`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد عز الدين نجيب

-عشق وموهبة وراء اختيار عز الدين نجيب للواحة.. أى واحة .. فى مصر أو تونس لتكون موضوعاً لإبداعه .. فالواحة بحكم طبيعتها محدودة المفردات ولكنها فى أعمال الفنان تحولت الى تراث والصمت أصبح لغة .
- وإذا كانت رحلته مع الواحة بدأت منذ سنوات فهى استقرت هذه المرة فى واحة تونسية .
- يتناول الفنان فى موضوع أعماله مشاهد من واحة فى صحراء تونس تسمى واحة `مطماطة `ويطلق الفنان على معرضه عنوان `مطماطه حلم الصحراء` وهو عنوان تدور حوله جميع اللوحات مع إضافة عنوان جانبى `المتاهة والملاذ` ليعبر بها عن استمرار تجربته الفنية من خلال مجموعة الأعمال التى تتنوع فيها الرؤى الذاتية للفنان حيث يلعب الحلم والخيال والرومانسية دور رئيسياً فى لغة التشكيل حيث يعرض الفنان من خلال لقطاته التىتتسم بالخصوصية رؤيته الذاتية لمجموعة الكهوف الأثرية المدفونة داخل الجبل للهروب من أشعة الشمس الحارقة ومخاطر الصحراء وقد تشكلت هذه الكهوف على هيئة أقبية وممرات ودرج بأسلوب تلقائى يتوه فيها الزائر من كثرة الغموض الذى يحيط ببنائها التركيبى وعمارتها التلقائية .
-عن المضمون الفكرى للمعرض فهو يعتبر استمراراً لنفس الخط الذى بدأه الفنان من بداية الثمانينات فهو يتعامل مع العمارة والجماد وكأنها كائنات حية تعكس تاريخ عريق لبصمات الانسان بل كثيراً ما تتأنس هذه العناصر وتتحول الى أجسام بشرية فى نفس الوقت حاول الفنان تجاوز الحدود الجغرافية والزمان التى تحدد طبيعة المكان والبيئة الى رؤية فكرية لعلاقة الإنسان بالوجود... بين المحدود والمطلق.. بين المتناهى واللامتناهى.. بين الحصار والرغبة فى التحرر والانطلاق بين الضياع فى متاهة الحياة والبحث عن الأمان والسكينة وهى جميعاً معان لا يفرضها الفنان على اللوحة ولا على المشاهد بل تظهر تلقائياً من خلال المعالجة التشكيلية وكثيراً ما تحمل ايضاً معان متعددة يختلف تأثيرها من مشاهد لآخر .
- اما الأسلوب الفنى الذى تنتمى اليه أعمال هذا المعرض فهو يقدم فى هذه المرة نوعاً من المزاوجة بين عالم الطبيعة المرئية وبين عناصر خيالية أشكالها مباشرة على سطح اللوحة مما يعطى دائماً الإحساس المخادع بأننا فى واقع معين وفى الوقت الذى يلجأ فيه الفنان أحياناً الى عنصر التجسيم فيجعل من هذا التجسيم غالباً منطلقاً لتشكيلات جمالية حرة أقرب الى التجريد على أساس الجمال باللوحة وهو التجريد الذى يقبل الاختزال الى كتل ومساحات وخطوط تنظمها علاقة تجريدية وان كان هذا البناء يصب فى النهاية فى رؤية ميتافيزيقية.
- كما يوجد فى هذا المعرض أسلوبين للمعالجة الفنية الأولى هى استخدام اشكال تجريدية أقرب الى حروف لغة مجهولة على أسقف الكهوف تعطى إيقاعا ديناميكياً أقرب الى السحر والشعوذة بما يعود بالمشاهد الى لغة البربر والكهوف البدائية التى هى أصل الانسان .
-الأسلوب الثانى هو استخدام الملامس البارزة من عجائن سميكة فوق سطح اللوحة مما يعطى ملمساً ليس خشناً فقط بل ومتوتراً ومرتعشاً من الضوء الساقط فوقه إن هذا المعرض يحمل فكرة بالغة الذكاء حول العلاقة العضوية فى الشكل و المضمون بين المجتمعات العربية .
نجوى العشرى
الأهرام 1995

- الصحراء الرمال الذهبية المترامية الاطراف معشوقته الأولى يقرأ يكتب.. يبدع يتأمل ثم ينسج من رمالها وكثبانها لوحاته قصائد شعر تتغنى بهذا الجو الصامت بما يثرية من تأملات واصداء فكرية عميقة تردد فى جنبات الفنان عز الدين نجيب.. يجوس خلال الديار .. يسافر ... يذهب يحمل بين طيات قلبه وعقله وسن قلمه حبه الأبدى للصحراء وعز الدين عندما يبدع يكتب، وعندما يكتب يبدع وعندما يقف امام اللوحة البيضاء اللون يتأمل ويرسم ويصور بضربات فرشاته السريعة هواجسه و أحلامه ويطرح من خلال حواراته فى القص و الرسم تساؤلات مازال الفنان عز يبحث عن اجابات لها ...
ويالها من اسئلة مازالت تستعصى عليه فيهرع الى اللوحة ويهمس لصحرائه ويستدعيها من ذاكرة إبداعه ويسمع نبضها .. ويرى أمامه التلال.. الفضاء الرهيب... صمت الكون الذى يلف المكان وخط التماس مع الافق الرحيب.. حيث اللازمان و اللامكان ويتداخل الحلم ممتزجاً بالحقيقة و الواقع فى الخيال فتبدأ شرارة الإبداع وتتداعى الصور و الأخيلة.
- وتتشكل اللوحة وتظهر القباب مغلفة برداء الصمت المهيب ثم تتراءى هامات التخيل وهى تطل على البيوت المنحوتة فى بطن الجبل وهى تحاور قبة السماء الزرقاء ويلتصق بعضها ببعض كأنها تخشى هبوب رياح عاتية قد تعصف بها.. ويمضى الفنان عز الدين فى مشواره الفنى وتتعدد اعماله مع التصوير الزيتى حيث اللون و الظل و الضوء و اللمسة الراسخة وتتجاوز اللوحات وتتعدد.. العيون... الأسرار... الملاذ.. المتاهة.. السراب... العاصفة.. هى مسميات من نسج المكان وايحاءاته، ثم نرى لوحه تصور اجتياح الرمال ثم لوحة لسيدة تتصدر التكوين ويتحلق حولها بعض النسوة رسمها الفنان بحس فنى عميق.. ثم يصور لنا من وحى الصحراء لوحة جميلة موحية أطلق عليها زهور الصحراء.. تصور بعض الزهور البرية من نبت الصحراء.. وكأن هذه الزهور قد قدمت من الصخر.. وفى قمة أحد الاعمال نشاهد طائرين متربصين فوق ربوة عالية فى انتظار الفريسة.. ويعرج بنا الفنان نحو الأماكن المقدسة وما تحمله من معتقدات وأسرار فنراه يصور الأضرحة البيضاء اللون حيث تلتف حولها الرمال من كل جانب كأنها تحميها من عوادى الزمن وتقلب الايام .
- ويتجول الفنان مع دروب الصحراء وأطلالها يستنطقها ويفتش عما تحويه من أسرار وطلاسم وأحداث .
- وتعجبه أطلال واحة سيوة التى تبعث على الغموض والرهبة ويسرع نحو النبع ويستمع الى همسات حارس البئر ذى الشوارب الطويلة وهو يحرس المكان .
- اما أسلوب الفنان عز الدين فهو تجريدى تعبيرى.. اذ ينحو نحو التلخيص فى أدائه الفنى مستلهماً ذلك من جو الصحراء البسيط.. ويبعد عن التفاصيل والثرثرة بجانب هذا يوجد الحس التعبيرى لموضوعات أعماله ودراساته الفنية فهو ليس من التجريديين الذين يطلقون لأنفسهم العنان دونما قيود أو تعبير عن موقف ما وفى هذا يقول الفنان..اليوم.. وسط .. تيه بلا خلاص.. ودروب بلا يقين وسط اغتيال الحلم والبراءة ... وارتداد الاسئلة باسئلة مستحيلة.. ماعادت الحصون والقلاع ملاذاً من الحروب والمتاهة .
- وماعادت الأطلال صالحة للبكاء تحتها واستدعاء الأسلاف.. أو حتى الاسئلة.. إذن فتجريدية عز الدين مترعة بالتعبير وهذا ما يتناسب مع طبيعتة كفنان وأديب يستطيع البوح و الطرح ويملك أدواته القادرة على التعبير دوماً وإذا كان اوسكار كوكوشكا بضربات فرشاته التعبيرية الثائرة صور عذابات الإنسان وهو كالريشة فى مهب الريح وادفارمونش جسد صراخات الانسانية وهى تتردد فى تضاعيف الكون فأن فناننا عز الدين نجيب جسد عذابات نفسه الهائمة فى طيات الصحراء .
محمد ابراهيم
مجلة اكتوبر - مارس 1995
.. المتاهة والملاذ
- إن الكتابة عن عز الدين نجيب.. الفنان التشكيلى والأديب والناقد الفنى الذى مارس كل هذا - لهى مهمة صعبة، الأمر الذى ألقانى مباشرة فى مواجهة جماع تجربته الفنية بحثاًً عن المعنى المحورى الذى ينتظم سياقها ويكشف تجلياتها المعبرة عن روحية متجانسة رغم تعدد أوجه التعبير لديه..
- والفنان الجاد تتأسس دوافعه الفنية على أشواقه المعرفية.. وتتشكل عناصر أعماله فى سياق نمو يتوقف تفتحه على درجة الصدق، ومدى وضوح الأسئلة، والإخلاص فى السعى إلى إكتشاف الإجابات.. هذه الإجابات التى تستوى فى الفن على صعيد المعنى والإشارة، خلواً من القطعية وما ترتبه من صياغات لا تتصل بطبيعة الفن ..
- والفنان `عز الدين نجيب` فى هذا المعرض، يختار موضوع ( المتاهة والملاذ ) تعبيراً عن استمرار بحثه الفنى المرتكز على أشواقه المعرفية، و`الموضوع` فى الاعمال المعروضة ليس غير ذريعة للنفاذ إلى زوايا الرؤية واستجلائها فى بحثة الفنى المتصل.. فالمهتم بفهم واستيعاب التجربة الفنية لعز الدين نجيب يستطيع أن يرى بوضوح أن استلهام واحة `مطماطة ` التونسية ليس غير مرحلة فى هذا السياق سبقتها مراحل استلهم فيها واحة سيوة، والواحات الداخلة، والخارجة، وسيناء.
- ولايستطيع المهتم الحكم النهائى على هذه المرحلة بمعيارية قيمة المعنى الذى يرسبه الفنان من معالجته لعناصر اللوحة ومرجع ذلك مجموعتان من الأسباب الرئيسية:
- أولهما : أن هذه المعالجة تتسم بالغنى والتركيب المرتكز على تآلف حيوى بين عناصر اللوحة أطلق إمكانيات قواها الموجية.. فالتكوينات اكتسبت إيقاعاً يتفاوت بين الهمس الحميم والوحشية الطليقة.. والخطوط تتوتر..فلا يكاد البصر يحاصرها فى إطار قانون محدد حتى نجها تنطلق من هذا الإطار مراودة البصر بمحاولة البحث عن إطارها الخاص الأشد مناسبة.. وتضفير الظل والنور مع تعدد زوايا المنظور ، يظل موحياً بتآلف يؤمل بتخطى حدود المألوف.. وهذه المعالجة فى مجملها تعبير عن محاولة اكتشاف وصياغة للعلاقة غير المستقره - بطبيعتها- بين المتناهى واللامتناهى.
- ثانيهما: أن التناولات النقدية لعناصر اللوحة فى هذه الأعمال يمكن أن تتفاوق منهجياً.. لكن يظل من الخطأ تفكيك هذه العناصر وعزلها عن بعضها تيسيراً لفهم معين لأنه لايمكن استيفاء قيم تلك الأعمال منفصلة عن السياق الخاص لمجمل التجربة الفنية للفنان .
- إن ( المتاهة والملاذ ) صيغة مفتوحة تعنى فى المستوى المعرفى بحثاً لايتوقف الانسان عنه إلا بالموت.. وفى المستوى التعبيرى تعنى إعادة اكتشاف للأدوات وتفجير إمكانياتها.. وعز الدين نجيب ، فى هذه المرحلة من بحثة، قد شارف فى رأينا - إيقاعاً كونياً خاصاً به ، تبوح به تلك المزاوجه بين المرئيات الطبيعية والعناصر الزخرفية الحرة المستمدة من حروف لغة الطوارق المندثرة، فى معالجة تشكيلية نراها فى سياق البحث عن ( الذات / والملاذ ) مفردة لازمة من المفردات التى تساعد على توحيد الوعى.. وهى خطوة يحتاج إليها الواقع الراهن.. كما أنها خطوة تشير إلى وعد بتعميق هذه المعالجة وإثرائها من خلال الوشائج الحميمة بين الفنان وتراثنا، بما ينطوى عليه من دلالات تكون فاعلة بمقدار إعادة اكتشاف الفنان لها وللعالم معاً..
عبد المنعم عبد القادر

فى معرض عز الدين نجيب..عصفور النار يولد من جديد
- مأساة أن تسمع عن حريق مرسم فنان وتكون المصيبة أكبر عندما يكون هذا الفنان هو الناقد المبدع الكبير عز الدين نجيب.
- ذهبت إلى معرضه لأراه وأطمئن عليه.. ورغم الدمار الشامل الذى يظهر على شاشة عرض كبيرة تعرض فيلماً تسجيلياً عن الحادثة.. كان الفيلم مأساوية لدرجة أننى تصورت أن أرى الفنان داخل ضمادات من القطن والشاش لتخفى آثار الحريق.. لكن المفاجأة.. كان عز يبدو فى أبهى صورة متماسكاً وضاحكاً وكأنه انتصر على الحريق وأن إرادة الحياة بداخله أكبر وأقوى من أى دمار ..
- داخل قاعة العرض كانت هناك مصر الجميلة.. الوجه الآخر، حالة من الدفء الإنسانى تملأ المكان.. نقيب الفنانين التشكيليين مصطفى حسين أول الحضور يربت فوق كتف الفنان وعصمت داوستاشى يأتى من الإسكندرية قبل المعرض بيوم ليكون ضيف شرف المعرض وحلمى التونى يتأبط ذراع زوجته يقاوم المرض وثروت البحر ومحمد عبلة وسمير فؤاد ورفيق المنذر ومصطفى يحيى وآخرون يتحلقون حول اللوحات انتصارا للمعنى الأجمل ورمز الإصرار عز الدين نجيب. كان من الصعب عمل حوار يوم الافتتاح فقررنا أن يكون ذلك بعد يومين .
- ذهبت إليه مبكراً عن الموعد..فوجدت كاميرات تليفزيون فى انتظاره ومعد البرنامج يعيد بينه وبين نفسه الأسئلة وكان البرنامج فرصة للهروب من حرج الأسئلة مع فنان بقامة عز الدين نجيب .
- حضر عز متألقا ووقف إلى جوار لوحاته تلمع عينه بالامتنان والرضا لميلاده من جديد. إنه المعرض رقم 28 وهو ينطلق من أجواء مصرية صميمة أطلال من سيوة والواحات والأقصر وسيناء.. إنها أطلال ولكنها ليست الأماكن كما تراها العين المباشرة وإنما هى إعادة صياغة للأشياء وتحمل رؤية ترى بعين القلب أكثر ما ترى بالعين الحسية المباشرة..هى انعكاس للآلام وأحلامى ..
- ينظر عز إلى إحدى اللوحات ثم يقول.. كنت أتطلع للأماكن التى تحمل بصمات البشر الذين ملأوها بالحياة ثم تحولت إلى أطلال.. إنها ليست جمادات بل هى كيانات بشرية فى شكل عمارة إنها تمثل حالة فريدة يتأنسن فيها الحجر .. لكن الجديد فى هذا المعرض.. وجود البشر بأجسامهم الحية حيث تلاحظ ملامح بشرية لوجوه يبدو البشر إلى جوار الحجر حيث يفقدون إنسانيتهم فيتحجرون والحجر يكتسب إنسانيته هذه هى الرؤية العامة للمعرض حيث ترى فى معرضى إسقاطات عديدة..غلظة المشاعر وصراع البشر.. والحنين للماضى ما يعمر حياتنا وقرانا القديمة.. حالة استنهاض عام من أجل نهضة جديدة .
- انتقل مخرج البرنامج بالكاميرا إلى القاعة الأخرى حيث وقف الفنان إلى جوار لوحات تم وضعها داخل براويز رغم احتراق حوافها لم تفقد طاقتها الإبداعية والروحية.. بل إن الحريق جعلها تبدو أكثر بصريا بعد إشارة المخرج للجميع بالصمت أخذ الفنان نفساً عميقاً وكأنه يستجمع صورا بصرية لمشاهد الحادثة..ثم هدأت نفسه ووضع عينيه فى عين الكاميرا المتحفزة لالتقاط خلجاته.. وانطلق ..كان عنوان المعرض حتى يوم 16 ديسمبر هو `فنتازيا الحجر والبشر` حيث شب حريق فى مرسمى أثناء نومى أتى على العديد من اللوحات ومكتبتى ومخطوطاتى القديمة وكتالوجات معارضى وهدايا الأصدقاء وذكريات العمر الجميل ..
- لكن وسط الحريق المدمر وجدت كتالوج معرض قديم سنة 76 بالمركز الثقافى السوفيتى يحمل غلافه رسماً تفصلياً `لطائر الفينيق`عصفور النار الذى يتجدد ميلاده كلما احترق وقد رسمتها إثر العدوان على مرسمى بقصر المسافر خانة يتابع بعينيه هناك صور فوتوغرافية لبعض أعماله المحترقة.. ويشير إلى أحدها الألوان موظفة درامياً.. الأحمر الذى ظهر فى العديد من اللوحات والأزرق والبنفسجى والرماديات المتناثرة والتى تظهر فى بيوت قنا والأقصر وأبراج الحمام حيث يظهر تأثر تأكل الزمن الرمادى بالبنى بالأبيض حيث تناسب الحس الميتافيزيقى الذى تضيفه على اللوحات وتحمل درجة من الشفافية أكثر من الألوان المباشرة حيث أبحث دائما عما يشبه اللون عملية توالد حتى أصل إلى بالته خاصة `عرفت بها من خلال معارضى السابقة ` أيضاَ هناك اهتمام بعنصر الشموخ والعملاقية حيث أعطى للمتفرج إحساساً بأن الحجر يملك حساً بشرياً.. أسطورياً وحيث تبدو الأحجار عملاقة وقد أخذت من الإنسان العظمة والقوة وهذه هى المفارقة.
- انتهى الفنان من التصوير وبدا منهكاً يريد أن يعتذر عن عمل حوار بعد كل هذه المعاناة..فأبلغته إننى سجلت كل كلمة قالها فوجدته يربت على يدى بحنان أبوى وهو يقول أنقذتنى من فكرة التكرار، فلن أستطيع أن أعيد ما قلته بنفس الحماس ولا الطاقة ثم أعطانى ورقة صغيرة كتب فيها .
- الآن.. وسط رماد النار أدركت لماذا كنت أجدنى دائماً مدفوعاً لرسم الأطلال والأحجار وهى تنهض من الفناء !
- فمنذ زمن بعيد يكمن فى أعماقى هذا الهاجس، حتى قبل أن يشب حريق هائل فى مرسمى فجر يوم 17 ديسمبر 2010 ويلتهم عدداً كبيراً من لوحاتى السابقة وعدداً من لوحاتى الجديدة ، ويهددنى شخصياً بالحرق فيما لم يبق على افتتاح معرضى غير أسابيع قليلة .
- الآن أشعر - يقيناً - بقيمة الحياة الحقيقية حين تولد من جديد أو تبعث من الهلاك وأتفهم الدوافع والرموز وراء تجاربى الفنية السابقة على امتداد 30 عاماً، وأنا أستنهض الأحجار والأطلال، موحياً بمعانى الصحوة وانبعاث الإرادة للصمود والتجدد، كأسطورة طائر الفينيق الذى يولد من النار كلما احترق .
سمير عبد الغنى
2011/1/16 - العربى
عز الدين نجيب .. رجل المعارك
فى تجارب البشر حكمة السنين وخلاصة العمر ونتاج فلسفة تأتى بعد مخاض طويل ولكل تجربة طعم ومذاق السنين .
لسبب خارج عن إرادته شديدة الصلابة والتمرد ، لم يستطع أن يصبح ` بيرون ` ليشهر سيف العدل والكفاح ، ولا يغمدة قبل أن يرى بعينية جحافل الظلم والظلام مبددة، ولم يترك له تحالف الفساد والاستبداد الفرصة ليقف مثل ` شيلى ` ويغنى مع الصبح أناشيد الخلاص ، لكنه اختار أن يكون مقاتلا من أجل ما يعتقد أنه الصواب ، تارة بالريشة حتى لو كانت مغموسة فى دمائة التى تقطر عن طيب خاطر من أجل ` الحرية والاحرار ` وتارة أخرى بالكلمة ليفجر بكل حرف يكتبه غقب بحيرة الثقافة والفكر والفن الراكدة .. حتى لو ارتدت هذه الكلمات احجاراً ، واحيانا رصاصات إلى صدرة ، وهو فى هذا كله صاحب ` موقف ` لا يتزحزح مهما كان الثمن فادحا ، أو الاحلام مسفوكة ، أو السباحة قاسية ضد تيار ثقافة الشعارات ، والمزايدات وتكريس العزلة والجمود والعدمية ، لذا كان الفنان والناقد والمفكر عز الدين نجيب دائما هدفا لمعركة ، أو طرفا فى اشتباك ثقافى ، أو رقما صعبا فى قضية للحريات ، فلا يكاد يخرج من معركة من أجل الجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلى يخوضها بشراسة من أجل إنشا قاعدة أكبر من شباب النقاد ، تكون ذخرا ثقافيا للفن التشكيلى المصرى ، حتى يدخل فى معركة أخرى من أجل حماية حقوق الحرفيين التقليديين وإنقاذ التراث الحرفى المصرى من الاندثار ، وهكذا لا يكاد يخرج من اشتباك ، حتى تراه يستعد لاشتباك جديد ، وهو فى هذا لا يتخلى أبد عن معركته ، ولا يسمح لاحد مهما كان أن يفرض علية الانضمام الى قائمة المبدعين الشهداء ، ولا يتزحزح قيد أنمله عن موقف يراه صوابا مهما كانت الخسائر ، ولا يمارس الا قناعاته ، وكان شعارة الذى يردده دائما ` أنا من يصنع أقدارة بنفسة `
وكما عرفته ـ سنوات طويله ـ كنت فيها شاهد عيان على كثير من معاركه ومواقفة ، فما كان فى خيار بين طريقين ، الا اختار الاصعب ، لانه يتسق مع قناعاته ، شأن القله النادرة من المثقفين العرب الحقيقيين التى تتوارى أهدافها ` الذاتية ` كثيرا فى سلم الأولويات ، انحيازا لاهداف وطنية أو ابداعية أو حتى إنسانية ، أكثر اتساعا ، واسمى مقصدا وأعلى أهمية ، وإن كان المثقف المصرى ، متهماغالبا بانه منقسم على نفسة بين ما يؤمن به وبين ما يمارسة وهى حقيقة مأساوية رسختها ضمن ما رسخت قيم حظيرة فاروق حسنى الشهيرة ولا تزال ، فان عز الدين نجيب لم يضيط مرة واحدة ، على مدار أكثر من نصف قرن من مسيرته الإبداعية والنقدية والثقافية ، لم يضبط متلبسا بهذا الانقسام فهو نفسة يعيش الفن والابداع ، كما يمارس الحياة ، ولعل مقولته ` الصمت آفه الشعوب المغلوبه وحكمتها ` تلخص باقتدار هذه الطاقة النضالية الحكيمة عند عز الدين نجيب ، الذى يرى آن الصمت آفة عندما تستوجب الحال أن تنطق، أن تصرخ ضد قاهريك وهو حكمة ، عندما يكون موقفا من الطغيان ، وتسلحا بالصبر ، حتى تقوى لدى المظلومين أدوات المقاومة ، لكن الاهم آن الوعى بأسباب الظلم ، هو دور المثقف هو المادة الفعالة لتحويل الصمت من آفة الى طاقة إيجابية وهو المنهج الذى اعتمده عز الدين نجيب ولم يحد عنه طوال مسيرته التى بدأت بولادته فى الثلاثين من ابريل عام 1940 بقرية ` مشتول السوق ` بمحافظة الشرقية ليكون الابن الخامس لاحد رجال التعليم الذى غرس فيه حب الفن والادب والعمل العام ، فيما غرست فيه الغربه المبكرة الصلابه ، حين اضطر الى ترك الاسرة ليتم دراسته الثانوية بمدينتى بلبيس والزقازيق ، حيث واجه مسؤلية السكن ، وتدبير أمور الحياة معتمدا على نفسة ، مما أورثه صلابه مبكرة، تدهشك حين تخرج عاصفة ، وقت اللزوم ، من هذا الفنان الرقيق ، صاحب الخلق الدمث ، والوجه الهادىء ، وبعد التحاقة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة التى تخرج فيها عام 1962 ، التحق بمرسم الاقصر للدراسات التكميلية ، ليكمل دراساته العليا فى فن ` الرسم الملون ` وفى العام 1966 اختار العمل بهيئة قصور الثقافة حيث كان أبرز من اسسوا صرح الثقافة الجماهيرية فى كفر الشيخ والمنصورة وبورسعيد والاسكندرية والعديد من المواقع التى اسسها وعمل بها لتكون شاهدا حيا على انجازة الوطنى الرائع الذى أرسى مفهوم ثقافة الجماهير وأكد دور المثقف المؤمن بقضايا وطنه وأمته حتى أصبح لقبه المبدع المؤسس . فبالإضافة الى تأسيسة العديد من قصور الثقافة فقد أسس ايضا مركز الجرافيك بوكاله الغورى والمراقبة العامة لجرافيك وصب البرونز ومجمع الفنون بمدينة 15 مايو والإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية ، كما اسس وراس جمعية أصاله لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة ، وقدم للحركة التشكيلية نحو ثلاثين معرضا خاصا للوحاته التى جابت جميع انحاء مصر كان معظمها بدور حول همه الأول الوطن والانسان ، كما شارك ممثلا لمصر فى اكثر من 20 معرضا دوليا فى معظم قارات العالم ، وله مقتنيات فى العديد من دول اسيا وافريقيا واوروبا ، وتعد أعماله ذاكرة وطنية مصرية بامتياز ، حيث تفاعل مع الاحداث الكبرى مثل بناء السد العالى ، وتوثيق تراث النوبة ، كما جاب أرجاء سيناء والواحات وغيرها ، يغوص تحت سطح رمالها باحثا عن الجوهر الحقيقى لمصر.. مصر الاخرى التى لا يعرفها سوى عز الدين نجيب والشرفاء أمثاله .
على صعيد النقد التشكيلى قدم للمشهد التشكيلى المصرى والعربى 11 كتابا هى : ` فجر التصوير المصرى الحديث ، والتوجة الاجتماعى للفنان المصرى ، وستائر الضوء ، وانشودة الحجر وفنانون وشهداء والابداع والثورة ومحمود بقشيش فنان وعصر وفنون الشعب ، إضافة الى موسوعتى الفنون التشكيلية والانامل الذهبية، كما ترأس تحرير موسوعة الحرف التقليدية فى مصر وصدرت منها 7 اجزاء، وانتداب استاذا لتاريخ الفن والتذوق الفنى بكليات الفنون الجميلة والتربية النوعية، واختير عضوا بلجنة الفنون الجميلة بالمجلس الاعلى للثقافة منذ العام 1994 وحتى الآن ، كما انتخب رئيسا لمجلس إدارة أتيلية القاهرة ، ورئيسا للجمعية الأهلية للفنون الجميلة ، وشارك فى العديد من الملتقيات الفنية والثقافية قوميا ودوليا ، كما اشترك وترأس لجان التحكيم لعديد من البيناليات الإقليمية والدولية كما استضافته السجون السياسية فى قضايا الحريات أعوام 1972 / 1975 و1997 ، حيث آثر أن يفقد حريته ليكسب الوطن ، ونحن معه ` حريتنا ` وربما لا يعرف البعض أن عز الدين نجيب قاص وروائى متميز ، حيث صدرت له مجموعات ` عيش وملح ` و ` بيت العز ` و ` المثلث الفيروزى ` ومن أدب السجون صدر له ` مواسم السجن والأزهار و` رسوم الزنزانة ` وقد حصد عشرات الجوائز فى الفن والنقد الفنى والابداع القصصى من مصر والخارج ، كما حصل هذا العام على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون لتتوج مسيرة هذا الفنان ، الناقد الأديب المحرك الثقافى عز الدين نجيب ، الذى يذكرك دائما اسمه بـ ` المعارك ` .. ` معارك ` الحق والخير والجمال من أجل مبدأ ، وقيمة ، وحلم .. وطن .
السيد رشاد
الأهرام- 2014
كتاب عز الدين نجيب .. جميل شفيق بين الحلم والأسطورة .. ومنين بيجى الشجن
- كتاب ` جميل شفيق بين الحلم والأسطورة ` هو أحدث مؤلفات الناقد الأستاذ عز الدين نجيب الذى تم مناقشته مؤخرا مع أول كتبه ` فجر التصوير المصرى الحديث ` فى مركز الإسكندرية للإبداع عبر احتفاء سكندرى بالفنان والناقد الكبير شارك فيه الفنان أ.د / محمد سالم وكاتبة هذه السطور بإدارة الفنان د. وليد قانوش مدير المركز . عز الدين نجيب يكتب بلغة سلسة عذبة مشفوعة بقلم الأديب ورؤية الناقد وعين الفنان ؛ فيغدو نصه النقدى عملا إبداعيا موازيا نستطيع ان نستمتع بقراءته حتى وإن قرأناه بمعزل عن التجربة البصرية التى يتناولها .
قلم الأديب يتيح له أن ينتج الصور الخيالية التى يبثها العمل الفنى ؛ فيراه المتلقى بعين كاشفة ويمضى هو الآخر فى صناعة صوره الخاصة ، ورؤية الناقد تتيح له الكشف عن منابع التجربة الفنية ومساراتها وتحولاتها والإشارة لمواطن القيمة فيها ، بالإضافة إلى ربطها باتجاهات الفن المختلفة .. أما عين الفنان فتتيح له أن يرى دقائق عملية صياغة المنتج الفنى والتحولات الطارئة على لغة الشكل التى يقدمها الفنان . كل هذا مضفور بفكر عز كمواطن مصرى مهموم بقضايا الوطن التى تؤثر فى العمل الفنى ولا تنعزل عنه وإلا كان العمل مجرد تواؤمات شكلية بين مجموعة من الخطوط والألوان والأضواء المتألقة .
من هنا جاء نص كتاب ` جميل شفيق ` نموذجا لمنهج عز الدين نجيب النقدى ، لكن يضاف لهذا النص تلك المسحة من الشجن التى رافقت ظروف نشر هذا الكتاب بالتحديد ، حيث كان مقدرا له للظهور منذ أكثر من عامين لولا تعثرة فى أروقة الهيئة العامة للكتاب قبل ان يتلقى دفعة جديدة للظهور تشبث بها عز إيمانا منه بأهمية الفنان ، ولمعرفته بمدى شغفة لرؤية الكتاب ، وبالفعل كان هناك موعد للقائه بجميل من أجل إمدادة بصور الكتاب بعد عودته مباشرة من الأقصر حيث كان مصاحبا لمجموعة فنانى سمبوزيوم الأقصر التاسع للتصوير فى ديسمبر 2016 إلا أن الفنان جميل أسلم الروح هناك قبل الموعد المقرر بينهما بثلاثة أيام ، ولم يقدر له ان يتلقى الكتاب الذى كان يحلم به كأى فنان يسعد بالاحتفاء بتجربته ، لذلك كان لهذا الكتاب شجنه الخاص ، ولعله يكون وخزة فى ضمير القائمين على الثقافة فى مصر لتكريم فنانيها قبل الرحيل .
ينقسم الكتاب لثلاثة عشر عنوانا يبدؤها الكاتب بعنوان ` البوابة ` الذى يطرح فيه مفهوم الحلم ودوره كوقود لخيال الفنان الذى يتيح له إبداع عالم موازيا لعالم الواقع يكون سيدا له ، ويشير إلى أن حلم شفيق لم يكن حلما ينفصل عن الواقع بل كان جميلا يستمد من دراما الواقع وبؤسه وتناقضاته المادة الخام لحلمه ، حيث مثلث الأرض المنصة التى ينطلق منها الحلم مستشرفا المستقبل .. ويستعرض الكاتب قدرات وأنصبة الفنانين من الحلم ، وكيف أن شكل الحلم وسعته يختلف من فنان لآخر .
وتحت عنوان ` النداهية ` يبحث الكاتب فى النشأة والمؤثرات الأولى فى حياة جميل شفيق ، فيشير إلى مدينة طنطا مرتع الطفولة والصبا وإلى الغوايات الثلاث التى لم تستطع أمه الحنون إقصاءه عنها . الغواية الأولى هى صيد السمك ، حيث التأمل فى سطح الماء ، وفى انتظار الصيد تأتى الأطياف والخيالات والخوف من النداهة ، تلك الجنية الساكتة فى قاع الترعة طاغية الجمال التى تستدرج ضحيتها لتغوص بها كى تعيش معها فى قاع الماء . والتى كان ينتظرها ويخاف منها ويرسمها جميل دائما فى كراساته . الغواية الثانية هى الرسم الذى عشقه واصطحبه رفيقا لوحدته كوسيلة مناسبة لاجترار أحلام يقظته .. وقد امتلأت كل كراريس وهوامش الكتب بالرسم مما استدعى عقاب الأب وتأنيب الأم ، وكانت حجرة الرسم هى الملاذ ، خاصة عندما انتقل للمدرسة الأحمدية الثانوية فهناك حجرات عديدة للرسم وخامات بلا حساب وناظر مستنير يشجع الموهوبين ويلغى عنهم عبء بعض الحصص ويؤمن لهم دروسا خصوصية مجانية لما يصعب عليهم من مواد ، وهنا يتوقف الكاتب فى إشارة لأهمية مادة التربية الفنية فى المدارس والاحتفاء بالموهوبين مما يجعلهم يشعرون أن للفن قيمة تجعلة جديرا بأن يكون اختيارهم فى المستقبل . الغواية الثالثة هى محبة جميل لارتياد الموالد بطقوسها ومواكبها واحتفالات مريديها ، مثل مولد السيد البدوى وسيدى أبو جرجس والست جميانة ، فى ذلك العالم الذى يمتزج فية الطقس بالمتعة ، والعقيدة بالخرافة ، والواقعى بالغرائبى ، وتذوب فيه الحدود بين المعقول واللامعقول ، بالإضافة الى مشاهد الزار ومشاهد استخراج الجن من أجساد الأشخاص الملبوسين وأصوات العفاريت ، كانت هذه هى أساطيره الأولى التى انتقل بها من منطقة الثقافة الشعبية الى منطقة الحلم .
ثم يتطرق الكاتب لمرحلة دراسة الفنان فى كلية الفنون الجميلة بالزمالك والانتقال من الريف بأساطيره الشعبية الى المدينة بصخبها وزحامها وماديتها ، لكنة يشير الى مكوّن مهم فى شخصية الفنان وهو تأثير الحياة الجماعية للطلبة أو ما أسماه ` الكميونة ` حيث التشارك فى الرغيف والكتاب وتذكرة المسرح والليالى الحافلة بالمناقشات فى الفن التشكيلى والشعر والموسيقى والمسرح ، فكانت كميونة العجوزة مقر إقامة جميل وهو طالب هى محط ترحال لأصحاب المواهب بتنوع مجالاتها .
وتحت عنوان ` ديوان الحياة المصرية ` يذكر الكاتب أن رفاهية التفرغ للفن لم تكن من خيارات هذا الجيل ماعدا من تم إلحاقهم للعمل بالتدريس بكلية الفنون الجميلة ومنحهم الفرصة لإتمام دراساتهم فى بعثات للخارج وهذا ما لم يحدث مع جميل ودفعته التى تخرجت عام 1962 ؛ فكان العمل بالصحافة هو أحد البدائل ، حيث كانت المؤسسات الصحفية وقتها تحت رئاسة شخصيات مثقفة تؤمن بقيمة الفن وتأثيره فى قاعدة أشمل من الجماهير ، وكان جميل من هؤلاء ، حيث التحق بالعمل فى دار التعاون مما منحه الفرصة للتجوال فى أنحاء مصر لتقديم رسوم مصاحبة عن حياة الفلاحين ومشكلاتهم . الأمر أتاح له رسم حياة البشر ومواقع الطبيعة المختلفة ، كذلك عمل جميل بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التى منحته جولات أخرى فى العديد من الدول العربية ورسم حياتها وشخوصها وعماراتها الشعبية .
كما قام الفنان بعدة جولات فى أوروبا إتصل فيها بالتراث العالمى من خلال متاحفها واستفاد من دراسته عن قرب لفنانيها واتجاهاتهم المختلفة ؛ فكان كلاسيكيا فى رسمه ، رومانتيكيا فى عواطفه ، ميتافيزيقيا فى نظرته للحياه ، سيرياليا فى نزعته للحداثة كما أشار الكاتب .
ثم يعود جميل للالتفات لما سماه الكاتب بالحلم المسروق ، فبعد تلك الجولات فى مصر والعالم العربى والأوروبى التى قدم خلالها الفنان حصادا كبيرا من رسوم البشر والأماكن ، توقف متأملا لما مضى فى حياته : هل أشبعت الرسوم الصحفية التى قدمها - على أهميتها - روحه الفنية ؟ وقد كانت الاجابة بالنفى هى التى أدت به لتقديم استقالته من العمل عام 1984 ليستعيد حلمه المسروق .. حلم الفن ، وبدأ يتفرغ لصياغة رؤاه الخاصة التى كانت فيها المرأة هى البطلة الأولى ، فهى الحياة بجميع تجلياتها .. من هنا قدم جميل جسد المرأة بمعايير جماليات الشكل لا بمعايير لغة الجسد ، مستحضرا فيها ذلك الجمال الذى يناظر جمال السحب والجبال والبحار والطيور وكل كائنات الطبيعة البديعة .. ويقدم الفنان الشكل بلغة أقرب للموسيقى القائمة على بناء هرمونى / إيقاعى / بوليفونى ، يتذبذب صاعدا هابطا متموجا متمايلا ، خشنا ناعما ، هامسا صاخبا ، كاشفا كتوما ، ينتقل به من أجواء فجرية لعوالم قمرية ، ومن تجليات نهارية الى تهيؤات ليلية ، ومن دنيا الأرض الى ملكوت الحلم . من هنا كانت خماسية جميل شفيق التى يعزفها ما بين .. المرأة أيقونة الحياة فى حوراها الدائم مع السمكة .. أيقونة البحر والرزق والخصوبة ومهر الزواج ، والحصان رمز الفحولة والفروسية والكبرياء ، والقط الأسود بإيحاءاته السحرية القادمة من قلب الفن المصرى القديم متغلغلة فى وجدان الثقافة الشعبية ، رمزا للشر والغواية أحيانا ، حارسا وكاشفا لما لا نراه أحيانا أخرى . ثم الصياد الذى يجسد إرادة الإنسان الفطرية للسيطرة على الطبيعة وترويض المجهول . جميعها فى منظومة من رسومات الأبيض والأسود التى يبرر الكاتب اختياره لها بأنها تقنية صالحة للأداء ذى الدفقة الأولى البعيدة عن أداء فن التصوير الأكثر تركيبا وتعقدا .
وتحت عنوان ` عُرى الكائنات ` يتناول الكاتب قضية شائكة وهى ` تصوير العرى ` فيشير إلى أن آدم وحواء ظلا عريانين فى صورهما إلى ماقبل عصر النهضة ، وأن الفن المصرى القديم وفنون الحضارات الشرقية قد تناولت الجسد العارى ، وحتى الذائقة الشعبية فى الريف المصرى كانت تتقبل صورة أدم وحواء عراة ومعهما الشجرة والتفاحة وكانت تلك الصور تباع فى الأسواق الشعبية هكذا كان تصوير العرى عند جميل شفيق هو الآخر قرينا للفطرة الأولى وليس للتحلل الأخلاقى . كما يلمح الكاتب لأهمية التمكن الأكاديمى الذى أهله لخوض ذلك الخيار بطلاقة فأصبحت يداه قادرة على رسم أحلامه .
ثم يعرج الكاتب على موضوعات جميل شفيق الأساسية وهى : رباعى المرأة والحصان ، الرجل والسمكة ، المرأة حاضنة أو طارده الصيد العجيب ، راقصات وغواز ، يصحب ذلك تحليلا شكليا لنماذج من كل موضوع ، ويتطرق بعدها الكاتب تحت عنوان ` تجريب وتجريد ` إلى محاولات الفنان فى البحث التجريبى فى الشكل من خلال تفكيك العناصر وتحريف ملامحها بتحطيم صورتها الواقعية وإزاحتها أحيانا وإعادة تأليفها وتشكيلها فى خلق جديد بعلاقات خطية وإيقاعية متحررة من أى تمثيل للواقع .
بعدها يتناول الكاتب بعض القضايا الشكلية الخاصة برسوم جميل ، مثل التلوين من خلال الضوء والظل واعتماد الخط كقاعدة بناء أولى فى تجربته كرسام ، مبتكرا قوس قزحه اللونى الخاص من خلال درجات الأبيض والأسود والاستعانة بالضوء الذى يأتى من صميم الشكل ما بين الكتل الجسدية وأثيرية الهواء ، كما يشير الكاتب لدراية الفنان الواسعة بفنون التضبيب والتمويه من خلال استخدام طبقات سنون الحبر المرهفة ، وامتلاكه بالتة ملمسة تضاهى ملامس الطبيعة .
ويتوقف الكاتب عند تجربة جميل فى المجسمات والمنحوتات التى يستخدم فيها طرح البحر وجذوع الأشجار ، ففى حياته على الساحل أغلب شهور السنة ونزهته اليومية على رمال البحر كان يبحث عما طرحته الأمواج من بقايا لأشياء كان يستخدمها الإنسان داخل البحر ؛ فيكتشف من خلالها معان إنسانية تسرى فى المواد الجامدة ، ممتزجة بالتوقعات الدرامية حول مصير أصحابها ، حيث أتاحت له تكوين عالم افتراضى متكامل من الرموز والإشارات . وهذه التجربة فى المجسمات غيرت لدية فى مفهوم لغة الشكل والتصنيف الحاد بين الرسم والتصوير والنحت والحفر، فهو يختار القطعة التى أثارته بصريا ويضيف لها أو يحذف منها أو يحفر فوقها أو يصور أو يستخلص أشكالا شبيهة بخيال الظل الشعبى ، أو يستحضر وجوه الأيقونات القبطية ، وفى كل الأحوال كان جميل يؤكد فى أعماله على المضامين التعبيرية الإنسانية التى تجمع بين الواقع والحلم والأسطورة.
وهكذا قدم عز الدين نجيب تحيته الخاصة لزميل دراسته جميل شفيق صاحب الروح التى أحبها الجميع عسى أن تصله تلك التحية التى لم تدركه فى حياته.
أمل نصر
القاهرة : 11-4-2017
عطر الفلسفة... وعذوبة الفن
- يقترب الفنان من باب الدخول إلى فضاء الخلود بقدر ما يعتصر وجدانه وذاكرته من أجل اصطياد موضوع أو عنصر يسمح له أن يضمنه مواجعة وقلقه ورغباته يخرج به من أسر المألوف والرتيب إلى رحابة الخيال وسماوات الابتكار. ويبدو أن الفنان عز الدين نجيب قد نجح فى اقتناص عنصر شائع- لكنه مهمل تشكيليا- يفجر من خلاله طاقاته الابداعية. فمن منا لم يصادف شجرة سواء أكانت مورقة.. وارفة الظل أم مبتورة.. مذبوحة وملقاة على حافة الطريق العام !! فى معرضه والذى أطلق عليه اسم تجليات الشجرة عرض علينا الفنان عز الدين نجيب 25 لوحة مرسومة بألوان الزيت كلها تدور حول الشجرة التى تقول ` برغم كل شىء فالحب ما زال موجوداً وضرورياً وكذلك الغربان`. هكذا كتب الفنان فى كتالوج معرضه على لسان بطله لوحاته ` الشجرة `. وسألت عز الدين : لماذا اختار الشجرة بالتحديد.
- أجاب لأنها معادل موضوعى للمتناقضات الرئيسية.. فهى الحياة والموت.. والخير والشر الخلود والفناء.. ثم أنها تعبر عن قدرة الإنسان على مقاومة الظلم.. لأنها راسخة.. وجذورها تتغلغل فى التربة !.
- لم يشاً عز الدين نجيب أن يهجر التراث الفنى الفرعونى وما كان ينبغى له ، بل أصر أن يتواصل معه.. يستلهم منه ما يساير موضوعاته وموهبته، ففى لوحة شجرة الفتاح 60سم ×80 سم تقريبا، جنح الفنان نحو استعارة الوضع الشائع للمرأة فى الرسوم الفرعونية ، حيث الوجه بروفيل بينما الجسد مرسوم فى وضع المواجهة ، وقد أكدت حركة اليدين وهى تلتقط ثمار التفاح من الشجرة رقة المشهد ونبل العلاقة بين المرأة وأختها الشجرة.
- إن الشجرة هنا معطاءة.. مانحة الحياة... مسالمة تهب المرأة ثمارها برحابة صدر دون تأفف أو انقباض. أما قرص الشمس غير المكتمل فى أعلى اللوحة، فقد جاء ربما كحماية كونية لهذا المشهد الحيوى من ناحية ، ولكن يقفل لونه البنى الداكن التصميم المنضبط الذى أبدعه الفنان من ناحية أخرى حيث ينهب هذا اللون وجه المرأة وذراعيها، وجذع الشجرة وفروعها.
- أما الخلفية فقد فازت بها درجات من الأصفر الهامس والأوكر المسالم حتى لا تنخدش هذه العلاقة الحميمة بين المرأة والشجرة وإذا كان الفنان عز الدين نجيب قد وجد فى بحر التراث الفرعونى الكثير من اللآلى ، التى تعينه فى إبداعه وتربطه بالجذور، مثل اللوحة السابقة ولوحة `سجود` - فإنه أيضا قد أزاح تراب النسيان عن الموروث الفنى الإسلامى واقتنص منه الأصداف والجواهر.
ففى لوحة `وليمة الغربان` 60سم ×80 سم والتى قال لى إنه استلهم موضوعها من مناخ كليلة ودمنة- ترى الشجرة وثمارها مطمعاً لسرب من الغربان فردت أجنحتها فى حالة انقضاض على الثمار ، بينما بقايا جذوع أشجار ملقاة بإهمال جهة اليمين فى إشارة واضحة ومفجعة لمصير الشجرة المأسوى بعد هجوم الغربان.
- إن هذه اللوحة تدين بحدة موقف الرجل السلبى الموجود أسفل اللوحة ناحية اليسار والذى لا يحرك حتى يديه فى أى محاولة لصد جيش الغربان الغازى.
- إن عز الدين نجيب ينتمى إلى تلك النخبة المرموقة من الفنانين الذين يؤرقهم ورطة الإنسان فى العصر الحديث، إذ يشارك بلوحاته فى كشف واقع مشاكس ومجنون عسى أن شحن الإنسان بطاقة مقاومة وحلم فى عالم أفضل دون السقوط فى الابتذال والدعاية الرخيصة، بل من خلال صياغة فنية عذبة ورقراقة، تبجل القوانين الأكاديمية المستقرة فى بناء اللوحة وتصميمها وتسمح للخيال والموهبة بالتدفق والانهمار.
- فى لوحة ` وليمة الغربان` كما فى معظم اللوحات يزهد الفنان فى عمل المنظور ` البعد الثالث` بل نرى العناصر والمغردات على مستوى واحد تقريبا، تلك كانت سمة رئيسية فى فنون الشرق بشكل عام، كذلك لا يحترم الفنان` الفورم` إلا قليلاً، وإنما يسعى لتاكيد شخوصه من خلال تحديد شكلها الخارجى بخط قاتم كما كان يفعل الأسلاف من الفنانين وعن لوحات عز الدين نجيب يقول الناقد محمود بقشيش فى كتاب ` البحث عن ملامح قومية` الصادرعن سلسلة كتاب الهلال ` إنها ينعدم فيها الإبهار التكنيكى الذى يحرص عليه بعض الفنانين المصريين وتسودها ريفية خشنة فى اللمسات ، وتختزل فيها الألوان بشكل عام إلى ألوان محدودة للغاية `.
- لم تخل الأعمال المعروضة من نزعة رومانسية واضحة مثل لوحات ( أشواق ، مناجاة ، وآدم وحواء) التى غلب عليها استلهام الرسوم الفارسية حيث يتحرك أدم الذى اتخد وجه الانسان وجسم أسد مجنح بهدوء فى اتجاه حواء التى ارتاحت ملامحها الانسانية فى جسد الحمامة الوديعة، بينما شجرة الخلد/ التفاح راسخة ومستقرة بينهما ترى هل يقصد الفنان أن اللقاء الحار المرتقب بين آدم وحواء تحميه الشجرة دوماً وتباركه الكائنات التى فوقها.. العصافير والقرد ؟ ربما لو سمحت هذه المعالجة الطريفة فى شكل الرجل والمرأة بامكانية تداخل الألوان الطازجة مثل البرتقالى المشع فى منظومة الألوان المحايدة ، كذلك ساعد الملمس الناعم- الذى حافظ الفنان على تواجده فى بعض اللوحات - على تفاقم الشعور بالرومانسية والحلم.
- إن عز الدين نجيب الذى تخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1962 قسم التصوير والذى أقام العديد من المعارض المتميزة وحصل على العديد من الجوائز- يثبت لنا من خلال معرضه ` تجليات الشجرة ` أنه مازال مهموماً بالأسئلة الكبرى ويعيد ` للموضوع` فى العمل الفنى كرامته المهدورة، يراهن على أن التراث ملئ بالكنوز.. يحترم منجزات الفن الحديث وينتخب منه ما يوائم موهبته وموضوعاته يسعى بكل قواه لإحداث حالة من التواصل مع المتلقى ونعتقد أنه أصاب وبامتياز.
بقلم : ناصر عراق
من كتاب ملامح وأحوال
لحن صوفى يلمس الأعماق
- قدر للمصرى أن يكون البناء الأول فى التاريخ .. وإذا كان الهرم الأكبر العنوان الصارخ لطبيعة وفطرة المصرى الأصيل .. فينبغى أن يظل هذا الشعار البوصلة التى توجه تحركنا إلى حيث ينبغى .. ومعرض الفنان عز الدين نجيب يؤكد هذا القول .. يؤكد أن الحائط الأسمر فقرة من معزوقة .. وأن ثقب نافذة هو فصل فى ملحمة كبرى .. وأن حيوية الطين الذى يشكل البناء ككل هى نبض وشهيق وزفير وليس قصوراً فى استخدام أصلب الأدوات . لأن المصرى هو الذى أخضع الجرانيت لأنامله الخلاقة .
- أذكى ما فى المعرض هو المعزوف عن ` مهرجان الألوان ` والالتزام باللون (الطينى) الذى يكمل المعنى .. ويجعل من الكل لحنا صوفيا يلمس الأعماق لا السطح.

بقلم : حسين بيكار 4 - 4- 1994
من كتاب عز الدين نجيب (الكلمة - الريشة - الموقف)
السكون والعاصفة
- حين ترقى ثقافة الفنان الملون إلى أفاق الناقد والشاعر والفيلسوف ، نلتقى فى معرضه بلوحات رفيعة المستوى الفنى والاخلاقى ، كتلك التى قدمها عز الدين نجيب بعنوان : السكون والعاصفة.
- لوحات تندرج فى فن المنظر لكنها ليست خلوية تتغنى بجمال الطبيعة وألوانها وأضوائها على طريقة الانطباعيين . إنما هى ابتكارات ابداعية وتأليف ، وحكايات تروى قصة المجتمع فى زمن التحول العظيم . تخضع عناصرها المقروءة ورموزها التشخيصية والنظم اللونية بدرجاتها، والايقاعات الخطية والملامس والتكوينات الشكلية ، لمفاهيم الاشارة والكناية عن المضمون الانسانى ، الذى يجمع بين الظرف المحلى والسياق العالمى ، فى مرحلة الاقلاع من عصر الصناعة والايديولوجيات ،إلى عصر التكنولوجيا والتغير الثقافى .
- لا يسمح تاريخ عز الدين نجيب بالتعجل فى تقييم ابداعه التصويرى فهو الفائز بجائزة النقد الفنى الوحيدة منذ عشر سنوات ، من المجلس الأعلى للثقافة ، من هيئة تحكيم موقرة تصدرها الناقد العمدة والمؤرخ : بدر الدين أبو غازى (1924 -1983) صاحب الانجازات التى لا يتطرق اليها جدل . كما أن عز الدين نجيب له مجموعات قصص قصيرة مرموقة ، تفسر الجو الشاعرى الذى يغمر لوحاته الأخيرة ، التى تشبه المعزوفات الموسيقية لقربها الشديد من حافة التجريد . أما ما يهز أرواحنا منها ، فهو صدق التعبير والقدرة الفريدة على تجسيد الخيال ، والوعى الذى لا يفارق فنانا مفكرا مثله . فلا ابداع بلا وعى وتقبل اجتماعى وسمات محلية ذات طابع إنسانى ...
- والتوطئة التى وضعها الفنان فى صدر الكتالوج بعنوان ` أعياد ميلاد ضد الموت ` ليست سوى مقابل لفظى للصياغات اللونية والخطية والشكلية التى حفلت بها لوحاته ، التى منح كلا منها عنوانا بمثابة نافذة نطل منها على دنياه التى لا نراها والتى حولها بفرشاته والوانه إلى واقع ملموس ، نجوس فيه بعيوننا وخيالنا وافكارنا ، لنراجع تقييم انفسنا وحياتنا - وهى رسالة الفن أيا كان . أما شعار المعرض ككل فيفتح الباب أمامنا ، لنمضى فى رحلة مثيرة داخل نفس الفنان ، تلعب فيها أسماء اللوحات دور معالم الطريق .. حتى نكتشف المضمون .. ونظفر بالمتعة والجمال.
بقلم : مختار العطار
من كتاب عز الدين نجيب ( الكلمة - الريشة - الموقف ) 4-4-1994
الإنسان والوطن
- اللقاء الأول
- تجاوزت حلقت السمك بالسيالة .. متجها إلى قصر ثقافة الأنفوشى .. البيئة الحميمة التى شهدت طفولتى وشبابى ... حى بحرى بالاسكندرية .. ذلك الحى الذى خرج منه معظم مبدعى المدينة الجميلة حينئذ ... محمود سعيد .. حسين بيكار .. عبد الهادى الجزار .. محمود حلمى .. سيف وأدهم وانلى .. سعيد العدوى .. فاروق حسنى وغيرهم فى شتى مجالات الإبداع .
- كان ذلك فى أواخر عام 1964 حين علمت أن الفنان عز الدين نجيب قد تولى إدارة قصر ثقافة الأنفوشى وأنه يقيم معرضا مع زميله وصديقه الفنان زهران سلامة يضم إبداعاتهما عن النوبة القديمة والسد العالى .
- التقيت وقتها بعز الدين نجيب لأول مرة .. كنت طالبا بكلية الفنون الجميلة .. وكان عز قد تخرج منذ عامين بمثابة أستاذ جديد أتعرف عليه بعد أن سمعت عنه الكثير ... ومنذ تعارفنا الأول هذا تعمقت صداقتى به ... وترك بصماته القوية على شخصى .. ومع مرور الأيام أصبحنا كالتوءم ، خاصة فى توجهاتنا الفنية والفكرية المرتبطة بالناس والمجتمع والتراث والأصالة .. كان عز الدين نجيب وقتها علامة مضيئة باهرة فى بداية مسيرتى الفنية ... وما زال ..
- الإنسان والوطن :
- عز الدين نجيب يبحث دوما عن الإنسان .. فهو قضيته الأولى وشاغله الشاغل .. فالانسان يمثل بالنسبة له معنى وجوده .. إنه نفس بشرى يتردد حتى فى الجمال والطين .. حتى فى الصخر .. ويوضح عز الدين ذلك فى إحدى كتاباته : إنه حنين لطفولتى .. أنين قريتى .. فرحى بالحرية بالنور .. باكتشاف الأشياء الصغيرة .. سقوطى فى قبضة القهر ورفضى له .. محاولتى للتماسك والنهوض .. خوفى من المجهول .. حلمى المجنح بالتجاوز .. شوقى للحب والمشاركة .. إنسانى هو حاضرى .. أمسى الممتد .. غد طفلتى الصغيرة ..إنه وطنى. - عز الدين نجيب مهموم دائما بالوطن .. والإنسان .. حولهما رسم دائرة إبداعاته باللون والخط والمساحة والكتلة .. وحولهما سجل الواقع والخيال بالكلمة والفكرة فى مجموعاته القصصية المنشورة وغير المنشورة والتى قال عنها يحيى حقى : ` قصص عز الدين نجيب تمثل رافدا جديدا للقصة المصرية بما إستحدثه الكاتب من رؤية تشكيلية للصور الأدبية إنفرد بها من كتاب القصة العربية فى جيله `
- وحول الإنسان والوطن قدم دراساته النقدية المتعددة التى تتراوح بين المقالة والكتاب .. وحولهما قدم جهوده وطاقته وعطاءه الوظيفى والشخصى فى بساطة وحب وتضحية ومعاناة لم يتعرض لها أحد من جيله .. الإنسان والوطن هما ثنائية الحياة بالنسبة لهذا الفنان والناقد والأديب والإنسان عز الدين نجيب الذى وصفه الفنان الناقد محمد شفيق فى مقال له بمجلة الطليعة عام 1975 قائلا : ` فنان شديد التفاعل مع أحداث مجتمعه .. إيقاع مشاعره ورؤيته هو إيقاع المتغيرات المستمرة التى تعترى حياة قومه وشعبه `
- وأوضح ذلك صراحة د. نعم عطية فى دراسته التى قدم بها معرض عز الدين نجيب الذى نظمه بالمركز الثقافى السوفيتى عام 1974 .
- ` كثير هو الذى نتوقف عنده من لوحات عز الدين نجيب يوما بعد يوم ، فهو ليس مصورا فحسب .. بل هو أيضا ناقد وأديب ومتأمل فى التجربة الإبداعية .. ومن أشد التشكيليين إحتفاء بالقضايا الاجتماعية للفن ... متمسكا بالحس المصرى والشكل الإنسانى .. فالإنسان هو البطل فى لوحاته من خلال وضعه الاجتماعى الذى يرتبط به .. ولعل إحتفاء عز الدين نجيب بالشكل الإنسانى فى لوحاته يرتبط بإيمانه - باللوحة كموقف - بل وبإيمانه أيضا بأن رؤية الفنان يجب أن تكون رؤية إستشرافية يسبق فيها رؤى رجال الفكر والسياسة والعلوم ويتفق ذلك مع النزعة النضالية لديه `.
- أعطى عز الدين نجيب لنزعته النضالية الأولوية ... وأخذت معظم مجهوداته الحياتية .. حتى أنها تحققت فى أحيان كثيرة على حساب وقت إبداعه فى الرسم والتصوير الملون وفى فن كتابة القصة القصيرة التى توقفت عنها بعد أن أصدر ثلاث مجموعات ` أيام العز ` 1962- ` المثلث الفيروزى ` 1968 وكان أخرها ` أغنية الدمية ` 1987 وإن استوعبت كتاباته ودراساته النقدية نزعته النضالية هذه التى يتوقف خلالها عن الإبداع .. إلا أنه يعود إليه بعد ذلك بمشروع جديد مشحونا بمشاعر ورؤى وأفكار وحلول جديدة يثرى بها مسيرته الإبداعية .
- السكون والعاصفة
- عز الدين نجيب إذن يتأرجح فى مسيرته بين حالتى السكون التى يبدع فيها أعماله ... وحالة العاصفة التى يناضل فيها من أجل أفكاره .
- هذه الثنائيات .. السكون والعاصفة .. الإنسان والأرض .. المتاهة والملاذ .. البحر والصحراء .. الشجر والطائر .. هذه الثنائيات هى مفتاح الجانب الإبداعى عند عز الدين نجيب حيث يبلور أعماله على هذا الإيقاع الثنائى .. تنطلق شرارة العاصفة عندما يمسك خللا .... إنحرافا .. سلبية فى الواقع .. فيتصدى بقوة كالعاصفة ضد التدليس والانتهازية والوصولية وفى إصرار وإلحاح يواصل إصلاح هذا الإنحراف .. ولا يهدأ له بال إلا إذا أحرز إنتصارا يرتضيه .. كل هذا يأتى على حساب وقت إبداعه وعلى حساب صحته وعلى حساب مصالحه المادية أو الوظيفية .. سعيه الدائم للحق والحقيقة وللعدالة وللقيم جعل من شخصيته النضالية .. شخصية غير محبوبة لأعداء الحق .. حتى باتوا فى خوف منه ... وعملوا على تجنبه حتى وهو فى حالات السكون والعمل ، هذا يفسر لماذا اعتقل أخيرا فى سبتمبر 1997 بعد أن سعى للحصول على التفرغ للفن لأول مرة فى حياته .. للإبتعاد عن بؤر صراع هزلية... أوصلت أمور حياتنا إلى مايشبه الأحداث الكفكاوية كما وصفها عز نفسه .. أعتقل بلا مبرر أو منطق .. هذه العبثية التى يرفضها عز تماما ... وقع فيها وهو فى لحظة التجلى .. خيل له أنه يستطيع أخيرا أن يستريح إلى راحة الابداع .. فاعتقل فورا .. يقول : `خرجت من السجن وأنا أكثر دهشة وإرتياعا مما دخلته .. لقد خرجت من مجهول أصغر .. لأدخل فى مجهول أكبر .. فإذا كانت تلك الجهة المجهولة التى أمرت باعتقالى .. قد وافقت اليوم على إخلاء سبيلى .. فما الضمان بألايتكرر إعتقالى كلما عن لها ذلك ` ..
- عز الدين نجيب وقد بلغ السابعة والخمسين من عمره .. يجد نفسه أمام إشكالية جديدة لمنطق عبثى .. تغير الزمن .. والناس .. الأيديولوجيات والتوجهات .. ولكن كل شئ يتكرر بعنف أكثر ولا معقولية وبهزل يؤدى إلى حيرة تتجاوز الواقع المحدود لحياتنا إلى شمولية الرؤية الكونية للأشياء .. كل الأشياء .. يصف عز كل هذا قائلا :` تجتاح عالمنا هوج العواصف .. تختل الثوابت .. تتساقط الرايات .. فى كل يوم تنهار الحقيقة .. يولد الزيف فماذا بوسع الفنان أن يفعل `
- المتاهة والملاذ
- ` كم من السنين رسمت الحصون والأطلال
- وكم من السنين رسمت الصخور والأمواج
- أتسع دبيب الحياة فى الجماد
- ودبيب الموت فى الحياة
- استنهض الاطلال كى تصرخ
- واستفز الأحجار كى تنطق
- اليوم وسط تيه بلا خلاص
- ودروب بلا يقين
- وسط اغتيال الحلم البراءة
- وارتداد الأسئلة بأسئلة مستحيلة
- ما عادت الحصون والقلاع ملاذا
- من الحراب أو المتاهة `
- إنها كلمات عز الدين نجيب ... قصيرة حميمة .. رسمها بألوان الصحراء وتكوينات الكهوف وعتامة الجحور التى يحفرها الانسان للأمان فتصير قبرا له ومدفنا تراثيا ترثه الأجيال .
- أدهشنا عز الدين نجيب حين عاد من رحلة فنية فى تونس عام 1994 ليبهرنا بلوحاته الرائعة عن مطماطة .. قرية فى جوف الصحراء .. واحة تونسية يستكمل بها ملحمته الكبيرة عن الانسان خارج المدينة .. المدينة الوطن .. الإنسان فى الواحة الكون .. منطلقا من جزئيات البيوت والشوارع والأزقة .. إلى رحابة وغموض الواحات والجبال والصحارى والبحار .. يمسك بفرشاته فى رحلته الدائمة أبدا بين الاطلال يستشف منها الحقيقة ويتساءل :
- ` نادتنى الواحات وباحت لى بالأسرار
- هذه الاطلال الباقية من أطواف الطن
- فوق قمم التلال
- ليست جدرانا لما كان فى الماضى بيوتا أو حصونا
- إنها ما بقى من أهل هذه المدينة
- أكتسحهم السيل وحاصرهم الطوفان
- أهى دمدمة الحرب حين اجتاحتهم
- فتراءوا لى فوق القمم كعمالقة أو حكماء أو مردة
- يتجادلون أو يتعانقون أو يتقاتلون
- يطلون باستعلاء قائلين
- أنتم هل صمدتم أمام ريح واحدة
- مثلنا ؟!
- فهل باحت لى الواحة بالأسرار؟ `
- فى لوحات عز الدين نجيب جبال سيناء .. كما أن فيها أيضا جبال مقدونيا على الجانب الآخر من البحر المتوسط التى عاش فوق قممها شهرا .. وقد تحولت الصخور إلى أشباح بشرية .. أم هم البشر الذين تحولوا إلى جبال صخرية .. اليقين فى هذا يعد سرا من أسرار الفنان .. رسم أطلال المدينة المهجورة فى ` شالى ` القديمة بسيوة .. كما رسم تجاويف المدينة المدفونة فى مطماطة بتونس .. أطلال المدن المهجورة المحملة بالأسرار والكنوز وطقوس المهمشين فى الواحات العربية .. لقد صور جدران وذكريات وتاريخ واحات الخارجة والداخلة .. والقرنة التى أزيلت .. رسم فى بداية حياته الريف والفلاح .. وسجل النوبة التى تلاشت تحت مياة النيل .
- تجول عز الدين نجيب فى أنحاء مصر .. كما لم يتجول أحد منا.. لم يترك فيها بيئة لها ملامح الأصالة والتراث إلا ورسمها فى لوحاته ذات النزعة الواقعية الرمزية .. التى تعلو أحيانا إلى واقع سحرى أسطورى غامض .. يقول الناقد الفنى الكبير مختار العطار فيما يخص الأسلوب الفنى عند عز الدين نجيب : استطاع بقدرته التصويرية الخلاقة وثقافته العريضة .. أن يستفيد بمعطيات مختلف المدارس الفنية ويحقق المعادلة الصعبة فى لوحات جميلة .. جادة .. قوية التعبير `
- وعن هذا الواقع السحرى المحمل بالأسرار الذى صوره عز الدين نجيب وعبر عنه بالكلمة أيضا .. فقد أشار إليه الفنان الكبير الراحل حامد ندا فى مقدمته التى كتبها خصيصا لكتالوج معرض عز الدين عن واحة سيوة فأوضح :` إن واقع العالم الذى يعيشه الفنان ليس واقعا مألوفا كما يظهر للمشاهد العادى .. وإنما هى لغة الاستعارة عن حقيقة سيكولوجية مؤكدة .. تنفجر فى جو من الضغط العاطفى الاجتماعى .. إنه سلوك جماعى ووجدانية متفردة `
- فالمتاهة فى الصحارى والوحات والجبال هى فى حقيقة الأمر بمثابة الملاذ عند عز الدين نجيب .. وهكذا يذهب إلى هذا الملاذ يستمد منه طاقة روحية إبداعية .. كمنطلق لمشروع فنى أو أدبى أو نقدى .
- الأصالة .. التراث
- عز الدين نجيب الذى ولد عام 1940 بقرية مشتول السوق بالشرقية بدأ رحلته الفنية من ريف مشتول مرورا بالأقصر وأسوان .. ثم شارك فى تأسيس قصور للثقافة بداية من عام 1963 فى كل من الأسكندرية وبورسعيد وكفر الشيخ وسجل تجربته الفريدة هذه فى كتابه الهام (الصامتون) تجارب فى الثقافة والديمقراطية بالريف المصرى والذى أصدره على نفقته الخاصة عام 1985 .. وواصل رحلته فى ربوع مصر من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب .. ليستقر أخيرا فى روح الأصالة والتراث .
- أنشأ عام 1994 جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة وللعلم فقد سبق وأن شارك عز الدين فى إنشاء العديد من الجمعيات الهامة منها جماعة الطليعة 1969 وجماعة كتاب الغد 1970 والجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلى (1988) والجمعية المصرية لأصدقاء المتاحف `.
- أنشأ أصالة عقب تعينه مديرا عاما لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية بوكالة الغورى إحدى إدارات المركز القومى للفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية .. كان ذلك عام 1992 .. ووجد أنه من الضرورى دعم مراكز الحرف بجمعية أهلية لرعاية العاملين فى هذه الحرف من ناحية وتشجيعهم وتنمية الإنتاج الحرفى ونشره وتسويقه وغير ذلك من المهام التى حققها فعلا خلال الثلاث سنوات الماضية ويوضح هذه التجربة وأهميتها قائلا : ` جاءت أصالة - انعكاسا لصحوة جديدة دبت فى جهاز منزو فى الظل بوزارة الثقافة بلا إهتمام لعشرات السنين وهو المعنى بالفنون والحرف التقليدية بوكالة الغورى والذى يطل على صحنها التاريخى عشرات الفنانين عبر ثقوب مشربياتهم دون محاولة للتفاعل مع ما يدور فى هذا المكان .. وكان ميلادها من ناحية أخرى .. تعبيرا عن إحتياج حقيقى فى واقع الحركة الفنية إلى مرفأ للتوازن بعد أن مضى بها قارب الإغتراب بعيدا عن شواطئ الاصالة والمجتمع إلى خضم بحر عاصف بلا شطآن .. هكذا جاءت أصالة - لتبشر ببعث جديد لهذا التراث فى قلب الحركة الفنية المتفرنجة .. ليس باستنساخه أو التغنى به .. بل بإعادة الاعتبار إليه `.
- ظلت إرهاصات الأصالة تنمو وتتبلور فى فكر ووجدان عز الدين نجيب حتى توهجت كرسالة حياتية فى أوج نضجه الإبداعى .. فحققها بقوة وبدعم من ثقافته وروحه القيادية ليحقق من خلالها أهم منجزات الحركة التشكيلية المصرية بمزجها مع العطاء الحرفى التقليدى وذلك من خلال النصف الثانى من نهاية تسعينات هذا القرن ، وقد غزتنا تيارات نظام عالمى جديد هدفه طمس هويتنا وإبتلاع تراثنا .. فتصدى لهذه التيارات العاتية التى استسلم لها الكثيرون ذلك الفنان المناضل دائما عز الدين نجيب الذى تغنى بعطائه د. محمد حافظ دياب فكتب يقول : ` ها أنت على مدار الليالى والأعوام .. ملأت عيونك بأحزان القلب المصرى .. وحضنت فى رئتيك البشر الطيبين .. وسوحت البرارى والمدائن .. وسبحت فى التيار وضده . بينما رؤوس كثيرة من حولك قد ثقلت موازينها وتغاوتها الطقوس المريبة .. ولكنك مازلت تملأ عينيك وتحتضن رئتيك وتسبح وتستأنف المسيرة .. مازلت تعطى القصة والرسم والحياة حرقة أسئلتك وتغترف إبداعاتها `
- اللقاء الأخير ... وتجليات الأرض
- كلما مررت بحلقة السمك متجها إلى قصر ثقافة الأنفوشى لإفتتاح معرض لأحد الفنانين الشباب .. أتذكر عز الدين نجيب وبدايات لقائى به .. وأود أن أسأله هل رسمت الاسكندرية .. كما رسمت القاهرة وكل ربوع مصر أم اكتفيت برسم البحر ومراكب الصيد الفارغة المنقوشة بعرق الصيادين ؟ فى لقائى الأخير معه - ولن يكون الأخير أبدا - وجدته وقد بدأ يجهز نفسه لمشروع تفرغه :` سأعود إلى رسم الأرض .. الطينة المتشققة التى تفتقد الأيدى الطيبة للفلاحين فيرويها بحنانه ويخصبها بكفاحه وينبتها بالخير والرخاء ... سأستكمل لوحات - تجليات الشجرة - التى كانت محور معرضى الأخير الذى قدمته فى مارس 1997 وعبرت فيه عن معاناة الشجرة نبت الروح المكتوية بالألم والضياع والتى تشبثت بها كرمز وملاذ حتى صارت من خلال لوحاتى تجسيدا للتماسك والصبر والإرادة والمقاومة `
- ولكن فجأة تهب العاصفة ويتذكر : ولكنى لن أترك ما حدث يمر كأن شيئا لم يكن ` ... ويقدم لى آخر كتبه - التوجه الاجتماعى للفنان المصرى المعاصر - وهو الجزء الثانى المكمل لكتابه الهام ( فجر التصوير المصرى الحديث ) الذى حصل به على الجائزة الأولى فى النقد الفنى عام 1983 من المجلس الأعلى للثقافة واقرأ الإهداء : إلى صديق الألم والأمل .. رفيق الرحلة الممتدة من جذوة الشباب إلى هدأة النضوج ` وأتأمل .. هذا الإنسان الفنان .. طاقة نضالية من النشاط والحيوية .. مفعم بالخير والعطاء .. فهل يستكين أخيرا فى حضن الفن ؟.
بقلم : عصمت داوستاشى
( من كتاب عز الدين نجيب ( الكلمة - الريشة - الموقف
عز الدين نجيب.. بين فن `المستوى` وفن `التأثير`
‎ - أولاً.. عن الإنسان
‏- يذكرك اسمه بالمعارك!
‏- لا يكاد يخرج من معركة حتى تراه مستعداً لاشتباك جديد!
- كتب القصة القصيرة،‏ ومارس فن التصوير، وغرق فى العمل الجماهيرى، وكتب النقد التشكيلى, وهو فى كل مجال من تلك المجالات كان يقاتل من أجل فرض ما يعتقد أنه صواب، وكان طبيعياً أن يتعرض للكثير من العسف، واضطراب الأمن، وتبديد العديد من اللوحات، بل إلى الفصل من الوظيفة، ولقد شهدت الصحافة وقتها مبارزة كلامية بينه وبين رئيس هيئة الفنون الجميلة الفنان عبد الحميد حمدى، لم يوقفها غير رحيل رئيس الهيئة ، وعودته إلى الوظيفة!.
‏- إن مجال الإبداع عنده، ومجال العمل الجماهيرى توحدا فى هدف واحد هو `الاتصال والتأثير فى الجماهير، فلم يعنه، فيما أظن, أن يكون فناناً شاملاً, موهوباً بقدر ما يهمه أن يحقق دفء التلاقى، وسخونة الصراع!, لهذا كان ينتقل من مجال لآخر دون أن يفقد توازنه، وحرارته، ففى الوقت الذى كان يعمل فيه مديراً لقصر ثقافة كفر الشيخ استغرقه العمل ‏الجماهيرى، وانصرف أو كاد.. عن ممارسة أى لون من ألوان الفن التشكيلى أو الكتابة، للدرجة التى تظن معها أنه وجد خلاصه، واستقر على اختيار، فإذا به يفاجئك بعد انتقاله إلى الإشراف على القصر التاريخى `المسافر خانة` بالاستعداد لمعرض، واندماجه فى الرسم . وقتاله منذ اللوحة الأولى ضد الأساليب الفنية لفنانى القصر الراسخين! يستفزه الهدوء ‏ويحركه الحماس الدائم الاشتعال.. رغم ضغوطه الصحية!.
- عرفته منذ ربع قرن تقريباً عندما كنا طلبة فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وكانت تجمعنا وبعض الزملاء من جيلنا القراءات المشتركة فى الأدب, والسياسة، والغرف الضيقة، والفقر, والصعلكة, وتجمعنا الأحلام التى لم يتحقق منها شىء.. بل تحقق معكوسها!.
- اختار وهو ما يزال طالباً فى الفنون الجميلة الانحياز إلى شرائح الفقراء، وتغنى فى لوحاته وقصصه بالفلاح المصرى، فكان مشروع تخرجه أقرب إلى القراءة التشكيلية لرواية `الأرض` لعبد الرحمن الشرقاوى، وأذكر أنه قوبل وقتها ببعض الملاحظات الاعتراضية على المشروع، فقد اعتبر البعض لوحاته أقرب إلى السرد التوضيحى، وعلى الرغم من أن تلك الملاحظات لم يجانبها التوفيق إلا أنها أسهمت ـ أعنى تجربة مشروع التخرج ـ في تشكيل ملامح ميزته عن بقية الفنانين المصريين، فلم يكن `المشروع` مجرد مناسبة عابرة سجل بها انحيازه، بل إننا نلمس تأكيداً لهذا الانحياز عبر معارضه اللاحقة، ويمكننا الآن، وبعد مرور عشرين عاماً على إسهامه فى الحركة التشكيلية بصورة جادة أن نقرر أنه يقدم `النقيض` لكل المطروح فى الساحة, وقد اختلف الكثير من الفنانين المصريون مع نتائج `عز` ووصفوا أعماله `بالدعائية` ، وهو مصطلح أسىء استخدامه، ولا يستخدم هنا عادة إلا لتحجيم الأعمال الفنية، صحيح هناك أعمال `دعائية` فجة، إلا أنه يوجد فى تاريخ الفن قديمه وحديثه أعمال دعائية عظيمة، منها على سبيل المثال اللوحة الشهيرة التى توجها النقاد لوحة للقرن العشرين - أعنى - لوحة `الجورنيكا` للفنان `ييكاسو`، بل إن فيها من الاستعارات الأدبية, والتشوهات الميلودرامية ما يفترض أن ينفر هؤلاء الفنانين، وقد قدم `ييكاسو` لوحته بلغة تشكيلية بليغة، تعكس درجة عالية من عمق البحث، وقدرة على التأليف.
- يرد `عز الدين نجيب` ببساطة على ذلك الاتهام الملتصق بأعماله يقول: `لم أكترث بأى `المدارس` أتبع, كنت أكترث فقط بأن أتبع الصدق`.
- قال عنه الناقد الراحل محمد شفيق فى مجلة الطليعة يناير 1975: `نحن هنا، إذن، أمام فنان شديد التفاعل مع أحداث مجتمعه. إيقاع مشاعره ورؤيته هو إيقاع المتغيرات المستمرة التى تعترى حياة قومه وشعبه وكأنه `الترمومتر` الدقيق, البالغ الحساسية، الذى أشار إليه `بيكاسو` هذا `الترمومتر` الدقيق الذى مهمته التقاط المتغيرات الدائمة التى تعترى درجة حرارة جسم الواقع، جسم المجتمع المحيط`.
- معرض عام 1964
- بقصر ثقافة الأنفوشى
- كان هذا معرضه الأول،‏ وقد أقامه بقصر ثقافة الأنفوشى بالاشتراك مع الفنان `زهران سلامه` وجاء المعرض تعبيراً عن معايشة لمشروع السد العالى، بعد رحلة قاما بها، عل نفقتهما الخاصة، إلى مواقع العمل.
- كان الإعلام وقتها قد خلق مناخاً حماسياً دفع العديد من الفنانين للتسابق لزيارة ذلك الشروع, وقد نظمت رحلة بصورة رسمية ضمت عديداً من الفنانين المتميزين، كان من نتائجها إقامة معرض بقاعة الفنون الجميلة التى انقلبت إلى بنك `انفتاحى` فى عصر آخر!، وعلى الرغم من الطابع الإعلانى لتلك الرحلة الجماعية إلا أنها كانت محركاً للفنانين للخروج من المراسم إلى الطبيعة، والانفلات ولو مؤقتاً من سجن ذاكرة معزولة، وربما كان من نتائج تلك الرحلة ظهور جماعة تسمت باسم `التجريبيين`، وقد اعتبرت البيئات المصرية المنابع الأساسية للإلهام, وتحررت الجماعة - فى ذلك الوقت - من القوالب المحفوظة، وأسهمت، قبل سقوطها فيما بعد فى الشكلين, فى تشييد دعوة للخروج من دائرة لوحات `الكتب الفنية` كمُلْهم وحيد.. إلى البيئات المصرية الخصيبة بالتنوع، ولم يشغل `عز` فيما يبدو التلقى التلقائى لبيئة قرر معايشتها بقدر ما كان بريد أن يلتقى `بالإنسان` وفق مفهوم مسبق، والمعرض فى مجمله كان تسجيلاً لعلاقة الإنسان ببيئة أقل شأناً منه.
ففى الوقت الذى ظهرت فيه أعمال فنانين تمجد الآلات العملاقة، وتحتفل بالتراكيب الميكانيكية المعقدة،‏ كان `عز` يرجح كفة الإنسان فأظهره عملاقاً بالقياس إلى الجبل، والإنسان هنا هو `الجماعة` التى تشكل بالعمل الجماعى كياناً واحداً، ونغمات توافقية. ترتفع الأكف معاً لترفع كتلة، وتجتمع القبضات القوية لاقتلاع عائق ما، أو ربط شىء ما..‏ فإذا توقف لحظة لرسم `وجه` فإن ابتسامة الرضى والتفاؤل تلوح عليه رغم ملامح المعاناة، ومع هذا الدفق الإنسانى فى `الوجوه` فإنه يخرج بها من حدود التسجيلية المباشرة إلى تقديم ملامح لبطل تلك المرحلة، وتتجه اللمسات التصويرية إلى الاختفاء، أو الظهور الهادىء،‏ الرقيق على النقيض من أغلب اللوحات الأخرى، حيث تظهر اللمسات المندفعة، التلقائية, وتشيع فيها سخونة العجالات. إن لوحات المعرض مطبوعة بالطابع الروائى، سادتها الألوان البنية، وهى مفردات ظلت تتردد عبر معارضه المختلفة, وقد وقع فيما يبدو، اتفاقاً ذاتياً على التمسك بلون الصخور، والطين، ونبذ الشفافية، وكل ما له علاقة بلحظات الترويح العابرة!.. لهذا عندما كان يعمل فى الإسكندرية لم نشاهد له لوحة واحدة عن ذلك الساحر, أعنى `البحر` والذى لم نلتق بزرقته إلا فى لوحات رسمها مؤخراً عن الصحراء!.
- من اللوحات اللافتة فى هذا المعرض عجالة صغيرة المساحة, منفذة بلمسات عريضة، وحاسمه، بألوان بنية داكنة تمثل `رافعات` تحاصر جبلاً فى بؤرة اللوحة، وتبدو الرافعات أشبه بكائنات خرافية تتجه للانقضاض عليه، ويبدو الجبل ضئيل الشأن، وهو ينتظر النهاية الأكيدة أمام قوى التغيير القادمة!.
إن لوحات `عز` في هذا المعرض وغيره من المعارض اللاحقة تبدو متقشفة، ينعدم فيها الإبهار `التكنيكى` الذى حرص عليه بعض الفنانين المصريين،وتسودها ريفية خشنة فى اللمسات، وعلاج السطح التصويرى، وتختزل فيها الألوان بشكل عام، إلى ألوان محدودة للغاية، وكأنه يحتشد لخشونة الواقع بخشونة مماثلة فى عالمه التصويرى.
- موقف الفنان بعد هذا المعرض!
جرفه العمل الجماهيرى فى قصور الثقافة.. لسنوات، وانصرف عن ممارسة الفن التشكيلى.. قد يرجع هذا إلى أنه كان يفضل `تأثير` اللوحة على `مستواها`، وربما لم يكن يرضيه التحول اللامحسوس الذى تحدثه `اللوحة` فى الذوق العام، أو فى فعل `التغيير` فكان يحمّل اللوحة فوق ما تحتمله، ولعل هذا هو الذى دفع `عز`, كما يحدث مع العديد من فنانى العالم الثالث الذين يمارسون العمل الجماهيرى, إلى الزهد.. أحياناً.. أو التشكك فى جدوى الفن، فينفد صبرهم عندما تعود لوحاتهم إلى المخازن، ويكتشفون بمرارة أن `اللوحة` ليست سلاحاً قاطعاً، أو بياناً للقتال، أو طاقة لحشد الجماهير، فاللوحة مهما تضمنت من التحريض والإثارة فإنها تقف مخدولة إلى جوار الصورة الوثائقية من حيث `التأثير`، كالفارق الصارخ بين الصور الوثائقية التى التقطت لمذبحة `صابرا، وشاتيلا` واللوحات التى استلهمت هذا الحدث البشع، ولا شك أن الهموم التى تثقل فنان العالم الثالث التقدمى تدفع به دفعاً إلى الشعور باللا جدوى من الفن، وتؤرقه أحياناً بالشعور بالذنب، وتحاصره بشتى المشاعر المحبطة.
- معرض عام 1969 بقاعة أتيليه القاهرة
-كانت النكسة قد وقعت, وكثير من الأحلام قد أجهضت، وساد شعور عام بالمرارة، وانتقل `عز` من صخب العمل الجماهيرى بكفر الشيخ إلى صمت القصر التاريخى `المسافر خانه`، ووجد نفسه بلا عمل تقريباً, فبالقصر عديد من المراسم يحتلها فنانون مشغولون بإنتاجهم، ولم يكن أمامه بعد أن صارت تجربة كفر الشيخ مجرد ذكريات، وأمام إغراء الأثر التاريخى, والحى العريق الشعبى، ومشروعية تأكيد الذات إلا أن يعاود الإنتاج، وأقام معرضاً مشتركاً مع كاتب هذه السطور عام 69 بقاعة اخناتون القديمة قبل أن تتحول إلى مطعم .!!
- كان معرض `السد العالى` ترديداً لتفاؤل عام؛ وكان هذا المعرض انعكاساً لشعور عام بالمرارة، وإذا كانت مواقع العمل بالسد هى مثير التجربة الأولى فإن `حوارى الإجمالية` كانت مثير التجربة الثانية، كما لم يخل الأمر من ارتحال إلى الذات لاستجلاء ما بها من مخاوف، وأحزان.
-كان إنسان السد العالى عملاقاً، فصار فى معرض 1969 مسخاً حجرياً. انقطعت أسباب اتصاله بالأخرين.. إلا أن المعرض من ناحية التصوير كفن له مقوماته الخاصة كان أنضج من سابقه, وتميز بالتجريب، فتنوعت الأساليب ، فمن محاولة لتأكيد `الكتلة` إلى محاولة للتخفف منها، إلى محاولة ثالثة إلى التسطيح، وتجريد العناصر، كما تنوعت اللمسات، فمن لمسات متدفقة تأخذ شكل الصدى للخطوط الخارجية لأشكال تبدو منحوته كما فى لوحة بعنوان `الخوف`، إلى تلاشى اللمسات, تقريباً، فى مسطح المساحات المجردة، كما خرج فى هذا المعرض بصورة استثنائية فى بعض اللوحات عن مفرادته اللونية إلى ألوان صريحة، ومن أطرف لوحات هذا المعرض لوحة بعنوان `صانع المفاتيح`. تعتمد على مفارقة كاريكاتورية فصانع المفاتيح المشار إليه.. أعمى! تشبه تمثال بوذا، ويماثل فى تكوينه القفل، الساكن.. صندوق المفاتيح الموضوع أمامه. تميزت اللوحة بصراحة الكتل والمساحات الهندسية، حرص على التركيب البنائى، وتبدو كتلة الرجل الصندوق محاصرة من كل جانب.
- إن الإنسان فى هذا المعرض يبدو مغترباً ، وحيداً مضغوطاً بأعباء لا قبل له بتحملها، أما على مستوى الشكل فعلى الرغم من سكونية التصميمات إلا أن حركة عجينة اللون العفوية, واللمسات الانفعالية كانت تكسر، إلى حد ما, تلك السكونية.
- معارض متنوعة
قدم بعد ذلك أربعة معارض فى الأعوام 76،75،74،70 وهى فى مجملها تشكل خطوات نحو `الداخل`، والانصراف عن `الخارج` كمثير جمالى، والتعلق بالفكرة،‏ والرمز، وكان يتمحور كل معرض من تلك المعارض على وسيط رمزى، ففى معرضه المشترك مع الفنان أحمد نبيل عام 1970 بقصر ثقافة قصر النيل كان عنصر `المرأة` هو المحور: المرأة الحسية. الممتلئة أنوثة، التى تصدمنا رغم هذه الحيوية الظاهرة بسب بتر ذراعيها، حيث لا تصلح بعد ذلك إلا تكون `شيئاً` للزينة، أو التأمل.
- صندوق مغلق على الأسرار، ويظهر فى المعارض اللاحقة اتجاه إلى الهندسية، وتسطيح العناصر, وإلغاء البعد الثالث، وتشرق على اللوحات الألوان الصريحة، كما تتجلى المساحات الواضحة، وتظهر ملامح الغنائية فى `الشكل` فتقترب بعض اللوحات من مذاق النسجيات, وينتقل من وسيط المرأة: أو فينوس بلا ذراعين إلى وسيط المرأة... لكن بعد أن تصير شكلاً وسطاً بين الشجرة, والمرأة!، وعلى الرغم من القشرة الغنائية إلا أن الاستعارات, والرموز المتخمة بها اللوحات توحى بمعكوس هذه الغنائية، وتؤكد على نغمة الاغتراب، وانتظار الفارس المخلّص، وقد خفّض هذا الازدواج، فى تقديرى، من حرارة العطاء الدرامى, وأوقف الرموز عند النبرة الميكانيكية: ففى اللوحات تظهر المرأة الحبلى بفارس المستقبل فى طرف، ويظهر فرس الفارس المنتظر فى الطرف الآخر.
- الصبار فى مواجهة الشمس
- الأرض الحبلى تضم فى رحمها امرأة حبلى.
- الهلال الأحمر فى مقابلة مع القمر الأزرق.. وهكذا..
- وقد يدفعه الحس النقدى, وروح التحدى التى يتحلى بها إلى الإدلاء برأى فى المطروح فى الساحة التشكيلية كان الأفضل له أن يدلى به كتابة، فقد أراد أن يدِلى برأيه فى استخدامات الحروف، والكلمات، واستخدام وحدات فلكلورية، وغير ذلك من العناصر المأخوذة من الموروث، فنفّذ لوحتين استلهمهما من شعر سمير عبد الباقى وامتلأت اللوحتان بزحام من العناصر المتنافرة: كلمات بالخط النسخ، ولعبة طائر خشبى، وعازف للعود، ووجه عملاق خلف القضبان..
- الأرجح أنه وجه مصر!.
- غير أن `عز` يكون أكثر إقناعاً عند استلهامه البيئة. المكان، ولقد قدم معرضاً عام 1976 بالمركز الثقافى السوفيتى يسجل به العودة إلى الحارة المصرية من جديد, فدارت أغلب لوحات معرضه حول لاعبى السيرك الشعبيين، وعربات البطاطا، ووضعهم فى أوضاع بهلوانية، إلا أن وجوههم كانت هى العنصر الثابت، الذى يواجهنا، ويحاكمنا، ففى لوحة (دائرة الخناجر) يواجهنا اللاعب بوجهه الحزين عبر دائرة الخناجر التى تتجه بسنونها المدببة إلى وجهه الذى يحتل بؤرة الدائرة، ومجموعة البهلوانات تتميز بدفء الرسوم السريعة، إلا أنه كان أكثر توفيقاً عندما قدم دراسات لبيوت الجمّالية فى عدد قليل للأسف من اللوحات. وقد عكست قدرات تصويرية فى تحليل واجهات المنازل الشعبية، إلا أنه وصل إلى نضجه الحقيقى، فى تقديرى، عندما عاود استلهام ومعايشة البيئة المصرية حيث اشترك مع عدد من الفنانين فى رحلات إلى الوادى الجديد وجنوب سيناء نظمتها الثقافة الجماهيرية, وكان من نتائج تلك الرحلات بالنسبة له إقامة معرض دار حول تلك التجربة بأتيليه القاهرة فى شهر ابريل 1984.
- معرض إبريل 84..
- والعودة إلى المنابع الأولى
- بهذا المعرض يعود `عز الدين نجيب`‏ بعد عشرين عاماً، إلى نفس المنابع: مواقع من البيئة المصرية يستلهمها، ويتوج معايشته لها بمعرضه الذى أقامه فى إبريل الماضى بأتيليه القاهرة، وأفصح المعرض عن نضج خبرة السنين، من سيطرة على الأدوات التصويرية, إلى طريقة التعامل مع المثير الجمالى.. إلى تأكيد على اختيار قديم.. بالانحياز إلى تطلعات الشعب.
- ينقسم المعرض إلى قسمين: قسم خصصه لتجربة `الوادى الجديد`, والقسم الآخر لتجربة `جنوب سيناء`. فى لوحات الوادى الجديد نلمس انجذاباً للشكل المعمارى المجسم للعمارة الفطرية لأهل الوادى, التى أفلتت من برودة عمائر المدينة، وتعقدها، ومن هنا تنشأ الألفة بينها وبين الوافد الغريب، إلا أن هذه الألفة سرعان ما تتبدل, ويفقد المثير المباشر جدته لتطفح على السطح من جديد تعقدات المدينة، وهموم الفنان، وموقفه من مجتمعه ومن الحياة. وتتجسد فى اللوحات نتائج أخرى. قام `عز` برحلته الأولى إلى `السد العالى` منذ عشرين عاماً وسط مناخ إعلامى تفاؤلى انعكس على تجربته، وذهب إلى الصحراء بعد أن تلاشت أحلام جيله وتحقق معكوسها فى الواقع. ومن هنا ظهرت نبرة الاحتجاج، خاصة فى لوحات سيناء.
- إن أماكن الرحلة ملهمة - كما أشرت - تجبر `المصور` على أن يكون تلميذاً جاداً، ففى العمارة الفطرية، والكثبان الرملية المتنوعة الأشكال, والجبال، والشمس الصريحة، والسماء الصريحة ما يحتاجه `المصور` الدارس من إثارة جمالية، ومن هنا انجذب لذلك التصادم الحاد بين النور والظل، والتقابل بين الساخن والبارد، وتغلغل الظلال فى الفجوات والفراغات الهندسية، وتسللها إلى المدرجات.. وهكذا..
- وقد فرض هذا ‎`الظل` حضوراً أغرى الفنان بوضعه موضع البطولة فى أغلب اللوحات إن لم يكن كلها, فأعطاه دور ربط العناصر الرئيسية فى التكوين، ونوع مواقعه، فقد يأتى - مثلا - من مصدر مجهول، وقد يحتل بؤرة اللوحة، فى وقع حاد تحترمه بؤرة ضوئية, تبدو مباغتة, أقرب إلى الطلق النارى؛ وتسمح الظلال بظهور شبح إنسان يحاول منازعة فجوة الضوء، وقد يضيف عنصراً حيوانياً يربط به عناصر الكتل المعمارية، ويترك فى النفس أثراً مبهماً، إلا أن أغلب الشخوص الموضوعة فى اللوحات تبدو مثيرة للتساؤل، وربما داخله الشك فى الممكنات التعبيرية للعناصر المعمارية، فاستدرج إلى فرض شخوص فى أوضاع مسرحية، أو أوضاع تذكر بالحكايات الشعبية، بل وبأداء يكاد يختلف عن أدائه عند التعامل مع الأشكال المعمارية ذات الأصول الواقعية.
- إن لوحة `الحذاء` للفنان `فان جوخ` تنتمى لموضوع `الطبيعة الصامتة` وعلى الرغم من اختفاء العنصر الإنسانى فى اللوحة إلا أن هيئة الحذاء تبدو كما لو كانت قد اقتلعت منذ لحظات بعد رحلة شاقة فى قدمى فلاح كادح، وسيقان المقعد` فى لوحته `المقعد` تذكر بسيقان بشرية لإنسان مطحون. إن الإنسان مسجل فى آثاره، فبيت الإنسان هو جلده الثالث - كما يقال - بعد جلده الطبيعى، وملابسه، و`عز` يعى هذا فهو يقول فى كتالوج معرضه:
- `إنسانى ليس جسماً وليس رمزاً ذهنياً مجرداً: إنه نفس بشرى يتردد: حتى فى الجماد والطين`.
وربما لهذا السبب كان أكثر توفيقاً فى اللوحات التى اختفى فيها الإنسان بهيئته المباشرة، كما وفق فى العُجالات التى نفذها على الطبيعة بالباستيل أو الفحم، وكذلك مفرداته اللونية التى لم تفقد أصولها السابقة قد صارت أكثر صفاء.
- أما القسم الثانى من المعرض فكان عن `جنوب سيناء` أو العمارة الطبيعية: الجبال. الكثبان الرملية - الكتل الحجرية المتناثرة.
- قال عالم الجمال (كروتشه): `الطبيعة خرساء إلى أن يستنطقها الإنسان`، وقد استنطقها `عز` هموم الواقع المصرى والعربى، فانقلبت الصخور بشراً يحتج ويعترض!.
- تتشكل الصخور، تارة، شكل طائر أسطورى. مسيطر، يهيمن على منحوتات بشرية منكسرة، ويلبس الجبل `تارة` أخرى هيئة إنسان عملاق نائم، أو صريع ، كما ينبت الجبل جموعاً بشرية فى قمته تندفع فى مظاهرة كونية، وقد تأخذ الصخور شكل أجساد نسائية تتبادل حواراً أسطورياً، وقد يتنقل التلميح إلى التصربح فتظهر وجوه صريحة مؤطرة بالأسلاك الشائكة، أو تنبت فى أشجار الدوم.
- لقد صارت الصحراء مسرحاً حقيقياً، أبطاله الأحجار، تعلن إدانتها واحتجاجها، ضد ظروف وأحداث تستحق ما يوجه إليها من اعتراض!!.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة :إبداع ( العدد ) 10) أكتوبر 1984
بين التشكيل والتأويل
- حدثنى الصمت بأن الصخر لا يقبل بالهزيمة وأننى إذا رفعت رأسى مرة فلن تكون المرة اليتيمة أسأل أين اختبأت حبيبتى النارية العظيمة .
- فى الفن التشكيلى ، كما فى غيره من الفنون ، هناك من يغلب بالأداه ، وهناك من يتأمل بها ، تدخله فى حالة ، أعتقد أن عز الدين نجيب من هذه الزمرة .
- من السهل أن يتعامل الناقد مع اللعبة - حتى لو كانت معقدة - متى فهم قانونها ، ولكن الأمر فى حاجة إلى صيغة أخرى عندما يتعامل المرء مع فعل من أفعال التأمل ، ربما هو الانخراط فى اللعبة ، لتأخذنا الحالة ، فنحلم بالحلم يحل فينا فيسكننا ، فلا نسكن حتى يسلمنا سره .
- فى صمت الصامت معنى :
- العالم طاقة تتجلى فى جسد ، وما بين الطاقة والجسد تسبح المخيلة ، تبدأ بشهوة الإمساك بالمستحيل داخل اطار، كمن يريد أن يبنى سقفا من الهواء ، فكيف يسكن اللامتناهى أحرف الكلام ؟ ... ومن يستطيع أن يرى الأزلى فى الزائل ، والسماء فى البحر ، والعاصفة فى الصخر ؟ .. تلك معجزة الفن ... العاجز عن الحلم لا يرى فى المرايا إلا صورته ، ولن يفوز من البحر إلا بالبلل ، لو كشف اللغز عن نفسه لما صار لغزا ، ولو كشف الوجود عن حقيقته لصار موجودا ، لا وجودا ، ولذة العشق فى تلك المسافة بين العاشق والمعشوق وفى توقهما الدائم للالتحام الأبدى .. إن الوهج الحقيقى للنار يكمن خلف كل أطيافها اللونية ، كما أن الصمت هو روح الكلام ، وأعمق حالات الحضور تكمن فى الغياب ، فمن لا يستطيع أن يرى النهر فى قطرة ، والغابة فى ورقة شجر ، فهو سجين البصر.
- تلك بعض تجليات عالم عز الدين نجيب وما يثيره فى النفس من خواطر .
- لقد كان جيمس جويس يربط بين تفكيك الواقع المعاصر ، وبين النماذج الأساسية للأسطورة بحثا عن معنى .. فكيف استطاع عز الدين نجيب أن يربط بين الحس العميق بالانخلاع والاقتلاع والتصدع والتشقق ، وبين معطيات الأسطورة والحلم ليجسد رؤيا ؟ .. لاشك أن ذلك يحتاج إلى غواية شيطانية .
- أعتقد أن عز الدين نجيب قد أصابه مس من تلك الغواية ؟
- نحن اذن مدعوون لمتابعة رؤيا عبر مسطحات مليئة بالكتل الصخرية متعددة التجاويف ولا بد أن نبدأ بإحدى هذه التجاويف ، بقعة فى التشكيل ربما تكون النواة التى تحمل صفات الشجرة .
- لا يزال عز الدين نجيب ، رغم كل الاهتزازات والانتكاسات والمحبطات والكوابح ، مؤرقا بقضية الواقع المأزوم ، لا فى واقعة المعاش فقط ولكن فى تزمنه .. ` ذلك زمن عشق زمانه فأزمن !` .. ففقد كيانه بما فى ذلك جمالياته ، وعز الدين واحد من هؤلاء البنائين المهتمين بالشخصية المصرية والتى تبحث عن جماليات تستوعب معطيات وفاعليات الثقافة المصرية بهدف استرداد ذلك الكيان .
- فى البدء كان للإنسان عند عز الدين نجيب وجوده البارز فوق مسطح اللوحة ، ذلك الإنسان المصرى البسيط كانت وجوهه تعكس البيئة الطبيعية ، تأخذ ملامحها من لون وحركة الكثبان الرملية ، ويتشكل ملمسها من خدوش التكوينات الجبلية ، فهى أيضا صخور تنطوى على أسرار مكبوحة ... (مجموعة لوحات السد العالى 1964) .. كان الانسان هو الجبل .
- فى التسعينيات - وبعد رحلة طويلة - يهيم نجيب فى البوادى ، يتوغل فى الكتل الصخرية ، يبحث عن تلك الوجوه التى عرفها وأحبها وقد اختفت داخل أبنية تطل عيونها من فجواتها بعد أن تضاءل وجودها وتأثيرها ... ( لوحة : الضريح) .. هل يدعونا الفنان أن نبحث معه عن ذلك الإنسان ؟
- وقفة :
- يقولون إن الفن التشكيلى لغة بصرية ... وإن قوة التشكيل فى نقائه وخلوه من المعنى ، إنه لغة ذاته ..
- هذا التباس واضح ... لماذا نبحث عن حدود معنى المعنى ؟ ... عندما تستدير الزهرة لقرص الشمس .. فهذا معنى .. الجنس تلامس حسى للجسد ، ولكن أكثر حالات الجنس ابتذالا عندما يتوقف عند هذا الحس ... الجسد معبر للارتباط بقوة الحياة .. بالطاقة .. النزوع للتوحد مع الكون ... إن الإيغال فى المادة يصل إلى الطاقة - الحالة ، حيث تتوحد الأطراف مع الجذور ... إن للريح صفيرا ... فمن يعزل الريح عن الصفير ينتقص من قوة الريح وتجلياتها فى العالم .. إنه اختزال مبتذل للعالم .. ونقاء الشكل لا ينفى تأويله ... والحلزون صيغة رياضية لحياة ، وسيظل الانسان - كما قال هيدجو - فى حاجة إلى فهم العالم - والحياة - من خلال شبكة كلية ومتصلة من العلاقات ، والعملية التأويلية هى لحظة وجودية فريدة ، وما يميز أى فنان مبدع ليس قدرته فقط على الصنع ، ولكن الأهم قدرته على استكشاف ابعاد جديدة لرؤية العالم والأشياء .. إن التوقف عند اللعب البصرى يخلق حالة حسية ، ولكنه لا يقربنا من شئ ، يحتاج الأمر إلى قفزة فى الوجود لكى نفهمه ، لا أن نكتفى بالنظر إليه .
- إن الذى يتأمل أعمال عز الدين نجيب الأخيرة سوف يلحظ ثنائيات جدلية تنتظم من خلالها محاولته الابداعية ، فهناك من ناحية ثنائية (الدراسة - التجريب) ومن ناحية أخرى ثنائية (المرئى والمجازى)
1- الدراسة - والتجريب
- فى بحث هام للدكتور مدكور ثابت حول ابداع الحى المتدفق من خلال ما يسميه (الاكاديمية - التجريبية) بعد أن يخلصها من معناها الشائع ، يتجنب - فى تحديده لمفهوم التجريبية - اعتبار المغامرة التجريبية هى ` أى شئ يفلت من إسار القديم .. إنما يرى أنها عملية بحث بناء على معرفة جديدة لتطوير فن سابق بقوانين معينة ، ويعتبر التجريب مسألة علمية بالدرجة الأولى ، وهو الوجه الأخر للمعرفة ، والوعى التجريبى يمتلك أيضا وعيه النظرى ، ويتجلى تأثير الدراسة عند نجيب فى التحليل البنائى للشكل ، فهذه الدراسة تمنحه فهما أعمق لخفايا الشكل ، وهذا ما يسفر رسوخ تكويناته التى تنأى عن أى تحريف مقصود لذاته ، وهو الذى يوارى البعض خلفه أخطاء التشكيل .. لكن هناك لدى نجيب تحوير للأشكال يحدث بقوة فاعلة نكاد نلمسها .. ( لوحة اسطورة الحجر) .
- إن تجريبية عز الدين تنزع إلى اقتحام الشكل وليس إلى تحريفه ، حيث يخلصه من سكونيته ، فتصبح الكتلة الباردة زاخرة بالعاطفة ، وتتمخض عنها كيانات تستمد قوة الحياة من تضاريس الكتلة فتمنحها قوة تعبيرية ، هذه الكيانات ذات طبيعة مراوغة وتحتاج إلى التدقيق فى سطح اللوحة ، وربما تحتاج إلى أن نسلم لها أنفسنا ، إن الحالة تتوقف علينا أيضا ، إن تجريبية نجيب تنمو من خلال صراعها مع نفسه وتفاعلها مع تجريبية الغير (أوروبا) وقد انطلقت من التشخيص إلى التعبير ، ومن التعبير إلى التجريد ومن البسيط إلى المركب ، ثم هارمونية بنائية تشمل ذلك كله .
- هل يختبئ الإنسان داخل الكتل الصخرية ؟ ... أم أنها التى تحميه من العاصفة .. تحتفظ به لزمن قادم ؟... أم أنه يذوب فى القوقعة ؟.. فى معارضه السابقة ، كان حوار الكتلة والفراغ يعطى السطح ديناميته ، وفى مرحلة تالية كانت الكتلة تنزع لاحتلال الفراغ ، حيث تقاوم الخلفية دائما نزوع الكتلة للانفصال .. (لا يزال هذا التأثير باقيا) . انظر لوحة ` القباب البيضاء ` ..
- مجموعة من الأبنية يحتضنها الجبل الأزرق الكابى والسماء الزرقاء الكابية ، ولا ندرى هل هى أبنية لها هيئة البشر ، أم بشر ولهم سيماء الأبنية ، إنهم ينتظرون فى حذر متوجس حدثا ما ، إن أقل تهديد سوف يجعلهم يختفون فى الجبل ، حيث يبدو الإيهام بالعمق ضروريا ، والضوء الأبيض الذى ينضح بالزرقة يميزهم بالكاد عن الجبل . إن الخطوط الرأسية تعطى الأشكال قوة وصرامة ، بينما تمنحها منحنيات القباب تلك الليونة ، إن هذه الخطوط المنحنية لا تعكس حوارا تشكيليا فقط ، بل تعكس كذلك رغبة فى التحرر من أسر التشكيل الذى يفرضه القانون الهندسى الصارم ، بينما يبدو الجبل فى الخلفية وهو يقاوم تفجر تلك الكتلة وتمردها على الحيز ، وعلى الوصاية والحماية. - والآن - فى لوحاته الأخيرة - سنلحظ أن مساحة الكتلة قد ازدادت بشكل ملفت للمتابع لآعمال عز الدين نجيب ، وتكاد تحتل كل مساحة اللوحة ، حيث المنطقة الخطرة التى لا تحتاج إلى موهبة فائقة فقط ، ولكم أيضا إلى شجاعة ومكابدة ، فلا فراغ يحاور الكتلة ، وليس أمامها إلا أن تتحاور مع نفسها .. مع داخلها ، مع منطق بنائها ذاته .. (واعتقد أن هذه محاولة للتغلب على قوة حضور الاطار الذى يفرض وجوده على أكبر اللوحات حجما) .. هل يريد الفنان أن يقول إن الكتلة لا تتحرر من خلال علاقتها بغيرها؟ ... أم أنه يريد لها أن تقاوم العاصفة فتزداد ثقلا ؟... ربما اكتشف نجيب أن تحرر (الكتلة - الإنسان) لا يأتى بأن تقذف بنفسها فى الفراغ ، ولكن من خلال تحررها الذاتى ، بأن تحل تناقضاتها الذاتية.
- إن الكتلة تبدو أحيانا كصدر يتنفس بقوة ، وتبدو على وشك الانفجار ، ونكاد نحن نسمع صوت العاصفة .. العاصفة لن تأتى من الخارج ولكن من الداخل ، بما لديه من شكل مشحون بانفعال وسطح متوتر (انظر لوحة اسطورة الحجر) .
- إن سطح الكتلة عند نجيب يبدو غير مستقر بتأثير سياق عاصف يصنع خطوطها المتماوجة والحلزونية .. لايوجد انقسام فى الكتلة ، ولكن تجاويف وتشققات ، وهنا تتبدى عاطفية عز الدين نجيب وقوة انفعاله بالوجود والموجود معا ، انفعال عاصف يفصح عن نفسه ، الأمر الذى جعل البعض يتهمونه بالأدبية - حيث لا اعتذار عنها - إنهم يقصدون البلاغة الخارجة عن الإطار البصرى ، ولكن حقيقة الأمر أنه الجيشان بالعالم المرئى الذى يعبر عن نفسه فى طابع شبه غنائى ، حيث لا يقطع الشكل صلته بمصدره الطبيعى ، وهذه الصلة ليست محاكاة للمرئى ، لكن فقط إيهام به لتوكيد قوة الملامسة ، فعز الدين نجيب لا يصور الواقع ولكن يخلق تصورا له ومن خلاله.
2- البصرى - المجازى
- يبجث عز الدين نجيب عن شمولية تضم الوجود وتجلياته فى واقع محدد ، هذه الشمولية تتيح له أن يغزو وعى المتلقى من خلال قيم مجازية بمحاولة التوغل فى كشف سر التشكيل، إنه يستخدم العناصر التشكيلية ليولد منها طاقة غير محدودة ، أو ما يمكن تسميته بالطاقة التوليدية ، إنها علاقة مستمرة ومتبادلة بين الذات والموضوع ، واللوحة توفر إمكانات التفكير والفهم لعدد كبير من الاهتمامات بسبب كثافتها الدلالية ( لوحة : حوار الصخور) والصورة تتحدد للوهلة الأولى فى علاقتها بالواقع كناتج إدراك موضوعى يعطى نسقا من المعطيات الحسية ولكن بشكل متحرك ، بسبب اجتياحها بواسطة الوعى ، هذا الوعى بشئ ما ، وعند ` هوسيرل` حين يتم وعى الأشياء فإنها تنتظم فى الذهن وتترتب ، فإذا كان الواقع معياريا فإن المجاز يساهم فى هيكلة الشكل وتحويره ، ويلعب المجاز دورا هاما فى استقطاب المرئى لحالة ذهنية وهو الذى يتيح للمتلقى إمكانية استنطاق الصورة والتحاور معها ، إن الكثافة ! كما يقول مولر - هى قوة الشكل ، وهكذا يساهم المجاز فى توسيع مجال المرئى وإضفاء صورة جديدة علية ، وهكذا يدخل الشكل ويتحرك داخل ثقافة ويصبح حقلا لاكتشاف معرفة جمالية ، ويخلق لدى المتفرج شعورا بالاستجابة إذا لامست انساقه الدلالية طاقة التأويل فى اللوحة ، إنه مجاز يعانق التشكيل فالتحام الخط واللون يؤدى إلى أن يراكم كل منهما الآخر ( لوحة : ذوبان الجبال ، ولوحة شاطئ عجيبة) حيث يحرك الخط طاقة اللون فتأخذ شكل التموجات الحلزونية والاغفاءات المطردة ، التى تمنحها قوة عضوية لها خاصية الانتشار ، وهذا الانتشار لا يأتى من بؤرة أو مركز وإنما يأتى من اللانهائى.
- وهنا ندرك معنى اقتصاده فى الاستخدامات اللونية واعتماده أحيانا على تنويعات اللون الواحد ، حيث يبدأ من شفافية الوهج إلى ثقل الدخان، كماندرك أيضا تنوع الملمس من لوحة إلى أخرى ، فبعض اللوحات تصل نعومة الملمس فيها إلى حد الشفافية ، بينما نشعر فى لوحات أخرى بخشونة السطح باستخدام العجائن اللونية . يتحرك المجاز عند عز الدين نجيب فى مجال منفتح (لوحة القارب والكهف) حيث يحاول القارب الانفلات من ظلمة الكهف والانطلاق إلى رحابة البحر ، وربما كان العكس ، حيث يحاول القارب أن يلوذ بالكهف من العاصفة ... وفى لوحة (عذراء الصخور) تحاول الفتاة التحول من الحالة الصخرية ، لكنها لا تخلو من حالة استسلام لها فى الوقت ذاته ، كما يتجاوز إدراك المجاز الدلالة الثقافية إلى الوعى الحدسى ، وهو فى كل الأحوال نتاج تفاعل بين مظهر ومضمر ، خلال عملية تحويل المدرك البصرى إلى طاقة متجاوزة ، وهو - فيكل الأحوال أيضا - يستهدف الانسان الذى يناضل ضد طمس ملامحه ، وبتعبير الفنان نفسه فى مقدمة معرضه عام 1984. ` إنسانى ليس جسما ... وليس رمزا ذهنيا مجردا... إنه نفس بشرى يتردد حتى فى الجماد والطين `.
وهذا هو انسان مصر الذى يعشقه عز الدين نجيب .
بقلم : سيد سعيد
( من كتاب عز الدين نجيب ( الكلمة - الريشة - الموقف
نادته الصحراء كالنداهة....
- أشهر متاهة فى التاريخ متاهة ، لا بيرنث فى الاسطورة اليونانية حيث حبس مينوس ملك كريت ديدالوس وابنه ايكاروس ، وفى محاولتهما للهرب من المتاهة صنعا أجنحة من الريش والشمع طارا بها عبر البحر وليسقط ايكاروس فى البحر بعد أن ذاب جناحاه الشمعيان ...
- وأصبحت لابيرنث أشهر متاهة .. وهروبهما أشهر هروب وعلى العكس من فكرة الهروب من المتاهة .. نجد فنانا مصريا قضى سنوات طويلة من عمره منقبا وباحثا عن متاهته الخاصة التى عثر عليها هناك فى الصحراء ... بالتحديد داخل أروقة البيوت الصحراوية .
- وعز الدين نجيب ... الفنان الذى هرب إلى متاهته الصحراوية .. صنع جناحيه من الخيال والألوان وحلق بهما عاليا عبر الصحراء حيث تلال الرمال تغيرها الريح تبعثرها وتشكلها ما بين لحظة وأخرى ولكن تظل الصحراء هى الصحراء - تماما كتاريخ عز الدين الانسانى والفنى - وخلال المتاهات الرملية ظل يطوف ويدور بريشته وألوانه منذ 14 عاما ولم يخرج ولم يكتف من متاهته ولكن أرسل إلينا بعشرات اللوحات سماها المتاهة والملاذ متخذا من بيوت سيوة نموذجا عبقريا لغايته وملاذه الجديد .
- وبوحى متاهته الصحراوية أقام عز الدين نجيب الفنان ذو البصيرة الباحثة أربعة معارض باسم ` حوار الاطلال ` 1987 .. ` حلم الصحراء ` 1992 .. ` المتاهة والملاذ ` 1994 .. ` تجليات شجرة ` 1997 .. وخامسهم معرضه الحالى بقاعة بيكاسو الزمالك باسم ` نداء الواحة `.
- وعن نداء الواحة يقول عز الدين نجيب ` بيوت سيوة المتداعية المهجورة تدعونى للدخول إليها ... وادخل من متاهة إلى متاهة ومن درب إلى درب لأجد فى ذات الوقت الحماية المفقودة ، وقد كنت أمر خلال رحلة البحث عن بداية لأى شئ وكانت الدعوة المتاهة لدخولها تماما كنداء النداهة فى ابهامه وغموضه ` وللتعرف على متاهته وملاذه فى ذلك الوقت ..
- انظر معى إلى بيوته الصحراوية أو بقاياها المتداعية .. ألا تشعر أنها تحمل بعض ملامح بشرية وأنها بيوت آدمية من لحم ودم اصابتها الشيخوخة والاهمال تئن تحت وطأة الصحراء القاسية .. ووطأة الوحدة بعد هجرة سكانها إلى البيوت الاسمنتية والتى دخلت بسكانها إلى متاهة نفسية أقسى من متاهة الصحراء .
- وقد قال الفنان : سيوة هى التجلى العبقرى الذى بزغ لى من ركام السنين مؤكدا نبل الانسان وخيانته فى الوقت ذاته `.
- فعلى قدر ما يبحث الفنان الواعى عن الجمال فى لوحاته هو أيضا يبحث عن معانى الاحداث وأسبابها ونتائجها .
- انظر معى مرة أخرى بطريقة متفحصة لتلك البيوت التى انبثقت من رحم الصحراء إلى سطحها ... ستجد أن تلك البيوت وسماءها وأرضها وعمقها الصحراوى الشاسع ليست تصويرا حرفيا لمنظر طبيعى .. وإنما هى حالة وجدانية ما بين اليقظة والمنام .. وأيضا هى تصوير لحدث درامى بطريقة شعرية وهذا ليس بغريب عنه وهو أديب له كتاباته وكتبه :
- ذهب عز الدين متعاطفا وعاشقا لتلك البيوت التى مازالت بقايا جدرانها تحتفظ فى ألفة ببقايا أنفاس ساكنيها الحارة .. فعالجها فى لوحاته وكأنه يسجل ما بعد اندثارها فبدت وكأنها آتية من زمن بعيد على أرض بعيدة غير كوكبنا الارضى حاملة بين طيات ألوانها ومعالجتها التشكيلية شحنة تعبيرية هائلة ، ففى لحظة تهاويها تبدو وكأنها تجاهد للوقوف بكبرياء .
- هذه المتاهة الجدارية والنفسية هى غاية ومبحث الفنان الذى لم يبخل بأربعة عشر عاما من عمره بين الجدران الطينية المتهاوية وقد أخذته هو وألوانه داخل دروبها المتداخلة من درب إلى درب إلى ممر إلى منحنى ليعود فى انحناءه حول البيت إلى درب آخر .. وهكذا استطاع الفنان فى لوحاته أن يأخذنا من خلال ألوانه وقدرة تصوره إلى توقع ما بالداخل .
- ونلاحظ أن ملامح جدران بيوت الصحراء بالرغم مما تحمل ملامح آدمية إلا أنها فى نفس الوقت حاملة لكل تضاريس الصحراء .. ومن المثير أنك فى لحظة تستدير فيها بوجهك عن بيوت عز الدين الصحراوية تنظر فى لمحة ثانية لتراها قلاعا بيضاء صامدة شامخة مضاءة باللون الأبيض فى انتظار مجهول قادم من ذلك الفضاء الرحب المفتوح أمامها وخلفها الملئ بالضياء والذى يسكن بعضا منه نسيجها المعمارى بفعل التوحد فى المكان ، فنرى جدرانها مضيئة بذاتها مشعة .. ووسط هذا الضياء يمكنك سماع صوت الصمت وأيضا فى نفس الوقت صوت الريح الذى تدركه بما خلفه وراءه من جدران أصابة بالارتطام .
- أن حاولت أن تدرك ما ببيوت عز الدين فى سيوة ذات الملمس الصحراوى من دراما عالية النغمة ستصل حتما إلى قيم فنية عالية من ضوء وظلال وانسجام لونى وملمس السطح وأيضا مع اللامرئى فرغم أن لوحاته بلا شخوص إلا أن الانسان الذى لم نره فى أى من لوحات وقد ذهب تائها فى الصحراء تاركا خلفه اليقين نراه حاضرا بكل أحلامه ورموزه وتلميحاته .. وذلك لأنها لوحات لا تعبر عن السطح بل تكشف ما تحت السطح. - كما أن الحركة فى اللوحة يمكننا ادراكها خلال حركة الزمن وذلك من خلال ناتج الحركة من رياح ورمال نرى آثاره على الجدران المتأكلة وقد أجاد الفنان الامساك بتلك الحركة العنيفة التى لم نعد نراها ولكن نرى نتاجها رغم الصمت المهيمن على اللوحات .. وأيضا هذا الصمت قد يكون خادعا فخلف الجدران وأمامها حالة من أبدية الصراع الصامت مسيطر على مناخ اللوحة .. فكأن هذا الهدوء المهيمن على لوحاته هو هدوء ما قبل أو بعد العاصفة .
- إن عز الدين نجيب استطاع الوصول بألوانه إلى تقديم ذلك التجمع المعمارى عبر رحلة مفتوحة بلا زمن ولا مكان ولا إنسان إنما توحى بحالة من الزهد والتصوف المكانى الساحر ويصبح بامكانك رؤية بيوته البيضاء ملونة بالأبيض ويغمرها الضوء واللون رغم التداعى .
- ورغم بياض اللوحة وصفائها الا أننا نشعر وكأننا نطل على أنفسنا فى أبسط حالاتنا الفطرية ... ولكن بالأبيض والأسود .
بقلم : فاطمة على
( من كتاب عز الدين نجيب ( الكلمة - الريشة - الموقف

- لا يمكن أن تخطىء العين هوية الفنان أمام أعماله .. مصرى لامجال للتساؤل .. هذا هو الأستاذ عز الدين نجيب .. مشواره جزء لا يتجزأ من شخصيته الأصيلة الوطنية .. مشوار حافل بالفن والكتابة .. أسهم خلاله بتقديم العديد من الإسهامات للحركة الثقافية المصرية والعربية..
- للوحات الفنان عز الدين نجيب رونق خاص .. سطوح تعبيرية تشخيصية تيماتها الهوية وشخوصها رجال وسيدات وأبناء وبنات جميعهم مصريين تحتضنهم بيئة وظفها الفنان بوعى وفهم للثقافة الشعبية المصرية .. عالم مهموم بحياتهم وقضاياهم وأحلامهم ومعاناتهم .. حالة إبداعية متسقة تماماً مع قناعاته وأفكاره .. حالة من الإخلاص والإيمان بالرسالة .. امتدت إلى التأليف .. وتفرعت إلى الدعوة إلى حماية الحرف التراثية والتقليدية المصرية كجزء أصيل من المخزون الحضارى والثقافى المصرى ..
- تجربة ثرية ومدهشة وغنية بالتفاصيل والمحطات المهمة التى تحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث .. معرض هام يحتفى بمسيرة الفنان القدير عز الدين نجيب الذى أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات النقدية والتأريخية للحركة الفنية .. وإطلالة ممتعة بصرياً لإبداعاته المتميزة والمتفردة.

بقلم : أ.د خالد سرور
من كتالوج العيش والحلم مارس 2018
أعماله الفنية والإبداعية محملة بشجون وهموم الإنسان والوطن
- يشغلنى دائماً البحث عن الجذور وولادة الحلم من طين الأرض .
لايزال شعار `عيش .. حرية عدالة اجتماعية ` يتردد قويا فى قلوب الكثيرين من أبناء الشعب المصرى ، فقد كانت هذه الكلمات السحرية الثلاث هى الهتاف الذى رج القلوب والحناجر أثناء ثورة 25 يناير .. ولطالما ارتبط مفهوم العيش فى مصر بجوهر الحياة حيث لقمة العيش وحيث الحفاظ على الروابط والمحبة أو بمعنى آخر صون العيش والملح .. وربما لهذه الأسباب اختار الفنان عز الدين نجيب ` العيش والحلم ` عنوانا لمعرضه الذى تستضيفه قاعة الباب حاليا ويستمر حتى 24 مارس الجارى ..
لكن الفنان عز الدين نجيب حين اختار لفظة ` العيش ` اختارها بالمفهوم الأشمل ، لتخرج دلالتها عن لقمة العيش المجردة وتتسع لتشمل مفهوم الحياة .. فالعيش بفتح العين وتسكين الياء مشتقة من فعل `عاش` والتى تعنى الحياة أو كما يقول الفنان أن نحياها بهمها وبهجتها ومسؤليتها ونضال الإنسان طوال حياته .
وإذا كان الشعب المصرى قد ربط بين الخبز والحياة فأطلق لفظة عيش على أرغفة الخبز ، بما يحمله استخدام الخبز من دلالات ليس على الصعيد المجتمعى فحسب ولكن على الصعيدين الأدبى والفنى ، فإن الفنان عز الدين نجيب بدأ تجربته الفنية من منطلق التفكير فى الخبز المرادف للقمة العيش ، حيث كان العنوان المقترح فى البداية هو ` الخبز والحرية ` إلا أن ذلك العنوان كان من شأنه حصر الرؤية فى إطار أضيق من العيش والحلم . ولذا خصص الفنان أربعة لوحات لتصوير الخبز . وتصور رباعية الخبز عملية الخبيز بداية من غربلة القمح وصولا لخروج الخبز من الفرن ، وتحمل الأعمال مدلولين الأول واقعى مباشر يتعلق بصناعة الرغيف ، أما الثانى فيدل على الكفاح والنضال الذى تقوم به المرأة المصرية وهى عمود العيش وبالتالى فهى صانعة الحياة .
ومما لاشك فيه أن هناك احتفاء واضحا بالمرأة فى أعمال عز الدين نجيب على امتداد التجربة الفنية ، فهى بالنسبة له معادل لمصر يرسمهات كثيرا بينما تتردد فى أعماقه كلمات أحمد فؤاد نجم ` مصر يا امّة يا بهية يام طرحة وجلابية .. الزمن شاب وانتهى شابة هو رايح وانتى جاية ` .. فبهية هى المعادل لمصر .. وهى المرأة واهبة الحياة وهى المقاوم وهى رمز الحب والجمال .. أو ربما أحيانا تكون مستهدفة من قوى الشر .
المرأة فى أعمال نجيب هى تارة المرأة الريفية التى تجلس أمام الفرن تخبز وتصنع الحياة أو ربما هى صانعة السلال أو بائعة الفخار بما تحمله كل تلك المفردات من دلالات متأصلة فى المجتمع والثقافة الشعبية ، وتارة هى المرأة العصرية التى تحلق فى الفضاء ، وتارة ترافق الحبيب وتارة تحمل وليدها وتتطلع نحو المستقبل والأمل .
والمرأة لا تظهر محلقة سعيدة فى كل الاحوال فهى أيضا منكسرة وحزينة كما نجدها مثلا فى لوحتى `هم الصبايا ` و`صانعة الفخار` .. وقد ظهرت الآنية الفخارية أكثر من مرة فى هذا المعرض ومنها لوحة ` قمر وحليب ` و` العودة من النبع ` و `الصوامع الفخارية ` حيث يقول نجيب : الآنية الفخارية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالانسان المصرى منذ قدم التاريخ ومنذ بداية وجوده فى الحياة فقد صنع الآنية بالطين والنار من أجل أن يأكل فيها ، والطين والنار رمزين شديدى البلاغة ، والطين يذكرنا بالأرض وعلاقة الإنسان بها . كذلك فإنه بالنظر لتطور استخدام الفخار نجد أن ذلك يعكس تطوراً مجتمعيا مهما ، فبعد أن كانت الأوانى الفخارية تستخدم فى بيوت المواطن البسيط المنتج لها ، انتزعت من بيئتها وأصبحت تستخدم للزينة فى بيوت الأغنياء ، فخرجت من بيئتها لبيئة أخرى فاقدة معناها ودلالتها التى تعنى الارتباط بالجذور .. لذا وضعت المرأة فى لوحة `صانعة الفخار ` وهى تجلس حاملة هما كبيرا وحولها آنيتها الفخارية التى لا تباع .
وربما يعكس توظيف الآنية الفخارية فى أكثر من عمل جانب مهم جدا من جوانب شخصية الفنان عز الدين نجيب وهو اهتمامه بالحرف اليدوية ، وهو ليس مجرد اهتمام عابر وإنما مقترن بمشاريع مهمة وجادة للحفاظ على تلك الحرف ، حيث يعتبر هذا المجال من أهم المجالات التى اقترنت باسم الفنان عز الدين نجيب وسعى كثيرا للنهوض بها والحفاظ عليها سواء من خلال عمله داخل وزارة الثقافة التى تقلد بها العديد من المناصب ، من بينها المشرف العام على مراكز الفنون التشكيلية بما فى ذلك مركز الخزف بالفسطاط ، ومديراً عاماً للإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية ، أو من خلال العديد من المبادرات الفردية التى كان الهدف منها دعم مجال الحرف اليدوية حيث كان صاحب فكرة تأسيس جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية المعاصرة ، وكان صاحب الفضل فى إصدار موسوعة الحرف التقليدية بالقاهرة التاريخية التى أصدرت عن جمعية أصالة سبعة أجزاء حتى الأن .
ولذا فإنه لا يمكن فصل تجربة عز الدين نجيب الفنان عن المناضل والمنشط الثقافى ، فقد خرجت أعماله الفنية منذ البداية محملة بشجون وهموم الإنسان والوطن واتضحت فى مجموعة كبيرة من المعارض كان من بينها `ترنيمة للصمود` (1969) و` عصفور النار` ( 1975 ) و` دوره الحياة ` (1976) ، و`حوار الأطلال ` (1987) و`المتاهة والملاذ ` (1991) ، و`حلم الصحراء ` (1995) وتجليات الشجرة ` ( 1998) ، و`نداء الواحة ` (1999) ، و `همس الحيطان` 2005 وأخيرا `فانتازيا الحجر` .
تلك الراحلة التى تبدأ فى الستينات بمعرض ` ملحمة السد ` 1964 .. حيث يقول د. عز : لوحاتى عن السد فى الستينيات كانت رمزا لمواجهة التصحر وشق شريان الخير .. وفى سنوات ما بعد الهزيمة 1967 استعرت أشجار الصبار العفية رمزا للمقاومة إذ تحيا بقطرات الندى ، كما رسمت الخيول الجريحة فى انتظار الفارس المخلص . وفى السبعينيات فى أعقاب الانفتاح الاقتصادى ورسمت أشجار عملاقة تتحول إلى مسوخ ، وبشرا يتحولون إلى أشجار ، ورسمت أطفال الشوارع عراة يواجهون قهر المجتمع بألعاب بهلوانية ويقفزون من طوق الخناجر ، وفى الثمانينيات رسمت صخور سيناء تتعملق وتتأنسن فتصبح رجالا تقاوم . وفى التسعينيات رسمت أمواج البحر تلاطم صخور الشاطئ ، وعلى امتداد عشرين عاما ما بين أواسط الثمانينيات ومنتصف العقد الأول من الألفية الثالثة ظللت أرسم أطلال بيوت الواحات وسيوة متمردة على الفناء ومستعيدة أنفاس أصحابها الراحلين فأصبحت معادلا لما تعرضت له مصر من خراب وأصبح للحيطان الصماء همس كأيقونة وبشارة للبعث .
وعن معرض ` العيش والحلم ` يقول نجيب : ككل معارضى السابقة ، يشغلنى البحث عن الجذور وولادة الحلم من طين الأرض ورمل الصحراء وهمس الحيطان ، فأى الأمل من بين طيات الظلمة وغلظة الواقع ، وأحلق بأجنحة الحب والحرية ، كما يشهد هذا المعرض عودة الإنسان بملامحه الطبيعية ، بعد أن كنت فى معارضى الأخيرة أستعيض عنها باستشعار أنفاس هذا الإنسان وهمساته عبر الصخور والجدران ، فقد شعرت بحنين قوى إلى أن تلمس فرشاتى هذه الملامح الإنسانية ، وإلى استدعاء صور واقعية عايشتها فى الماضى ، فأستيعد معها رحيق العيش فى أماكن منسية فى القرى والواحات والصحارى .. وكم بحثت فيها سابقاً عن عبقرية المكان .
ويضيف نجيب : اليوم أحاول فتح الصناديق المتورية لحياىة الناس ، بكفاحهم من أجل العيش ، وبأحلامهم الصغيرة والكبيرة وبخوفهم من المجهول ، فأراهم بعين الحلم والخيال وبثقافتهم الممتدة ورموزهم السحرية ، وأحلق معهم نحو واقعية بلا ضفاف ، لا تتخلى عن مسايرة الحداثة والتقدم ، فهاتان الكلمتان (الحداثة والتقدم ) تحملان قيماً إنسانية ، تتجاوز الأشكال والأساليب إلى جوهر المعانى الكبرى حول الإنسان والعصر ، وبدون هذا التفاعل تظل الحداثة مجرد أشكال فارغة معزولة عن الناس ، منقطعة عن الواقع والحياة ` ويعلق د. خالد سرور على معرض ` العيش والحلم ` قائلا: لا يمكن أن تخطئ العين هوية الفنان أمام أعماله .. مصرى لا مجال للتساؤل .. هذا هو الاستاذ عز الدين نجيب .. مشواره جزء لا يتجزء عن شخصيته الأصلية الوطنية .. مشوار حافل بالفن والكتابة .. أسهم خلاله بتقديم العديد من الاسهامات للحركة الثقافية المصرية والعربية .. للوحاته رونق خاص .. سطوح تعبيرية تشخيصية تيماتها الهوية وشخوصها رجال وسيدات وأبناء وبنات جميعهم مصريون تحتضنهم بيئة وظفها الفنان بوعى وفهم للثقافة الشعبية المصرية .. عالم مهموم بحياتهم وقضاياهم وأحلامهم ومعاناتهم .
والملاحظ أن أعمال المعرض ــ وهو المعرض الأول الذى يقيمه بعد المعرض الاستيعادى الذى استضافته قاعات أتيلية القاهرة عام 2015 احتفالا بالعيد الماسى أو ببلوغه الخامسة والسبعين تحت عنوان ` أشجار ووعود ` ــ تعكس تلك الجدلية المستمرة التى تعيش داخل وجدان هذا الفنان المناضل .. بين قهر الحياة وصعوبتها والشعور باليأس والاحباط ومقاومة الظروف المحيطة فى رحلة كانت مليئة بالأشواك كان من بينها دخوله السجون والمعتقلات أكثر من مرة فى قضايا فكرية تلك التجربة التى قدمها فى عدة كتب منها ` مواسم السجن والأزهار ` و ` المثقف والسلطة 97 ` ، وكتابه رسوم الزنزانة 20 ` عن الهيئة العامة لقصور الثقافة .. وبين الأمل والتفاؤل والطموح والحلم بغد أفضل .
إنها الحالة التى كتب عنها حامد ندا فى 1983 قائلا ` عالم عز الدين نجيب هائم فى دروب القلق فأحاسيسه تمتلئ نبضا وحياته ظاهرها ناعم طرى ، وباطنها صلب خشن ... مضيفا أن واقع العالم الذى يعيش فيه عز الدين نجيب ليس واقعا مألوفا كما يظهر للمشاهد العادى وإنما هو لغة الاستعارة عن حقيقة سيكولوجية مؤكدة تنفجر فى جو من الضغط العاطفى الاجتماعى . إنها سلوك جماعى ووجدانية فردية .
ولذا فإن أعمال معرض ` العيش والحلم ` تنوعت بين مشاهد الحياة بصعوبتها وبين الأمل كما هو الحال فى وجدان الفنان فخرجت بين ` انطلاق` و`حلم الوليد ` الذى يحبو بجوار أمه متطلعا للجواد الأبيض البعيد ، و` اكتشاف عالم جديد ` حيث يخطو الطفل خطواته الأولى عاريا وصاعدا إلى أعلى .. وقد استخدم عز الدين نجيب الطفل ليصبح أيقونه هذا الحلم لا سيما الطفل الوليد الذى أضحى رمزا للخير والبشارة بالأمل القادم .
كما تضمنت اللوحات لوحة ` الطير المسافر ` الذى تتطلع فيها الفتاة إلى الطير الأبيض فى الأفق بينما يطير الهواء شعرها لينقل لنا شعورا بالحرية والحياة والأمل ، وكذلك ` طيف فوق الدرب ` الذى تحلق فيه المرأة بثوبها الأبيض فوق البيوت .
أما الجانب المظلم الملئ بالإحباط فقد ظهر فى عدت لوحات أخرى من بينها `هم الصبايا ` وغيرها من اللوحات التى تحدثنا عنها وعلى رأسها ` أحفاد سيزيف ` مذكرة إينا بأسطورة سيزيف الذى كتب عليه القدر الشقاء طوال حياته وقد قدم نجيب فى لوحته اثنين من العمال المصريين البسطاء بملابسهم وعمامتهم يحملون أحجارا ضخمة ، حيث يظل المواطن البسيط فى دائرة القسوة والبحث عن لقمة العيش بدون وقف للشقاء منذ فجر التاريخ .
وقد رمز نجيب لحياة الإنسان المصرى بأكثر من مفردة ومن بينها رغيف الخبز والآنية الفخارية وكذلك قدرة الفنان .. ففى لوحة ` وجبة الإفطار ` يستخدم قدرة الفول رمزا للفقراء فلا تخلو مائدة المصريين منه .. ولهذه اللوحة حكاية طريفه يرويها نجيب قائلا : رسمت هذه اللوحة فى معالجة مختلفة سنة 76 واختفت مع تعرض مرسمى فى المسافر خانة والتدمير آنذاك ، وإذا بى افاجئ منذ بضعة شهور قليلة بأحد تجار اللوحات يعرض على شرائها بمبلغ ضخم ، ورغم سخرية الموقف الإ أننى ممتن له جدا أن أرسل لى صورة العمل ليذكر بها وأقدمها فى صياغة مختلفة بعد مرور كل تلك الأعوام .
ربما تخلو لوحات قليلة ومنها لوحة ` وجبة الإفطار ` من العنصر الإنسانى ، إلا أن العنصر البشرى يحتل بطولة الغالبية العظمى من أعمال معرض ` العيش والحلم ` يقول عز الدين نجيب عن ذلك : فى هذا المعرض يعود الإنسان بملاحه المادية إلى أغلب اللوحات ، بعد أن غابت عن معارضى السابقة - قليلاً ـ حتى الثمانينيات ، كنت خلالها أستعيض عن هذ الملامح باستشعار أنفاس هذا الإنسان وهمساته بين الصخور والجدران .. أشعر اليوم بحنين قوى إلى أن تلتمس فرشاتى هذه الملامح الانسانية ، وإلى استدعاء صور واقعية عايشتها فى الماضى البعيد ، فأستعيد معها رحيق العيش فى أماكن منسيه فى القرى والواحات والصحارى طالما بحثت فيها عن عبقرية المكان .. اليوم أحاول فتح الصناديق المطوية لحياة الناس بهموم عيشهم وأحلامهم الصغيرة ، فأراهم بعين الحلم والخيال عبر ثقافتهم الممتدة ورموزهم السحرية ، وأحلق معهم نحو واقعية بلا ضفاف ، بعيداً عن صفة الرجعية وعدم مسايرة الحداثة والتقدم ، فهاتان الكلمتان تحملان قيما إنسانية تتجاوز الأشكال والأساليب إلى جوهر المعانى الكلية فى تعامله مع الإنسان والعصر ، وبدون هذا التفاعل تظل أشكالا جوهرية معزولة عن الناس منقطعة عن الواقع والحياة ، إلا من خلال المتاحف وقاعات النخبة وبطون الكتب .
لكن الاحتفاء بالحياة فى أعمال نجيب لا يتوقف عند الانسان .فتجربته الفنية أنشودة فى محبة الحياة وتسجيل نبضها ، فقد احتفى بالطبيعة وبالكائنات الحية التى كثيرا ما خرجت لتتضفر مع الانسان أو ترافقة كما هو الحال فى كثير من أعمال هذا المعرض وربما كان الجواد واحدا من المفردات المتكررة فى أعماله ، فهو رمز النبل والفروسية والشهامة ، وكثيرا ما يرتبط بنهضة الوطن ، ففى أعقاب نكسة 67 قدم الفنان لوحة سقط فيها الفارس وانكسر ولكن الحصان ينهض وكأنه بذلك يشد الفارس ويستنهضه ، كذلك فإن الحصان ظهر فى لوحة ` فرس السندباد ` التى قدمها نجيب فى معرضه الحالى رفيقا للحبيبن ووسيلتهم للخروج والانطلاق بديلا عن بساط الريح ..
وعلى الصعيد الآخر وظف الفنان عز الدين نجيب الطائر رمزا مرادفا للحرية والانطلاق ، حتى أن المرأة أحيانا تكون هى الطائر المحلق لرغبتها فى تجاوز الواقع ، فليس هناك حواجز فى الفضاء ` الطير المسافر ` تتطلع الفتاة إلى الطير الأبيض فاردا جناحيه ، حيث يقول الفنان : كانت اللوحة فى اختزلت السرب فى طائر واحد لأن السرب سيظل سربا لكن الطائر الواحد سيتحول قرينا للفتاه .
وبخلاف الطير والجواد تنوعت الكائنات التى ظهرت فى أعمال نجيب ، ففى اللوحة التى تصدرت غلاف كتالوج المعرض ` قمر وحليب ` ظهر التمساح جليا فى خلفية اللوحة يقول الفنان : تحتل المرأة بطولة هذا العمل وهى رمز الخير وصاحبة الدار تحمل بكرمها وعاء اللبن للضيوف بينما تحمل القمر بيدها الاخرى ، وفى الخلفية يظهر البيت النوبى بزخارفه الممتدة أما التمساح فمن المعروف أنهم كانوا بالفعل يضعون تمساحا محنطا على الأبواب قديما ، والتمساح رمز ممتد من المصرى القديم ، فقد كان المصرى يلجأ للسيطرة على رموز الشر بتقديسها .. والتمساح هو رمز للغدر .
إن رحلة الفنان عز الدين نجيب رحلة ثرية .. سمتها الأساسية هى الصدق ، لذا يمكن التعرف على ملامح رحلته الفنية والإنسانية من خلال كل تجربة يقدمها سواء كانت معرضا تشكيليا أو كتابا نقديا أو مجموعة قصصية ، حيث يأتى هذا المعرض بعد فترة وجيزة من صدور كتاب ` عز الدين نجيب ` الصادر فى مايقرب من 320 صفحة من القطع الكبيرة ، عن جاليرى ضى الذى أسسه ويديره هشام قنديل ، وبدعم من الشيخ طلال الزاهد الذى يكن تقديرا خاصا للفنان عز الدين نجيب .
خرج الكتاب فى طبعة فاخرة وتضمن عددا كبيرا من اللوحات التى أنتجها عز الدين نجيب فى مشواره الفنى بما فى ذلك الأبيض والأسود ورسوم الزنزانة .
وقد كتب هشام قنديل فى تقديمه للكتاب : لقد أبدع عز الدين نجيب فى تكوين مساحة ، بل ساحة فنية كبرى لها لوحاتها ، وقصائدها .. خيال مبدع وروح فياضة بثراء الأركان والأشكال على حدة .
ويتضمن الكتاب عددا من المقالات النقدية التى تتناول رحلته الفنية بأقلام كبار الفنانين والنقاد من بينهم على سبيل المثال لا الحصر محمود بقشيش ، وفاطمة على ، وحسين بيكار ، ومختار العطار ، وصلاح بيصار ومصطفى عبد العاطى وأبو بكر النوواى وكذلك محمود أمين العالم وجمال الغيطانى مع حفظ الألقاب .
ولعل واحد من تلك النصوص التى توقفت عندها كثيرا مجموعة الرسائل التى كتبها د. رضا شحاته أبو المجد لعز الدين نجيب ، والتى قيل عنها فى الكتاب : كانت هذه الرسائل عبارة عن نصوص نشرها على الفيس بوك فى يناير 2001 وهو مقيم بالكويت لسنوات طويلة معارا للتدريس بكلية التربية الفنية ، دون أن يكون هناك أى اتصال بينه وبين الفنان مصادفه بعد عدة سنوات وكأن كاتبها لم يهدف لشئ إلا للإفصاح عن مكنون ذاته لاغير .
تضمن الكتاب عشر رسائل ، الرسالة الأولى : عز الدين نجيب الإنسان ، الرسالة الثانية : شهادة حية عن عز الدين نجيب ، الإنسان ، الرسالة الثالثة : عز الدين نجيب كواحد من جيل الستينات ، الرسالة الرابعة : الكتابة كفعل مقاومة عند عز الدين نجيب ، الرسالة الخامسة : الناقد الكاتب عز الدين نجيب ، الرسالة السادسة : روح الصحراء فى لوحات عز الدين نجيب ، الرسالة السابعة : البيت أو الكون الصغير فى لوحات عز الدين نجيب ، الرسالة الثامنة : المكان .. الخيال .. الذاكرة فى عز الدين نجيب ، الرسالة التاسعة : التشكيل بالنور فى لوحات عز الدين نجيب، والرسالة العاشرة : الصمت وأصدقاء المكان فى لوحات عز الدين نجيب .
يعلق د. رضا شحاتة عن تلك الرسائل قائلا : إننى أكتب عن تجربة شديدة الثراء وعن انسياب مفعم بالوطنية والحرية .. أكتب عن رحلة عبور عز الدين نجيب للصحراء ، هذا الرجل الحى الذى ترك أثناء العبور ما يستوجب التذكار .. ثم يقول فى موضع آخر أكتب عنه لأنه ناقد هام هو الأكثر أصالة والأكثر جسارة والأكثر تفردا .
ربما يميز هذا الكتاب بخلاف تلك اللوحات الرائعة التى تضمنها ، تعريف القارئ بعز الدين نجيب على كل المستويات ليس بوصفه فنانا فحسب ولكن بوصفه كاتبا للقصة وناقدا تشكيليا ومحركا ثقافيا وباحثا فى التراث . كما يضم الكتاب سيرة ذاتية مرتبة زمنيا منذ ولادته فى 30 إبريل عام 1940 والتحاقه بكلية الفنون الجميلة عام 1958، وهو نفس العام الذى بدأ فيه نشر أولى قصصه فى جريدة المساء ثم التحاقه بمراسم الأقصر عام 1962 والتى تعرف من خلالها على جذور الحضارة المصرية ، وعمله بقصر ثقافة الأنفوشى بالأسكندرية عام 1963 ، ورحلته مع قصور الثقافة حيث أسس قصر الثقافة فى كفر الشيخ وعين مديرا له ، كما عين مديرا لقصر المسافر خانة ومراسم الفنانين بحى الجمالية فى عام 1968 ، وفى عام 1980 أسس مركز الجرافيك بوكالة الغورى ، وفى 1992 أسس مجمع الفنون بمدينة 15 مايو وعين مديرا له ، وعام 1995 انتخب رئيسا لمجلس إدراة أتيليه القاهرة ، كما كان قد أسس فى عام 1992 الإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية بوزارة الثقافة وعام 2000 صدر قرار وزير الثقافة بتعيينه رئيسا للادارة المركزية لمراكز الانتاج الفنى قبل إحالته للمعاش .
وككاتبا للقصة يذكر الكتاب أن نجيب بدأ فى نشر إنتاجه القصصى بالصحف منذ عام 1958 ، وشارك فى عام 1960 فى المجموعة القصصية ` عيش وملح ` مع خمسة من الأدباء الشبان ، وفى عام 1962 فاز بثلاث جوائز فى القصة من المجلس الأعلى للفنون والآداب فى مسابقة الأدباء الشبان ، وقد صدرت له أربع مجموعات قصصية ` أيام العز ` 1962 ، و` المثلث الفيروزى ` عن الهيئة العامة للكتاب عام 1986 وكتب لها المقدمة يحى حقى ، و` أغنية الدمية ` عام 1975 ، و` نقطة صغيرة قرب السماء ` عام 2016 ، كما صدرت له رواية ` نداء الواحة ` له عام 2016 .
أما كفنان تشكيلى فقد أقام 31 معرضا خاصا (1964ــ 2015) بخلاف مشاركته فى عشرات المعارض الجماعية والمعارض الخارجية فى مختلف دول العالم . وبوصفه ناقدا تشكيليا أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب منها على سبيل المثال لا الحصر : أنشودة الحجر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1999 . وفنانون وشهداء عن مركز القاهرة لدرسات حقوق الانسان (2000) والإبداع والثورة ــ الفنان حامد عويس عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (2002) ، وفنان وعصر الفنان محمود بقشيش عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ، 2007 وموسوعة الفنون التشكيلية (3أجزاء ) دار نهضة مصر ، 2008 ، والنار والرماد فى الحركة التشكيلية المصرية الصادر `عن المجلس الأعلى للثقافة ،2010 و`جميل شفيق .. بين الحلم والأسطورة ` عن الهيئة العامة للكتاب ، 2016 .. وغيرها ..كما رأس تحرير سلسلة فى الفترة من 2013 ــ 2014 ، أسس كتب ذاكرة الفن بالهيئة العامة للكتاب وقد حصل نجيب على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون ــ المجلس الأعلى للثقافة ،2014.
ولم أجد هناك خيراً من هذه القصيدة التى كتبها عز الدين نجيب عام 1992 لاختتم بها تلك الرحلة القصيرة فى مشواره الثرى المفعم بالتجربة والحياة والتى قال فيها :
فى بحار العواصف أرى اللوحة قاربى
أبحث عن منابع البراءة وشواطئ اليقين
لكنه بدلا من أن يحملنى إليها يدفعنى إلى قلب العاصفة
أتماسك أحيانا .. مستوحيا الرسوخ من الموروث .. ولو كان أطلالا وما أسرع ما تأخذنى العاصفة
أو التمرد إلى الشواطئ الصخرية أتلاطم بقاربى بين أمواجها وصخورها
من موت الى موت
هأنذا
بين سكون يسبق العاصفة مبهور أن بدبيبها الزاحف وسكون يعقبها مترع بالموت والاسئلة
أقف عاريا مولودا جديدا مع كل لوحة تؤكد
أريتم ماذا أعطانى الفن ؟
أعطانى أعياد ميلاد ضد الموت
أعياد ميلاد بعدد اللوحات التى رسمتها .
منى عبد الكريم
أخبار الأدب : 18 / 3/ 2018
تجليات شجرة .. فى معرض عز الدين نجيب
- مدخل
- إن من يراجع حركة الفنون المرئية بمصر يكتشف أن هناك موقفين من `الحداثة`. أحداهما يمثله الآن فريق من منظرِّى وزارة الثقافة، ويرى هذا الفريق إن الحداثة هى آخر ما يجود به النموذج الأوربى من بِدَعْ، وعلى من يريد اللحاق بالركب أن يغترف منها قدر الطاقة، يروجون لهذا النهب بأفكار بعض ظاهرها حق، وكل باطنها باطل، مثل: فكرة العالم الذى تحول بسحر علم الاتصال إلى قرية، وفكرة وحدة الإنسان وفعله فى كل زمان ومكان، متجاهلين الخصوصية التى تميز الثقافات القومية المختلفة. ولقد أتيح لهذا الفريق، من الإداراة الثقافية الجديدة، أن يشرف على هواة للفن من الشباب، وأن يلقنهم رؤيته للحداثة.. لهذا لم يجد هؤلاء الشباب المشاركون فى المسابقة السنوية للصالون، بداً من أن ينقلوا نقلاً عن الدوريات الفنية الأوربية، وتجزل لهم الوزارة العطاء (بلغت قيمة جائزة البينالى الأخير أربعون ألفاً من الجنيهات، فى الوقت الذى تجمدت أكبر جائزة رسمية وهى جائزة الدولة التقديرية عند الخمسة آلاف) .. أما الموقف الآخر من الحداثة فيتمثل فى إنجازات عدد من المبدعين، فى مقدمتهم المثال محمود مختار والمثال محمود مرسى والمثال أحمد عبد الوهاب والمثال آدم حنين, ويرى هؤلاء إن الحداثة يمكن استنباتها من الموروث، وهى لا تتخالف معه فى الجذر العميق، بحكم صلة `الجينات` الحضارية لجسد الأمة وتاريخها. قَدّم محمود مختار إنجازات رائعة استلهمت الموروث النحتى المصرى القديم، وسار على نهجه محمود مرسى وقدّم رائعته الجرانيتية `السمكة` التى أعدها أكثر بلاغة وعمقاً من طائر برانكوزى، وقَدّم أحمد عبد الوهاب وآدم حنين ما يدل على انتماءٍ إلى جذر أصيل، هو الموروث المصرى القديم..
- وأخيراً يؤكد الفنان والناقد عز الدين نجيب بمعرضه الذى أقامة بالمركز المصرى للتعاون الثقافى الدولى والذى أطلق عليه عنوان `تجليات شجرة` انتماءه إلى الموقف الثانى.
- المعرض
- تمثل الشجرة التى تجلّت فى معرضه الركيزة المحورية، وهى شجرة تاريخية، بمعنى: تناسلها من الرسوم والمخطوطات العربية والمنمنمات الإسلامية، والرسوم الجدرانية فى المقابر المصرية القديمة، وهى لم تنحصر فى حدود معرضه الأخير، بل تمددت خارجه إلى معارض سابقة، وهى فى كل الأحوال، مفعمة بالإشارات والرموز الدالة على موقف الفنان الشخصى من واقعه الاجتماعى والسياسى.. بل والجمالى أيضاً, وهى لم تفاجئنا بحضورها إلى معرضه الأخير، بل فاجئتنا بالمصادر التى جاءت منها، فاللمرة الأولى يستحضرها الفنان من ذاكرة التاريخ.. ورغم ذلك فإننى أزعم أنه مهّد لهذا الظهور منذ أكثر من ثلاثة عقود، وبالتحديد سنة 1962 عندما قدَّم مشروع تخرجه فى قسم التصوير والذى استلهمه من رواية `الأرض` لعبد الرحمن الشرقاوى, وكانت الأرض فى لوحات ذلك المشروع مسرحاً للفلاح والشجرة واحتفالاً بقيمة العمل، وانحيازاً، استمر، للفئات الدنيا فى المجتمع المصرى، وقد تنوعت أشكال الشجرة منذ ذلك التاريخ بتنوع الرموز والإشارات التى تحملها والتى تنوب بها عن موقف الفنان الفعلى؛ ففى لوحة `مواجهة` التى أنجزها سنة 1974 ألبس الصبار أعضاءً بشرية، وجعله منتصباً شامخاً، تحت شمسٍ متفجرة، وخلفية صارمة، وفى لوحة `فى انتظار الوليد` جعل الشجرة شاهداً على مولد طفل، وبدت فى انتصابها الشامخ متحدية مجهولاً، وقد عبَّر عز الدين نجيب عن هذا بقوله: (كانت الشجرة آنذاك - يقصد السبعينيات - المكتوية بالألم والضياع تجسِّيداً للتماسك والصبر والإرادة والمقاومة).. إذا كان هذا هو قَدَر الشجرة فى السبعينيات وقَدَر الفنان فى ذات الوقت، فقد تبَدل كل هذا فى المعرض الأخير، فقد خلعت الشجرة أردية العنف وليست أردية الغناء والبهجة، ولأول مرة يُغَلبِّ عز الدين نجيب فى لوحاته الخطوط اللينة، سواء كانت تلك الخطوط وصفاً لشكل إنسانى أنثوى، أو شكل نباتى أو زخرفى مجرَد.. لكن.. لأن عز الدين نجيب ناقد لاذع الملاحظة، وقاص وروائى، فبحكم هذا التكوين تتسلل إلى اللوحات الملاحظات الناقدة للواقع المشترك، كما يحرص على أن تحمل لوحاته معانٍ يمكن قراءتها؛ ففى لوحة ` وليمة الغربان` - على سبيل المثال - (والعنوان يُفسرِّ اللوحة) واللوحة تعرِّى معانيها للمتلقى وتبدو تابعة لنصٍ غير مرئى. تُصور اللوحة شجرة مثقلة بالثمار، تتسابق عليها الغربان، ويذكرنا هذا المشهد بنظائر له فى الواقع الفعلى لا نرضى عنها، ويحاول الفنان أن يجدَد من صياغة الصورة الشعبية عن آدم وحواء، فألبس حواء قناع `القرين` المصرى القديم، وفاجأنا بقردٍ، واقعى النسب، يتقافز على أفرع الشجرة، ويوجَه عز الدين نجيب النقد، من جديد، عبر وسيطه الغربان، كما فى لوحة `مجلس الغربان` وعلى الرغم من أنه بهذه اللوحة استعارات مشهدية من لوحة `أوزميدوم` المتحفية، فإن حضور عز الدين الناقد كان قويا فى هذه اللوحة، كما كان حاضراً فى لوحة `شجرة التفاح` حيث استحضر `حواء` من الرسوم المصرية القديمة، وجعلها تلتقط، نيابة عن ادم ثمار التفاح المتألقة على شجرةٍ استحضرها من المنمنمات الإسلامية، يخالف عز الدين نجيب بهذا التكوين كل ما ترسب فى الذاكرة الجمعية عن حكاية خروج آدم من الجنة، بينما الذى يشرع، هذه المرة، فى التقاطها هو حواء، ولم يكتف بالإمساك بهذه المفارقة بل أضاف إليها تحديداً لأصل حواء؛ فهى فى لوحته مصرية خالصة تركت مكانها على المعبد لتستقر على سطح لوحة عز الدين نجيب!
بقلم : محمود بقشيش
مجلة: إبداع ( 6 ، 7 ) يونيو 1997
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث