ ومن لغة القول أن تثار مسألة التأثر والتأثير، أصالة الفنان المتمكن هنا تفرض نفسها، وتفرض النفى التام لهذه المسألة.
- وسوف نرى عنف الأبيض، كيف يمكن أن يكون هذا اللون - اللون وليس افتقاد اللون - لا هو محايد، ولا هو أثيرى، ولا هو شفاف، بل فيه طاقة متفجرة، وله وجود بالفعل، ساحق. الأبيض يستخدم هنا كإحدى بؤرتى اللوحة فالملاحظ عامة، فى هذه المرحلة، ثنائية البؤرة، أو ازدواجية المراكز فى اللوحة، البناء هنا لا يعتمد الانطلاق من غور واحد مركزى، بل يقام معمار اللوحة - والمعمار كلمة مقصودة تماما, لأن الحس المعمارى أو الصرحى، يسود هذه المرحلة كلها - يقام المعمار إذن إما على التواجه، أو التقابل، أى الازدواجية فى المركز، وهو الأغلب، أو على تعددية البؤر، حيث دائرة الحركة كاملة، وهى دائرية لم تعد ناعمة وسائرة على سُنتها - حتى ولو كانت مبتورة أو مفتوحة أو ذات جناحين، كما فى المرحلة الأولى - بل هى متعرجة دائرية تستخدم قيمة التشويه distortion وتستخرج رصيدها الفنى، وما من حاجة للقول أن التشويه ليس هنا قيمة سلبية بل على العكس تماما، المسخ هنا يقطر الرؤية ويبتعث لها جمالا غير مألوف، مفاجىء وصارم ومفترع افتراعا ليس فيه رثاثة لمحاكاة التقليدية.
- وهو على الأخص ما يتميز به تشويه أو تحريف الوجه الإنسانى - الذى طال غيابه عن عمل هذا الفنان - الذى يفضى إلى خدمة الرؤية الحسية الصراح، بل يبتعث لها ملمسا خاصا، وسوف نجد أن تجاور، أو ثنائية الوجهين الإنسانيين اللذين جُردا من كل مصداقية المحاكة والتشخيص، ليكتسبا مصداقية أعمق، نحتية وعضوية معا، معمارية وبيولوجية معا، كأنما كل القشور الظاهرية قد سقطت لكى تعرى الجوهر الصامد النابض فى آن، هذه الثنائية تحلها دائرية خفية مرهفة الخفاء ولكن قائمة، تكاد تحس ولا تكاد تُرى، ولكنها قائمة.
-هذه التعرية حتى الطبقات الداخلية تفرض نفسها إذ لا يكاد المشهد التشكيلى يحتوى إلا على فِلَذِ أنثوية، واستدارات حية، وتجاوبات لحسية الجوارح، فى نطاق صرحى مازال، ولكن الصرحية أو المعمارية تكتسب هنا بضاضة أو غضوضة لا يكاد يخطئها الملمس، ودفء الأكواريل يقترب هنا من قوام عجينى.
- وهذا الدفء يستحيل إلى خلفية ملتهبة، أكثر من متوهجة، تقوم وراء قامتين صرحيتين، صخريتين، تعطيان لنا بألوان غاضبة، إن عضوية الصرح تتأكد هنا، وحسيته تؤكد معماريته.
- سوف تنصهر الرؤية الأثيرة عند الفنان، الرؤية النارية الوردية، مع الرؤية الجديدة الصرحية الزرقاء، هنا تكتمل العربدة المقننة، ولا يصبح التجاور مجرد تواتر بل هو تركيبة معقدة ومتجانسة الأعضاء.
- سوف أغامر بأن أشير إلى الخصائص الجديدة - الجديدة بمعنى أنها تمثلت تماما كل إنجازات المراحل السابقة وتخطتها:
- لم تعد طزاجة الألوان قيمة تشكيلية لها ما يشبه البراءة الطفلية، بل أصبحت طزاجة غنية، محنكة، فيها طبقات عدة من النضوج، مع الاحتفاظ بصدمة براءتها فى الوقت نفسه.
- لم يعد التوازن فى اللوحة مجرد هارمونية ذات سلم واحد، إن صبحت الاستعارة من الموسيقى، وهى استعارة تفرضها موسيقية العمل - بل أصبح التوازن متعدد الأصوات، بوليفونيا، أو على الأقل ازدواجى السلم، وله عمق رنينه حفى ولكن غائر الصدى.
- لم تعد الصنعة الجيدة والإحكام الأدائى شيئا سافرا، مبذولا للعين، وهو دائما ضرورى ومطلوب وقد كانت له فعاليته التى لا شك فيها فى الأعمال السابقة للفنان، وكان لهذه الصنعة التى هى مقوم أساسى وأولى لا غنى للموهبة عنه، كان لها نورها الخاص المشرق، أما الآن فقد أصبحت كامنة فى صلب العمل وكأنما هى تتخلل كل تضاعيفه بمكر وحذق حميد، وإذا كانت العرامة، والقوة، تجتاح كل معالم الصنعة، فالعرامة مع ذلك ليست تدفقا جامحا والعربدة ليست تخبطا، بل السيطرة عليها تأتى من صنعة خفية، داخلية، تأتى من العمق.
- سوف نجد القيم المجازية هنا هى قيم الأوصال الجسدية المقطوعة والحية والمتضامة فى نشوة حسية وفى نسق معمارى معا، لم تعد العربدة - النار الرحم - القوقع، الزهرة - الورقة النباتية هى المعبر، أو المجاز، بل الطوايا والاستدارات والحنيات الأنثوية، والقامات الصخرية، والمسوخ الإلهية إن صحت العبارة، الثنايا الحميمة، وبضاضة التقاء الخطوط والمساحات الغنية، بعبارة أخرى هنا اقتحام لجسدانية عضوية حية، ولم تعد الرموز النباتية ذات سيادة.
- وعنف الجسدانية - عنف الغضب - هو الذى يغلف رقة وحساسية مرهفة، على عكس مرحلة الوردة مثلا حيث كانت الرقة والأثيرية هى التى تنطوى على بؤرة غائرة من العنف.
- أما القيم التشكيلية فلعل الصرحية التى ترددت كثيراً فى حديثى هى المميز الأول لهذه المرحلة، كما أننا سوف نجد جرأة فى استخدام اللمعة المعدنية الكابية بإزاء مشتقات الألوان الساخنة الأرضية، الأزرق والأحمر وتنويعاتهما، أما شفافية الألوان الضوئية ومشتقاتها فقد ظلت تغلف اللوحة، هذا صحيح، وتحقق وجودها فى اللوحة، هذا صحيح، ولكنها لم تعد هى الضوء الأساسى فى اللوحة، كما كان الحال فى المراحل السابقة.
- الرسالة فى هذه المرحلة هى رسالة الغضب والتمرد على القهر ورفض التردى، وهى تأتى إلينا كأنها طاقة متفجرة تنبعث من اللوحة إلى صميم دواخلنا مباشرة، وإن كان ذلك عبر تشكيل فنى بالغ القوة.
- عدلى رزق الله، على كل رهافته وشاعريته وموسيقيته، فنان حسى وعضوى، فنان عنيف وقادر، ومقتحم.
بقلم :إدوار الخراط
مجلة: إبداع ( العدد 4) أبريل 1986
عدلى رزق الله شاعر الألوان
- فنان مصرى معاصر ، تخرج من كلية الفنون الجميلة فى عام 1961 ، عمل رساماً فى مجلات الأطفال التى تصدرها دار الهلال فى الفترة من 1961 حتى 1971 ، ثم سافر بعد ذلك إلى فرنسا حيث قام بتدريس الرسم فى جامعة ستراسبورج وظل بها حتى عام 1978 ، أقام العديد من المعارض فى باريس خاصة فى ` جاليرى لوراتلاج ` ` و جاليرى لارو ` وصالة ` بوجروتيل ` وغيرها ، كما أقام بعض المعارض فى هولندا ، عاد إلى القاهرة عام 1979 وأنجز العديد من كتب الأطفال الخاصة بدار الفتى العربى حتى عام 1980 حيث تفرغ بعد ذلك للفن ، وهو من القلائل المبدعين بالألوان المائية فى مصر والوطن العربى ، وقد أطلق عليه بعض النقاد لقب ` شاعر الألوان ` كما أن هناك قصيدة شهيرة مهداه له وعنه للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى وهى بعنوان آيات من سورة اللون، ولوحاته تثير فى النفس مشاعر البهجة والفرح والأمل والتفتح وحب الحياة. ونحاول فيما يلى أن نتعرف على بعض ملامح تجربته الإبداعية من خلال حوار معه قام به كاتب المقال .
- يقول عدلى رزق الله متحدثاً عن بدايات اهتمامه بالفن ` لقد تأثرت بسيزان وكاندنسكى ورمبرانت وبول كلى وكمال خليفة وآدم حنين لموقفهم من الفن أكثر من النتائج ذاتها ، ولم يكن هناك تأثير مباشر إلا من كمال خليفة فى فترة التجارب ، ولم أعتبر هذه التجارب أمرأ نهائيا ، وقد انتهت تأثيراته عندما اعتبرت أن ما أنتجه قد يكون هو الفن ، لقد تأثرت برمبرانت وأهتم به حتى الآن ، ولكن فى أى جانب بالذات تأثر به ؟ ..
- لا أستطيع التحديد .لقد بدأت الدراسة الأكاديمية للفن منذ حوالى 25 سنة ، وخلال هذه الفترة حدثت لى تجارب معينة ، هذا لا يعد عمراً طويلاً فى حياة الفن ، الفن يحتاج إلى عمر طويل حتى ينضج ، وفكرة الموهبة الخارقة والإلهام هى استثناءات وراءها أسباب نادرة وليست محل تفكيرى ، بعد 25 سنة من الخبرة لو سألتنى أين أنت ؟ سأجيب بأننى استطعت أن أصل إلى نقطة بداية ، ووصولى إلى نقطة البداية هذه ليست أمراً بسيطاً ، فلكى يصل المرء لنقطة البداية لابد أنه قد عانى معاناة شديدة ، ودخل فى معارك معينة مع الموجود بداخله وخارجه ، وحاول أن يعمل مثل بعض الفنانين ويعارضهم ، وقد كان الفن التشكيلى بالنسبة لى نوعا من العلاج النفسى ، ومن خلاله - أيضا - استطعت أن اكتشف الفرق بين العلاج النفسى واللوحة ، وهذا احتاج إلى التوهان والتخبط مدة طويلة .
- يتحدث عدلى رزق الله عن كيفية دخوله إلى اللوحة ، وكيف يتهيأ ويجهز ويعد نفسه للعمل بقوله : أهم نقطة فى الأداء هى نقطة البداية ، أى كيف يستطيع الفنان أن ينسى كل شىء ما عدا أنه سوف يرسم ، وهذه نقطة يصعب الحديث عنها بالكلام ، لكننى لاحظت وفيما يشبه التمرينات الأولية فى الرياضة البدنية ` التسخين ` كيف يستطيع الفنان أن يبدأ من نقطة صفاء تجعله قابلا لأن يرسم وأن يتلقى ، لأن الفن فيه ما نعرف وما لا نعرف ، والجدل بين هاتين المنطقتين المتوترتين هو ما يصنع الفن ، ولا بد للفنان من الوصول إلى نقطة يستطيع فيها تعليم جسده الاعتياد أو الاستعداد لأن يبدأ من نقطة تركيز عالية تجعله يتجنب أية أصوات خارجية تأتى إليه ، ومن مراقبتى لنفسى اكتشفت أننى لا أستطيع أن أبدأ العمل فى أثناء النهار ، لابد أن أبدأ من الصباح الباكر ، ولدى طقوس بسيطة أقوم بها ، أهمها أن أكون فى حالة هدوء تام داخلياً وخارجياً : هدوء فى البيت ، أتناول إفطارى ، أشرب القهوة ، أدخن ( مرتين أو ثلاثة ) ، أستمع لبعض الموسيقى ، فتحدث حالة من الهدوء والاسترخاء الجسدى بداخلى.
- وهذه النقطة لا يصل إليها الفنان إلا بعد آلاف من ساعات العمل والمحاولة ، فهى من أصعب الأشياء التى يتعلمها الفنان ، والتوترات التى تحدث فى أثناء بناء العمل تحتاج - أيضاً - إلى نوع من التوافق الجسمى والروحى والنفسى بحيث لا ينهزم الفنان أمام التدفق الذى قد يحدث ، ولابد للفنان أن يتعلم أن يكون مسيطراً على عمله دون أن يتدخل تدخلات غير مطلوبة تفسد العمل ، وهذه مسألة فى منتهى الصعوبة أيضا ، جدل غريب يحدث بين الفنان ونفسه واللوحة ، بين ما يعرفه وما لا يعرفه ، بين التدفق والسيطرة ، ولا بد له أن يعرف متى ينتظر قليلا أمام ما تم إنجازه ، ويقوم بالاسترخاء قليلا ، وليس المهم هنا هو ما أقوم به فى أثناء فترة الراحة كالتدخين مثلا ، بل المهم هو التوقف فى لحظات الصمت التى تتكرر مئات المرات فى أثناء العمل الفنى والتى يجب ألا يلمس فيها الفنان اللوحة التى أمامه ، وعمليات الاسترخاء وإعادة الجهد وإعادة تملك الذات مرة ثانية هى عمليات لها أهميتها الكبيرة فى النشاط الفنى ، وهى ليست بالضرورة عمليات تصحيحية للخطوط واللمسات التى تمت ، ولكن هذه النشاطات تكمن فى قلب حالة الاندماج ذاتها وهى ذات تركيب خاص فى بنية النشاط ، وكلمة خبرة هنا ليست كافية ولابد للفنان من أن يصل إلى القدرة على الاندماج هو والورقة والعمل الفنى واللمسة والألوان والهدوء وسكون البداية ومقاومة التوترات التى تحدث ، وأن يصمت ولا يلمس الورقة فى الوقت المناسب ، ولا بد من أن تتوافر له رهافة الجهاز البصرى وغيره من الأجهزة النفسية ، وكذلك حدوث جدل الداخل والخارج بطريقة خصبة وخلاقة ، وأن يبدأ حينما يشعر بأن الشحنة كافية لأن يعمل ثانية فى اللوحة ، لابد للفنان من مجاهدة حقيقية فى أثناء العمل وبدون ذلك لا يتكون الفن أو الفنان `.
- الألوان المائية هى عشق عدلى رزق الله الخاص، وهى المادة الأولية التى يطوعها ويعالجها ويتفاعل معها ويطورها ، وهو كما سيتضح لنا فيما يلى يتعامل معها ويدركها كما لوكانت كائنا حيا يضج بالحركة والحيوية والنشاط والحياة ، يقول عنها ` اللون مجرد مكون هام من مكونات اللوحة والأهم هو تدرجات الألوان ، ومن المعروف أن الألوان المائية ألوان حياتها ودفؤها فى عدم وضع أكثر من طبقة لونية على سطح اللوحة ، والفنان المتردد لا يعمل بهذا النوع من الخامة ، وأنا عادة ما أقع بين المعرفة الكاملة التى هى حصيلة التجارب السابقة ، وعدم المعرفة بالمرة نتيجة أن اللوحة الجديدة أو مجموعة اللوحات لها قانونها الخاص ، ولذلك يحدث التوتر الذى يخلق العمل، وهذا الإحساس صحيح بالنسبة للون ، كما أنه صحيح بالنسبة لكل مكونات اللوحة وهو مفتاح العمل عندى ، ولدى فكرة مسيطرة قد تبدو غريبة أو ساذجة ! فعندما أنظر للسماء أتخيل أنها مكونة بشفافية الألوان المائية ، عندما أنظر للطبيعة عموماً أشعر أنها مكونة من ألوان مائية ، عندما أنظر إلى البلاستيك أشعر أنه بعيد عن هذه الفكرة ، الألوان المائية لدى هى ألوان الطبيعة رغم ما هو معروف من أن الفن شىء والطبيعة شىء آخر على الرغم من ارتباطهما الشديد ببعضهما البعض ، لكننى أشعر أن الطبيعة البكر... الأشجار ، الأرض ، التراب ، الطين ، السماء ، الصحراء، الشمس ، الهواء ، العرق ، البشرة ، حقول القمح ، النباتات .. الخ كلها تعطينى إيحاء بأن الألوان المائية هى المسئولة عنها ، ولم تعد الألوان المائية بالنسبة لى هى الألوان الشفافة فقط، كما هو معروف ، لكنها تصل عندى إلى درجة شديدة من الكثافة بحيث تشع ألواناً على ما حولها ، وقد وصلت إلى عمل ألوان كثيرة حتى الأسود الكثيف بالألوان المائية ، وفكرة أن الطبيعة قد صنعت من الألوان المائية تبدو لى غير حقيقية على الرغم من أنها شديدة السيطرة على .`
- يقول عدلى رزق الله متحدثا عن بعض حالات حركة الإبداع له` إننى أبدأ بلمسات صغيرة توتراتها بسيطة ، ويزداد عنف الإيقاع تدريجيا حتى تقترب اللوحة من الانتهاء ، وفى البداية أكون مسيطراً تماما، وبمرور الوقت أعمل وكأن هناك قوة أخرى هى التى تعمل .. وهكذا ، ولكن قبل نهاية العمل بقليل تعود السيطرة مرة أخرى ، وأصبح للمرة الأخيرة سيدا للعمل ، وحينئذ تحدث النهاية ، وضربات الفرشاة واللمس على السطح لها أهميتها الخاصة بالنسبة لى فأنا أستمتع بالأداء استمتاعا حسيا وهو يختلف باختلاف المطلوب من اللمسة على سطح اللوحة ، واللوحة هى مجموعة من الإضافات بالنسبة لى ، فالبناء وليس الهدم هو طريقتى فى الإنتاج ، والعوالم التى أرسمها تتكرر وتتوالد من بعضها البعض وتختلف ، ولكن فى أحشاء الجديد يوجد القديم وهكذا ، والعمل هو الذى يحل كل المعضلات ولابد أن يكون دءوباً ويومياً، والأحاسيس والأفكار عندى يجب أن تستقر بداخلى فترات طويلة ، أحيانا ً بالأعوام ، ففى إحدى رحلاتى للصعيد المصرى رأيت النخيل برؤية جديدة ، وفكرت فى النخيل بعمق ، بدأت علاقة التفكير قبل أن تبدأ العلاقة الفنية ، وقد رأيت النخيل فى أثناء رحلتى فرأيت أشكالاً عديدة من النخيل ، نخيل فى صف واحد ، ونخيل متفرق ، علاقات أفقية ، وعلاقات رأسية بين النخيل ، رأيت النخيل فى حالة شموخ وفى حالة هرولة ، وكل ذلك كان فى عملية سريعة ومتعاقبة وممتعة ، وعندما عدت لم أستطع إكمال اللوحة التى كنت أعمل بها ، وخرجت مبكراً من البيت فقابلنى أحد الأصدقاء وسألنى عن سبب خروجى المبكر من البيت ، لعدم اعتيادى الخروج فى هذا الوقت ، فقلت له : نظرت إلى اللوحة فلم أجد بها نخيلاً، بالطبع من الممكن ألا يخرج هذا الكم الحسى الهائل لدى بشكل مباشر أو سريع ، ويمكن أن يظهر بعد سنة أو سنتين كما حدث بالفعل مع الخبرة الإدراكية الحسية الخاصة برؤية النخيل ` فالفنان عدلى رزق الله مشغول الآن وبعد سنتين من هذه الخبرة بمجموعة لوحات عن النخيل ويمكن أن يظهر فى وقت أقصر من هذا بكثير ، وهذه هى الطريقة التى يتكون بها وجدان الفنان من خلال حالة معينة من المعايشة وعمق الإدراك.
بقلم : د./ شاكر عبد الحميد
مجلة : القاهرة (العدد 3 ) 19-2-1985
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث