`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمود محمد بقشيش
محمود بقشيش ... ناقد بريشة فنان
تجليات فى نقد الفنون التشكيلة هو عنوان الكتاب الذى أصدره المجلس الأعلى للثقافة منذ سنوات ويضم بين دفتيه مجموعة من المقالات للفنان التشكيلى والناقد محمود بقشيش الذى بدأ كتابه بمقدمة نفى فيها عنه القيام بتجميع مقالات تدور حول إبداعات فنانين أو سيرتهم الذاتية فهو لا يسير فى هذا الإتجاه وإنما تتضمن مقالاته انحيازات وتوجهات ومعارك صريحة لا تنحاز إلا للعقل وتجلياته .
وقبل أن نستعرض الكتاب يجب علينا التعرف عن قرب على المؤلف فقد ولد محمود محمد شطا بقشيش بكفر الزيات عام 1938 وحصل على بكالوريوس فنون جميلة قسم التصوير عام 1963 وبدأت مشاركته فى الحركة التشكيلية المصرية قبل تخرجه بعام وشارك فى معظم المعارض المصرية بالخارج وداخل مصر ونال أول جائزة للدولة فى الرسم سنة 1987 وحصل على جائزة التحكيم فى الرسم فى بينالى القاهرة الدولى الرابع واشترك فى تحكيم ترينالى الجرافيك الدولى الأول بالقاهرة وشارك فى لجان التحكيم فى عدد من دورات صالون الشباب وله العديد من الكتابات النقدية فى مقالات بالصحف والمجلات وصدرت له 4 كتب فى النقد الفنى وله كتب أخرى تحت الطبع .
والمقالات التى يتضمنها كتاب ` تجليات فى نقد الفنون التشكيلية ` تتصل بأعمال العديد من رموز الفن التشكيلى وهم ( بيكار - عبد العزيز درويش - فؤاد كامل - حامد ندا - حامد عبدالله - محمد صبرى - حامد الشيخ - شديد - صفوت عباس - يوسف عبدلكى - فازاريللى - كاندنسكى - بالينت - تحية حليم - محمود موسى - صبحى جرجس - حسام غريبة - العلاوى - ثيوبالدين - جيوبومو دورو ) .
كما يتعرض الكتاب لبعض الفعاليات الفنية ومنها ترينالى براتسلافا للفن الفطرى وعرس الخط العربى كما يتناول مصطلح التصوير بين الأصل والملتبس .
وقبل أن يصل القارئ إلى مقالات الناقد محمود بقشيش فإنه يقرأ آراء نخبة من الفنانين والنقاد عنه ومنهم حسين بيكار وكمال الجويلى ونعيم عطية ومختار العطار وصبحى الشارونى وعز الدين نجيب ومحسن عطية وفاطمة على وسيد خميس وفاروق وهبة ومجدى يوسف وأسامة عرابى وصلاح بيصار وقد أجمع هؤلاء على ان محمود بقشيش جمع بين الناقد والفنان وأنه يبحث عن ملامح قومية وأنه تحرر من أسر المصطلح الأوروبى لوعيه الشديد بأزمة النقد التشكيلى وعلاقته بالجمهور وأن إبداعاته وكتاباته دعوة متصلة للتحرر وأنه من أبرز مؤسسى الحركة الثالثة للنقد المصرى الحديث وأنه يكتب كما يرسم - مبدعا - فى الحالتين .
المتصفح للمقالات الواردة فى الكتاب يكتشف المعارك التى يقودها مؤلف الكتاب فمثلا فى مقاله حول وجه الإنسان عند بيكار يقول : إن لوحة البورتريه فى تقديره ترتبط بمشتر محدد هو نفسه النموذج المرسوم وهذا النموذج المشترى له شروط لا مفر من تلبيتها والتى قد يكون من بينها التدخل فى الأسلوب الفنى للفنان .
إذن نحن أمام ناقد وفنان يقدس حرية الفنان الذى لا يجب أن يكون فنه حسب الطلب !.
وفى مقالة بعنوان ` المصور عبد العزيز درويش وانعاش الذاكرة الفنية ` نجد محمود بقشيش يعيب على الذاكرة التى تتناسى فنانا بمثل قامة عبد العزيز درويش لدرجة أن متحف الفن الحديث لا يضم من روائع الفنان الراحل إلا أقلها شأنا ومع ذلك فهو حبيس المخازن! .
كما أنه عندما يقول إن درويش يختلف اختلافا جوهريا مع رسامى الصورة الشخصية فى مصر فإنه يفتقدهم لأنهم يحرصون على إخفاء عيوب الأشخاص ويظهرون فقط المزايا التى يجب أن يراها الشخص المرسوم فى نفسه .
أما مقاله حول ` فؤاد كامل والرومانسية الجديدة ` فإن محمود بقشيش يعترف بأن مشاعر الإعجاب والحسرة تتداخل فى نسيج معقد عندما يكون فى رحاب معرض مصرى كبير مثل المعرض العام فالإعجاب نابع مما يراه ويمثل درجة ما من انتصار جهود جماعات الحقبة الرابعة من الفنانين وبالذات جماعة الفن والحرية ودعوتها الحرة إلى الإتصال بإنجازات الحضارة الاوروبية لكنه لا ينكر شعوره بالحسرة لأن المتحقق من إنجازات الأحياء من الفنانين يخلو من فضائل البدايات الثورية حرارة البوح والتحدى والإصرار على التغيير .
قس على ذلك آراءه النقدية اللاذعة التى لا تجامل ولا تتوارى خلف كلمات المجاملة ، فهو ناقد يريد أن يرى كل شئ كما يجب أن يكون وهو يرى اننا يجب أن نكون أنفسنا وفى كل مقال يتضمنه الكتاب فكرة وهدف ورأى وتجليات لا يمكن لنا أن نلخصها فى سطور وإنم يجب أن نقرأها فى هذا الكتاب الذى صاغه مؤلفه وكأنه يرسم لوحة أو ينحت تمثالا أو يعزف لحنا جميلا بلغة راقية بسيطة ولا يغنى أى تلخيص عن قراءة الكتاب الشيق الذى يضيف إلى المكتبة العربية مؤلفا رائعاًَ .
نجوى العشرى
جريدة القاهرة 2013

دائم الأسئلة والبحث ليس كفنان بل كمفكر نخبوى وفلسفى ، متأمل في الحداثة والدين يستمع إلى القرآن مبحراً في التشكيل والتركيب اللغوي ، الفن عنده مرتبط بالسياسة وانحيازه للطبقات المقهورة ، يرفض الظلم الاجتماعي ليس بالكلام وإنما بما يقدمه من خط وموقف واهتمامه الكلي بالثقافة والفن - يستخدم العقل أثناء الضرورة ويترك الداخل ينساب على المسطح - يتأمل حدوث أشياء كثيرة بتفكير منطقي واحترامه الكامل للعلم - روحه منطلقة بدون حسابات، يتجاوز الذات عن طريق الروح والحدس، رؤيته لا تعتمد على العالم البصري وفيها انحيازات ورغم التدقيق الحر، نجد أعماله تعبير عن الذات والرؤى القادرة على التحليل - يبحث دائماً عن العالم اللامرئي ، تجسد أعماله إحساساً كونياً وميتافيزيقياً وواقعياً، تتسرب فيه أحزان الماضي ويستشرف المستقبل، لايعرف المساومة وآرائه النقدية لا تحمل غزل أو نفاق - وتأتي بعد التحليل المتشعب والمتداخل لكل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية.
يقول في مقدمة إحدى كتالوجات معارضه :
... ما أريده لنفسي هو ما أريده للآخرين.
أن يشغلنا سؤال حضاري نبحث عن هويتنا في عصر الإجتياح.
أن نكشف صيغة مستقلة، لا هي تابعة للنموذج الأوربي ولا هي ناسخة لإنجازات الموروث المصري، والعربي، بل محاورة لها ولإنجازات العالم الثالث في الفن. أملاً في تشكيل ملامح جديدة لفن قوص إنساني.
هدى يونس - زوجة الفنان

أزمة لوحات محمود بقشيش ما تزال مستمرة
بالرغم من أنه مازالت أزمة لوحات الفنان محمود بقشيش الخمس المفقودة محتدمة حتى الآن ، إلا أن هناك بوادر لانفراجها ، فبينما تؤكد زوجته هدى يونس أنها لازالت فى حيازة الجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلى ، منذ أودعها الفنان أمانه لعرض داخل مقر الجمعية ، وتقدم الدليل على صحة ذلك بأنه بالإضافة لعرض ثلاث منها فى معرض نظمته الجمعية سنة 2003، تم عرض تلك اللوحات أيضاً فى معرض الفنانون النقاد الذى أقيم بقاعة ` إبداع ` سنة 2003، وفى معرض الفن لكل اسرة بقاعة ` شاديكو ` المملوكة لعادل ثابت فى مارس 2011 وجميعها أقيمت بعد وفاته .
إلا أن كمال الجويلى رئيس الجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلى نفى ما قالته هدى يونس مؤكدا أن اللوحات لم تعرض بعد وفاة الفنان محمود بقشيش ، ومستحيل أن تكون موجودة فى مقر الجمعية ، لأن الفنان استردها قبل وفاته ، وانه حين طلبت منه السيده هدى تلك اللوحات تعاطف معها ` لأن زوجها كان صديقنا وحبيبنا ` وعرض عليها مبلغ شهرى ، وبالرغم من إصرارها على وجود تلك اللوحات أبدى استعدادة تسليمها مفتاح الجمعية للبحث عنها بنفسها .
أما الفنان عادل ثابت فأكد أن اللوحات لم تعرض فى معرض الفنانون النقاد ، وقد يكون ذكرها فى الدعوة الخاصة بالمعرض بسبب اقتراح أحد الأعضاء إمكانه توفير اللوحات ثم تراجعة عن ذلك ، وهو شئ وارد حدوثة فى اى معرض خاصة أن الدعوات يتم طبعها قبل المعرض بثلاثة أسابيع على الاقل .
مرفت عمارة
جريدة أخبار الأدب 21 /9 /2014

الفنان والناقد التشكيلى `محمود بقشيش` يقول عن منهجه فى الرسم:.. لا ادخل إلى اللوحة بخطة مسبقة، بل ادخلها بريئا كطفل.. وانتظر من سطح اللوحة الابيض النظيف - أحياناً والعشوائى - أحياناً اخرى - أن يلهمنى بموجوداتى الفنية التى لا تلبث أن تتسلل من الذاكرة مسكونة بالبحر وبالكثبان الرملية والاطلال والعمائر وأحزان الحرب والتخلف..
لقد حدد لنا الفنان فى عباراته القصيرة منهجه الإبداعى ونوع الموضوعات التى سبق أن تأثر بها فى مناسبات او أحداث أو مواقف معينة.. وهى موضوعات متنوعة مرتبطة بالبيئة المصرية وأشكال الطبيعة الصامتة والانسان يستلهم منها مفرداتها الجمالية، وانساقها الرياضية القائمة على الايقاع والتوازن والتوافق والتناغم وقد أنجز فى هذا الصدد عدداً من اللوحات الفنية فى التصوير والرسم.. غير أن نتاجه الإبداعى فى مجال فن الرسم كعمل فنى مستقل بذاته نال اهتماماً خاصاً منه منذ السبعينات حين عرض رسومه المنفذة بالقلم الرصاص بأتيليه القاهرة تحت عنوان `العودة الى البديهيات` وكان الغرض الذى حفز `محمود بقشيش على انتاجها وعرضها، هو إعادة الاحترام لتلك الخامة التى أنصرف عنها معظم الفنانون استخفافاً بامكاناتها ومحاولة اثبات اهمية صغر اللوحة وعمق الرؤية. أما الجزء الآخر من رسومه الفنية التى انجزها فى الثمانينات ة والتسعينات ومنفذة بقلم الحبر الاسود - الرابيدو جراف - تعد فى الواقع تحولاً ذا أهمية كبيرة بالنسبة لانتاج `بقشيش` كفنان نظراً لانشغاله كثيراً بالكتابات النقدية ولا يزال، وهى بلا شك تستنفد جهداً ذهنياً كبيراً من طاقة المبدع.. لكن على ما يبدو أن عزم `بقشيش` على موازنة جهده الابداعى بين الكتابة والرسم فى الآن نفسه، وبشكل متساو - يرضينا ويرضيه - مازال محل تقدير فى الوسط الفنى.. لماذا ؟، لأنه مازال أميناً مع نفسه وصادقاً فيما يكتب ويرسم بالقلم وبالحبر الاسود نفسه الذى لم يبهت لونه ويتلاشى مع مرور الوقت، لقد استطاع بحسه الواعى ان يحقق من خلال استخدامه للقلم الحبر. (الرابيدو جراف) - تفوقاً نوعياً ملحوظاً فى هذا المجال وأن يعبر باقتدار عن أفكاره ومشاعره، وأن يرسخ مع باقى زملائه من الفنانين المصريين تقليداً جديداً لفن الرسم كعمل فنى قائم بذاته، يوازى فى قيمته الفنية والتعبيرية ما للتصوير والجرافيك من القيم الابداعية نفسها. إن رسوم الفنان التى نفذها بتقنية الأسود والأبيض. وسماها: احتفاليات الأبيض والأسود وعرضها فى أكثر من مناسبة واختار لها عنوانين تشير إلى مواضعها ومضامينها الرمزية مثل: `الاطلال المنورة واضواء وحواجز ضد الضوء وغيرها..) جميعها يمكن أن نطلق عليه اصطلاح مشاهد ليلية خيالية Fantasy night scapes حيث يقدم فيها طرحاً تشكيلياً جديداً حول تصوراته الميتافيزيقية وتجلياته عن الطبيعة والواقع الحياتى من خلال ترحاله فى عالم الليل الى ما وراء الاشياء، الى ما هو ابعد من مجرد وجودها العينى الظاهرى الى المغزى الخفى والساحر فيها، حيث تحل الصور والتهيئوات الصادرة عن حلم اليقظة، او الاستغراق التأملى لمسطح اللوحة الابيض النقى - محل الإدراك الطبيعى للاشياء لدرجة يصبح فيها الحلم والخيال حقيقة.. والعكس تصبح فيها الحقيقة حلماً وخيالاً. ليس معنى هذا ان بقشيش، من نوع الفنان الحالم الذى يعتمد على اللحظات النادرة فقط ليرسم ما يمليه عليه الالهام واللاشعور أو صور الحلم الفجائية التى تتسلل من خلف الذاكرة فى تداعيات متواترة. أبدا، إنه فنان من النوع الذي يتسم بالتأمل الواعى والشفافية و العاطفية، وهذا يعنى انه قادر على إطالة حالة التأمل فى (الأبيض الرائق الصافى أو فى الأسود الحالك السواد)، واستدعاء الصور منها وتثبيت حالة الرؤية إن هى غادرته، تثبيتها فى إطار الذاكرة بحيث يستدعيها امام بصره وإخضاعها للتحليل الذهنى - الذي اعتاده كناقد - خلال العمل بالكتابة النقدية لتصبح عملا إبداعيا رائعا.. يعنى هذا انه من ناحية ليس رساما ناقلا للطبيعة - بل يستلهمها، ومن ناحية أخرى - يبجل الخيال - على العلاقة الآلية بالمشهد المرئي. إن أولى وسائل الفنان للاستلهام عن الطبيعة رؤيته لها وتأملها وتحسسها بوجدانه وتسجيلها فى عدد من الرسوم الخطية السريعة أو الدراسات المتأنية بالقلم الرصاص أو الجاف أو الحبر إن أراد ذلك للاستعانة بها فيما بعد أثناء قيامه بالعمل بعد أن يكون المشهد قد تخلص من كل تفاصيل الواقع المدرك ليحيله إلى آخر فانتازى رقيق ومعبر، لا توجد صوره إلا فى عقل ومخيلة الفنان، صور يلتقى فيها المرئى باللامرئى، والروحى بالمادى والعينى بالمجرد، والمادى بالمثالى.. فصوره التى تسللت من الذاكرة مسكونة بالبحر وبالكثبان الرملية والاطلال والعمائر الفطرية واحزان الحرب والتخلف.. لم تعد هى بعينها، لقد تبدلت وتحورت وبسطت الى حد التجريد، وصارت اشكالا ذات تعبيرات ايمائية وايحائية، `فالبيوت الصحراوية الفطرية فى سيوه والوادى الجديد حلت محلها كتل من المكعبات، كمصدات او موانع للضوء يكاد يشع من ورائها خافتاً.. والبيوت الشعبية التى تطل على مشارف العاصمة القاهرة تحولت الى شبابيك ينفلت من بين فتحاتها الضيقة الضوء الباهر ليتدفق فيها بغزارة كالينابيع الجبلية.. لقد تحولت اللوحة الى فضاء رحب يسع للعديد من مفردات الواقع وصور الحلم والخيال المتداخلة المتماذجة التى يصعب رؤيتها الا بفعل الضوء. لقد عمل `بقشيش` على تفعيل `دور الضوء`.. الحيوى المهم ولم يحدد له مصدرا معينا فكل ما هو موجود باللوحة من عناصر الاشكال مضىء بدرجة ما. سواء كان ذلك بفعل ضوء ساقط عليه من الخارج، او منبعثاً منه من الداخل، لقد حفلت لوحاته بكل انواع الضوء. التى تشير الى ساعات العصر والمساء والليل والفجر.. لقد اشاع ذلك الجو الشاعرى الحالم المشغول بخيوط الحرير البيضاء والسوداء.. جواً روحانياً شجياً ينظر اليه فى رهبة وعاطفية.
د.رضا عبد السلام
من الرسم المصرى المعاصر

- نبض الرمز وصوت الاحتجاج ` هو الجزء الثالث بعد ` تجليات فى النقد ` و` التمرد على الثوابت `.
- لا يحتفظ بما نُشر يقول : ` أدى دوره بالنسبة لى ` وينشغل ويفكر فيما هو قادم .
- يقول عند الكتابة ` أتجرد من رؤيتى الفنية ، وأحلل اللوحات من منطقها بنزاهة ` ، يحلل ويربط القديم بالحديث بلغة تشكيلية ورؤية مفكر .
- عناوين كتبه من داخل نصوص كتاباته ..
- ترتيب الموضوعات تابع لتاريخ النشر ..
- استبدلت بعض الاعمال الفنية بأخرى لتعذر العثور عليها .
- حقا يلازمنى .. مسئوليتى تتضاعف كلما قابلت أو سمعت أو قرأت .. انصرف عنى وعن ابنته فيروز للبحث عن المحذوف من زمنه وأحداثه ... كان يحيرنى فكرة ، تأكدت أنه رأى حقيقة الأشياء وابتعد عن الصغائر ... وبقيت مواجع الشوق الى الاكتمال تملأنى ..،
- قادر هو وسكب زهده فى قلبى وعقلى وتشبع به الجسد ... استمر وجوده رغم مراهنة الغياب ، وظل ساكناً هوائى يراوده وهج الفن ... ربما أدرك أن للصمت سراً مبهماً يجذبنى ، وأن بقائى فى لقائى به .
بقلم : هدى يونس ( زوجة الفنان محمود بقشيش)
من كتاب نبض الرمز .. وصوت الاحتجاج

- .. لغته فى غاية الدسامة والعمق صاحب موهبة خارقة ... واستطاع بذكاء شديد أن يسخّر قلمه فى الميدان الأدبى النقدى فى آنٍ واحد ... ليحاكى به بلاغة اللوحة الفنية ... وبأسلوب أدبى فى غاية الفصاحة دون تقعر أو استعراض أو افتعال .
- أسلوب مبنى على إيمان عميق بقداسة الفن فى مجمله ... هو الذى جعل منه ناقداً من الطراز الأول ... ومرجعاً صادقاً للتقييم الموضوعى المنزه عن الغرض ... والذى يفيد طالبى العلم والمتذوقين فى بلوغ عمق أكبر لم يكن بمقدورهم استجلاء أبعاده - وغدا مرجعاً لمن كانوا على شاكلته وتكوينه، وصاروا يتقبلون مصداقية نقده ، ولعل المسئولين ينتبهون إلى قيمة هذا الرائد ، ويفكرون فى إصدار كتب تمثل ` محمود بقشيش ` خير تمثيل ...
- غير أن ` محمود بقشيش` كان حقيقة وبصدق شديد - رائداً فى التعبير عن وميض الضوء ... بعيداً عن كل ما ورد فى المدارس السابقة ... والريادة هنا شئ لا بد أن يذكره التاريخ .
بقى أن أقول فى نهاية كلمتى أن هناك توازناً عقليًّا حسابيًّا يدرسه كل من يغوص فى مجالات الإبداع بكل فروعه .. وهذا الحساب ملقن وليس فطريَّا .. ولكن برغم كونه حسابيَّا دقيقاً بالنسبة إلى القواعد المتواضع عليها ، فإنها كانت لا تمس القلوب ، لماذا ؟ لأن مصدرها عقلى لا وجدانى.
- ومحمود بقشيش كان يعتمد على الجانب الروحى والوجدانى ، أما الانضباط الهندسى فيأتى فيما بعد .. لأن الانضباط الوجدانى هو دستور الحياة .. ودستور الكون أيضاً .. ودستور الخالق الأعظم الذى أبدع وخلق وسوى.
بقلم : حسين بيكار
مجلة سطور : أغسطس 2002

- .. كيف أرى كتابات الفنان` بقشيش` عبر سني حياته ، ولا سيما مرحلته الأخيرة ؟
- أراه كاتباً يجمع بين شخصية الأديب ، وشخصية الفنان التشكيلى والناقد التشكيلى - حيث تغلب عليه حالة من الخصوصية الشديدة ، والتفرد فى المزج بين الصورة الأدبية، والصورة التشكيلية، والتصور النقدى للعمل التشكيلى - وعلى سبيل المثال فقط - لا أنكر تصويره لإحدى لوحات أحد الرومانسيين من فنانى أوروبا . استطاع الفنان ` بقشيش` أن يعبر باقتدار عن الشحنة الحسية لدى الفتاة ، من خلال إمساكها بالقلم ، وغرسه فى مقدمة شعرها المنسدل، وكأنها تعبر عن لحظة عشق لفتاها ، وهيام واحتضان لهذا القلم الذى تسجل به مشاعرها - لقد كان بمقدور الفنان ` بقشيش` أن يعبر عن أدق الخلجات ويصورها بحس ثقافى راقٍ ، لا يستطيعه إلا الناقد المثقف التشكيلى والأديب .
هو عَلَمٌ من أعلام الحركة التشكيلية والحركة النقدية . قدم فى كتاباته قراءات متعمقة لأعمال كثير من المبدعين فى فروع الفن المختلفة.

بقلم : كمال الجويلى
من كتاب نبض الرمز .. وصوت الاحتجاج

- .. أثرى` محمود بقشيش` معلوماتنا ومفاهيمنا النقدية بكتابات عن عدد من الفنانين، وهو فى التصاقه بهذا الفرع من فروع الثــقافة - أعنى فرع النقد التشكيلى لا يقل شأناً عن فروع الإبداع التشكيلى ؛ لأنهما يكملان بعضهما البعض الآخر، حيث إن الفن بلا نقد ، يعد كالسير على قدم عرجاء.
- ركز على لحظة الإبداع ، مؤملاً أن يكون صدق عطائه الفنى، هو الكلمة التى يقولها للآخرين.
- إن ` محمود بقشيش ` من الفنانين الذين لا يمكن لتاريخ الفن المصرى المعاصر أن يغفلهم بسهولة.

بقلم : نعيم عطية
من كتاب نبض الرمز .. وصوت الاحتجاج

- زاد من التيار المتدفق لحركتنا الثقافية المعاصرة ، بمزيد من الدراسات الأصلية فى تاريخ الفنون الجميلة، بتحليلات غير مسبوقة فى الإبداع التشكيلى.
- وتنم كتاباته النقدية عن إلمام واسع بالتاريخ فى الداخل والخارج، ومختلف الاتجاهات الفلسفية التى تصقل الفكرة ، وإلمامه المتين بأسرار اللغة العربية الذى يمكنه من فك مصطلحات أصلية تكشف المعنى الذى لا ريب فيه.
- كتابات `محمود بقشيش` تتضح بمعرفة موسوعية استقاها من قراءته الدوءبة ... منذ بلغ سن القراءة حتى يومنا هذا .. قراءته فى أمهات الكتب باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية. الأمر الذى أضفى على إبداعه مكانة بارزة على الساحة التشكيلية المحلية والعربية. نظراً لركون الكثيرين من نجومها إلى الاكتفاء بالممارسات العملية فى مختلف فروع النشاط الإبداعى بدعوى الشمول .

بقلم : مختار العطار
مجلة المصور: 6 - 6- 1997

- دراساته تكشف عن مدى عمق وجدية الناقد فى تناول مادته - وتمثل الصفحات القليلة لكل دراسة مرجعاً مهماً للدارسين بل وللأجيال الجديدة من النقاد ، إن جمع هذه المقالات النقدية العميقة فى كتاب واحد يتيح للقارئ الاطلاع على ميدان مهم فى الأشكال الأدبية، هو إن صح التعبير` أدب النقد` حيث يحس القارئ بمدى الجهد المبذول فى اختيار الكلمات وصياغة الجمل بحذق ومهارة مع الإفصاح عن أهدافه دون مواربة ، ولكن بأسلوب شديد الرقى.
- وهكذا نلمس جدية التحليل والمناقشة، وعمق الإلمام بالظروف المحيطة بكل فنان.
- هذه دراسات تم تحريرها على مدى سنوات طويلة، ومعظمها سبق نشره فى دوريات مختلفة، واجتماعها فى كتاب واحد يكشف القارئ مدى جدية الكاتب فى تناول مادته.
- وفى الحقيقة أعد دراساته هذه من أعمق الكتابات النقدية، والجهد المبذول فى تحقيق البساطة رغم عمق المعانى مع المشاغبات اللطيفة التى توضح أن` محمود بقشيش` يكتب كما يرسم مبدعاً فى الحالتين.

بقلم : صبحى الشارونى
جريدة المساء : 28-10-1997

- والنقد عند ` بقشيش ` مسئولية وأمانة، وهو يمارسه بتعمق فى قضايا الفن والجمال مستوعباً ماهية الإبداع والنقد ، ومتمرساً على قراءة أعمال الفنانين المبدعين ، ومطلعاً على المستجدات فى مجال المعرفة الفنية، وعن يد نقاد مثل` محمود بقشيش` أصبح دور الناقد الفنى جزءاً لا يتجزأ عن رؤية الجمهور لأعمال الفن، فأصبح الفن من خلال كتاباتهم مجالاً ثقافيا خصباً لا يخلو من جوانب فكرية وتقنية وجمالية .
- و` بقشيش` فناناً كان أم ناقداً يدافع بقلمه وريشته عن معنى المعاصرة عندما تستند إلى جذور تراثية وإلى معايشة البيئة المصرية، والواقع المصرى. وكان فى كتاباته مثل فارس حاملاً سيفاً. وفى تصارع دائم مع الزيف والتملق، فلا يعرف المجاملة فى أحكامه النقدية أو مثل متصوف زاهد ، متأملاً فى عالم روحى، يود أن ينفذ عبر اللامرئى فى عالم الفن، وكان الناقد والفنان` محمود بقشيش` شديد الكبرياء، ولم يسعَ يوماً لتسخير قلمه من أجل منفعة شخصية، وظلت لرؤاه الفنية المؤثرة فى تشكيل رؤى العديد من محبى الفن المخلصين ، الذين يؤمنون بقوة الدور الثقافى للفن .

بقلم : محسن عطية 2001
من كتالوج المعرض العام

- مقالاته النقدية تمثل تاريخا خاصَّا وعامَّا للفنان وللحركة الفنية المصرية .. وما تركه يجعلنا نشعر بأنه يشبه فى كثير من فلاسفة اليونان ورهبان الأديرة ، وقد كرسوا حياتهم لهدف نبيل .
بقلم : فاطمة على
جريدة القاهرة : 20-2-2001

- اهتمامه بالأدب والموسيقى كان موازيا لاهتمامه بالفنون التشكيلية - وهى أمور مكنته بعد ذلك من التميز كمصور، ومن المتابعات النقدية العميقة والنزيهة لحركة الفنون التشكيلية لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، هارب من السوقية والضجيج . والمؤثر الرزق النظيف فى حدود الكفاف ، بين المتسابقين على الاتجار بكل القيم الإنسانية والفنية، ظل ينشر مقالاته النقدية المتميزة فى مجلة ` الهلال ` بأجورها الرمزية فى الوقت الذى كان يمكن أن تجلب له هذه المقالات عشرات أضعاف الأجر الرمزى.
بقلم : سيد خميس
جريدة القاهرة : 20-2-2001

- عُرف الفنان ` محمود بقشيش` فى الحركة التشكيلية المصرية كناقد مرموق` يعرف أصول الأحكام الفنية ، ويسر المقام وسلاسة الكلم ، فى محيط نقدى تختلط فيه ندرة انقشاع الرؤية مع لذة التبارى بالكلمات، واعتلى الطريق كنموذج فريد ، قد بدد الإطراءات ومقدمات المعارض ليفسح للنقد مكانه العلمي كدارس لفن التصوير ومتبصر بالثقافة والفكر المعاصر.
بقلم : فاروق وهبة
من مقدمة معرض للفنان بروما : يناير 2001

- ` محمود بقشيش ` ناقد تنويرى بالمعنى المجتمعى الشامل ؛ لذلك فهو لم يقتصر على رسم اللوحات الذى كان يحتفى فيها على وجه الخصوص بومضة الضوء فى ظلام اللوحة .
- إنما كان يقاوم بالمثل كل محاولة لتسييد الثقافة الرسمية الجاهزة ، ليس فقط فى الفنون التشكيلية ، وإنما بالمثل فى الإبداع الأدبى .

بقلم : مجدى يوسف
مجلة سطور: إبريل 2001

- فى هذا الكتاب لا نستحضر - فحسب - كلماته، بكل ما تتميز به من أسلوب جذاب ، وعمق النظر والتحليل .
- ومن بساطة اللغة حتى تصل إلى كافة مستويات التلقى ، إلى الحد الذى يجعل من كتاباته نصوصاً نثرية توازى أعمال الفن التى تنقدها . وقت دبت فيها الحياة يتناولهم برؤية جديدة تضيف إلى عوالمهم ، وتنير الكثير من المناطق المظلمة أو الغامضة
- قلم ` بقشيش ` كالملقاط الدقيق المرهف لفرزهم وتصنيفهم فى سياقاتهم الفنية والتاريخية والمجتمعية - بغض النظر عن إيمانه الشخصى أو عدم إيمانه بأى منها كما ينبغى أن يكون الناقد الموضوعى بحق .
- نظرته الثاقبة تخترم لب العمل ، وتزداد اقتراباً ، وتغوص فى مكنونها الرمزى ، وتتقصى خصوصيتها الجمالية، ولم يكتف بخبرته كفنان دارس أكاديمياً .. واجه مشكلات الإبداع والتقنيات ، ومارس الاحتكاك المباشر باتجاهات الفن المصرى والعالمى قديما وحديثا ، وقراءاته الغزيرة حول الفن وفلسفة الجمال وأصول النقد واتجاهات الحداثة ؛ بل استمد زاده الأكبر - للدخول فى أعمال تجربة كل فنان ...
- ذلك كله لم يكن ينعكس على صفحة بيضاء من ثقافته كفنان وناقد ... بل يمتزج ويتفاعل مع رؤية فكرية تكونت لديه حول قيم الأصالة فى الأبداع المصرى بجذوره الممتدة فى الزمن .
- إنه درس مهم للنقاد الشباب وغير الشباب يمكن أن يتعلموا منه الكثير .
بقلم : عــز الدين نجيب
من مقدمة كتاب الثابت و المتغير 2014

- ينطلق الفنان والناقد ` محمود بقشيش` فى توجهه النقدى من محددات أساسية لديه، مفادها أن الإبداع الفنى لا يولد من عدم، ولا يأتى من فراغ ، بل من عمق ارتباطه بجوهر الحياة وإنفعاله بها، وموقفه منها ، وصراعه من أجل تسييد القيم الجديدة .
- والناقد قد يسبق الجماعة الفنية أو ينشأ بين ظهرانيها ؛ إذ أن معظم قادة الحركات الإبداعية نقاد؛ ما يعنى أن وجود النقد يفضى إلى وجود تعدد فى وجهات النظر، وتعدد فى الاختيار، وتعدد فى وضع الأسس المنهجية.
- لهذا شدد النبر على حيوية دمقرطة الثقافة ودورها فى إرساء مناخ غير دوجماتى ولا متسلط ، بل يتوخى دوما الإرتكان إلى قواعد ذات نزعة إنسانية ، تفتح الأفق أمام الدراما الدئمة والعابرة للزمن عند الفرد .
- من هنا جاءت حربة الضروس ضد من` يروجون للفكر الشوفينى`، ولا يؤمنون بتلاقح الحضارات وتحاورها .. حرص ` محمود بقشيش ` فى كتاباته النقدية على توضيح الفارق الجلى بين مفهومين يسببان التباساً لدى أدعياء التنظير ، هما: ` المغايرة` و` الانقطاع `؛ فإذا كانت ` المغايرة ` عن السلف ضرورة للتجدد وإثبات الذات ، فإن ` الإنقطاع ` عنه يعنى انقطاعاً عن الذاكرة التى تسهم فى تشكيل الحاضر والمستقبل ..
- وبذلك يدرس محمود بقشيش` الجمالية` فى إطار العلاقات التى يقيمها الفنان مع العالم ومع التاريخ، ومدى اشتباكه مع قضايا عصره الذى ينتمى إليه ، وسيره على غير مثال سابق . ويقدم حواراً ثرياً مع التجارب الفنية المتعددة عبر لغة علمية دقيقة بعيدا عن الأحكام الجاهزة والمسبقة ... تاركاً إدراكه البصريى يُضئ أمداء رؤيته الفنية الثاقبة .
بقلم : أسامة عرابى
جريدة القاهرة : 23-8-2016

- الفنان والناقد ` محمود بقشيش ` رحل وترك ثروة ثقافية للأجيال ... فنان متميز ورسام منفرد ... وناقد يمتلك قلماً أميناً يطرح القضايا بشفافية مطلقة ورؤية .. ويمتلك حساً وطنياً عميقاً .. انسان مبدع ، متواضع .. لا يعرف الكراهية .. يمتلك الصدق وبعد النظر...
- وأوجه مقالى إلى النقاد المعاصرين للتأمل فى كتابات ` بقشيش ` التى تحمل قدراً كبير من الدلالات والمسئوليات التى تقع على ما يكتبون الآن عن الفن . أدعو نقاد الفن للاجتماع فى ` جمعية محبى الفنون الجميلة ` وتحليل ما كتبه ` محمود بقشيش` وقراءة نصوص كتبه ، ووضع تصور عام حول كيفية تحقيق ما يدعو إليه .. والمسئولية لا تقف عند نقاد الفن فقط بل الجامعات التى بها الكليات الفنية ، لتوجيه الباحثين إلى هذه القضايا المهمة والشائكة التى طرحها فى مقدمة كتبه ، والتى لم تحسم حتى الآن منذ طرحها خلال الستينيات، وللأسف عدد النقاد يتناقص .. مقارنة بكم الإبداع الفنى حالياً .. وأيضاً مقارنة بنقاد الفن خلال الستينيات والسبعينيات.

بقلم : د.أحمد نوار
جريدة الأخبار : 2-1-2017

- أنهى كتابات النقَّاد بكلمة الشاعر ماجد يوسف عن شخصية `محمود بقشيش` الفنية عموماً .
- هذا فنان متصوف بكل ما تحمله الكلمة من معنى - وأنا لا أطلق الوصف مجازاً أو مبالغة أو إسباغاً لدلالة - أو ترميز للمعنى ، أو تأويلا لإنجاز ، أو تقريباً لفهم .. إلخ .
- وإنما أعنى ما أقوله تماماً على المستويين الشخصى والفنى الابداعى - كان ` محمود بقشيش` من الزهاد .. الكبار لم تغره الدنيا ولم تبهره بهارجها .. لم يسعَ للمال يوماً ولم تطمعه المناصب لحظة ، ولم ترتهن روحه لمغريات من أى نوع، حتى يتنازل عمَّا يعتقد بصوابه ، ويؤمن بصحته من أفكار ومواقف ورؤى وقناعات .
- كان متقشفاً فى حياته وفى فنه أيضاً ، والتقشف هنا ليس وضعاً جبريَّا مفروضاً عليه ، وإنما هو بصيرة ورؤية واختيار.
- لا يرى للتزيد معنى ، وللفضول مجال .. ويعتبر هذا الفضول ، وذاك التزيد .. فى القول والفعل والفكر والفن نقصاً فى كمال الروح .. وخلل مركزى فى الفهم الأعمق والأبقى للحياة والوجود .. لا أريد فى هذا الحيز الضيق المتاح لى أن يستغرقنى الحديث عن جوانب هذه الشخصية الثرية المثيرة الفذة .. وعن تصوفها الجوهرى المكين ، وعن نجاحه بذلك فى الوصول بهذا الفن المادى بأدوات وإمكانات التى هى محدودة بالضرورة بحكم وضعيتها المادية .. ألوان وفرش وأسطح بيضاء معدة سلفاً .. استطاع بهذه الأدوات المغرقة فى محدوديتها وممكناتها وحدودها للوصول بها.. ورغماً عنها ربما إلى آفاق روحية - وإمداد إلهى .. وارتقاءات سماوية .. وارتفاعات بصيرية ، قلَّ أن يصل إليها فنان، أى فنان عبر وسائطه المادية البحته تلك ، ليتجاوز بها بعظمة مشهودة حدودها ويحررها - بعبقرية لافتة - من حدها المقيد إلى آفاقها الحرة .. ويرتقى بها من شرطها الوجودى الفيزيقى المادى إلى مدارج عليا تتجاوز هذا الوجود لتعانق الميتافيزيقى وتشارف الروح والإلهى .
- فحينما نتأمل - على سبيل المثال - مسألة ` النور ` والتى كثر الحديث عنها فى عمل ` بقشيش ` ، تحضرنى فوراً عند هذا المستوى من التأمل لأعماله ، تلك الأية الكريمة التى تقول : ` أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا` وكأنى بنور ` بقشيش ` ينبجس وينبلج من هذه اللحظة نفسها ، كأن ما يلوح من النور فى أعماله ، يبدو كأنه النقاط المتناثرة فى فضاء هائل من العتمة .. هو تلك اللحظة عينها التى كان يحدث فيها الفتق .. انفتاق الظلمة لتنفذ من ورائها هذه النقاط المضيئة الدالة على محيط شاسع لا نهاية له من الضوء ، وبحر لدنّى ` المعرفة القادمة من الله ` غامر من النور.. نقاط ` بقشيش ` المضيئة فى لوحاته المفعمة بالعتمة والظلام،هى هذا الحضور الشفيف الصوفى لشهود هذه اللحظة بالحدس، تلك التى سبقت ظهور البشر بآماد وآماد هائلة فى الزمن !! - لوحات ` بقشيش ` - إذا تأملنا نقاط نورها .. وكأنها ترصد تلك اللحظة عينها فى ملحمة الخلق الإلهية .. لحظة انفتاق السموات عن الأرض ، وتبيان التفجر الأولى عبر تمزق رداء الظلمة السابغة عن نقاط النور الناجمة عن الثوب المظلم الممزق ، فهذه النقاط الضوئية القليلة والمتناثرة ، والتى توجد بالكاد فى عمل ` بقشيش ` مفعمة بالدلالة السابغة ، والفيضان النورانى الغامر على وجود الضوء خلف هذه الجدر السوداء الصماء المظلمة .. بل إن ما تشى به هذه النقاط المضيئة ، هو باليقين إشارة دالة على عدم تحملنا لهذا النور فى كامل حضوره وتمام وجوده السابغ إذا زاد ` الفتق ` عن ذلك .. فأعيننا غير قادرة على تحمل هذا الحضور الكامل لهذا الضوء الإلهى السابغ المنير ..
- ومن ثم اكتفى الفنان ` المتصوف الكبير` بأن يسجل لنا هذه اللحظات الأولى فقط لبدايات هذا ` الفتق ` العظيم بنقاط النور الصغيرة تلك فى لوحاته هذه هنا وهناك .. وإلا لو ترك العنان لهذا النور الذى انبثق من فتق السموات والأرض .. لعشيت عيوننا ، وربما ضاعت وعميت أبصارنا فى حضرة هذا النور الإلهى السابغ ، فدل بالنذر القليل واليسير على الكثير المعجز والجم .. فى لحظة `الفتق ` .. ألم أقل أن هذا الفنان متصوف كبير !
- والمدهش الذى فاجأنى أنا شخصياً - أنه بالعودة إلى بعض مراجع الصوفية فى هذا الشأن ، مثلا ، ` لطائف الإعلام فى إيشارات أهل الإلهام ` للقاشانى ، بتحقيق ودراسة سعيد عبد الفتاح / دار الكتب المصرية / القاهرة 1996 ، وتحت مادة ` فتق ` وبعد الحديث عن المعانى المباشرة ` لغويا ` لكلمة ` فتق ` والتى تعنى .. الشق والصبح بل واللسان الفصيح .. إلخ . حتى نصل إلى المعنى الصوفى المدهش ، بالفن التشكيلى ، والتصوير خصوصا ، و` محمود بقشيش ` فى عمله الذى نتحدث عنه بشكل أخص / إذ يقول فى تعريف الفتق ` تعدد العين الواحدة وتعيناتها `!! هل كان ` بقشيش ` يعلم بمثل هذا الوضوح ؟ ` - أشك فى ذلك .. بل أشك فى اطلاعه على بعض هذه المصنفات لمصطلحات الصوفية ، ولكن هو نفسه كان صوفى الرؤية والحس والوجدان .. زاهداً ، ومتقشفاً ، ومستغنياً ، فوصل بالبصيرة الرائقة ، والرؤية الفائقة ، إلى تلك الكشوف الباهرة التى نسعى وراءه ونختصم .. وفى الختام - الذى أنا مضطر إليه اضطراراً - ما أشبه هذه النقاط المضيئة ، القليلة الحجم - والفادحة القوة ، والساطعة الحضور برغم ذلك فى عمل ` بقشيش ` .. بهذا البيت الجميل لشاعرنا الكبير أمل دنقل فى مفتتح ديوانه ` البكاء بين يدى زرقاء اليمامة ` .. حينما يقول : ربما لو لم يكن هذا الجدار - ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !!
بقلم : ماجد يوسف
مجلة الخيال : 2016
محمـود بقشيـش: فنان مصرى على حدة
- تميز الفنان الكبير محمود بقشيش بعدة صفات شخصية وأخرى فنية. من صفاته الشخصية الزهد والاعتزاز بالنفس والهدوء الظاهرى فهو فى داخله مفعم بالمشاعر والانتباه والتفكير، كما تميز بالتأمل يجلس متأملا ويمشى متأملا استجمع ملامحه وشخصيته في ذاكرتي الآن بعد غياب يقرب من 19 عاما منذ أن رأيته آخر مرة على فراش المرض الثانى فى المستشفى والذى انتهى بوفاته. عرفت محمود بقشيش فى الأغلب بعد عام 1983 بعد عودتى من إقامتى فى باريس. عندما بادرت بالاتصال بعدد من نقاد الفن لتكوين الجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلى، كان على رأسهم الأستاذ بيكار رحمه الله الذى وافق على طلبنا بأن يكون رئيسا فخريا للجمعية أذكر أننا كنا نلتقى فى حديقة جروبى فى شارع عدلى بوسط القاهرة لمناقشة الفكرة والإجراءات، كان معى الأساتذة الأعزاء كمال الجويلي ومختار العطار وصبحى الشارونى ومحمد حمزة ومحمود بقشيش عليهم رحمة الله وعادل ثابت وعز الدين نجيب أطال الله في عمرهما. كنت وقتها صحفيا في جريدة الأخبار وعضوا فى الجمعية الدولية لنقاد الفن فى باريس ( ايكا) وكانت فكرتى أن تكون جمعيتنا المصرية فرعا لها لكن هذا لم يحدث وتلك قصة أخرى. شارك محمود معنا فى تأسيس الجمعية وحصلت من الإدارة المركزية للفنون التشكيلية وقتها على حجرة في وكالة الغوري كمقر للجمعية، وبدأنا نلتقى فيها وفتحنا باب العضوية للشباب. وكان لمحمود صولات وجولات فى هذه الحجرة من المناقشات فيما بيننا ومع الشباب الراغبين في الانضمام، وليت كانت هذه المناقشات قد سجلت.
- أذكر محمود بقشيش جيدا بوجهه النحتي التقاطيع ونظارته ومن خلفها عينين ثاقبتين مبتسمتين رغم حزنه. كان يبدو صارم الملامح لكنه عندما يضحك يتحول وجهه إلى طفل وتضحك عيناه تحت نظارته الشفافة. كان عندما يجلس يضع ساقا على ساق ويتحدث ببطء وهدوء وثقة. كان فنانا مفكرا ومفكرا فنانا. كانت تجمعنى به علاقة صداقة قوية نابعة من حب وتقدير متبادل، فكنا نتبادل الشكوى والحكايات الشخصية. كان قريبا إلى قلبى. ولا أذكر أننا اختلفنا معا طوال فترة صداقتنا. ولا أذكر أننا اختلفنا في الرأي حول موضوع من الموضوعات التي تطرح في اجتماعات مجلس إدارة الجمعية.
- انعكست صفاته الشخصية على فنه فتشكلت صفاته الفنية أيضا انعكاسا لصفاته الشخصية. ربما لهذا اختار القلم الرصاص خامة أساسية لفترة طويلة من إبداعه. فى لوحاته الملونة كانت ألوانه قليلة لكنها صافية ودافئة. لعب اللون الأبيض أو المساحات البيضاء دورا مهما فى لوحاته. كداخل محمود خرجت تكويناته كلها على اللوحة من الطبيعة: بحرية وهرمية وجبلية ونخيلية أيضا. كلها طبيعة ممتدة أفقيا ولكن الأكثر رأسيا حيث الطبيعة تتسم بالارتفاع والخروج من الأرض إلى السماء. هكذا كان تكوين محمود بقشيش النفسى والداخلى، رحابة وإحساس بالسمو.
- أما الضوء فخافت وملون. يضفي الضوء غموضا وجاذبية على اللوحة فيزيد من أسرارها ولا يفضحها. يذكرنى فن محمود بكتابات المتصوفة المسلمين. كأنه حول نصوصا منها إلى لغة بصرية على لوحاته. إنه إحساس لا يصلح فيه المقارنة أو الترجمة المباشرة. كشيمة كل الترجمات العظيمة حتى من لغة مكتوبة إلى أخرى مكتوبة. كان محمود يرسم من داخله. يرسم منظرا خارجيا من طبيعة محمود الداخلية. ربما لهذا نجد كثيرا شخصا يقف فى صحراء أو يجلس على صخرة أمام صحراء متأملا. فماذا يفعل إنسان فى هذا الفضاء غير التأمل. هذا الشخص تحديدا هو الفنان نفسه.
على الرغم من أن محمود رسم فى كثير من لوحاته مناظر طبيعية لكنها ليست منقولة من الطبيعة. إنها طبيعية لأن فيها عناصر طبيعية مثل صحراء أو شجر أو تلال أو جبال وغير ذلك. لكنها مناظر من طبيعته هو، طبيعة الفنان، أو الطبيعة كما يراها. على الرغم من أنها مناظر طبيعية أى تنتمي إلى ما يسمى بالفن التمثيلى أو التشخيصى، إلا أنها في كثير منها تجريدية أوتجريدية هندسية. لكن هذه التجريدية تضم التمثيل الذى يريده محمود إن كان منظرا من الطبيعة كصحراء أو بحر أو مبنى. أنظر إلى مجموعة اللوحات التى رسم فيها زجاجات ملونة. إنها تجريد فى تجريد على الرغم من أن الزجاجة تمثيل. فالزجاجة نفسها مساحة تجريدية تقف بجوار زجاجة أخرى أطول منها أو أقصر لكنها أيضا من مساحة تجريدية. هذه الزجاجات داخل مساحة تجريدية أخرى وتلك المساحة التجريدية التى تجمع الزجاجات مباشرة هى فى مساحة تجريدية أكبر تشمل اللوحة كلها. حدود التكوينات داخل اللوحة هو ما يجعلها تمثل شيئا، لكن التجريد يعم المكان. مساحة تجريدية فى كل تكوين والتكوينات تسبح في تجريد. التجريد يخرج من إطار اللوحة إلى الكون الفسيح. هذا هو فكر محمود وعواطفه أيضا. إنه لا يسجن نفسه في تفاصيل أو جزئيات. له فلسفة في تصويره ورسمه الملون أو أحادي اللون. هذه الفلسفة هي الكليات. يرى الكون في شموله والحياة في عمومياتها. أما الإنسان عندما يصوره في هذا الكون وتلك الحياة فيأخذ حجمه الحقيقي الصغير. هنا لا أتحدث عن صوره الشخصية ` البورتريه` فهذه مرسومة لكى يكون وجه الشخص هو الموضوع مستقلا. اللوحة عند محمود هى الكون. أعتقد أنه يرسم كونا أولا ثم يضع فيه كائنات أو تكوينات. قد يكون الكائن وجها بشريا أو شكلا معروفا كالزجاجة أو شجرا أو نخلا أو رمزا تشكيليا يبتكره. وأحيانا يجمع الفنان بين تكوين وكائن. الكائن يخرج من التكوين، ودائما يخرج من أسفل إلى أعلى. يشرئب. كائنات محمود بقشيش دائما رأسية. هذا هو تفكيره. إنه ينظر دائما إلى أعلى. يتطلع إلى الأمام كما نقول لكنه تطلع رأسى. هذا يتفق مع التفكير الكونى. نجد هذا حتى فى المبانى، فهو يرسم كتلة المبنى رأسية. إنها عناصر تسبح فى الكون أو توجد فيه لتخلق حياة فى هذا الكون. حياة فى اللوحة.
- من الصعب أن نصنف محمود بقشيش فى مدرسة تشكيلية محددة. فى لوحة واحدة كما ذكرت تشخيص وتجريد. فما هو بمشخص فقط وما هو بمجرد فقط. وأحيانا يخلق واقعا ميتافيزيقيا فى اللوحة. يوزع العناصر التمثيلية بطريقة غامضة في فضاء غريب اللون/الضوء والمساحة. فيبدو حس مما وراء الطبيعة فى اللوحة. لكنه مع ذلك ليس فنانا ميتافيزيقا. وفى لوحات أخرى يمكن وصفها بالتعبيرية. لكن ليست كل لوحات محمود تعبيرية. فالخيال يلعب دورا مهما فى لوحاته. خياله رقيق على كل حال وتعبيره شاعري فى كل الأحوال حتى مع المناظر التى يستلهمها من الطبيعة. هو أحيانا يرسم اسكتشات للوحته قبل أن ينفذها، وأحيانا يرسم اللوحة مباشرة. مثلما يصور أحيانا وجوها متخيلة وأحيانا اخرى يصور موديلا. وأكثر صور الموديلات الحية كانت لزوجته السيدة هدى، فهل هو القرب منه أوالحب لها؟ أغلب الظن أنه السببين معا.
من تحصيل الحاصل بعد ذلك أن أقول أن محمود بقشيش إنسان وفنان رومانتيكى. فكل ما سبق عنه يعني ذلك. من الرومانتيكية أو الرومانسية عبر الإبداع الحديث، منذ أواخر القرن الثامن عشر، خرجت مدارس كبرى. الرومانسيون يحبون الطبيعة، التي دعا إليها الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو، ويتمتعون بحساسية مرهفة وعاطفة جياشة. انعكست هذه الصفات بالطبع على إبداعهم في الأدب والفن مثلما قرأنا في إبداع الشعراء أمثال: الفرنسي بودلير والإنجليزي شيلي والمصري إبراهيم ناجي واللبناني جبران خليل جبران والروائى الألمانى جوته وغيرهم، ومثلما رأينا في إبداع المصورين من الفرنسى يوجين ديلاكروا رائد هذا الاتجاه فى الفن والألمانى فيليب أوتو والبريطانى وليام بليك ومن جاء بعدهم. بل كانت الميتافيزيقية والسريالية سليلتين كبيرتين للرومانتيكية. أدى اهتمام المصورين الرومانتيكيين بالظواهر العابرة إلى دراسة الضوء والجو وتأثيراتهما على المنظر الطبيعي. هذه فى تقديرى جذور محمود بقشيش الفنية التى أثرت فى طريقته فى التصوير. فهو يصور ذكرياته البصرية الآتية من العين والقلب. مزيج من صورة الواقع المتخيل مشحونة بعاطفة يشوبها الحزن بدرجاته. تخرج هذه الذكريات البصرية على اللوحة بقدرة أسلوبية متمكنة ورصينة.
وصف محمود الضوء في تصويره بالضوء ` الزئبقى` (كتاب أطلال النور ومدائنه في لوحات الفنان بقشيش. الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة 1997. ص 6). الزئبق هو مادة لا يمكن الإمساك بها. لذا فربما قصد الفنان أن الضوء عنده نحس به دون أن نعرف مصدره، أو يحيرك فى معرفة مصدره. بطبيعة الحال لا يكون مثل هذا الضوء في لوحات بقشيش ساطعا أو متوهجا، لكنه ضوء درامي يوحي بالحزن. هكذا كان محمود أميل إلى الحزن. يكشف الضوء الخافت الجميل بعضا مما حوله فيبرز معانيه. إنه ` كمشكاة فيها مصباح `، `يكاد زيتها يضيئ ولو لم تمسسه نار`. طبعا ما بين القوسين من سورة النور فى القرآن الكريم، وأنا لا أقصد المقارنة بين الضوء في سورة النور والضوء فى لوحات بقشيش، لكنه التداعى. وقد أحتفى بقشيش بالضوء احتفاءا خاصا فى معرضين من معارضه هما: معرض أطلق عليه اسم ` أضواء وحواجز` ومعرض آخر أسماه:`حواجز ضد الضوء` استوحى لوحاته من ذكريات زيارته إلى واحة سوة التي أحبها ببيوتها وأضواء نوافذها الخافتة الساحرة.
- فى لوحات بقشيش بالقلم الرصاص تجربة مختلفة. يرجع تعلقه بالقلم الرصاص الذى رسم به كثيرا من لوحاته إلى سنوات طفولته عندما بدأ، وهو فى الرابعة من عمره، بنقل رسومات مصرية من كتب أخيه الأكبر بالقلم الرصاص بدقة جعلت أخيه ينسب هذا النقل لنفسه. ظل تعلقه بالقلم الرصاص طيلة عمره، فأقام معرضا كاملا لرسوماته بالقلم الرصاص عام 1977 بأتيليه القاهرة. لعل عنوان هذا المعرض يفسر جانبا من هذا التعلق فقد كان ` العودة إلى البديهيات`، ويلقى الضوء أيضا على جانب من جوانب شخصية محمود بقشيش. فهو فنان كلاسيكى راسخ، ليس بمعنى الالتزام بالمدرسة الكلاسيكية المعروفة فى الفن سواء القديمة أو الجديدة، ولكن بمعنى الحفاظ على رصانة اللوحة مبنى ومعنى، فلا يشتط بها إلى الاتجاهات المعاصرة التى لعبت بالشكل كهدف واخترقت إطار اللوحة ذاتها واختلطت بخامات ومواد ووسائط مختلفة عنها. هذا لا يعنى أن من فعل هذا ليس بفنان، ولكنه فنان آخر. فما يهم محمود أساسا هو قوة التعبير وليس غرابة الشكل. والقلم الرصاص، من جهة أخرى، خامة زهيدة الثمن أحادية اللون فيها تقشف هو أقرب إلى نفسية محمود الزاهدة وأسلوب حياته الأقرب إلى التصوف. لذلك لا نجد كثيرا من الفنانين يستخدمون هذه الخامة.
هل يفيد هنا أن أضيف سطورا عن محمود بقشيش الناقد؟ ربما. فهو فى نقده كتصويره كشخصه: الكل في واحد. يذكرنا هذا التعبير بالشعار الذي أطلقوه على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. لكننى هنا لا أتحدث فى السياسة ولا أقصد بالطبع إحالة الفنان بقشيش إلى شخصية الزعيم. لكن المعنى المشترك أن ممارسات محمود فى الإبداع الفني والنقدى تتوحد مع فكره وشخصيته الإنسانية. على الرغم من أننى لست، من حيث المبدأ، مع جمع الفنان بشكل عام بين ممارسة الفن وممارسة الكتابة النقدية. كررت ذلك الرأي من قبل في مناسبات مختلفة ولست هنا بصدد مناقشته، إلا أن هذا لا يمنعنى من إبداء الإعجاب بكتابات محمود النقدية فى الفن. من هذه الكتابات كتابيه:` البحث عن ملامح قومية. رحلة فى أعمال 14 فنانا مصريا`(دار الهلال. القاهرة 1989) و ` نقد وإبداع` ( الدار المصرية اللبنانية. القاهرة 1997). أعتز كثيرا بإهدائه الذى كتبه على هذا الكتاب لى ولإبنتى - الصغيرة وقتها - ياسمينة.
- محمود الناقد أيضا صارم فى نقده، موضوعى غير مجامل. لكنه مستشعرا القيمة الفنية كاشفا عن مواضع الإبداع وتميزها، محللا خبيرا للعمل الفنى الذى يتناوله. كل هذا فى أسلوب لغوى واضح وبسيط. إقرأ مثلا بداية مقاله عن الفنان المصرى الراحل، غير المشهور، موريس فريد. كتب محمود: `عاش الفنان الكبير موريس فريد - مجبرا - فى الظل، ومات - مجبرا - فى صمت`. مقاله هذا عن موريس فريد نموذجى من وجهة نظرى. فهو يحدد أسباب هذا الصمت الذى أحاط بالفنان، ومن هذه الأسباب ما أطلق عليه محمود ` النقد العرقى` وهو الوحيد الذى صاغ هذا الوصف لنقد. يوضحه محمود بأنه ` السبب الأكثر خطورة الذي تشكل على مهل منذ الستينات وظل يتصاعد، حتى استخدم في السنوات الأخيرة خطاب دعاة الإرهاب الديني في دعوتهم المجتمع المعاصر إلى عزلة القبيلة وانغلاقها على معتقداتها وتقاليدها`. هذا الكلام وإن كان منطلقا من فن إلا أنه يعبر أيضا عن موقف محمود بقشيش الفكرى.
- تتضح من كتابات محمود النقدية ثراءه الثقافي بعامة والفني بخاصة. هذا نتيجة لغزارة إطلاعه وتعدد زياراته الداخلية والخارجية لمدن ومتاحف ومعارض ومقاصد فنية. هو استخدم هذا الثراء في الإحالات بين المواقف والأعمال الفنية وفي الاستشهادات والمقارنات، مثلما نجد فى مقارنته بين المصور الروسي فاسيلى كاندنسكي وبين المصرى موريس فريد. كيف ذلك؟ كتب بقشيش: ` كان كاندنسكى يشبّه اللون الأبيض بمساحة الصمت فى الموسيقى، وكان يرى أنها على الرغم من صمتها الظاهر، فإنها في الحقيقة لحظة مشحونة بالترقب للنغمة الموسيقية القادمة. بينما اللون الأبيض عند موريس فريد أشبه بسيف بتار يقتحم الألوان البنية فيشقها شقا عنيفا وحاسما`( من كتاب نقد وإبداع ص 87).
- رحمك الله يا صديقي العزيز الفنان المتميز والكاتب القديرمحمود بقشيش. أعرف أن هذه العجالة عنك لا تفى بالإحاطة بعالمك الفنى ولا بفكرك أو شخصك المتفرد. فكل هذه الجوانب تستحق بحثا مفصلا يحتاج إلى تفرغ لينشر في كتاب خاص يستفيد منه بخاصة شباب الفنانين المصريين والعرب والموهوبين منهم على الأخص ليتعرفوا على ` فنان مصرى على حدة`.
بقلم: سمـير غريـب
مجلة عالم الكتاب : يناير 2019
جائزة الرسم لمحمود بقشيش وربع قرن بين النقد والفن
- توافق هذه الأيام بلوغ الفنان محمود بقشيش سن الخمسين (ولد 1938)، ونحتفل فى نفس الوقت بحصوله على جائزة الدولة التشجيعية فى فن الرسم لعام 1987.. ويحتفل الفنان أيضا بمرور ربع قرن على تخرجه فى كلية الفنون الجميلة وبداية مشوار الفنى.
- محمود بقشيش ليس رساماً فحسب لكنه ناقد أيضاً، مارس كتابة القصة فى البداية، وأصدر مجموعة قصص مشتركة مع (سيد سعيد) بعنوان `الموجة`. ففناننا يتمتع بموهبة التعبير بالكلمات إلى جانب التعبير بالخطوط والألوان، وتتميز لغته النقدية بالتمكن والحنكة، فله دراية بأصول صناعة النقد ولديه تعبيرات وتشبيهات خاصة هو مبتكرها.
- لكن احتراف الرسم والنقد معاً أمر محفوف بالمخاطر، فإن لم تكن لوحات الفنان على نفس مستوى آرائه النقدية، وإن لم تكن أفكاره النظرية عن الفن لها تطبيقاتها فى انتاجه المرسوم، فإن أى فجوة بينهما تجعل الفنان يؤخذ من نقده والناقد يؤخذ من فنه... فالجمع بين الحرفتين مسألة شديدة الحساسية، ومن بين أفراد الجيل الثانى فى حركتنا الفنية الذين جمعوا بين الرسم والكتابة نجح `حسين بيكار` و ` رمسيس يونان` بينما سقط ابراهيم جابر وصدقى الجباخنجى بسبب الهوة بين ما يكتبون وما يرسمون..
- لكن محمود بقشيش وجد فى نفسه من الشجاعة ما جعله يجمع بين النشاطين، `فينزل من منصة القضاء إلى ساحة الابداع متعرضا بدوره لحكم النقاد ورأى الجمهور.
- من الانتقاد إلى النقد
- أزعم أن محمود بقشيش الناقد قد تغير فكره خلال السنوات العشرين الماضية، فنظرته إلى الأمور وكتاباته عن الفن قد اختلفت.. وتغير تبعاً لذلك أسلوب ابداعه الفنى..
- كانت مقالاته هجومية عنيفة، وكان يتمتع بقدرة خارقة على تحويل الحسنات إلى سيئات، كان منتقداً أكثر منه ناقداً، وكنت أتعجب من قدرته على النظر إلى بعض الأمور من زاوية قد لا تخطر على بال أحد.. فقد وصف أحد النقاد عندما أصدر كتاباً عن فنان من الراحلين بأنه: `يأكل من لحم الموتى`.. ووصف الفنانين الذين درسوا فى أوربا وتأثروا بفنون البلاد التى تعلموا فيها بأنهم: `كانوا عبيداً أذلاء أمام أسيادهم المستعمرين السابقين` كما وصف عددا من أبناء جيله بأنهم فنانو `الموتيفة` الواحدة وأصحاب المفردات النمطية المحفوظة...
- ودليلى على التغير الذى حدث فى أسلوبه أنه فى عام 1984 أهدى أول معارضه الشخصية إلى أسماء أربعة من الفنانين الراحلين، كما تحدث عن تأثير الاتجاهات الأوربية على فنه وقال إنه لا يستطيع إلغاء ذاكرته، وإن تلك الانجازات الإنسانية تتسرب إلى فرشاته وتترك رغماً عنه أثراً على لوحاته.. أما فنانو الموتيفة الواحدة والمفردات النمطية فقد أصبح أحدهم فى كتاباته الأخيرة: ` لديه كائنات فنية تظهر فى بعض المراحل وتختفى فى غيرها`.
- من هذا نلحظ التغير فى أفكاره النقدية وفى نظرته للظواهر الفنية، واتجه التطور عنده إلى خوض الأصعب نقديا وإلى الحوار الأكثر ايجابية. ولا شك أن تتبع آراء `محمود بقشيش` الناقد متابعة متأنية تستلزم دراسة مستقلة.. وسنركز فى هذا المقال على تطور رسمه، فالمناسبة هى فوزه بجائزة الرسم.. لكن ملاحظتنا السابقة على نقده تلقى الكثير من الضوء على تطور إنتاجه فى ميدان الرسم أيضا.
-ولاشك أن هناك أسبابا نفسية واجتماعية، مع تراكم ونمو فى الخبرة أدى إلى هذا النضج، ومن الصعب تحديد كل العوامل بدقة، لكن يمكن رصد مجموعة من الشواهد أو العلامات باعتبارها من أسباب هذا التطور.
- المواجهة
- ولد محمود بقشيش بكفر الزيات وكان والده يعمل فى خفر السواحل، فتنقل مع أسرته من موقع إلى آخر حتى استقر فى مدينة بورسعيد، بينما تنتمى أسرته إلى منطقة المطرية على بحيرة المنزلة فى محافظة الدقهلية.. كانت دراسته الابتدائية والثانوية فى بورسعيد، وقد انتقل إلى القاهرة بمفرده عندما بلغ سن العشرين (1958) ليلتحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة.
ذكريات الفنان عن طفولته وصباه تتلخص فى أنه `واجه` أسرة عسكرية، واختار أن يقف منها موقفاً متمرداً، كان الابن الأصغر فى سلسلة من الاخوة الذكور وأحسَّ أنه مظلوم بينهم، غريب عن عالم الكبار، انخرط أحد إخوته فى تنظيمات الإخوان المسلمين فكان نموذجاً للفكر والتصرُّف الصارم داخل الأسرة، ومع مرور السنين تحول إلى الوجه الدينى الآخر `الدروشة`، أما محمود فسار على النقيض بتثقيف نفسه وأخذ من الأسرة بعض العادات الحسنه مثل الاستيقاظ المبكر وتقديس العمل.
- ذكرياته عن مدينة بورسعيد هى جو الحزن القاتم.. فهو يعدّها مدينة رمادية ليس فيها ألوان كثيرة، عاش فيها حياة العزلة والغربة، لم تكن طفولته بهيجة، ذكرياته عن ألعاب الطفولة لا تزيد على طيارة ورقية كان يطلقها فى هذا الفراغ، لكن هذه الطفولة على أية حال كانت حافزاً للتحدى مازال يلازمه.
- على مستوى المدرسة كان يتمتع بمكانة مرموقة بسبب مهارته فى الرسم فكان لامعاً فى الفصل، وعلى مستوى المدرسة، كان له أخ يكبره بسبع سنوات، كان فارق السن يسمح بأن يسلم الصغير قياده له.. الكبير بطل رياضى.. هو الذى حفُّزه إلى الرسم وأحضر له بعض الأدوات التى عاونته ليسير فى طريق الفن، بينما أيقظ أخٌ آخر رغبته فى الكتابة وحرّضه على القراءة والمعرفة.
- سنوات الدراسة والشباب
عندما انتقل إلى القاهرة عاش مع شباب المثقفين، مرة فى حجرة على سطح منزل بحى إمبابة، ومرة فى شقة مع مجموعة من زملائه الطلاب: محمد حجى وجودة خليفة وممتاز البحر (وهو فنان من سوريا) وسيد سعيد (المخرج التليفزيونى) وأحمد حجى (الطبيب البيطرى الذى استشهد عام على الجبهة عام 1972وشقيق الفنان محمد حجى). وكانت لقاءاته وجلساته مع أبناء هذا الجيل: الأبنودى وسيد حجاب وسيد خميس وصلاح عيسى ومحمد جاد واللباد.. هكذا كان مجتمعه الصغير يضم براعم الأدباء والرسامين فى ذلك الحين.
- بعد التخرج عام 1963 اتجه إلى الأقاليم.. كان يركز اهتمامه على الارتقاء بالمواطنين بعيداً عن القاهرة.. وكان تعيينه فى كفر الشيخ، وأعلن أن الفنان مدين لمواطنيه فى كل مكان، بل يجب أن تكون للأقاليم الأولوية فى الاهتمام الثقافى.. وكان ذلك مواكباً لمرحلة إنشاء قصور الثقافة ونداءات الدكتور ثروت عكاشة (عندما كان وزيراً للثقافة) إلى شباب المثقفين لتحمل مسئولية العمل فى الريف.
فى تلك الفترة شارك فى تحرير مجلة سنابل وإخراجها، وكانت تخاطب المثقفين، وتنشر فكرهم وابداعهم وتنفق على طباعتها محافظة كفر الشيخ..
- المعارض المشتركة والفردية
- أما فى ميدان المعارض الفنية فنستطيع أن نلاحظ اتجاهه لمدة عشرين عاما إلى اقامة معارض مشتركة مع فنان أو اثنين من أبناء جيله قبل أن يقدم على اقامة معارض خاصة لإنتاجه.. بدأ سلسلة معارضه المشتركة عام 1968 مع الفنان عز الدين نجيب بقاعة إخناتون القديمة بشارع قصر النيل.. وفى 1970 مع الفنانين عادل المصرى وأحمد عزمى بقاعة الفنون الجميلة بباب اللوق.. ثم بالمركز الثقافى السوفيتى بالاسكندرية مع الفنانين صبرى منصور وعز الدين نجيب عام 1971.. وتوالت هذه المعارض المشتركة مع الفنانين شوقى زغلول ويحيى حجى ومكرم حنين وصلاح بيصار.. هذا بالاضافة إلى المعارض العامة والجماعية مثل معرض أسبوع فلسطين والمعارض السنوية التى تجمع كل أنواع الفنون التشكيلية.. فى الوقت نفسه كان ينشر رسوماً صحفية بجريدة المساء ومجلة سنابل والمجلات العربية أحيانا.
- كان أول معرض فردى أقامه عام 1984 بآتيلية القاهرة أى بعد واحد وعشرين عاماً من تخرجه.. ثم توالت معارضه الخاصة سنوياً..
- كان الموضوع هو الحافز للإنتاج الفنى، الموضوع (بالمعنى الأدبى)، مثل الصيادين فى مشروع التخرج، ثم فلسطين والفدائيين أوالنكسة.. ثم أصبحت صيغة `الاحتجاج` أو `التحريض` (وهى من المفردات التى يستخدمها فى كتاباته) بشكل عام، هى الحافز للإنتاج.. ثم انغمس فى قضايا شكلية، وإن لم تغب نهائياً أصداء الموضوعات العامة والمواقف الاجتماعية.. فهى تضفى على أبحاثه الشكلية عناصر الصراع والحيوية فلا تغرق فى الهمود والاستاتيكية.
- وهو يرفض الشكل المطلق ويرى أن المدرسة المصرية أو الذاكرة المصرية ليست ذاكرة الإشارة أو العلامة الموجودة فى البلاد العربية (الهيروغليفية فى مواجهة المسمارية) إذ تتميز المدرسة المصرية بالصورة، والفن الشعبى مملوء بالأشكال الشبيهة بالواقع، حتى الرموز والإشارات تتخذ شكلاً مصوراً.
- ولا شك أن النجاح والالتفات إلى قيمة إنتاجه الفنى بالاضافة إلى رحلته إلى باريس عام 1986 فى منحة من الحكومة الفرنسية رشحه لها المستشار الثقافى (لوش) وكانت مدتها أربعة أشهر.. ثم وصول عدد من أبناء جيله إلى المواقع المؤثرة فى مسار الحركة الفنية وتقديرهم لكفاءته، ويتمثل هذا التقدير فى ترشيحه لتمثيل مصر بفنه فى بعض المناسبات محلياً وخارجياً.. بالإضافة إلى ثقته هو فى فنه وفى مقدرة إنتاجه على مواجهة الجمهور دون حاجة إلى شريك فى معارضه الشخصية منذ 1984.. كل هذا يمثل علامات واضحة على التغير الذى حدث وإحساسه بجدوى الجهد الذى يبذله فقلَّتْ حاجته إلى الصيغة الهجومية فى كتاباته وفنه، إلى أن فاز بجائزة الدولة فى الرسم وأحسَّ بحالة من التوافق الاجتماعى وأنه لم يعد فى حالة `مواجهة` كالتى أحسَّ بها خلال طفولته مع أسرته الصغيرة ثم المجتمع المحيط به.
- المعرض المتقشف
مرحلة التحول فى فنه وفكره بدأت عام 1979 وعندما أقام معرضاً مشتركاً فى آتيلية القاهرة مع `يحيى حجى` جنَّد فيه كل مهاراته وأفرغ فيه كل طاقته `الاحتجاجية`. هو المعرض المتقشف، ضم مجموعة من اللوحات الصغيرة الحجم المرسومة بالقلم الرصاص وحده على ورق مما يستخدمه تلاميذ المدارس (كراسات الرسم)..
- كانت الأهداف المعلنه هى إعادة الاحترام للخامات البسيطة، وإعادة التقدير لفن الرسم بالخطوط وللقلم الرصاص.. أما الجوانب غير المعلنة فهى تحدى الظروف الاقتصادية والعسر المادى والإصرار على الإبداع والرسم رغم العجز عن الإنفاق على رسم اللوحات الزيتية الكبيرة.
- ونجح هذا المعرض نجاحاً لم يتوقعه الفنان، واكتشف أنه وجد نفسه وحقق ما يميزه عن الآخرين وتوصل إلى ما يشبه الابتكار فى الفكر الفنى المصرى بعد اليأس الذى أصاب متابعى الحركة الفنية من النتائج التى حققتها `مدرسة الرسم بالقلم الرصاص` والتى كان يتزعمها ويدعوا إليها المفكر الفنان حامد سعيد..
- فى هذا المعرض استخدم القلم الرصاص وحده معبراً عن مجموعة محدودة من العناصر هى المآذن والنخيل والشمعدانات، واعتمد فى هذه اللوحات المتقشفة على الإيقاع الرأسى الذى يحدث من تجمعات هذه العناصر التى تتلوى فى الفضاء متحدية جاذبية الأرض، وهى ليست مآذن أو نخيلاً إنما هى ذكريات أو أصداء لها، إنها ليست واقعية ولكنها تشير إلى أصولها الواقعية.. والظلال التى تلقيها الإيقاعات السامقة ثم تتابع كثبان التربة التى تنبثق منها تحقق إيقاعاً أفقياً متوازياً مع الإيقاعات الرأسية.. بينما المساحات الطولية البيضاء التى يرسمها بالممحاة توحى بمزالق النور الذى فيه شفافية وعمق وقد وصفت أعمال هذا المعرض بأنها عزف سيمفونى على وتر واحد.
- كان هذا الأسلوب يتمشى تماما مع ظروفه الاقتصادية ومع اتجاهه إلى الزهد، فالرسم بالقلم الرصاص وسيلة فقيرة متقشفة فيها تحد لبهرجة الأغنياء، وأداة للتعبير قادرة على تحقيق عالم متكامل يستطيع الصمود فى وجه بهرجة الارستقراطية وزخرفها.
- أمام لوحات هذا المعرض أحسَّ الجمهور والنقاد إلى أى مدى استحوذ محمود بقشيش على الطبيعة، وتفهَّم وتمثَّل الأشكال والألوان، ثم أقام من هذا الواقع - بعد أن امتزج برؤيته ورؤاه - عالماً جديداً نظيفاً منسقاً يخاطب الحس والوجدان. وفى الوقت نفسه لا يمتهن العقل.
- فكان كعازف (الربابة) الذى يعزف مقطوعاته على وتر واحد، ولكنه - لبراعته وتمكنه من أدواته- يُنسينا أنها من لون واحد وبقعة أو من درجات رمادية متتالية ونخلة.. وهكذا
- وقد حرَّضه هذا النجاح على مواصلة الاهتمام بالرسم المتقشف حتى فاز عنه بجائزة الدولة التشجيعية بعد أن تخطى سن التشجيع وبلغ النضج.
- العمارة الطينية
- كان موضوع معرضه عام 1985 عن العمارة الفطرية، فقد رسم عدة لوحات بعد زيارة قام بها مع عدد من الفنانين إلى واحة سيوة وبعض القرى المجاورة لها، الشكل فى هذا المعرض هو مبانى القرية وأشكالها المعمارية، وهى أكواخ من الطين تتعانق وتتجمع، النوافذ تحملق فى اندهاش غامض ويلفها مناخ صوفى، بينما المظهر العام مظهر نحتى معمارى، والحوائط تتكاتف فى إيقاع شجى يسمح بومضات الضوء أن تتخلل الدروب وكأنها خفقات قلب القرية.
كان من الواضح اهتمامه بالكتلة، وبخاصة شكل الكتلة المعمارية المصرية القديمة فى مواجهة فناء فسيح. النوافذ تحولت إلى عيون حتى وهى مغلقة، كما أن النوافذ المفتوحة لا تكشف عما بالداخل من أسرار. أما الأبواب فيصعب اقتحامها.. استبدل بالانسان البيوت وهو ما نسميه `أنسنة` الأشياء أى تحويل الأشياء إلى كائنات إنسانية. فى هذا المعرض حَّول محمود بقشيش البيوت إلى آدميين مع تقشف فى الألوان وإصرار على البساطة دون استعراضات لونية، فالألوان قليلة منسقة مكثفة، بها تدرجات دقيقة.. ورغم اختفاء الشخوص يحس المشاهد بالحياة التى تضج خلف هذه الكتل المعمارية أو بداخلها.
- ويعتمد الفنان فى تكويناته على الإيقاع الرأسى فهى تتحدى جاذبية الأرض، فيها تعلق بالتراث وتعبير عن البيئة ليس بواقعيتها الحرفية أو الشكلية وإنما (بعناوينها) فقط. وتصبح العناصر مجرد إشارات أو كتابة أو رمز، الظلال تتخلل الإيقاعات اللونية كدقات الطبول فى لحن راقص.. كان يعيد تشكيل عناصر البيئة المحيطة به ويعيد صياغتها فى عالم فنى خاص به.
- تجسيد الشكل عنده مبنىَّ على أساس الإضاءة الداخلية فى اللوحة.. فنحن نستطيع أن نرى الظل ونقيضه فى وقت واحد.. وفى لوحاته درجة من تلقائية رسوم الأطفال رغم الإيقاع الهندسى المنتظم.
- وتبدو أشَكاله وكأن لها كيانها الخاص خارج قوانين الضوء والظل الواقعية، فهو يخلق عالماً جديداً وكائنات ليس لها وجود فى الواقع.. وهو لا يهتم باللحظة العابرة ولا بالوحدة المكانية بل يهتم بتحقيق عالم له سحره أو أسطوريته رغم تواضع المجموعة اللونية التى يستخدمها.
- فى لوحاته تأكيد للجانب الدرامى، وهو يجمع خصائص العمارة والرسم فى آن واحد حيث يستلهم العمارة الفطرية وكأنه يقوم بدراسة التراث المعمارى الشعبى، فاتسمت لوحاته بقوة البناء ورسوخه، وشاع حول عمارته جو من الصوفية حيث جعل الضوء خلف الكتل المعمارية، لقد تلاعب بانكسارات الضوء وتنوع الظلال فى اتجاهات مختلفة حتى تبدو بيوت القرية البسيطة فى ضوء القمر وكأنها قصور أسطورية وذلك من خلال مصادر الاضاءة المبتكرة، ومن هنا ظهرت فى أعماله روح سيريالية تثير دهشتنا وكأننا نتطلع إلى مشاهد على كوكب آخر فتشيع إحساساً بالرهبة والوحشة.. وكان الفنان يطلق على هذا المعرض اسم `أضواء وحواجز`.. فيوقظ روح المغامرة والاتجاه إلى المجهول وذلك من الترتيب الخيالى للعناصر.
- ملاحظات الناقد على الفنان
- بقى أن نتعرف على جانب هام آثرت ألا أتدخل فيه بالتعديل أو إعادة الصياغة وهو تفسير الناقد محمود بقشيش لأعمال الفنان محمود بقشيش ورأيه فى المؤثرات التى شكَّلت شخصيته الفنية، وهى من غير شك لها أهمية خاصة إذ تلقى أضواء كاشفة على الكثير من جوانب إبداعه الفنى..
- ألاحظ أن `مفردات` بعينها قد صاحبتنى وما تزال منذ بداية تعلقى بالرسم والتجسيم والتلوين حتى اليوم، لم أنتخبها بوعى بل تسللت إلىَّ واستقرت، تلونت عبر الرحلة الفنية وتبادل المواقع، اقتربت تارة وابتعدت تارة أخرى عن ملامح أو تفاصيل الواقع المرئى. ظهرت.. أحيانا.. ظهوراً حاسماً فوق مسطح اللوحة وأحيانا كانت تلبس قناعاً مغايراً لهيئتها فى الواقع لتحديد مجال الإيحاء. أحيانا تخاطب المشاهد خطاباً مباشراً.. صريحاً.. مستفزاً.. وأحياناً تهمس لروحه بما يدور فى خلد الفنان.. كاشفة فى كل الأحوال عن وجدان مُعذَّب، لا يعرف طريق النجاة. يشارك واقع البشر المصريين والعرب حزنه وقلقه وتَبدُّدُه.
- مفرداتى أو أسرتى الفنية هى: وجوه الصيادين الصخرية، أكواخ الفقراء، الشمس، القمر.
- كنا نسكن - وأنا فى سن الطفولة واليفاعة - إلى جوار شاطئ البحر بمدينة بورسعيد فى مساكن للعسكريين، وكنت بطبيعتى - أو بمعنى أدق - بحكم عادة الأسرة أنجعص مبكراً.. وكانت الحمامات ودورات المياه خارج البيوت، فكان وجه الشمس الطالع أول ما التقى به وأنا فى الطريق إليها، وكنت أودّع وجهها فى المساء وأنا على منضدة الاستذكار، رحلة طويلة.. تقطعها الشمس بسلاسة وإحكام.. على النقيض من المرحلة اليومية، العبثية -بالنسبة لى - وازدحامها بعشرات التفصيلات غير السعيدة فى معظم الأحيان، لهذا كانت الشمس والبحر المترامى وأشباح السفن البعيدة القادمة من المجهول ملاذاً للرحلة وحافزاً للحلم والتأمل.
- كنت أسعى إلى أن يشاركنى أحد أفراد أسرتى أو أحد أقرانى هذا المجال الذى انبهر به كل يوم.. بلا جدوى. عابثت الأوراق بمكنون نفسى فأعجب بها أحد أشقائى الكبار قبل أن ينتبه مدرس الرسم إلى موهبة تلميذه، ولست أذكر الآن أننى تلقيت توجيهاً مؤثراً من مدرسى باستثناء توجيهات الفنان `عبد العزيز درويش` فى كلية الفنون الجميلة ورسوم الفنان `بيكار` الصحفية، وعلى الرغم من أنى كنت من الطلبة المرموقين فإننى لم أحب المدرسة... ولم أحب أيضا - وحتى كتابة هذه السطور- مواقع العمل التى اضطررت إليها، كانت أشواقى دائماً فى الموضع الآخر من ظروفى.
- كنت أهبط إلى الشاطئ متأملاً تلك العلاقة التى تستثير فىَّ كوامن الحس الشعرى.. أعنى: علاقة الصيادين بالبحر. كنت أتأمل وجوههم طويلاً، وأفرح لانتصاراتهم عندما يكون الصيد وفيراً.. ولا أشارك أقرانى أو مَنْ هو أصغر منى انقضاضاتهم الخاطفة على المتساقط من الأسماك.
- كنت أتأمل هذا المشهد من زوايا مختلفة كما لو كنت أهيئ نفسى لإخراجه سينمائياً.. عندما كنت أكتشفه من شرفة الدور الثانى حيث نسكن أبقى لحظة مأخوذاً بعلاقة المجاميع البشرية بالبحر.. وكانت تبدو على البعد نقاطاً فى مدى` لاحد له.. ثم أهبط لأقترب من تلك النقاط الشبحية حتى تتجسد أفراداً يعانون صراعاً محتدماً مع الكامن فى الماء، ولقد ألهمتنى تلك الدراما موضوع مشروع التخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1963، وكان الصيادون أبطاله وفاز المشروع بأعلى الدرجات.
- ظهرت فى لوحات هذا المشروع مجموعة من العناصر ظلت (جوهرياً) من ثوابت الرؤية التشكيلية عندى.
- لعل أبرز تلك العناصر هو `المدى`. إن طريقة تناوله بالطبع قد تغيرت الآن، فقد ظهر فى لوحات المشروع عنصراً مكانياً يحتضن دراما مسرحية خاصة.. بينما ظهر `المدى` فيما بعد.. `فعلاً ورد فعل`. لم يعد عنصراً مساعداً يحتضن عناصر أخرى أو يضاف إليها بل يظهر فى حالة تفاعل، تتخلَّق منه العناصر المختلفة.
- ثانى تلك الملامح التى ظهرت فى لوحات المشروع، وبقيت، وان اتخذت أشكالاً متنوعة هو عنصر `التجسيم الملون`. كنت أميل - وما أزال- إلى التجسيم، وإن كنت أتحرر من المصادر الثابتة للنور حتى أحرر الأشكال بدورها من قيد يحد من حرية التعبير بها وعنها، كنت.. فى ذلك الوقت.. قد أدركت شكل التجسيم الأيقونى بالاضاءة الداخلية، وكذلك شكل التجسيم فى `خيال الظل`، فكانت الأشكال البشرية فى لوحات المشروع أقرب إلى خيال الظل.
- ثالث تلك الملامح.. ظهور درجة خفيفة من درجات التحريف فى الشخوص. وأرانى حتى اليوم لا أميل إلى التحريف الحادّ الصارم فى ملامح الإنسان ولست أجد الآن إجابة قاطعة على ذلك وقد تساءلت بينى وبين نفسى: هل السبب هو الغطاء القيمى الأخلاقى الذى اعتدناه؟ إذن لماذا كانت شخوص `الجزار` - مثلاً- على هذا القدر من التشوه وهو ابن بيئة متدينة؟ ... هل حبى وتعلقى بالرسم - الذى لا يرفض الوصف- هو السبب؟ هل ميلى الخاص إلى التأمل الهادئ؟. وهل؟. دون أن أجد - كما قلت - إجابة على ذلك. لهذا كان أقرب المحرَّفين إلى نفسى من الفنانين الغربيين أثناء دراستى فى الكلية: موديليانى، دومييه، والجريكو فيما بعد، أما رامبرانت فقد أحدث نقطة تحول أذكرها فى حينها.
- رابع تلك الملامح - المستمرة - هو اللون. كنت وما أزال مقتصداً فى اللون، نافراً من الاستعراضات اللونية التى تشتت الغرض التعبيرى. أريد لمتلقى لوحاتى أن يغوص فى عوالمها لا أن يتوقف عند قشرة البهجة الزائفة.. بالإضافة إلى أنى أميل إلى (التجسيم والتحليل) فى نفس الوقت وبالتالى فان الألوان يجب أن تتسق مع هذا النهج.
خامس تلك الملامح التى تطورت فيما بعد تطوراً - ربما- أكثر فاعلية وعمقاً من بقية العناصر هو عنصر `النور`.. الذى لم يعد مجرد انعكاس لمصدر ثابت.. وسأتحدث عن هذا العنصر بعد قليل.
- ثلاثية الإنسان والقمر والبيوت
- ظهرت تلك المفردات `مجتمعة` فى لوحات و`متفرقة` فى لوحات أخرى، كما ظهر `التحريف` بالطريقة التى ذكرتها فى لوحات أهمها مجموعة لوحات بعنوان: (فدائيون). ظهرت تلك المجموعة بعد هزيمة 1967، وحصل بعضها على جوائز فى مسابقات جمعية الفنون الجميلة، وأعترف بأن تأثير `الجريكو` بشخوصه العملاقة الروحية وألوانه الوقورة كان واضحاً فى فدائيىّ تلك المرحلة.. فى لوحاتى، كان يجمعهم بشخوص `الجريكو` القداسة وان اختلفت طرق العمل من أجل خير الانسان بين الفريقين.
- كانت رؤوسهم تطول السماء، يصطفون صفوفاً يتأهبون للقتال، قتال كونى، يظهرون بحضورهم النبيل الشريف درجة انحطاط العدو الغائب.
- ظللت ملتزماً بكل ما ذكرت إلى أن جاءت نقطة التحول الحقيقية من خلال مصدرين أحداهما واقعى والآخر فنى.. وجهنى إليه `رمبرانت` قبل أن ـ أتطور بالحصاد تطور مستقلا. كان (النور) فى لوحاتى نوراً واقعياً إلى حد كبير خاصة فى لوحات مشروع التخرج.. حيث ظهرت آثار اللون والنور البورسعيدى: الوقار والصفاء، كان المثير الواقعى الجديد هو المآوى المتنقلة لعمال السكك الحديدية، منظرها فى الليل يثيرنى، الإضاءات الخافتة تظهر هناك وهنالك، كنت أتساءل: أى أحاديث وحكايات وهموم يمكن سردها مع اهتزاز فتائل المشاعر الفقيرة؟ وكنت أتساءل أيضاً: كيف يمكن رسم ما يحركه `داخلى` هذا المشهد المؤثر؟ كيف كان يمكن لرامبرانت أن يعالج هذا المشهد؟ أعتقد أنه لن يتخلى عن البعد الوصفى، وسيقوم `النور` بدور حاسم فى بناء اللوحة.. ولكنه لن يخرج من دائرة التمثيل والوصف.
- بعد عديد من التجارب رضيت عن واحدة عبَّرت عن دراما هؤلاء المحتجزين فى خيامهم فى عتمة الليل ليس بالوصف ` الرمبرانتى` بل بإعطاء عنصر النور أكبر قدر من الاحترام.. بأن حررته تماماً من أن يكون فعلاً فعَّالا مواجهاً لنقائضه داخل اللوحة. تمثلت تلك النقائض فى هيئة حواجز شبحية تفصح أو تخفى انتماءها إلى هيئة الأكواخ والأطلال ويظهر الضوء عاصفاً مرة متسلّلا مرة آخرى، ساعياً فى كل الأحوال إلى تجاوز تلك العوائق.
- فى الوقت الذى تصور فيه بعض النقاد أن مجموعة `حواجز ضد الضوء` تقف عند مشارف التجريد كنت أراها أكثر واقعية من مجموعة لوحات الفدائيين، صحيح أن الانسان بملامحه المألوفة، الواقعية، قد تراجع.. غير أنه ارتدى أقنعة جديدة لتوسيع مدى الإيحاء والخيال والتراسل الروحى مع المتلقى. إن لوحات `حواجز ضد الضوء` تعبر عن اشتباك مع واقع بعينه هو واقع الفنان المتصل أشد الاتصال بواقع كل المصريين.. وبخاصة التعساء منهم وما أكثرهم.
- قدمت لى الرحلات المختلفة فى بعض مواقع من البيئة المصرية إسهامات جديدة فى التعبير، أيقظت تلك الرحلات مفردة من المفردات القديمة وهى مفردة `المأوى`. فى سيوة وبعض القرى التى زرتها وجدت الأكواخ أشبه بصناديق الأسرار فتعلقت بها على الفور.. فما دام هناك سر فلابد من وجود الفن المعبر، الكاشف على مسطح لوحاتى صارت بيوت الواقع بيوتى. صورة منى.
بقلم : صبحى الشارونى
مجلة :إبداع ( العدد 10 ) أكتوبر 1988
محمود بقشيش.. هندسية العفوى ومنطقية التلقائى
- ماذا أريد؟
- ما أريده لنفسي هو ما أريده للآخرين.
- أن يشغلنا سؤال حضارى نبحث به عن هويتنا فى عصر الاجتياح.
- أن نكشف صيغة مستقلة، لا هى تابعة للنموذج الأوربى، ولا هى ناسخة لإنجازات الموروث المصرى، والعربي، بل محاورة لها، ولإنجازات العالم الثالث فى الفن، أملاً فى تشكيل ملامح جديدة لفن قومى إنسانى.
محمود بقشيش (من كتالوج معرضه الأخير بأتيلييه القاهرة )
- حول هذا السؤال الذى لم يكتف طرحه بل أجاب عليه.. دار معرضه الأخير، بل إن السعي لاكتشاف خصوصية لفن مصرى يكاد أن يكون المحور الرئيسي لمعارضه السابقة، وفي لقاء معه قال: (إن أغلب فنانينا الساعين إلى تلك الخصوصية ينتفعون بما يقع تحت أيديهم من `موتيفات` فرعونية، أو قبطية، أو إسلامية، الخ.. ويقومون بتهجينها بما يسمى `روح العصر` فلا بأس لديهم من اقتلاع الآيات القرآنية من جدران الجوامع وتحويلها إلى زخارف سياحية، أو اقتناص وحدات فرعونية، وانتزاعها من ملابساتها الثقافية وفرضها على ملابسات ثقافية جديدة، ومختلفة.. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة حالة تدعو للتفاؤل.. إلا أن الصخب الإعلامى المصاحب لها يفسدها. أعنى.. تلك الرحلات التى تنظمها الثقافة الجماهيرية للفنانين لمشاهدة ملامح البيئة المصرية، ولا بأس بالطبع من أن يغادر الفنانون مراسمهم إلى الطبيعة، ولكن.. أن يتصور بعض الفنانين أنهم قد حققوا حلم اكتشاف ملامح خاصة بفن مصرى لمجرد زيارات خاطفة لبعض المناطق.. فهذا أمر مضحك`.
- لقد حاول `محمود بقشيش` أن يقطع شوطًا فى الطريق الصحيح، وهو لم يِدّع أنه قدم كشوفًا حاسمة، ففى معرضه الأخير يعلن على الأقل.. أنه فنان من فنانى العالم الثالث `يحاول`.. وحدد وضعه بوضوح في خارطة القضية بكلماته في كتالوج معرضه، فهو يقول:
- أستلهم إنجازات الفن الحديث الأوربي.. وأقاومها!.
- أحتضن الموروث المصرى، والعربي.. وأرفض أن يكون عملى الفنى صورة منه، أو متعلقًا بقشوره.
- وهو لا يلتقط ` قشور` الموروث من الإنجازات الفنية، ولكنه يحاول اكتشاف مناهج تلك الإنجازات وفي حوار معه قال: (لقد تحول شكل `النخلة`.. إلى شكل فنى ومعتقدى هو شكل `المسلة` كما تحولت عند الفنان المسلم إلى شكل `المئذنة` وتحولت عن الفنان العربى إلى حرف الألف.. وهكذا... إن `النخلة`.. أو ذلك المثير الجمالى يتحول بناء على موقف جمالى، وموقف معتقدى إلى من يرتبط بالجماعة التى ابتدعته، فمعنى أن نستهلك إبداعات الآخرين هو أننا افتقدنا دفاعتنا الثقافية، وأصبحنا تابعين وكان هذا هو الدافع النظرى لإقامة معرضى السابق نجامة الأقلام الرصاص، فقد حاولت أن أكتشف فى وحدة `النخلة` ملامح جديدة، فاستنطقتها: العزلة، والاغتراب، والأمل.. وهكذا).
- قد نجد فى لوحات `محمود بقشيش` بعض الملامح المشتركة بالفن المصرى القديم كالحس الهندسى، الرياضى، ووضوح العناصر، إلا أن هندسية `بقشيش` هندسية روحية.. أو عاطفية، وليست نمطية، فهى ليست تلك التى يحتشد بها ولها الفنان أمام سطح اللوحة `الأبيض`، ويعرف مسبقًا خطوات التنفيذ بدقة، ولكنها.. تلك التي تتخلق من حوار العناصر التصويرية.. التي وضعت بصورة تكاد تكون عفوية، ويترك نفسه لاشتباكات العناصر: النور والعتمة، الإضاءة الأثيرية فى انزلاقها على الشخوص فتمحو بعضها، وتشف عن البعض الآخر. تشيؤ الإنسان، وأنسنة الشئ. انقلاب الأشياء والعناصر الاعتيادية إلى النقيض. وفى قلب هذا العالم المنقلب على نفسه، والمشتبك مع عناصره يحدد `محمود بقشيش` هدفه.. فهو يدرك أساسًا أن مجاله الإبداعى هو فن التصوير، وأن هذا الفن له مقومات خاصة يتعين الإحاطة بها، واحترامها، وعن طريق هذا الفن يجسد موقفه الفكرى من العالم.
- لقد مر `محمود بقشيش` بمراحل فنية مختلفة، ركز فى بعضها على استلهام `الطبيعة` وبعضها الآخر على استلهام قضايا الواقع الاجتماعي.. وبين الحين والحين يرتحل إلى ذاته فى تأملات أقرب إلى تأملات المتصوفة، ولا يكاد، فى تلك الأثناء يراه أحد، أو يعرف عنه شيئًا.. إلى أن يظهر من جديد فى شكل `معرض` أو عدد من الدراسات التشكيلية، فيثير من ردود الأفعال ما يجعل حضوره مؤكدًا، وهو يحتشد فى كل معرض بما يناسبه من الوسائط، ففى معرضه السابق المنفذ بالأقلام الرصاص أطلق عليه عنوان `العودة إلى البديهيات`، ونفذه على قصاصات لا يزيد أغلبها عن مساحة كف اليد، وقد أراد بهذا المعرض أن يثبت أن القيم الفنية العالية لا ترتبط بالمساحة أو الخامات غالية الثمن، ولكن الذى يعلى من شأن اللوحة هو الفنان ذاته: بعمق رؤيته، وبراعته، وحساسيته، وجاء هذا المعرض تأكيدًا لمعرض سابق استعان فيه بقصاصات الجرائد المهملة وعندما ارتفعت نبرة الاحتجاج عنده.. نبذ الخامات الفقيرة، ولجأ إلى عجائن الألوان الزيتية.. الغنية.. كما كبرت مساحات لوحاته، وبدلاً من ذبذبة سنون الأقلام الرصاص.. الدقيقة تنوعت اللمسات.. فتارة دقيقة، وتارة جريئة.. مندفعة.. إلى مساحات تكاد تختفى منها آثار اللمسات.. وهكذا.
- لكن.. لأن الفنان، والإنسان.. لا يستطيع أن يجهز على ذاكرته، فإن ملامح الهمس القديم يتسرب.. كشكل `الدائرة` التى صاحبته منذ طفولته `فالشمس` كان يصافحها كل صباح فى طلوعها، وأفولها، `وبيوت المدينة` الرمادية ببورسعيد، ومساحات الصمت الممتدة.. كل هذه العناصر ظلت تتردد فى لوحاته بين الحين والحين حتى اليوم.. ولعل الجديد الذى جاء فى معرضه الأخير، من حيث العناصر، هو ظهور `المجاميع`.
- يقول الفنان الناقد `محمود بقشيش` فى مقدمة كتالوج معرضه: (البيوت. الصناديق الفارغة، أو الممتلئة بالنفايات. النوافذ المغلقة.. تحاول اعتقال الضوء بلا جدوى النوافذ المنفتحة لا تكشف عما بالداخل من أسرار، بل تكشفها آثار العنف على الجدران. الظلال المباغتة.. ثقيلة الوطأة تمتد في مساحات العزلة، والخوف.. أما الغلالات الشفافة.. فإنها تنتصر أحيانًا وتنهزم أغلب الأحيان لتترك المجد، والبطولة للنفايات! العبث الذى نرفضه يتحقق، والعدل الذى نحلم به مستحيل!).
- تتساوى فى اللوحات قامة الإنسان والحيوان، والأشياء أغلب الأحيان كما في لوحة ` دعوة خاصة للسيد فرس النهر` أو لوحة ` اللهب الأبيض` حيث يصير الصندوق - التابوت - سجنًا، يعتقل لحظة الفرح المصيرية، ويحاول خنقها، وقد يختفي الإنسان، ولا يبقى منه غير وهم الإيحاء بالوجود خلف حواجز معتمة.. كما فى مجموعة `حواجز ضد الضوء`. إن اللوحات، فى مجملها، ليست وصفًا لعالم يتصف بالعبثية، بقدر ما هى إدانة له.)
- قلت: ما هو تفسيرك لتنوع الأساليب الفنية داخل المعرض؟
- (قال: ` لقد انتشرت خلال الأعوام الماضية معارض `الموتيفه` الواحدة، أو بمعنى أكثر دقة: معارض `الجملة التشكيلية الواحدة يدور حولها المعرض، وأصبح لدى كل فنان مجموعة من المفردات النمطية، المحفوظة، أشبه باللزوميات.. يعرف بها كالعلامة المسجلة المطبوعة على السلع التجارية!.. أما بالنسبة لى فلست أتصور أن تكون الحياة خصيبة بالتنوع ولا يكون الفن كذلك. أنت ألا تتبدل من حال لحال.. ومع ذلك تكون أنت أنت.. وكذلك المعرض.. إننىى لا أفرض عليه `جملة تشكيلية` قبلية، كالمعارض النمطية.. إننى لا أنوع على` الوحدة ` الواحدة، ولكننى أشكل من التنوع وحدة فلا فرق عندى بين وحدة `البيت` و`القارورة` و`الصندوق`. فكلها عناصر يمكن أن ينتظمها عالم تشكيلى واحد. إنني أنتقل من `وحدة البيوت` إلى `وحدة القوارير` بعد أن أكون قد تشبعت `بالوحدة ` الأولى، وهكذا.. أنتقل من `الزحام` إلى `الفراغ`.. ومن الدرجات الليلية حيث الدرجات المعتمة والإضاءات المتسللة عبر الحواف إلى درجات فاتحة يسودها اللون الأبيض إن التراكيب المؤسسة على وحدة `البيت` ذى النوافذ والفتحات المتعددة، والذى يقترب فى شكله التجسيمى من شكل `المكعب` تكون مختلفة بطبيعة الحال مع التراكيب المؤسسة على وحدة القوارير الخزفية.. الخ إلا أننى أعود بين الحين والحين إلى الطبيعة (في شكل وجه إنساني، أو طبيعة صامته أدرسها دراسة أقرب إلى الأكاديمية شأنى في ذلك شأن مؤلفى الموسيقى عندما يقدمون دراسات على آلة من الآلات الموسيقية، ولا يحجمون عن تقديمها جنبًا إلى جنب مع مؤلفاتهم، الكبيرة ولهذا لم أحجم عن وضع دراسات ذات مذاق أكاديمى للوجه الإنسانى، جنبًا إلى جنب، مع أعمال تختلف معها من ناحية الأسلوب، وإن شاركتها ملامح الحزن، وشاركتها فى تشكيل المناخ النفسى الاحتجاجى للمعرض).
- إن معرضه الأخير يتسم يالدينامية، فبيوته يغلب عليها `إيقاع الخطوط المائلة`، فإن جنح بعضها إلى `السكونية` فى الإطار المجرد لخطوط التصميم، فإنه يلجأ إلى خلق إيقاعات داخلية دينامية تتمثل فى الفتحات التى ينوعها: مساحة، وموضعًا فى خارطة واجهة البيوت.. وقد يغرق البيوت فى الظلام، ويشككنا في أمرها أهى بيوت أو صناديق ويفاجئنا بأضواء مباغته عند الحواف، أو يدهشنا بظل لا مصدر له.. وهكذا.. إلا أن بيوته جميعًا.. الخالية إلا من النوافذ، والتى هجرها، فيما يبدو أهلوها.. نشعر رغم ذلك أنها متخمة عن آخرها بالبشر!.
- أما قواريره فهى شخوص.. إنسانية.. فخارية.. تنتصب فى صفوف كما لو كانت تهم بالإنشاد الكورالى، واللحن الأبيض فى لوحات القوارير هو `البطل`.. إلا أنه فى تلك اللوحات قد تخلص من سكونيته النمطية إلى إيجابية، فهو لا يكتفي بدور الطلاء الديكورى فى الخلفية، ولكنه يقوم بدور فاعل فى تخليق وحدات القوارير، أو يصبح غلالة ضوئية تنزلق فوق الأشكال فتنمو بعض العناصر، وتؤكد البعض الآخر، وعلى الرغم من التخفف الظاهر من البعد الثالث، إلا أن حوار الأبيض والقوارير الخزفية قد صنع الإيحاء بوجود أشكال ثلاثية الأبعاد.
- ولنتأمل بعض لوحات معرضه الأخير.
- لوحة اللهب الأبيض
- يظهر باللوحة ثلاثة صناديق، أو توابيت تتوالد. يضم كل واحد منها كائنًا بشريًا مطموس الملامح.. تحت غلالة بيضاء، أو تحت درجات كثيفة من الدرجات الغامقة.. ويظهر ببعض الوضوح وجه امرأة تزغرد فى الصندوق العلوى! لا ندرى إن كنا أمام حفل العرس، أم مأتم!.
- لقد أسسها الفنان على تصميم جرئ، أسسها على الخطوط المائلة، ورغم ميل الأجساد جميعًا إلا أننا نشعر بتوازن العناصر، فقد أقام حوارا بين الشكل الهرمى الذى ينتظم الصناديق والمشخصات، وبين ذلك الخط اللولبى الذى يحفره ضوء الملاءة البيضاء الشفافة صاعدًا إلى قمة الهرم فى شكل شراشيب، ولقد تخلص الفنان بالشفافية، وحوار الخطوط والمساحات المجردة.. من المنطق الواقعى للعناصر.
اتسمت اللوحة بالسمات العامة لأعماله: الحس الهندسى، الرياضى، الشفافية.
- لوحة البشر. الصناديق. البيوت
- إن بطل هذه اللوحة الأول هو الإضاءة الأثيرية الشفافة التى تخفى عنصر الشخوص الإنسانية، كما تقوم بربط التكوين كله عن طريق لولبية تندفع من الزاوية السفلى حتى قمة التكوين.. الذى يطرح معادلة تشكيلية، أو حوارًا تشكيليًا.. بين الشفافية، والعتمة. بين الشخوص والصناديق الموضوعة بها، بين البيوت الممتدة البعيدة أعلى اللوحة والوجوه القريبة أسفل اللوحة. بين الحركة أسفل اللوحة، والسكون والهمس أعلاها.
- لوحة البيوت
- تظهر فى هذه اللوحة واجهات بيوت متراصة، متماسكة رغم التمزق، توحى باختفاء السكان. إن اللوحة يغلب عليها الخطوط الأفقية ومع ذلك تمتلئ بالحركة، فملمس واجهات البيوت صار قريبًا من البشرة الإنسانية، بل إن الفتحات المختلفة تشكل صورًا لوجوه، وازدحمت البشرة بتوتر السطح عن طريق لمسات انفعالية متنوعة، ومدروسة كذلك تتنوع الفتحات التى لا تكشف عما بداخلها، واللوحة تتسم بالتحليل التصويرى التعبيرى ويعطى لون السماء صلابة وتماسكًا للبيوت التى تظهر فاغرة الأفواه. تواجهنا بالتحدى.
- إن العالم المهتز. المضطرب. المحتج.. فى لوحات `محمود بقشيش` هو حلم.. لا يستهدف القتامة، والتحذير، ولكنه ينشد النقيض المتواصل، والمحبة.. من أجل حياة إنسانية كريمة ومن أجل فن قومى. إنسانى.. لا يتجاوز حدود التلقى من الفكر الأوربى.. إلى العطاء.. والمشاركة.
بقلم : شاكر عبد الحميد.
مجلة: إبداع العدد (6) يونيو 1984
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث