`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
عبد السلام عيد عيد إبراهيم
معاناة المعاصرة
- عبد السلام عيد... صاحب رؤية عصرية... بل إن شئنا رؤية مستقبلية... يرى مثلما ترى زرقاء اليمامة أبعد بكثير مما تمتد إليه عيون من حوله.. وسيلته إلى الرؤية إذن ليس البصر فحسب بل والبصيرة....
- يغمس أنظاره فيما هو من عصرنا بمثابة الجوهر... ويعطي لنا تصاوير حافلة برؤى قد تبدو لذوي النظرة الضيـقة غـير جديرة بأن يُشَغل بها بالهم، ويقولون لأنفسهم ولغيرهم من أين أتت هذه المناظر التي ينقلها إلينا الفنان، لم نر مثلها، ما لنا نكترث بها! ولكن هذه المناظر هى في الحقيقة من حولهم، هى بداخلهم، هى مصيرهم.. وكذلك لا ندرك الوجود فليس ذلك معناه أنه غـير موجود، وبئس من دفن رأسه في الرمال مثل النعامة وقال `إني لا أرى.. إني لا أريد أن أرى`... فالحقـيقة موضوعـية، وهـى مترامية الأطراف، وعليك أن تجاهد للوصول إليها واستيعابها، وهذا ما يحاول عبد السلام عيد أن يفعله...
- وفي ذلك تكمن مغامرته التشكيلية، وهو يدعونا ويستثيرنا كى نشـاركه مغامـرته، ونمـضي معه عـلى اكتشـاف جوانب الوجود الذي لم يعد الإنسان محوره، بل صار قطرة في بحره هذا هـو السبب في أن الرعـشة تنتـابنا أمام بعض مناظر عـبد السلام عـيد الطبيعية فهى مناظر إلى حد كبير نبوئية، وأننا لنهتف أمامها قائلين لأنفسنا `غريبة هذه المشاهد ومدهشة`... أنحني احتراماً إزاء معاناة المعاصرة التي تمثلت آثارها في أعمال عبد السلام عيد... هذه المجاهدة من أجل إبداع أعمال ليست مثل سابقتها ولذلك يجدر أن نتقـبلها بالرحيب أولاً لأنها اختيار لطريق صعب، لا تـقـل مـشـاقه عن الحفر في الصـخر بالأظـافر وحدها وثانيها لأنها دعوة إلى الإطلال على ما وراء أسوار عالية تعمي الأبصار وتحجب مد الأنظار إلى ما وراء الأفق...
- وهذه المعاناة التي يقدم لنا عبد السلام عيد ثمارها مردها إلى `الطليعة` التي تكبـد أصحابهـا ثمـناً قـد يكون باهـظاً، وقد كسر عبد السلام عيد بوصلته وترك شراعه لريح المصادفات تحمله بعيداً إلى بحر... ربما كان بانتظاره فيه جبل المغناطيس الـذي جذب سفينة السندباد بقضب ما بها من مسامير... ولكن ما لبث السندباد أن استطاع أن يكسر شوكة جبل المغناطيس بأن يبني لنفسه سفيناً لا تتماسك أوصـاله بأى مسامـير تنـصاع لنداء المغناطـيس وسطوته، فمـضي السنـدباد إلى مغامراته وكشوفه المشوقة، ومضى من بعده عبد السلام عيد في رحلته التشكيلية عبر مراحل من التجريب المتتابعة...
- وتجريبية عـبد السلام عـيد تجريبـية حتى النـخاع، فهى تمـتد إلى الجوهر، كما تمـتد إلى الشـكل، وأيضاً إلى الأدوات والمواد المستخدمة للتعبير، وتنعكس على المتفرج بالتأثير على أسلوب تذوقه للمنتج الفـني، وكيفـية رؤيـتـه للوجـود بأسـره فـهى تدفعه للخروج من عالم محصور إلى عالم تتلاطم فيه وتتفاعل مؤثرات التكنولوجيا والصناعة والفضاء وعلوم الطبيعة والاجتماع والسيكولوجيا.. فتشكيلاته شديدة الغرابة من منجزات الميكانيكا والكهرباء والعمارة والكيـمياء وغـيرها وأنك لتقف أمام بعض مناظر الطبيعة، وتتسائل من أين تأتي هذه المناظر، فتأتيك الإجابة بأنه ربما كانت هذه مشـاهـد مـن أماكن خضعـت وتعرضـت لتفجيرات نووية وهذه المشاهد قد لا تراها في إطار وجودك المحدود، ولكن ربما واجهتك يوماً ليس بالبعيد على أى حال... أما الفـنان فيراها منذ الآن ببصيرته النبوئية. وانعدام آثـار الحياة فيها ربـما كان مـن جراء بعـض التجارب العلـمية التي أضحت البشرية معرضة أن تعاني من آثارها التدميرية...
- ويستخدم عبد السلام عيد في إنجاز تشكيلاته الفنية خبـرات التصوير والنحت والحـفر والكولاج.. وهــو يعيـش العصر حتى في خاماته، فهو يستعين بكثير من نفايات المصانع والورش، يتولى استجلاء أوجه الجمال فيها، وليس بضرورى أن يكون لهذا الجمال مفاهيم تقليدية، ويحاول أن يعيد تركيب هذه النفايات والتنسيق بينها، حتى يخرج إلينا في النهاية مخلوق هو وليد مصالحة موفـقة بين الفن والتكنولوجيا... ولنلاحظ الخامة المستخدمة بمعرفة عبد السلام عيد أنها ليست تلك الألوان الرقيقة المناسبة من علب الطباشير أو أنابيب الجواش والزيت التقـليدية، أنظروا ترتيبه للعناصر، وعاينـوا الشجاعة والاستقـلالية اللتين يتمـسك بهما حتى جاء عـطاؤه عـبر معـاناة مرتضاة عن طيب خاطر، طلياً خشناً، صادماً خالـياً من المـيوعة والرثاثـة، وفي الوقـت ذاته مقـنعاً رقيقـاً حانياً صداحاً صادراً من حنجرة فتية ليست مثل حناجر أخرى مستهلكة مهدمة مبتذلة من جراء المداومة على اجترار أغاني خيم عليها الوخم والرتابة... وعلى خلاف أنصار الدادية الذين ذهبوا إلي معاداة الآلة، وأفصحوا في أعمالهم عن تخــوفهم من آثارها الخبيـثة أو على الأقـل توجسهم من الحياة تحت سلطانها واستسلام الإنسان لها...
- دلف عبد السلام عيد إلى عالم التكنولوجيا والصناعة بلا خشية من أن تترك بصماتها السيئة على فنه، بـل عـلى العـكس أجـرى مصالحة بين الفـن والآلـة. واسـتخدم في مشيداته التشكيلية كثيراً من مقوماتها وعناصرها فأضـحى مقبـولاً أن نرى الـتروس والعجلات والأسلاك والفوارغ ومختلف الخامات التي لم تمسسها أنامل فنان من قبل تدخل في مكونات تشكيلات عبد السلام عـيد... بل ولم يعد من المستبعد أن يؤتي بطاقة كهربائية أو ميكانيكية إلى المشهد الفني فتدب فيه وهـو في مكانه حركة وحيوية، وإني لأخال عـبد السلام عـيد مروضاً لوحوش مستجـلبة من غابة التكنولوجيا الحديثة.. ويقـول لزائري معـرضـه لا تخافـوا من هـذه المخلوقات الصناعية التي إذا ما انحرف بها شوهت وجه الحياة الإنسانية حقا... أن الصناعة بلا فن غول مدمر...
- ولكن عبد السلام عيد يقول لنا لا تخافوا، فقط آمنوا بالفنان، واعتمدوا على صلاحياته، أنه قادر على أن يحيل حياتكم في هذا العالم التكنولوجي محتملاً، بل مـقبولاً. وإذ تعـود الألفـة بـين الفـن والتكـنولوجيا تصبح الحياة الإنسانية أكثر ثراءاً ومضاءاً وأمناً بل وتضحي القدرة على الخيال والابتكار أكثر عطاءاً...
- إن الأرض التي يحرثها عبد السلام عيد بقدرته على الابتكار وعزيمته على التميز والتفرد أرض سوداء مثل طمي النيل الواعد بأسمى الثمار، فلنمضي معه إلى هذه الأرض الواعدة ونبارك جهوده من أجل فن منفتح مثل الإسكندرية بلده على أرحب الآفاق... ومن المناسب في هذا المقام أن أختم انطباعاتي عن عطاء الفنان السكندري عبد السلام عيد بأن نتذكر قصيدة `النوافذ` للشاعر قسطنطين كافافيس (1863 - 1933) فمنها تندفع علينا ذات الرياح التي تهب من إبداعات عبد السلام عيد، حيث تجري أبيات القصيدة بالآتي...
- في هذه الغرف المظلـمة التي أقضي فيـها أياماًً ثـقــالاً، أروح وأغدو باحثاً عن النوافذ عندما تنفتح نافذة سيكون هذا عزاء، لكن النوافذ لاأثر لهـا، أو إني غير قادر أن أعثر عليها وربما كان من الأفضل ألا أجدها، ربمـا كان النور عذاباً جديداً، من يدري كم من أشياء جديدة ستظهر؟ `قسطنتين كافافيس ــ النوافذ`.
د. نعيم عطيه
كتاب العين لا تزال عاشقة
اكتشاف الكون
- لقد جاءوا من أوطانهم حاملين معهم حواديتهم وحكاياتهم.. وهم فى حاجة إلى مكان ، إن مسافر الأيام البحرية ` لرولاند لكورديه ` تستدعى فى ذاكرتنا تصوير وشخوص عبد السلام عيد، من أجل ذلك البحث الدائم والمستمر عن القيم الروحية والجمالية التى تستخلص دلالة متكاملة للإنسان فى مستقبل التاريخ.
- إنه من المؤكد أن فى رؤية الفنان عيد الداخلية شيئاً من تلك الروح الشرقية البعيدة القدم. من أجل هذا فإنه يأخذنا إلى المطلق غير الشخصي إلى ذلك الواحد الذى هو كل شئ هذا التصور والمبدأ العالمى للوحدة الذى لم يكن فقط عند المسيحيين وإنما أيضا نجده فى العقيدة الشرقية للآلهة والمذاهب الهندية، أثار اهتمام الغرب وتجلى فى أعمال همبولدت وشوبنهاور.
- إن رؤية العالم عند عبد السلام عيد تطوف بالسنين المقدسة للثقافة الشرقية وتتحقق من القيم الأخلاقية لتلك الحضارة والتى هى كمبدأ للنجاة، تتمثل فى أفعال طيبة، وكلمات طيبة وأفكار طيبة. إنه يرسى فكره على الفكر الإسلامى والشرقى ولهذا فإنه يوجد به اتجاه مخلص نحو المقدس.. أغنية للرب.. نعم إن إلهه يتحدث مع كل البشر فى كل أعمار التاريخ والآداب والذى نجده فى الاتجاه الصوفى نحو الروح العالمية والمقدسة، عند ` طاغور` وفى الحكمة الحدسية عند ` عمر الخيام ` وفى خطاب ` سان باولو` الى الكورنثيين وفى شعر ` توماس اليوت ` الأرض الخراب وفى عاطفة الإخوة الإنسانية ` لانطوان دى سانت اكسبورى ` .
- إن أعمال الفنان مثل ` التحولات ` و `مكثف الزمن ` و ` صدمة المستقبل ` و ` كلمات الفضاء ` و ` الأبيض والأسود ` والتى تمثل بشكل متكامل نزعة الفنان - نستطيع أن نقول عنها أنها تذكرنا بالتعبير السعيد عند ` لارى كنج ` أنهم يكتشفون العالم بالفن ويمروا عبر نوافذ الروح.
-أن هذا التسلسل والعلاقة بين الجمال المتسامى والكونى يحرر عبد السلام عيد من فظاظة الحياة اليومية ومن كآبة وحزن العالم. أن الرؤى الفنية عند عيد قد تكون مختلطة أومتداخلة مع نزعة متشائمة ولكن ذلك لا علاقة له بسأم الوجوديين الفرنسين ولا عدميتهم. ا
- إنها نوع من التعليم الدينى والجمالى الذى يحمله الفنان الشرقى الى البشر فى عالم الغرب المضئ والمادى حيث البحث الواهم عن الفراديس العلمية التى يجب أن تضمن السعادة على وجه الأرض ياله من انتظار غير مجدى اذا كانت الأعين والأرواح لا تريد أن ترى أبعد من ذلك نقطة لا نهائية البعد عن ثمار السماء الواضحة والمعجزة.
- أن هناك أعمالا تنقلنا الى وحدة الصحراء وسط الرياح والأحجار. أن هذه الوحدة ذات اللون الواحد فى هذه المناطق الصحراوية ليست فرويدية النبض أو سارترية العدمية وانما هى عودة مباشرة الى الله والتأمل. فى هذه الصحراء الألوان والأضواء لا تتجمد... ليس هناك زمن محدود أو طبيعة مقلقة... ليس هناك نزعة تخيلية حتى ولو كان عيد بستخدم رموز أو إيحاءات سريالية... إنه جزء من مشاعر تريد أن تقوض المادة والزمن والمكان من أجل ايقاظ الفكر.
-أن النظرة الى الأرض ما هى إلا نظرة إلى ما قبل التاريخ ماراً فى اللحظة الحاضرة حتى ولو كان الإنسان هناك ومعه وسائله التكنولوجية الدقيقة حيث تبدو الحياة مستحيلة اذا لم يتحرر من تمثله لعالم الظواهر.
- تتضح الرغبة القوية عند عيد فى تحطيم الهندسة الجافة للأشكال ليجعلها تأخذ تجانسا كونيا مع أفكاره وعواطفه حيث المحتوى الشكلى يبدو وكأنه بناء ذو بعدين يلغى محدودية الزمن ويضعه فى أبعاد غير مادية.
- أن فن عبد السلام عيد تحت حقيقة التأثر أو الاقتراب بالفن الأوربى الحديث حيث تظهر وتتفاعل بشكل كبير يقدم لنا نتائج موضوعية، مع رؤية بصرية جديدة وهيئات وأشكال تأتى من نبض عقلى يوضح وينبئ بتهاوى مدينة الآلات ويقودنا الى التنفس فى شعر ملئ بالمضامين.
-إن فناننا فى الواقع فى كفاح ضد الأشكال الاستهلاكية التى تحيط بالإنسان فى المدينة - نوع من الكوابيس واختلاس للحب والمحبة - وهو لهذا يجاهد فى إعطاء وإضفاء ذلك الطابع الانسانى فى مدينة من الآلات ويحاول التأكيد أن فى الذات الانسانية سوف نجد البراءة والسلام، أن عبد السلام عيد هنا من أجل هذا... فتهنئتى بأن فنه قد وجد صدى وإعتباراً من النقد والجمهور` بمناسبة إقامة معرض شخصى لأعمال عبد السلام عيد بقاعة عرض بلدية مدينة كورتونا الإيطالية عام 1980` .
كارلو بانى


- حين ألتقي بالفنان عبد السلام عيد يحضرني شعور إنساني بالارتياح - ابتسامته الدمثة، حماسته وحواره المحشود بالطموح والشجن، وينتابني شعور آخر وهو أني أمام طاقة إبداعية متدفقة وخبرة تحتشد لها خبرات تقنية وثقافة بالغة الاتساع في خامات التشكيل المألوفة والعجيبة، فهو يمتلك حساسية الصياد في التقاط المتروكات وبقايا الخامات المصنوعة، والألياف والحبال والأقمشة والشباك والجدائل والصموغ والعجائن، والإيبوكسي والبوليستر وغيرها من المحاليل والعجائن والتركيبات الطبيعية والصناعية والكيميائية، فهو في هذا المضمار موسوعي معرفيا وحريف تقنيا.. كما أن عبد السلام عيد بمثابة مؤسسة، فلديه تلاميذ ومعاونون يدربهم بنفسه ويضع مخططات المشاريع العملاقة ويرسم لكل منهم دوره المحدد للإنجاز المتوافق هارمونيا مع الحرص على روح الجماعة التعاونية في العمل في جو منعش ومنجز...

- عرك هذا الفنان المتميز أطياف التعبير الفني - التصوير والرسم والكولاج والنحت والجرافيك بأنواعه والفوتوغرافية واللوحات الجدارية والعمارة والعمل الفني المركب في الفضاء والفنون الزخرفية بأنواعها المختلفة وتعامل مع برامج الإضاءة والحركة في مجسماته وتراكيبه المعمارية ذات الطابع المستقبلي، ومن الناحية الأسلوبية فهو رسام ومصور واقعي متمكن لا يخلو من الشاعرية والرومانسية وحسن التكوين وطرافته. وهو تجريدي خالص ذو طابع هندسي متعامد أو يتعامل مع شرائط قطرية أثيرية تقطع تلك المتعامدات في تدبر محكم، وهو تبقيعي يتعامل مع نشع الصبغات علي الورق الرطب، وهو ` دادي ` في تأطير أشياء دارجة كقرن الكبش أو بيضة النعامة أو المقهى أو السجاد داخل إطارات ` فخية ` ..

- وهو كما قلنا كولاجي يلصق كل ما تقع عليه يداه وينزع منها البعض بعد لصقه، ويجعد البعض ويكور ه في قبضته ثم يفرده ويلصقه مع استشعار تضاريسه المتكسرة، ويستخدم مع ذلك الأقمشة والشباك المشبعة بمادة الإيبوكسي اللاصقة والميبسة، ويسدلها أو يجعدها أو يكومها أو يتركها تناسب كل سطوح لوحاته ومجسماته، أو يشكل بها إطارا كبيرا مهيمنا كالبوابات المنيعة تتراكم على سطوحه ملصقات كولاجية عديدة وبداخله مسطح صاف من الحقول اللونية الناعمة كالسماوات اللامتناهية في الأفق، فتشعر كأنك تنظر إلى السماء وأنت نائم علي ظهرك فوق سطح الماء، شعور أثيري حالم وموح حيث يتعامل عبد السلام عيد مع الألوان بدرجاتها القزحية للتعبير عن الفراغ الكوني الرحيب وموسيقاه الهامسة، ثم يؤطر هذا الفراغ بنافذة مربعة مصنوعة من ركام مجعد من شبكات صيد أو ما شابه ذلك، رخوة تتداخل معها رقاع من الدانتيلا المدهوسة والمتآكلة والتي تنامت في تلافيفها أنواع من الفطر وعناصر يومية كالأزرار وشراذم من دمى وعيون زجاجية وكسرات من أمشاط شعر تغوص في حمام الإيبوكسي لتتجمد فتصبح كالحفريات الكيميائية، وتتضافر الحبال متفاوتة السمك بشكل ` سمتري ` مهندم ليخرج من أطرافها حزمة مرتبكة من الحبال المصبوغة المتشابكة لتمثل الطاقة المتفجرة المتمردة الكامنة داخل عبد السلام عيد البشوش المسالم.

- يتعامل عبد السلام عيد أيضا بحميمة مع الأشياء سابقة التصنيع، و أجزاء الماكينات التالفة، له عين نافذة في اختيار جزئيات من هنا وهناك من بين أكوام ` الروبابيكيا ` وفرشات قطع الغيار القديمة، يكسبها حيوية سيريالية غير متوقعة.. وفي تعامله مع الحبال المجدولة بلونها الكتاني الطبيعي أو المصبوغ ينشيء علاقات تشكيلية بالغة الثراء، فهى أحيانا تغلق السطوح والمجسمات في إيقاع حلزوني أو في مصفوفات متوازية، في اتجاهات وتوالدات ونشأة وأنغام فتولد نبضاً عضوياً بيولوجياً مخفياً..

- ومن ذلك كله يتضح أن عبد السلام عيد يتعامل مع متغيرين أساسيين يمثلان نقيضين في اللغة الفنية، فهو خبير في القوانين البنائية منشغل بالحسابات والتوازنات بين عناصر تكويناته وخلفياتها، ويولي اهتماما خاصا بالظلال الفعلية التي تسقطها الضياء المسلطة على ملامح وتضاريس أعماله ثلاثية الأبعاد والبارزة المؤطرة، وهو تقني بارع له غواية مع الخامات الطبيعية وخلطها مع الصموغ واللدائن ` الإيبوكسية ` والخامات سابقة التصنيع، يعيد تدويرها بحنكة مدهشة بالتلصيق والتجميع والجدل تعني بالعجائن وملامس السطوح. وفي الناحية الثانية من هاتين النقيضين، نراه متيماً بالرومانسية وبالرموز المسخرة وفي التفسير الميتافيزيقي للعناصر المادية المألوفة سابقة التجهيز فيدب فيها نبضاً درامياً مفاجئاً..

- من هذين النقيضين نقرأ أعمال وشخصية عبد السلام عيد حيث تلتقي الجهة البنائية مع الرومانسية الحالمة والشفافية مع ثقل المواد التي يستخدمها فهو يبحث عن الصراحة من خلال الأسطورة...

- كولاجي، إسمبلاجي، تعجيني، يزاوج بين الفكرية المعمارية، وبين التاريخية والسبرانية، يميل إلى التأطير،الإطارات والنوافذ التي تحدد الأسلوبية وما بينها تمثل الزخم الذي يعيشه الفنان عبد السلام عيد منذ لوحات الطبيعة الصامتة المبكرة بلغة التصوير وعجائن الألوان المابعد تأثيرية إلى المناظر الطبيعية والمناطق المفتوحة - إلى الرسوم التي تتراكم فيها بالأسود على الأبيض تبقيعات وتأثيرات عشوائية ثم يعمل فيها تهشيراته وخطوطه المحكمة لضبط مستوياته الظلال المتدرجة من الفاحم إلى المضئ الصافي، وألوان قزحية وهياكل حلزونية كاللفافات...

- وعندما انفتحت أمامه فرصة العمل في جداريات كبيرة عندما تعرف براعي الفنون الدكتور محمد سعيد الفارسي، عندما كان محافظا نشيطا ومجددا لمدينة جدة وصاحب مشروع تعميري وضع للفن فيه مكانة مركزية، منذئذ وجد الفنان عبد السلام عيد ضالته في تلك المشاريع التي وضعته في مقدمة فناني التصوير الجداري المصريين ونشط لينفذ عشرات المشاريع العملاقة في الإسكندرية وفي الرياض وفي مدينة ليون الفرنسية، وكانت تجلياته في هذا المجال سببا مركزيا في حصوله هذا العام على جائزة الدولة التقديرية ولاحتفال مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية بعرض مختارات من مشوار حياته الإبداعي الحافل، ولتقدم فرصة جليلة لزوارها لمتابعة أعمال مصري نابغ.
د. مصطفى الرزاز

اكتشاف العلم فى الفن
الإنسان مجنون بما يبحث عنه عظيم بما يجده وأعظم شئ ألا يجد
بول فاليرى - فاوست الجديد

- عبد السلام عيد يشد وثاقه بحبله المتين الى صارى سفينته التى كسرت بوصلتها، ولكنه أدرك بحسن داخلى مرهف وحدس أطل به على عالم الغد ووِجهته فى بصيرة بنيوية نفاذة.. وهى بصيرة تنبعث من روح شرقية إسلامية تنادي بوحدة الوجود وتنطلق إلى ذلك الواحد الذى هو كل شئ. أصم أذنيه عن نداءات حوريات الهلاك وأدرك المقولة التى تنادى بأنه إذا كان العلم هو محاولة الإنسان الكشف عما حوله، فإن الفن هو تعبيره عن الانبهار بهذا الكشف، فمضى يقودنا الى برزخ النجاة غيرعابئ بما يتلاطم فى بحر الظلمات من مؤثرات التكنولوجيا والصناعة وعلوم الفضاء وعلوم الطبيعة وقال لنا: فلنعبر تلك الفجوة بين العلم والفن. فلنعقد صلحا بيننا وبين الآلة ولنجرب اكتشاف العلم من خلال الفن، وليكن انبهارنا بالعلم الجديد والتكنولوجيا تسبيحة تأتلف حولها قلوبنا... إن العالم المضيئ والمادى حيث البحث الواهم عن الفراديس العلمية لن يضمن لنا السعادة على وجه هذه الأرض. تعالوا نعيد اكتشاف الأشياء والمفردات. فلنبعد عن الانبهار السطحى والإبهار المسطح، فلنعى ضحكة الطفل جنبا إلى جنب مع صرير العجلات والجنازير، ولنضفى طابعا إنسانيا على كل ما هو جامد وبلا عاطفة.

- ويمضى عبد السلام عيد بعقل ذى أجنحة، وصدر مفتوح لهواء الإسكندرية النقى المحمل بذرات الملح يغسل شطآن النعاس. يدعونا معه لاستقبال الصدفة قائلا.. دعوها تعربد كضحكات الصبى.. دعوها تأتى كنسمات الصيف.. طاهرة كالمواليد فنتأمل معه تلك الدراما البديعة التى يسكبها فى عيوننا وحواسنا كإكسير سحرى لإعادة الحياة لتكنولوجيا جافة تخيم عليها الرتابة.

- ها هو الحبل المتين تتخلق جدائله فى تشكيلات تتراوح بين البساطة والتعقيد وبين اللدونة والقسوة، يمتد أحيانا كأوتار كونترباص مهيب، ثم يتلوى فى إيقاع حلزونى ليتراقص فوق الضوء مبدلاً ألوانه ثم تتفكك جدائله وتتوقف عن العناق وتتنسل أطرافه لتصبح أهداباً وذؤابات رقيقة هشة لها ملمس الزغب... وتتعدد معطيات الحبل وإمكانياته... وتخرج أنغام وموتي?ات لحنية مدهشة تتوالى فى فوجات Fugues كونترابونطية صارمة، ويتكامل البناء بصريا وسمعيا وحركيا (كينوستاتيا)... فتعود بنا الذاكرة الى قوى الشد والجذب بين جزيئات السبيكة لنشهد فى أنفسنا إحساسا عضليا، ودفقات نابضة بالفتوة والمرح الفوق بشرى...!! ويولد فينا ` علم حسى ` يدعونا لإعادة تأمل المعادلات والعلاقات والأشياء من منظور عاطفى شديد الصدق.. وهكذا نجد أن الحياة ما زالت مفعمة بالأمل والرؤي، فيها ألفة محببة بين الفن والتكنولوجيا، تجعلها أكثر ثراء وأمنا وسلاما.

- يعيش عبد السلام عيد العصر بكل إنجازاته، ويستشرف الغد، يغزل الحديد ويعجن الحجر، يستجلى الجمال فى أقل النفايات شأنا، يعيدها للحياة، ويغوص داخلها كأنه يستكشف جوانب الوجود فى قماش الدنتيللا وعقد الحبال، وبقايا الورش والمصانع،جنبا الى جنب مع بيض النعام وشظايا الخشب. تتناثر فى وعى شديد وحس جمالى بحيث يقيم حوارا بين ضوئها المجسم فى تراكيب حميمة شجاعة تتجاوز حدودالمغامرة، وتستثيرنا كى نشاركه مغامرته للبحث عن ظهيرات لم يلمس الوهن حرارتها.

- ان ترتيب عبد السلام عيد لعناصره يتميز حقا بالشجاعة والاستقلالية، ولذا جاء عطاؤه عبر معاناة عن طيب خاطر طلياً خشناً صارماً خالياً من الميوعة والرثاثة. وعلى خلاف الداديين الذين توجسوا شرا من سلطان الآلة، يدلف إلى عالم التكنولوجيا وكأنه ` زيجفريد ` بسيفه الشهير الذى لم يعرف الخوف، ويقفز فوق حدود الأطر وقوالب العادية... ويروض الوحوش المستجلبة من أجسام التكنولوجيا الحديثة مناديا بوحدة بين العلم والعمل الفنى الشامل نطل بها على عالم الغد الذى يحمل لنا بين طياته مزيداً من الكشف والانبهار والدهشة.
حسام الدين زكريا

مراجعات فى قراءة الصورة
- في أزمنة التحول قد يفضي التنوع الى مأزق عاطفي وثقافي، وفي مصر، يشتد هذا المأزق بالانهيار التدريجي الذي أصاب الوضع الثقافي منذ الثمانينات، مما نتج عنه بلبلة فكرية عرقلت المسار الطبيعي للتراث السكندري، والممارسة الفنية التي ارتبطت به، فالتمزق الثقافي نتج عن مناظرات حامية بين الأصوليين والحداثيين جاءت نتيجة صعوبة استيعاب التكنولوجيا أو العلوم الحديثة لدى البعض، لابتعادها عن المعارف الحياتية التي تعودوها، مما أفضى بهؤلاء إلى رفض كافة مبادئ الفكر العقلاني والاستسلام للتغييب. هذا الجدل المحتدم بين العلم والواقع، أو العلم وما وراء الواقع، أفضى الى الفصل بين التجربة الصوفية والعقلانية، وبين الفن والعلم، مما أصاب الفرد بشقاق داخلي...

- ويتصدى عبد السلام عيد ` مواليد 1943 ` إلى هذه الإشكالية في أعماله المركبة، ` المدينة 1 ` خامات متنوعة، 212?×?62سم، بينالي فينيسيا الدولي 1982، هى تمثيل بصري لكوكب منقسم، والفرد فيه هائم تتقاذفه دوامة تدفع إلى حافة الهاوية. والعمل المركب يتكون من مخلفات قديمة، ومواد منتقاة من البيئة ويتخذ طابعا روحيا. ` فالمدينة1 ` اقيمت على حامل به آنيتان من النحاس، في وضع أفقي ثبتت واجهاتهما نحو الخارج، ربما لتوحيا بفجوة سحيقة على وجهتي الكرة الأرضية وتفصل الآنيتان أشكالا عمودية ممتدة الأطوال، وقد تمثل حلقات وصل أو فواصل، والعواميد الفاصلة/ الواصلة من الخشب القديم، وأشكالها قد توحي بمبان معمارية صناعية أو ناطحات سحب، مثبت على إحداها شكل مصغر لإنسان هائم في الأفق.

- وبالدوران حول البنية المعمارية، قد يتحول هذا العمل المركب المتنوع الأشكال والخامات إلى عملية دالة، فبدلا من رؤية الآنيتين المثبتتين كوحدتين منفصلتين تتعارض اتجاهاتهما، فتبدوان منفتحتين لكافة الجهات، لتصبحا في حالة تكامل وليس تضاداً. أما الأعمدة الفاصلة، فهي تمزج القديم والحديث، الأسطوري والصناعي، الطبيعي والثقافي، مما يوحي بتجاور الأزمنة وتلامس الاضداد. فالخامات المنتقاة تحمل إيحاءات بأزمنة ولت، وثقافات تبدلت وتنوعت، فهي تذكرة بالطبقات الثقافية المحفورة في تاريخ الإسكندرية تساعد المشاهد على تقبل تنوعها الثقافي. فالعوائق الفكرية التي تظهر في أزمنة التحول تدفع الأفراد إلى الارتداد إلى حقب ثقافية تتفق وتكويناتهم الأيديولوجية، مما يصيب التكامل الثقافي بالتفكك. ويسعى هذا العمل المركب إلى تجاوز الشقاق الثقافي بتجسيد للمدينة بوصفها فضاء تمتزج فيه العناصر الطبيعية والثقافية لتستوي علاقة الفرد ببيئته.

- وقد قامت مؤخرا عدة مشروعات لتنمية الوعي البيئي لدى الأفراد، بتمويل من هبات مالية تبرع بها أفراد ومؤسسات، ذلك لتجديد مدينة الإسكندرية، وقد نفذ عبد السلام عيد العديد من الجداريات، من بينها الجدارية التي تعتلي مدخل كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1997 ` خامات متنوعة، 200متراً ` وهي تجسد صورا تستوعب أساليب فنية متنوعة، فتمتزج فيها فنون الأيقونة، والفنون البطلمية والإسلامية، والشعبية، وكلها أساليب فنية تبتعد عن التجسيد الطبيعي. وفي تجاور الصور والزخارف المستمدة من سياقات ثقافية متغايرة، تحمل دلالات ذات خصوصية و في ذلك التجاور ما يثري تلك العلامات الدالة. فاستخدامها خارج إطارها الثقافي المحدود يكشف عن إمكاناتها في الحوار مع عناصر تصويرية مغايرة، بترددات ومتوازيات تشكيلية تدعم توازن التكوين. والسيدة التي تنتصف التكوين تتقدم إلى الأمام وتنظر إلى الخلف، وكأنها تتوسط للتوفيق بين الماضي والحاضر. أما العجلة الزجاجية الدائرة والخاصة بالمركبة التي تقودها السيدة، فتعمل على تحويل التجربة البصرية إلى حركة فعالة، فالألوان القوية المستخدمة تقرب العجلة إلى صدر الصورة، والدرجات اللونية المستخدمة تقترب من الاستخدام اللوني في الفن الشعبي. وتنجح تلك التجربة في اظهار امكانية دمج فن الأيقونة بفن الخط، والفن الشعبي بالتصميمات الحديثة. فالدوران الممتد للعجلة تردده الكتابات الحروفية الدائرية التي تعبر عن الاستمرارية، أما النافذة الوسطى فهي تصور بحرا، أو إمكانية استيعاب ما هو خارج الحدود في الحاضر، مثلما أمكن تمثيل الماضي في عالم الجدارية. فالتشكيل الجداري لا يتوقف عند حدود الزخرف لتجميل المكان، بل يساعد المشاهد على إعادة النظر في المحيط البيئي، والتعرف على الملامح الثقافية المتنوعة للمدينة، وتفاعلها مع خصائصها الطبيعية، ذلك حتى يتسنى للمشاهد تغيير رؤيته المحاصرة بالتجاوزات التي نالت من تاريخه المتنوع، وانقضَت على الأماكن العامة التي يرتادها، وهي تجاوزات تحركها إما مصالح أيديولوجية أو استهلاكية. فيغدو التشكيل الجداري فضاء للتجربة البين ذاتية، حيث يتيح الممارسة الجمعية، والتفاعل المشترك.

- حينما تنخرط التجربة الفردية الذاتية في الممارسة الجمعية تغدو تجربة بين ذاتية، مما يوفر امكانات لانماء حوار بين الثقافات. ويتطلع عبدالسلام عيد الى اقامة ذلك الحوار في جداريته المدينة 2- 1993، متحف توني جارنييه، ليون، فرنسا ` 11×22مترا `. ففي هذه الجدارية تتجسد ثلاثة عواميد منقوشة بلغات بصرية متعددة ، فهى تتكون من جزئيات تشمل ايقونات، وأشكالا أسطورية، ورسومات بيانية في أشكال حروفية ، حتى يصعب تفسير تلك النقوش تفسيرا واحدا، ينسبها لثقافة بعينها. فالعلامات تشكل نسيجا بصريا يعيد صياغة ثقافة مصر والعالم بقراءة العلاقات التبادلية بين مفرداتهما الثقافية. وبتمثيل عناصر المزاوجة والتفكك التي تربط الثقافات وتفرقها في آن، يثير هذا التكوين التساؤلات لصعوبة تصنيف علاماته في إطار تراث ثقافي بعينه، فقد يمثل واجهة معبد أو صورة خائلية Virtual Image، يبثها جهاز إلكتروني فالمشاهد بصدد بضع علامات قد تكون ذات مرجعية تصويرية، او إلكترونية وعليه التعاطي معها دون تثبيتها في نقطة مركزية، أو محاولة التوصل إلى صياغة نهائية لها. هذا العمل المركب يلمس العلاقات بين العلم والفن، الشرق والغرب، وهى علاقة تكاملية تتجاوز الثنائيات المتعارضة، فهناك حاجة لإضفاء مسحة روحية على التقنيات. فالتكنولوجيا ليست وليدة الفكر العقلاني وحده، بل ولدتها الإرادة الصلبة أو الإيمان القوي الناشئ عن الميتافيزيقا الشرقية، تلك المسحة الروحية ألهمت الغرب في عصر التنوير لتتحول إلى دافع للعمل، أشعل الثورة الصناعية، فهناك حاجة لفهم روح العلم والفن، وحاجة لمساءلة الحداثة عبر الذاكرة ولإعادة تقييم الماضي عبر المخترعات الحديثة حتى يتسنى للفرد إيجاد موضع في عالم الغد.
د. مارى تريز عبد المسيح

خيالات الفن الأولى
- ولد عبد السلام عيد فى أبريل 1943 فى حى الحضرة, قلب المدينة السكندرية النابض، في بيئة شعبية تعج بالضجيج والازدحام وأيضاً بالدفء الإنساني نشأ عبد السلام عيد طفلاً مشاكساً تحمل شخصيته معالم تحد مبكر وإصرار وحرية ناضل خلال كل حياته لكي لا يخسرها، كثير الحركة، كثير التساؤلات، صعب الإرضاء رُفعت عنه الرقابة المشددة التى فرضت على إخوته الأكبر سنا، فأخذت حياته مبكراً ملمحاً حراً جعلته يقضى طفولته كقط طليق وليس كطفل مدلل محاط بالتحذيرات المستمرة، عرف معنى الالتفاف حول الأسرة الكبيرة التى كانت تعطيه فى كل لحظة معنى جميلاً للحياة. هذه الطفولة الحرة التي عاشها ما زالت تسري فى حياته حتى الآن. يلعب فى بدروم بيت الأسرة القديم بأدوات والده الذى يعمل فى مجال التبريد ويتوجه غريزياً إلى التشكيل باليد ومن الفِل الصناعى يصنع المجسمات والتماثيل والمتاهات والغرف. لم تكن حكايات الجنيات والحوريات هى فراديس خيال هذا الصغير بل كان الفردوس عنده هو حلم الفن الذى بدأ يتشكل مبكراً. وعندما أراد أن يكتشف نفسه كفنان كان سهلاً أن يضع يده على شخصيته وعلى حبه القديم، على لعبه الطفولي المفقود.. التشكيل.
- يدخل المدرسة فيتلقفه دائماً وفى جميع مراحله التعليمية مدرسو الأشغال الفنية ولاينسى أسمائهم، يتذكرهم بوضوح: خميس ومختار وعلى القرش وعبد الحليم وأحمد مصطفى والمدرسات نوال وبدرية ونجوى. أصحاب الأيدى التى أمسكت بيده الصغيرة وأدخلته بوابة الفن الأولى، يرسم ويصور ويستنسخ الأعمال العالمية فيتعلم أبجديات حرفة الرسم , ويشارك فى رسم الجداريات فى مداخل المدرسة تدور حول مفاهيم الاتحاد والنظام والعمل، أصوات الثورة التى كانت تسعى لتحدث تحولاً فى الواقع المصرى فى ذلك الوقت. كانت غرفة الأشغال الفنية هي ملاذه من كل المواد التي لا يميل إلى دراساتها ، كما كان إعجاب مدرسيه بما يرسم يمنحه ثقة كبيرة بنفسه يقابلها بمزيد من الانكفاء على الرسم والتلوين وبالتالي يعطيه الثناء مزيداً من التألق في هذا الجانب. وقد صادق مجموعة من خريجي الفنون الجميلة وكان جميعهم يتوقعون التحاقه بكلية الفنون الجميلة.
- لكن خبراته الفنية في تلك المرحلة لم تتوقف عند النشاط المدرسي. فمنذ السنة النهائية من المرحلة الإعدادية وهو يتردد على ` عم سلامة ` الحلاق في حى ` نمرة 3 ` ليرافقه أيام الجمعة من كل أسبوع إلي حدائق الشلالات والطبيعة المفتوحة. يرسمان المناظر جنبا إلي جنب بألوان الزيت. يشتريها عبد السلام من المكتبات ويصنعها الحلاق بيديه ويملأ بها أنابيب المعجون الفارغة. كان فنانا فطريا يكسو جدران دكانه بصور المناظر والشخصيات الهامة. يبدعها بأقلام الفحم حينا وألوان الزيت أحيانا..
- هذه الخبرات الفنية المتنوعة التى اكتسبها عبد السلام عيد منذ طفولته ساعدت على صقل موهبته. كأنما كانت يد خفية تمهد لها الطريق. وحين التحق بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1964، كان جيل الستينات متألقاً بتحول كبير مازال حتى الآن يقابل حنيناً من كل المثقفين، جيل عاش أحلاماً كبيرة وصنع تحولات هامة وتحمل عبء التغيير والبحث عن شخصية فنية مصرية.
- وعندما بدأت دراسته بالكلية وجد نفسه وسط نخبة من أساتذة تجاوبوا مع هذه التغيرات وحلموا بتحولات كبرى فى الفن: حامد عويس وأحمد عثمان وكامل مصطفى و سيف وانلى وأحمد عبد الوهاب ومحمود موسى ومصطفى عبد المعطى وعادل المصرى ، وفى الكلية انفتح له عالم ساحر أخذ يعدو فى دروبه الرحبة محاولاً أن يتملك كل الخبرات، إنه حب للاستطلاع والمغامرة أدى إلى اكتشاف مبكر للفن غير مدفوع بنظام أكاديمى أو رسمى لقد تجاوز مبكراً مهام الدراسة الأكاديمية، ربما قبل التحاقه بالكلية وآن الوقت بالنسبة له لكى يتعرف على أساليب ومدارس الفن.
- تلمس فى بداياته الأولى روحاً تأثيرية واضحة اكتشف من خلالها لغة اللون مستقلة عن ضرورات التجسيم والكتلة مما حرر ` بالتته ` اللونية وأثراها، ثم ما لبث أن تحاور مع سيزان يتمثل قانونه فى بناء الصورة واحترامه لمسطح العمل الفنى، وينتقل إلى إعجاب كبير ببول كلى ينطرح معه ويقدم أعمالاً ذات تأثيرات واضحة بهذا العالم يتلمس براءة عالمه وطزاجته وتجذبه اللغة الخاصة التى أعطته ذلك التفرد ويسوقه هذا للانتباه لقيمة الرمز ودلالاته وأبنيته الخاصة. ويعجب برواد التعبيرية الألمانية.. ماكس بيكمان وإميل نولده وغيرهم ومعهم يتعلم تصعيد دراما اللون حتى يستأثر اللون بالتعبير ويرتاح الفنان من وطأة ملاحقة الواقع . ومازال للتعبيرية صداها الواضح فى أعماله كفن يسعى إلى التقييم الذاتي للعالم وإعادة بناء هذا العالم في حالته السرية الداخلية كما يقول هربرت ريد. ويقوده البحث عن طلاقة التعبير إلى عالم رسوم الأطفال والفنون البدائية والإفريقية. ويوازى كل هذا ظهور ميل واضح لاختراق طبيعة السطح المحايدة الهادئة ومحاولة استنطاقه بأداءات مختلفة، ومحاولة لتلصيق بعض المتروكات عليه تمثل إرهاصات بما سيحدث بعد فى تجربته الفنية من كشوفات عدة وتجاوز لمفهوم التصوير العادى.
- ثم يذهب عبد السلام مشدوهاً لعالم بيكاسو، نسائه الزرقاوات بنظراتهن الآسية وأجسادهن النحيلة ومرارة لازمت الإنسان منذ الخليقة وربما تطل بعضهن من وجوه عبد السلام عيد التى رسمها وقت بعثته فيما بعد لايطاليا، ثم تستهويه مرحلة بيكاسو الوردية بشخصياتها الهامشية وحياتها الغريبة، وينبهر بالرسوم الخطية عند بيكاسو تلك التى أخذ بها رحيق الفن الإتروسكى واليونانى القديم، يتأمل رحلة فنان سريع العدو دائم التنقل وفى حالة كشف مستمر وكلما اكتشف قارة تركها سالماً مشحوناً بشغف أكبر للمغامرة، منتقلاً ليكتشف أخرى، وربما نستطيع أن نتلمس ونحن نتأمل تجربة عبد السلام الآن مدى تلاقى مساره الفنى بهذا الفنان الكبير فى سعة التجربة وتنوعها وطابعها الكشفى التجريبى الذى لايقف مستريحاً عند أحد مرافىء النجاح. وينخرط عبد السلام مع التيار السريالى وتجذبه قراءات فى علم النفس لفرويد وكولن ولسون، ثم يستجيب لانشغالات فلسفية طوحت به لعوالم بعيدة تركت أصداؤها في أعماله.. كتابات سارتر وألبير كامى وكولردج، الوجودية واللامعقول وعالم الممكنات الذى اغتوى به الفنان. ثم تأتى الموسيقى كإطلالة ثم الشعر ثم القراءات التاريخية تعطى وعيه أبعاد جديدة وتطرح مزيد من الأسئلة التى تبحث عن إجابات.
- ويختتم عبد السلام عيد فترة دراسته بمشروع يحمل اسم كان اسم ` التحول ` وكانت كل عناصره تشير إلى الرغبة في ميلاد إنسان مصري متفوق في رؤيته لنفسه وللعالم بعد الهزة التى خلفتها نكسة 1967 وكان هذا المشروع يشمل العديد من الإرهاصات لتجربته الفنية فيما بعد.
- وقد امتلك الفنان عبد السلام عيد مبكراً الوعى واليقين الكامل بأن الفن هو طريقه الأوحد وذلك يفسر لنا لماذا احتفظ بكل قصاصة رسمها من طفولته الأولى، بل أسماها فى أحد حواراته ` قصاصات الحب ` وذلك فى وصفه لبحثه فى أوراقه القديمة عند ترشيحه لجائزة الدولة التقديرية، احتفظ بجميع دراساته وعجالاته ومشاريعه الدراسية، جميع مطويات معارضه الأولى وإعلاناتها وماكتبته الصحف والكتب عنها، كان يصنع مبكراً ذاكرته الفنية، ويضع العلامات الفارقة فى دربه الطويل، ويوثق لرحلة لابد وأنه يعلم مدى جديتها وسيأتى يوماً يتطلب توثيقها. لقد أدار عبد السلام عيد جميع مسارات حياته موجهها نحو الفن ذلك الاختيار الذى يساوى عنده الحياة.
د. أمل نصر

الوجدان مدخل للرؤية
- الوجدان هو باب العبور إلى العالم الفني لعبد السلام عيد، وهو الذى نستطيع أن نفسر من خلاله مدى أوسع من تصورات الفنان التي تحترم الجانب العاطفي لخبرة الفن ورؤيتة للعالم وللأشياء، وطبيعة أدائه التي تعتمد على التعامل الحدسي الوجدانى في مراحل نمو العمل وحتى مراحل إتمامه، فقانون بناء العمل عنده هو قانون عاطفي يحترم حالات التدفق والاندثار والنمو، السكون والإثارة والحلم، وانسياب المشاعر العميقة اللانهائية. وبشكل عام فإن المدخل الوجدانى يعتبر أهم مداخل فهم الفن وتفسيره وليس أدل على ذلك من أن كلمة ` استطيقا ` التي أُطلقت على علم الجمال إنما تعني الحساسية Aesthesis بصفة عامة والحساسية الوجدانية بصفة خاصة. فالوجدان هو الجانب العاطفي للخبرة، والفن هو لغة العالم الوجداني فالبناء في العمل الفني يحمل تشابهاً وثيقاً بأشكال الوجدان الإنساني: أشكال النمو والوهن، أشكال التدفق والسكون، الصراع والانفراج، السرعة والتوقف، الإثارة والسكون والروعة، النشاط المنظم والزلات الحالمة، والانسياب اللانهائي لكل شىء نشعر فيه بحيوية وعمق.

- من هنا فإن تعامل عبد السلام عيد مع التجربة الفنية هو تعامل وجداني حميمي فهو لا يبدأ العمل الفني بافتراض مسبق يعوق تدفقه العاطفى أثناء الأداء، فرِح بتلك المغامرة المجنونة التي يرمي فيها بنفسه في مجهول لا يعلم نهايته. إنه أيضاً إنسان وجداني بحكم طبيعته الشخصية، يفرح لحد التحليق، ويضحك حتى الاستلقاء، وينفعل لحد البكاء، ويغنى لحد النشوة والسلطنة ، يتأثر ويؤثر وينقل للآخرين حماسته الدائمة، لا يضع محاذير ولا حراس على مداخل ومخارج مشاعره فاحتفظ بنضارتها، وهى المعين الأول لتجربته الإبداعية.

- ومن هنا كان هذا الحفل من الأشياء الملتقطة التى اقتناها الفنان على مدار سنوات طويلة، فاختياراته المنتقاة لتلك الأشياء تعكس ارتباطاً وجدانياً له علاقة في كثير من الأحيان مع ذكرياته وطفولته البعيدة، وقد شكلت الأشياء مادة خصبة وحية للكثير من أعمال عبد السلام عيد، حيث تتراءى أمامه في مرسمه الحافل هذه الحشود من الأشياء فهى تحوطه طوال الوقت وهو يتحاور دائماً معها في مجيئه وتر حالـه حتـى يحيـن الوقـت الملائـم ليقـع علـى أحدهـا الدور وتكون هى الروح المحركة لعمل جديد وتنتقل من حياتها فى المرسم لحياتها فى العمل الفني بعد فترة اقتراب وحياة وجدانية مشتركة بينها وبين الفنان.

- والفنان هنا لا يقدم مجرد عناصر منتظمة ومجمعة في علاقات متبادلة، بل إن كل جزء وكذلك الكل يبدو وقد أصبح ممتلئاً بنبرة عاطفية تستمد قوتها من إثارة بعض ذكريات بعيدة العمق، شديدة الغموض، ذات صفة مشتركة بينه وبين الآخر مما يذكرنا بمقولة الناقد الفنى روجر فراى.. ` يستطيع الفن أن يستثير رصيد الآثار التى خلفتها على الروح انفعالات الحياة المختلفة، دون أن يذكرنا مع ذلك بالتجارب الفعلية. بحيث نتلقى صدى العاطفة دون التقيد بالاتجاه الخاص الذى كان لها فى التجربة `.

- إننا فى حالة مشاهدة اللوحة لا ندرك بطريقة متمايزة الأشكال البصرية فيها، وإنما تكون هذه كلها بمثابة منبهات نستجيب لها بالاستناد لما لدينا من قيم عاطفية وخيالية وعقلية وهى التى تنتظم عن طريق التفاعل مع القيم الأخرى الواسطة التى يقدم لنا العمل من خلالها. وهكذا يمنح الفنان عبد السلام عيد الجلال لأشياء بسيطة عندما يدخلها عالمه السحري، نسج فوق نسج، وبناء فوق بناء، وصور متراكمة تعرضت لعشرات المحاولات من الرسم ثم الكشط ثم الإضافة ثم الحذف عبر سنوات، استمتاع غريزي بالتشكيل، تدفق واكتشاف، وإدارة لعالم الممكنات الذي اهتوس به وأغواه من زمن بعيد. وقد نسجها جميعا فى بناء متكامل متعدد البؤر والإضاءات باقتدار يقود به العين لترتحل داخل كل عمره في مكاشفة مع المتلقى يفتح له فيها أعماق القلب من خلال مجال وجداني غمر جميع أبعاد العمل فخلق نوع من التواصل مع المتلقى. تواصل حققته الدهشة.. تلك الهدية التي يقدمها لمشاهديه في عالم أصبح من فرط جهامته لا يحرك فينا ساكناً. المرسى القديم

- يرتبط دائماً العاطفيون من البشر بأشيائهم القديمة فكأنها تعيد عليهم أيامهم من جديد وتروى حكاياتهم القديمة هم لا يريدون أن يفقدوا أبداً ذلك الصدى المحبب لسمرهم القديم. ` مرساى القديم ` هو عمل لعبد السلام عيد يعكس طبيعته العاطفية وتعلقه بذكرياته وأشيائه التى جسدت تلك الذكريات فى ألوان وصور ومتعلقات وفوتوغرافيا وأشياء ملتقطة وتماثيل ومقتنيات صغيرة، فهو عمل يحكى فيه الكثير حيث يعرض حائطاً لذكرياته.. متحفاً لأشيائه المحببة التي جمعها عبر سنوات الإبحار والعودة. وبعد تلك السنوات الطويلة يقرر عبد السلام عيد أن يفتح صناديق الدهشة والولع، ويقيم جداراً لتلك الأشياء التي رافقته خلال مشواره الفني، ويغمرها بضوء درامي خاص، لتتحول إلى عرض بانورامي ساحر نطل منه على دنيا الفنان الفسيحة. ويقول الفنان عن هذا العمل:

- لم أقصد أن تكون لوحة أو عملاً فنياً بل كانت مساحة خشبية معلقة خلف الطاولة التي أعمل عليها فى مرسمى القديم, ولضيق المكان كنت ارغب في أن تكون هناك ألفة وأشياء كثيرة تخاطبني وأنا اعمل، كل ما أحبه أعلقه، كل رحلة أضيف وأحذف، حتى أصبح هناك ميلادا جديدا نابعا من تحول المكان الصغير إلى كائن يناجيني وأناجيه.

- وهكذا أصبح يبدع محاطاً بدفء الأشياء التي خلقت الحميمة بينه وبين المكان. وأصبح هذا الحائط أيقونة خاصة لأنه اللوحة الأم ونواة المشوار، سفينته التي حمل إليها كل أسباب الحياة. ونرى في مرساه القديم حائطاً رافقه طوال رحلة إبداعه يضع عليه أشياؤه الملتقطة ومقتنياته الصغيرة المقرونة بالذكريات الحبيبة ويعلق عليه أدواته التى يخترعها للأداء في أعماله الفنية، وصوراً صغيرة وملصقات قديمة كأنها تكثيف لعوالم عدة أو حجرات مختلفة من الذاكرة تحمل كل منهـا حقبـة مـن العمـر والأشخـاص والحـوادث والذكريـات، تلـك الذكريـات التـي تغـذى الملاحظـة فتخلع على المرئيات بعدأ وجدانياً، وهى حين تصهر من جديد مع مادة الخبرة الجديدة فإنها تضفى على الموضوع المبدع حديثاً طابعاً تعبيرياً عاطفياً. أشياء ارتبط بها وأحبها جمعها في سنوات دراسته الأولى بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية في منتصف الستينات.. منحوتات فخارية أبدعت بشكل تلقائي يعكس الحس الشعبي الفطري اقتناها من الفسطاط في رحلة دراسية للقاهرة الفاطمية. طائر منحوت بشكل بدائي اقتناه من رحلة الأوائل لكلية الفنون بالسودان، أشجار لونها وحولها لمنحوتات اقتناها من المعهد الزراعى بإدفينا أثناء قضائه لفترة الخدمة العسكرية، صورة فوتوغرافية قديمة لقديسة، زلط وأحجار من معسكر المتفوقين من مدينة مطروح، بورتريه نحته صديقه الفنان ثروت البحر لوجه صديقهما الثالث الفنان عصمت داوستاشي، ولوحة صغيرة رسمها الفنان داوستاشي.

- دمى ولعب أطفال، خناجر وعظام وأمشاط عاجية، وعظام تحولت لوجوه ومنحوتات، تماثيل فضية من إديس أبابا، رأس عصا لرجل دين أشبه بالصولجان، بورتريه خشبى نحته وهو طالب في المرحلة الإعدادية، فقرة من العمود الفقرى لسمكة قرش تحولت في عمله لما يشبه الكائن الفضائي، خفاش بأجنحة طائر خرافي، صورة فوتوغرافية لأحد الباباوات وهو نائم بكامل قداسته وهيبته، تجاورها صورة فوتوغرافية أخرى لفقير هندى ملقي على فراش من الخوص، وصورة لإلهة هندية، وتقابلها صورة لأفروديت الإغريقية، عوالم وعوالم عديدة متناقضة نبحر فيها عبر حائط ذكرياته، تأخذنا إليها مشدوهين لنشاركه عالمه الفسيح. ويعد هذا العمل نموذجاً مثالياً لمفهوم الوحدة داخل التنوع، فالعمل يحتوى على عدة نقاط نشطة ولا يعتمد على مركز واحد للتكوين، لكن رغم هذا التعدد لمراكز لم يقع العمل فى مشكلة الفوضى أو التشويش اعتماداً على التوازن القائم بين التماثل والاختلاف، بين الشىء ونقيضه، إن هناك توازناً بين المتناقضات يعد أحد شروط الحياة والفن أيضاً. والعمل ملىء بانتقالات خاطفة من عالم إلى أخر، يعج بالتفاصيل المتوازية والمفارقات، تماماً مثل الحياة التى نعيشها، وتصميم العمل لا ينتظم فى بناء مثالى موحد يستوحى أبنية عصر النهضة، لكن على الرغم من كثرة التفاصيل فإن الفنان يضبط إيقاع هذا الزخم ويديره باقتدار ووعى فلا نشاز فى اللون أو الضوء بل هناك نظام موحد يشع خلف تلك المتناقضات وبنية متوافقة تشبه بنية النسيج الواحد، تماماً كما يمتلىء كيان الإنسان المهندم ظاهرياً بمتناقضات فوضوية مربكة، لكنه يقودها بمقدرة العقل الإنسانى تلك الهبة الربانية الأسمى التى انفرد بها الإنسان.

- وربما يكون هذا هو الحل الأمثل لعمل بانورامى يذكرنا باللفائف المصورة الأفقيـة فى الفن اليابانى. وقد ساعدت هذه النسبة العرضية على شرح الصفة التفسيرية والملحمية للفـائف. وربما يكون هذا التكوين الأفقى هو الشكل الأقرب للطبيعة السردية التى قدمها المرسى القديم فهو بالفعل حكاية عمر للفنان.

- ويؤكد المرسى القديم الملمح الوجدانى عند عبد السلام عيد؛ فالعناصر لم تفقد ارتباطها بالعالم الخارجى وقدرتها على استدعاء الذكريات الخاصة عند مشاهدها، تلك القدرة التى تساعد على خلق التعاطف بينها وبين العمل الفنى. وفى هذا يقول جوى ديوى.. نحن نقيس مدى اتساع العمل الفنى بمقدار تنوع العناصر الصادرة عن الخبرات الماضية التى تمتص فى صميم إدراك من يشاهدها، وهى التى تخلع على العمل الفنى جسمه المادى وقدرته الإيحائية. ولما كانت تلك العناصر إنما تصدر فى كثير من الأحيان عن ينابيع غاية فى الغموض، فإنه قد يتعذر التعرف عليها عن طريق التذكر الشعورى، وبالتالى فإنها تخلق جواً غامضاً وظلالاً بعيدة يسبح فيها العمل الفنى بأسره وتجعله دائماً يحتفظ بحبل سرى يصل بينه وبين قلب الإنسان المشاهد فى أى زمان.
د. أمل نصر

الوجه الإنسانى معبرا للروح
- الوجه الإنسانى هو واجهة النفس البشرية فى استقبال العالم وفى إرسال إشارات التواصل الإنسانى، وعبد السلام عيد بطبيعته الإنسانية التى تميل إلى التعاطف يستطيع أن يعقد بسهولة تلك الصلة الروحية بينه وبين الآخرين يستقبل الكثير من إشاراتهم الداخلية ليكشف جانباً من حيرة أرواحهم تلك التى تمثل مساحة مشتركة بين البشر يستطيع الفنان بطبيعته الأكثر إرهافا تلقفها وتقديرها ربما لأن تلك الحيرة كثيراً ما تمثل محركاً أولياً لكل إبداع ومحاولة للخروج لاقتراح صيغ أكثر جمالاً وأكثر فهماً لواقع مرتبك نعيشه جميعاً. لذلك مثَل رسم وتصوير الوجوه بالنسبة لعبد السلام أحد مدنه الفنية التى يعود إليها دوماً والتى وجد فيها الكثير من متعة الاقتراب من الآخر والحوار معه.
- من بداياته الدراسية الأولى يرسم عبد السلام ` الموديل ` الموضوع أمامه للدراسة فيبدى مهارة أكاديمية فائقة، لكنه وبخط موازٍ يرسم وجوه أصدقائه وزملائه وأساتذته يلتقط من خلالها معابراً لأرواحهم وبوابات للنفاذ لشخصياتهم ومعاناتهم الداخلية، فما أن يصمت الإنسان وقت أن يجلس أمام الفنان للرسم إلا وسرعان مما يتكشف على وجهه حزنا ضافياً يعكس معاناته الداخلية، فلحظات الصمت والتأمل دائماً ما تقترن بشجن نبيل تلتقطه روح الفنان ليصبح هو مدخله الأهم فى رسم الشخصية.
- ويتمثل الفنان وجوهه المرسومة من خلال اتجاهات فنية متعددة ربما استحضرتها طبيعة كل منهم؛ فبعضهم بدا تعبيرى الطابع يتجاوز فيه النسب المعتادة لصالح تأكيد دراما قوية فرضتها الشخصية كتصويره لزميله أمين حزين والفنان الشاعر عبد المنعم مطاوع والفنان ثروت البحر يذكرنا من خلالها بوجوه إيجون شيلى التعبيرية. بينما يستحضر فى البعض الآخر جرأة وحدة ألوان الوحشيين ولكن فى تحليل بنائى مستمتعاً بتحويل الوجه لمحصلة من البقع اللونية المتجاورة كتصويره لوجه أستاذه الفنان الكبير حامد عويس وصديقه الفنان عصمت داوستاشى. ثم ما تلبث لهجة الأداء أن تهدأ عندما يرسم برقة بالغة زوجته السيدة ناهد الجارم فى صورة نورانية بغلالات شفافة من طبقات رهيفة من خامة الفحم تحمل تلك الهالة من الطمأنينة التى أحاطته بها الزوجة النبيلة طوال رحلة حياتهما المشتركة.

- ويستدعى عبد السلام فى رسومه لكل شخصية الأداء الخاص بها ففى بعضها يكون الخط متسارعاً متقطعاً شائكاً يحمل عصبية تلك الشخصية وتوترها، وفى أحيان أخرى يصبح الخط متصلاً ناعماً يزيل فى طريقه كل شائبة تعيق نقاء تلك الروح التى يقدمها الوجه المرسوم، وفى أحيان أخرى يكون الخط متدافعاً متلاحقاً يحاول أن يسابق تلك الطاقة التى تعكسها الشخصية، وأحيانا يبدو الخط كأن الفنان لم يرفع يده عن الورقة، فلا تردد ولا مجال لانتظار قد يؤدى لفتور تلك الشحنة الداخلية التى يواجه بها الفنان نموذجه، وباقتدار وبأكثر وسائل التشكيل تلخيصاً وهو الخط فقط، يعطى الإشارة الإنسانية الخاصة التى بثتها تلك الشخصية.

- وأحيانا ما يعتمد عبد السلام عيد على تقنية الطمس التى يلخص بها الكثير من التفاصيل ليطل الملمح الأكثر حضوراً فى الوجه المرسوم مثل رسمه العبقرى لأستاذه الفنان ` سيف وانلى ` بخامة الفحم؛ فهو يبقى من الفحم غلالات رقيقة الدرجة يبنى فوقها لمسات عريضة ثم ما يلبث الخط أن يدخل فيعطى نغمته الخاصة كوتر متحرك، كما يضفى الطمس أحياناً نوعاً من الإبهام أو الغموض الذى يضفى إيحاءات على الأشكال التى لا يصر الفنان على جعلها تامة الاكتمال حتى لا يمنع تدفق الخيال عند مشاهدة العمل فهو يحترم قيمة الإيحاء ويفسح لها المجال.

- وقد يمزج عبد السلام عيد بين أداء خامة الفحم القوى من خلال لمسات جريئة خشنة عريضة وطبقات شفافة خافتة الدرجة وبين خط دقيق يصنع الخط الخارجى للوجه، وقد يترك آثار لمسات أو خطوطاً حائرةً كان يجتازها فى رحلته للكشف عن الشخصية من مرحلة المسطح الأبيض إلى مرحلة تَكوُن الشخصية واكتمالها. وفى وجه آخر قد يصيغه بدرجات محايدة خفيضة النبرة ثم ما يلبث أن يوزع مجموعة من البؤر السوداء فى شكل نقاط أو لمسات دقيقة فيحيل هذا الوجه إلى وجه نابض مركزاً على نقاط الحياة فيه.

- إنها مداخل مختلفة يقترحها كل وجه حسب استقبال الفنان للحالة الإنسانية الخاصة لصاحبه. لقد امتلك عبد السلام عيد مهارة خاصة وفائقة فى التعامل مع خامة الفحم وشجاعة فى ترك مراحل البحث يقدم بها تاريخ صورته متكاملا. ووصل بالفحم كخامة إلى آفاق بعيدة بحيث أصبحت بالنسبة له طيعة يضفى من خلالها أرهف الأحاسيس وأعقدها، وأكثر الأضواء درامية وأرقها خفوتاً.

- إن التعبيرات الدرامية التى تتجلى فى أعلى صورها من خلال الوجه الإنسانى تثير فى النفـس ذكريات بعيـدة العمـق فنحن على اختلاف أشكال حياتنا نشترك معاً فى أننا اجتزنا خبرة الحزن كل حسب تجربته. ومن المؤكد أن الفنان الرسام لا يبحث عن الوجه الجميل السطحى الذى انمحت من فوقه آثار تجربة الحياة لأنه وجه بلا تاريخ ولا يستحق التوقف عنده ولا يستهوى الفنان الذى يبحث عن دراما الوجه وعطائه التعبيرى، يبحث عن وجه اعترك الحياة بثقلها وغموضها المحير وأسئلتها التى يظل الكثير منها بلا إجابات، يبحث عن وجه خبر روعة الحياة وألمها. إن تلك الخبرة هى التى تعيد نحت الوجوه وتعطيها ذلك الطابع الأثير الذى يحرك الفنان لرسمها، فخلف مظاهر الحياة على جميع مستوياتها يكمن شيئاً مشتركاً بين البشر ولاشك أن إهمال الحياة الخارجية التى يتلقى الفنان منها انطباعاته يقطع تياراً هاماً للإبداع، وعبد السلام عيد ليس من هؤلاء الذين أهملوا الحياة الخارجية أو لم يلتفتوا لرسائلها الهامة. وإذا كان الفن كما يقول روجر فراى يستطيع أن يستثير رصيد الآثار التى خلفتها على الروح انفعالات الحياة المختلفة فإن الوجه الإنسانى هو أكمل ما يتردد فيه صدى تلك الآثار وهو المجال الذى تتجلى فيه العاطفة الإنسانية بطابعها العام الذى سرعان ما يأخذنا فى تيار إحساس إنسانى واحد ومتعة فى الفن لاتندرج فقط تحت متعة علاقات التشكيل إنما ينسحب إلى تلك الطبقة العميقة لكل أنواع الحياة الوجدانية وهذا ما يقدمه بشكل أكثر حميمية فن تصوير الوجه الإنسانى وإلا ما تضوع تاريخ الفن بعطر بائسات `بيكاسو` الزرقاوات وامرأته الباكية وشخوص ` إيجون شيلى ` الشاحبة النحيلة وبنات ` موديليانى ` الحزينات ووجوه ` فريدا كالهو ` المأسوية.

- وإذا كان عبد السلام عيد قد امتلك ملكة العبور إلى روح الشخصية التى يرسمها فإنه على الجانب الآخر امتلك أيضاً خبرات أدائية فى فن الرسم تمثل له الجناح الثانى الذى يتيح له التحليق بأفكاره بيسر وتلقائية؛ فتفهمه لطبيعة الخامة واحترامه لقانونها وتماهى خياله معها، واندماج حسه الإبداعي الداخلى مع قانونها البنائي يجعلها تجزل له العطاء ليذوب في عمقها يأخذ من روحها و تأخذ هى من روحه ليخلقا معا حالة من التناغم والانسجام الفني. من هنا فإن مختلف الأساليب التي اسـتخدمها عبد السلام عيد لا ترتبط فقط بنوع من التقنية الشكلية، بل إنها على العكس تُظهر بوضوح العلاقة بين الاستمتاع بالتنفيذ التقني الناجح وبين البحث عن الإيقاعات الداخلية للخامة التي تحقق الوحدة في العمل الفني. لقد قدم عبد السلام عيد تمثلات مختلفة لحضور الإنسان بكيانه الروحى فى مواجهة فنان تحمل شخصيته قدراً عالياً من ` الكاريزما ` التى تعنى فى أبسط معانيها القدرة على التعاطف مع الآخرين والتأثير الإيجابى فيهم.
د . أمل نصر

التلقائية والخبرة
- مضى عبد السلام عيد في رحلته التشكيلية عبر مسارات عديدة. ونتذكر هنا مقولة النحات أوجست رودان.. الفن شعور أو عاطفة، لكن بدون البراعة اليدوية لابد من أن تبقى العاطفة مهما كان من قوتها مغلولة. وقد امتلك الفنان من تلك البراعة ما أهله لإطلاق عاطفته الفنية بلا تحفظ أو مراجعة، واتسم إبداعه طوال تاريخه الفني بالحرية والطلاقة والأصالة مما جعله في مقدمة فناني مصر الطليعيين.

- وفي أعماله نلمح التلاقي بين القناعة بالعفوية وبين المهارة الفائقة، فالتلقائية في تجربة عبد السلام عيد الإبداعية.. هي ثمرة لفترات طويلة من النشاط، فالأفكار الجيدة لا ترد إلى الشعور بيسر اللهم إلا إذا كان ثمة جهد قد بذل من قبل في سبيل الحصول على إيجاد الأبواب الصحيحة التى يمكن أن يدخل الفنان عن طريقها. وقد خاض عبد السلام عيد مغامرة الفن مستوفياً أهم شروطها.. عمق الحدس والمهارة الفائقة. وعبد السلام عيد لا يتوقف عن العمل، ربما عن إيمان داخلي بأن الحدس الفني لا يتأتى اللهم حين يعمل ويشكل ويعبر، ونستطيع أن نلحظ ذلك من خلال رسومه السريعة التي ينفذها في فترات الاجتماعات المصاحبة لعمله كأستاذ بكلية الفنون الجميلة هى درس مصغر في الإبداع نستطيع لحسن الحظ أن نتابع تفاصيله، وخاماته البسيطة التي لا تتجاوز أقلام الرصاص والحبر الجاف وبقايا فنجان القهوة. وهو يبدأ من خطوط بسيطة يتخذ منها الفنان نقطة انطلاقه ثم ما يلبث أن ينهمك فى العمل، وتتراكب الخطوط والألوان والتهشيرات ليصبح عملاً جميلاً متوازناً ـ من وجهة نظرنا ـ هنا ما يلبث الفنان أن يمزقه ويعيد تركيبه في شكل جديد، أو يقوم بكرمشة الورقة بالكامل في قبضة يده ويعيد فردها ليكتشفها مرة أخرى وقد اكتسبت ملمسا جديداً يدخلها في نطاق إبداعي جديد يتعامل معه الفنان مرة أخرى. أو يحتفظ بها لتكون أحد أجزاء لوحة كولاجية لا يعرف متى ينهيها.هنا يحيل الأداء المقتدر الفنان من حالة إلى أخرى ويعطيه الثقة بوجود اكتشافات جمالية دائماً جديدة.

- هذا الموقف له دلالات كثيرة فهو يعني أن الفنان لا يقنع بالنتائج الأولى، ولا يرضى بالنجاح السهل، ولا يرضى بالممكنات القريبة المتاحة، ويعتبر أن الإنجاز الأهم هو التجربة في ذاتها ومتعة البحث والاكتشاف والتجريب. وتعتبر هذه التجارب تدريب دائم على الحرية والتلقائية حفظت للفنان حيوية الأداء وتدفقه. وهو يبحث عن لحظة المفاجأة ولا يرتضي إلا أن يفاجئ حتى نفسه.. كسر في اللوحة يبقي عليه ويدخله في نسيجها.. تساقط غير مقصود للحبال أثناء تركيبها في اللوحة يبقي عليه حيث يكتشف أنه يتكامل مع رؤيته الجمالية. بعض الأوقات تفرض عليه اللوحة التوقف، وبعض الأوقات تفرض عليه أن يحطمها أو يرفضها. ويأتي ذلك في شكل التمزيق أوفك معادلة اللوحة وإعادة الصياغة من جديد إلى أن يصل المعطى إلى المعادلة الجديدة التي تتسم بالطرافة والجدة والميلاد، فهو يتحرك من قناعة بأن الطريق للعمل الفني ملئ بالهدم والبناء، والبحث عن المنطقة المستقرة، فهو لا يسير في اتجاه واحد فعالم الممكنات زاخر بالاختيارات وهذا ما اعتمده عبر سنوات التجربة الطويلة.
د. أمل نصر

التجريب.. بهجة الكشف
- لم يكن مدخل عبد السلام عيد لفن التصوير مدخلاً يطابق المفهوم الكلاسيكي للتصوير على أنه ` فن توزيع الألوان على سطح مستو ` بل تعامل معه برؤية منفتحة ومتحررة، تسعى إلى التجريب والكشف، فهو لم يكن يبحث عن نموذج داخله لكنه ظل يكتشف. لقد أعطى فن التصوير الجدارى رحابة اللوحة المعاصرة وضمنه كل إمكانات التحرر على مستوى الشكل والموضوع والخامة وأخرج التصوير الجدارى من مفهومه القديم الذى إقتصر على ` الفريسك ` والزجاج المعشق والموزاييك لتحتل لوحاته الجدارية إضافات لخامات غير مألوفة أكسبها الفنان بإمكاناته التقنية وتحكمه الفائق فى أدواته الثبات وصفة الاستقرار والبقاء حتى تتلاءم مع مواقعها فى المعمار المرتبط بها، ففى مجمل أعماله الجدارية والمركبة نجده استعان بأشياء تخرج حيز العمل الجداري عن خاماته وتقنياته المعتادة مثل.. الفسيفساء والفرسك وغيرها بل نجده يستخدم أشياءه الخاصة ويبتدع تقنياته غير المألوفة، فنراه يستخدم في الجداريات.. الزجاجات الفارغة، والدوائر الإلكترونية والكهربية، والمجسمات، والعملات، أجزاء من النحت البارز وشرائح النحاس، والأقمشة المعالجة، الأواني الفخارية، والحبال وغيرها.

- وقد استقطب للسطح التصويرى المستوي إمكانات كل الخامات بما فيها الأشياء الحقيقية والمجسمات وحتى في استخدام الفنان لعناصر التصوير من خطوط وملامس وألوان، هو لا يضعها على سطح أملس كما هو معهود في فن التصوير بل يشكلها في ثنيات القماش المتحجر بفعل المواد اللاصقة القوية، والملامس الناتجة عن اختلاف بنية النسيج الملصق مثل: الشبك والدانتيل والحبال والسجاد... إلخ بالإضافة إلي العناصر الجاهزة ذات الإيحاءات مثل: المسامير والأسـلاك والصواميـل والأطبـاق الصينـى وأدوات الحرفييـن والخيرزان والأخشاب الجاهزة أو التي يشكلها بنفسه. وقرون الغنم والورق والسجاد والمسامير والكرات النحاسية بالإضافة إلى نسيج المفارش اليدوية مع استخدام وسائط متعددة فى التعامل مع تلك الخامات المتعددة. وهناك العديد من الأعمال التى تظهر فيها كثير من الخامات المألوفة لنا لكن فى إطار وصياغة تعبيرية جديدة, حيث تبدو وكأننا نراها من جديد.

- هو فى تجربته الإبداعية باحث عن الدهشة، طموح، صعب الإرضاء، شديد التأنق، لا يعرف التوقف ويؤمن بأن فى تاريخ الصورة لا شيء يذهب، بداية من الخط الأول وحتى اللمسة الأخيرة. تجربته تتسم بالعدو السريع وهو لا يستطيع أن يوقف شغفه ولم يركن إلى شاطىء نجاح مريح فهو يعدو من اكتشاف لاكتشاف ومن حيرة لأخرى، يحمل نزعة تجريبية تكاد تكون جزءً من طبيعته الإنسانية، فمن صغره كان طفلاً مغامراً دائم البحث والخوض فى تجارب تتجاوز انشغالات زملائه فى العمر. وعندما كبر ظل يمتلك القناعة بأن العمل الفنى هو الإنسان بمدى جسارته ومغامرته وأن العمل الفنى رهين بقدرة الفنان على الكشف وأن سقطة بعض الفنانين تأتى من اعتقادهم فى عملهم الفنى أن هذا هو الكشف الأول والأخير.

- ويردنا منطق عبد السلام عيد ومدخله للوحة بمقولة بيكاسو البليغة.. ` عندما نبدأ فى رسم لوحة. كثيراً ما نقع على كشوفات فاتنة، ولكن علينا أن نحترس منها ونحطم ما صنعناه، ونعيد صنعه مرات عدة فالفنان إذ يحطم كل شيء براق لا يقضى عليه فعلاً، وإنما يطوره ويركزه، ويستخلص زبدته، والذى يتمخض فى النهاية هو ثمرة الكشوفات المنبوذة، فإن لم نفعل ذلك أصبحنا كمن يتملق نفسه، وإنى لأرفض التغرير بنفسى ` !

- وتجريبية عبد السلام هى تجريبية مسئولة بمعنى أنه لا يلعب على مبدأ البحث عن الجديد والغريب وغير المتوقع دون هدف أو مضمون، فهو فنان مهموم بالقضايا الإنسانية وبدورة الحضارات.. تألقها واندحارها ، شروقها وغروبها، متأملاً لحكمة التاريخ، من هنا نجد الكثير من الرموز التاريخية والعلامات الدالة والتنبؤية أيضاً.

- وفن عبد السلام عيد لا يعتمد فقط على إقامة علاقات شكلية متزنة، فهو لم يقف أبداً عند حدود جمال الشكل بل ضَمن تجربته الفنية أبعاداً معرفية جمالية جديدة تثير الشعور بالكشف والفهم والتأمل وحب الاستطلاع والشعور بالغموض والتوقع وغيره مما يشكل الخبرة الجمالية المعاصرة.

- من هنا لم يسع الفنان لإحداث تأثيرات صادمة لتحريك ردود فعل المتلقي وتصعيدها، ولم يفتعل الجرأة في العمل الفني لإحداث هذه التأثيرات، ولم يكتف بالتجريب بذاته دون فكر. بل كان مشحوناً بشكل دائم بكل القضايا التى تحيطه بداية من القضايا الكونية والفلسفية ووصولاً إلى معاناة أصغر إنسان يعرفه ويقترب منه. مع العلم أنه جرئ فى أعماله لأبعد الحدود، لكنه ينتمى إلى من يقول عنهم الكاتب الأسباني إدواردوا جونزاليز لانوزا... ` إن الفنان المبدع الأصيل يمتلك تلك الجرأة الفطرية الأصيلة والموجودة بالفعل، وهو يدهشنا بما يحققه من نتائج دون أن يقصد ذلك، ودون محاولة الالتجاء إلى خدعة الجرأة الإضافية ` .

- تلك الجرأة المفتعلة التي جعلت بعض الفنانين يغريهم الترقب المثير من جانب المتلقين لتقديم كل ما هو جديد. مما جعل الأعمال تفقد كل قيمة لها بعد المشاهدة الأولى التى عرف فيها المشاهد الفكرة الجديدة للعمل، وينتهي بذلك كل شئ ولم يعد المشاهد يتذكر العمل الفني الذي أصبح مثل اللعبة الجديدة التي تفقد بريقها عند الطفل بعد اكتشافه لها.

إن أعمال عبد السلام عيد لا تفقد بريقها بعد اللقاء الأول بل تظل تثمر رؤى جديدة حيث إنها محملة بكثيف الأشكال والمعانى التى تجعلها قابلة للقراءة مرات عدة وبصور متنوعة .

- وهو يرى أن التجريب ليس وسيلة للعبث أو الإثارة أو إحداث للصدمة وبأن الانتماء إلى التيارات المعاصرة ذات النزعة التجريبية لا يعنى تقديم فن خالي من القيم، بل يعنى تقديم فن ينطوى على قيم جديدة.

- ويؤمن عبد السلام عيد بأن التجريب هو جزء من العملية الإبداعية، التى لابد وأن تنطوى على معطى جديد ولا ترتكن إلى مداخل مسبقة فالمغامرة هى جزء من الإبداع، وقد امتلك دائماً الإحساس اليقينى بان هذه المغامرة لابد وأن تنجح لإيمانه بأن البدائل والممكنات لانهائية، وإذا صادفه أثناء بنائه للعمل ممكناً طرقه من قبل لا يمارسه مرة أخرى، بل تعمد فى أحيان كثيرة أن يناهض ويناقض كل الدوافع التى تدفع به لاتجاه ما حتى يمضى فى اتجاه آخر معاكس، فقد علم نفسه ألا يرتضى وأن يهرب من عشقه لمداخل ما فى الإبداع حتى يطرق مداخل أخرى مازالت مغلقة، فهو لا يُبقى على طرح صادفه من قبل ولا يدخل غابة يعرف مسالكها فهو يفضل دائماً أن يضع مدقات جديدة فى أرض مجهولة وهذه هى متعة الفن التى لا تضاهى.

من هنا لا نستطيع تطبيق منهج تقليدى فى متابعة تجربة عبد السلام فهو لا يملك خطاً بيانياً متصاعداً فى اتجاه ما يتوقف أو ينحدر عندما يبلغ أوجه، بل يملك عدة خطوط بيانية متوازية يتنقل فيما بينها ذهاباً وإياباً وبالتالى لا نستطيع أن نصنفه تعسفياً فى اتجاهات ليس له علاقة بها، فولعه بالتجربة عنده أهم من النتائج، واللوحة ليست هى منتهاه وإنما غايته هى أن يجتاز تلك المغامرة الكشفية فحسب فهى تعادل بالنسبة له الشعور بتوقد الحياة وألقها.
د. أمل نصر

الكولاج.. ثنائية البناء والهدم
- شق عبد السلام عيد الاتجاه الموازى لتجربة منير كنعان لفن الكولاج فى مصر، وإذا كانت تجربة عبد السلام قد عرفت الكولاج بمعنى التلصيق لخامات وأشياء مختلفة وأطلق لخياله الرحب تلك السعة التى يحتاجها لتصبح كل الأشياء والخامات مادة لأعماله الفنية، بعضها بارز عن السطح قليلاً وبعضها مجسم مع احتفاء الفنان بحضور الصلب المتماسك وكتلته النافرة عن السطح بل ويمهد لذلك الحضور المتميز ويؤكده ويؤطره ، والبعض الآخر من الأشياء المضافة يندمج وينسج ويلون ويغمر فى وسط جديد يديره الفنان بمهارة، ويعبر به لمدار وجود جديد.

- لكن الذى سأشير إليه هنا هو ذلك الكولاج الذى اعتمد على ` الورقة ` ، فقط الورقة وما تضفيه معاملات الفنان التقنية معها من كشوفات غير مسبوقة ؛ فبتمزيقه العفوى للورقة أثناء العمل وبوقوع الضوء على ثنايا حافة الورقة الممزقة وطبقاتها الرقيقة يكتشف حجم الورقة على الرغم من رهافته، خاصة عندما يبدأ فى التعامل معها لونياً فتبدأ الورقة بالتقاط ذرات الفحم أو غلالات المادة المُلَوِنة فيبدأ فى كشف كثافة الورقة وكتلتها وكيف تستقبل الضوء كما تستقبل ذرات الفحم التى ينثرها فوقها.

ويعالج الفنان الورقة بالدمج القوى للمادة الملونة براحة اليد حتى تلتقط ثناياها نبض اللون، هنا تبدأ حواف الورقة فى التقاط أدق الخطوط إظلاماً، ويبدأ فى الكشف عن الطبقات الداخلية للورقة فيصنع تدرجات وحجوم فى إطار الورقة الرقيقة التى قد تبدو شفافة نقية كاللؤلؤ، أو خشنة يخدشها بسن قلم قوى بخطوط متسارعة متدافعة يغير به حالتها المحايدة ويحيل صمتها صخباً. ثم يعود للتحاور مع الورق بالإزالة والإضافة والحذف والكشط والمحو والكرمشة وإعادة الفرد، ثم إضافة ما يراه من أشكال من أجزاء أخرى لأوراق سبق تمزيقها فتكشف بعض هذه الأداءات وتحجب بعضها فيحدث التناقض الجميل بين المساحة البيضاء الصافية بلا تاريخ وبين المساحة التى اعتملت فوقها كل تلك الأداءات وما تنطق به من قيم بصرية أخاذة.

- إن لديه القدرة على الاجتراء الجسور على السطح واستنطاقه واستكناه غوامضه ولكى يحقق ذلك يبدأ فى الإضافات المتتالية محققاً تاريخاً لذلك السطح تتراكب فوقه المعاملات الأدائية المختلفة ويبدأ الفنان رحلته المثيرة فى الكشف حتى يتوصل بذلك السطح إلى أداء لم يكن ليظهر إلا إذا تتالت فوقه طبقات الإضافة تليها طبقات الحذف مابين الكولاج والديكولاج. وبظهور عناصر جديدة بين هاتين الرحلتين يبدأ الفنان فى استجلائها والتعامل معها شكليا وخطياً ورمزياً فتبدأ فى إعطاء ايحاءاتها المختلفة وسط شبكة من العلاقات البصرية الغنية.

- وعن طريق إضافاته لأجزاء الورق فى أشكالها المختارة على مساحة اللوحة الأصلية التى يكون قد شغل أجزاء منها بالفعل فإنه يمزج عالمين مختلفين, يديرهما الفنان باقتدار فى وحدة واحدة. وقد تكون تلك الأجزاء المضافة تمثل صورة سابقة تم تمزيقها وهدمها شروعاً فى بناء جديد يستطيع أن يفاجئه، فهو شغوف بمغامرة الهدم والبناء، يؤمن بأن كل الأشياء والأشكال يمكنها أن تكون على نحو آخر على غير ما اعتدناه، ويمكن أن يكون لها حياة أخرى أكثر مفاجأة وطرافة وأبلغ شكلاً من حالتها الأولى. من هنا يصبح لكل قصاصة بمعالجتها الخاصة وجودها اللونى والخطى وكأنها جاءت من عالم مختلف فريد فى إيحاءاته وعطائه البصرى، ويمزج الفنان بين تلك العوالم فى فضاء جديد فيخلق تراكباً بين رؤى عديدة فى الطرح الواحد، أو يسوق عالماً تشكيلياً جديداً داخل عالم تشكيلى آخر فيعطى مستويين للرؤية حافلين بالخيال فهو يرى الواقع لكن من فرضيات لامعقولة.

- وعبد السلام عيد لا يعتمد كما هو متبع فى تجارب الكولاج الأخرى على ما تضفيه الأوراق الملصقة متعددة الألوان والأشكال من تفاوت فى العطاء البصرى بسبب اختلاف مصادرها أو ما تتيحه من تناقض ينتج عن التقائها غير المتوقع والأبعاد الجديدة التى تنتج عن هذا التلاقى أو الوفاق الغريب الذى قد يخلفه هذا المزيج. لكنه يحقق كل هذا وأكثر بالورقة فقط.

- ويحتفى عبد السلام عيد بحياة الورقة وحالات ظهورها وتمثلاتها المختلفة وموسيقاها الخاصة، وأضوائها التى قد تكون نهارية أو ليلية قمرية، ضوء خافت موحى، ضوء قوى مبهر، ضوء فَرِح، وضوء شاحب حزين، ضوء مبهج وضوء غامض كأنما أتى من فتحات مغارة قديمة، ضوء متلألئ كانعكاس الشمس على سطح مياه بحر الإسكندرية وقت الغروب، وضوء نهارى حاد مشرق.

- وفى أعمال الكولاج عند عبد السلام كثيراً ما يقتحم اللوحة على غير توقع من الخارج إلى الداخل أشكال غريبة ومجسمات لها امتداد خارج فضاء العمل تعطى إطلالات غير مألوفة، أو أبنية ذات مناظير مستحيلة، ونجد للعمارة حضوراً واضحاً ودلالة حضارية رمزية لممالك تشيد وممالك تنهار، سفن غارقة وسوارى متكسرة، زيقورات أثرية، أبنية ومجسمات لها شكل الأطلال القديمة، أعمدة محطمة وبوابات مفتوحة على لا متناه، مراكب راحلة لا يتبقى منها غير أشرعتها، أبراج تنهار فتعكس تآكل الحضارة المعاصرة والتنبؤ بانتهائها لكى تصبح أثراً قديما وفقاً لدورات بزوغ الحضارات واندثارها التى رصدها لنا التاريخ فى درس ينبغى ألا ننساه.

- ويحمل عبد السلام تلك الأبنية لأجواء سماوية زرقاء خالية من التفاصيل لكنها مشحونة بعمق وشفافية وفضاء لامتناه، وأحياناً ما يعطى سمواته لوناً أحمراً دامى الوقع، أو يمنحها عمقاً سحيقاً مأساوى الطابع أو يحملها على شعاع قزحى متعدد الألوان... أو يغرقها فى صمت مترقب. إنه يرسم المدينة الخاوية التى بلا روح، مرآة العصر الطموح بلا حدود والذى رغم ازدحامه فقد امتلأ قلب إنسانه الخوف والإحساس بالعزلة والوحدة. وكثيراً ما يرسم أشكالاً فضائية تهبط بشكل عشوائى ، فضاءات مختلفة متباينة تنفسح لتكشف حروباً نووية ومصائر مجهولة لابد أن نخاف منها.

- إحساس عميق بالمأساة والملهاة التى يعيشها الإنسان المعاصر تجعل الفنان يعطى حلولاً مباغتة ويقدم رؤية تنبوئية. إن أعماله فى الكولاج تذكرنا بطوف الميدوزا لجيركو، ومآسى ديلاكروا ومدن ديكريكو المهجورة، ومشاهد ترنر التى تمتزج في عواصفها الأرض بالسماء. أنه يقدم تجريداً لكنه حافل بالدراما والرومانسية.

- من هنا ندرك أن الفنان لا يقدم فقط إمكاناته الفائقة فى الأداء وتقنياته الخاصة بل يعتبرها وسائط يقدم من خلالها فكر جاد، ولاشك أنه كلما ارتقت لغة الحوار كلما أصبحت الفكرة أشد جلاءً، ولغة الحوار هنا هى مفردات التشكيل تلك التى خبرها الفنان واجتاز معها رحلة من العمل والمثابرة والبحث منحته تلك الطلاقة فى استجلاء أفكاره وتقديمها بروح مؤثرة. فهناك فكر مواز لكل عمليات الهدم والبناء تلك، فكر منشغل بقضايا وهموم يلقيها بلغته الخاصة بل ويقدم أحياناً من خلالها إنذارات ونبؤات، اندحار قيم وبزوغ قيم أخرى، سقوط وأحداث وعواصف. فهو يتعامل مع الكولاج كخامة تستطيع أن تتفاعل مع الأبعاد الفكرية والإسقاطات النفسية التى يبثها الفنان إليها، فتمزيق الورقة يعطى إحساساً بالهدم يتوافق مع حالة التناقض التى يعيشها الإنسان المعاصر الذى تتعرض حياته وقيمه لضربات عدة تسقطه أسير صراعات وتناقضات كثيرة, تغرقه بها حياته المعاصرة التى قدمت له المعاناة ملتفة برداء الراحة والرفاهية.

- عبد السلام عيد لا يقدم الكولاج كتجميع وتلصيق لأجزاء وقصاصات متراكبة لكن يقدمه كحياة لعدة صور تتوالد من عشرات الصور الأخرى.
د . أمل نصر

ذاكرة الأشياء
- يمتلك عبد السلام عيد ذلك الحدس الذي ينقله إلى باطن الأشياء، ويطلعه على ما فيها من طبيعة متفردة لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ. ونتفق هنا مع برجسون فى تحديده الدقيق لمعنى الحدس بأنه هو التعاطف العقلى الذى ينقلنا إلى باطن الشيء ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة.

- وهو يفاجئنا بالتقاطاته من عاديات الحياة ونثرياتها وأشيائها البسيطة فإذا بها عناصر جديدة ندهش عند اكتشافها فهو قادر على إخراج الشيء من متوالية وقائع الحياة ليكون واقعة فنية بعوالمه الخيالية, بيده التي تبدع حياة أخرى وشكلاً جديداً للأشياء. فهو يمتلك نهماً شديدا في اكتشافه للحياة بكل أسرارها، بكل مفرداتها وعناصرها. وقد أصبح عنده أشياء كثيرة يجمعها أينما ذهب، حتى أصبح مرسمه محفلاً كبيراً لكل الأشياء، كأن هذه الأشياء ستفصح له عن سر الوجود، لكنه اكتشف أنه يزداد حيرة كلما مضى في خبراته وتنقلت به الدروب، وأن الفنان لا يتعامل مع الزمن باتجاه واحد بل يستطيع أن يسبح من خلاله ذهاباً وإياباً، فإحساس الفنان بالزمن مختلف ونسبي، ودوافعه تجعله حريصاً دائماً على ألا يفوته الماضي، والأيام التي يعيشها يحاول أن يحفرها ويسجلها.

- إن تسجيل الفنان للرؤى والأماكن التي عاشها، واختياره لعناصر معينة تحمل عبقها تجعله يستطيع أن يحتفظ بنبض الزمن. من هنا كان الفنان شغوفاً بالأشياء، وهو لا يستطيع أن يوقف هذا الشغف، شغوف بأي أثر للإنسان من منطلق أن أي أثر يتركه الإنسان يستحق أن ندرك قيمته ونحافظ عليه.. كل الأشياء التي يستخدمها الإنسان بيده... أقدم الأدوات.. المقصات النادرة.. الآلات الكاتبة القديمة.. الأواني الفخارية .. أدوات الخبازين.. أطباق خزفية مكسورة.. أجزاء الماكينات القديمة.. النسيج.. المفارش المطرزة.. السجاد اليدوي القديم.. المسامير.. المباخر.. الزجاجات القديمة.. الحبال المتنوعة.. الأقنعة.. قرون الماشية, أدوات خاصة بتقليم الحدائق, صور فوتوغرافية قديمة وأشياء أخرى كثيرة ظهرت تباعاً فى العديد من أعماله.

- يختارها بعين خبيرة من كل مدينة يرتحل إليها، ومن شوارع الإسكندرية وأزقتها القديمة، من بين أكوام ` الروبابيكيا ` وفرشات قطع الغيار القديمة، من أشياء استغنى عنها الناس وأصبحت من المتروكات خاصة المعروضة على أرصفة سوق الجمعة بحى مينا البصل بالإسكندرية، وتعتبر رحلاته الشرائية للمناطق والأسواق الشعبية التى تبتاع تلك النفايات، هى أحد رحلاته الممتعة التي تحمل له الكثيرمن بهجة الكشف، وهو يرى أننا ينبغي أن نحترم هوس الفنان بالأشياء لأنه ناتج عن وعيه بقيمتها، فالشغف بالمرئيات داخل في نطاق الشخصية الفنية. ومكونات العالم الخارجي عنده لا تقتصر على حدود الطبيعة الحية، ولكن تدخل في تلك المكونات ثنايا الحصو وبقايا الثمار والبذور الجافة التي تحمل نبؤة الحياة.

- ويردنا هذا إلى فلسفة هنري برجسون حيث يذكر فى إحدى مقولاته.. ` إن رؤيتنا للأشياء هي رؤية محدودة, عمل على انكماشها وخوائها تعلقنا بالواقع الخارجي، وانشغالنا بالجانب النفعي للأشياء، ولقد عملت المصادفات السعيدة على ظهور أناس تبدو حواسهم وشعورهم أقل التحاما بالحياة المادية... هؤلاء حين ينظرون لشيء فإنهم لا يرونه لأنفسهم ولكن لنفسه هو، وهم لا يدركون لمجرد العمل ولكن يدركون للإدراك ذاته, فيدركون عدداً أكبر من الأشياء... وهم يولدون مصورين أو نحاتين أو موسيقيين أو شعراء `.

- ولا شك أن إدراك عبد السلام عيد للأشياء هو إدراك من هذا النوع فهو لا يراها بعين معتادة، إنما يراها وكأنه يلتقيها للمرة الأولى، إدراك متحرر من الضرورات العملية التي تحد من مجال إبصارنا وتحصرنا في دائرة الاهتمامات العملية النفعية لتلك الأشياء، فهو يعترك المادة ليقدمها في أعلى درجات تحررها جمالياً في وجود فني جديد. فينقلها من حالتها المهملة إلى حالة إبداعية جديدة, حيث يسقط ما بينها من تنافر ويجمعها في سياق جديد يحمل العديد من القيم الجمالية والرمزية.

- لقد أضفى عبد السلام عيد نبلاً على الأشياء المهملة عندما تألقت عناصراً موحية في أعماله فاكسبها حياة جديدة، وأعطى اتحاده مع الأشياء أجمل أعماله الفنية، فقد أعار الأشياء والأدوات حياة مشابهة لحياته وكانت مرادفاً مناسباً لأفكاره، ليفصم بذلك جدلية الأنا والآخر، مخالفاً بذلك النظريات التي تكرس للقطيعة بين ذات الفنان وبين الأشياء على اعتبار أنها تعيق حريته، بل استطاع أن يعبر من خلالها عن تلك الحساسية الفنية الصافية المتحررة من أية غاية سوى متعة الفن, وهذا الإحساس بالتمايز بين الشيء والذات يتلاشى من خلال العلاقات المركبة والمتزايدة التي تؤدي إلى اتحادهما خاصة عندما تتغلب الجهود الإبداعية للفنان على التناقضات، ليصبح من الصعب فصل ذات الفنان عن الأشياء التى تمثل الطرف الآخر في تلك العلاقات، فتصبح الأشياء امتداداً ليده وفكره.

لقد عاش عبد السلام عيد الفن كرحلة من سفر دائم عبر الأشياء نحو قلب العالم تلك الحالة التى أسماها أدونيس ` صوفية الفن ` .
د. أمل نصر

الخروج عن الإطار
- يبدأ عبد السلام عيد منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين فى إطلاق مجموعة من الأعمال الدالة ذات الإشارات التحويلية الهامة فى تاريخه الفنى، بل وفى تاريخ الفن التشكيلى المصرى المعاصر، حيث يبدأ فى تقديم تحدٍ واضح للغة اللوحة المستقرة فى إطارها الذى يحوطها فى هدوء بزخارفها الذهبية التى تعزلها عن العالم المحيط بكل اعتماله وحيرته لتصبح مستطيل منسجم يقدم المتعة البصرية الهادئة التى يستكين لها المشاهد العادى فى استسلام فهى لا تتطلب جهداً كبيراً فى تلقيها لأنها تمثل عالماً كان يعرفه ويتوقعه مسبقاً.

- يفجر عبد السلام عيد هذا الإطار فى ثورة دالة على الرفض والبداية الجديدة ويبدأ فى ضغطه وإعادة تشكيله ليتحول هو بذاته لشكل داخل العمل، ثم يبدأ بتأطير أشياء كان من المستحيل توقع عزلها عن دورها المعتاد فى خبرتنا العادية لتؤدى دوراً جديداً فى عالم الممكنات الذى طرحته الفلسفة و انشغل به الفنان كثيراً، يؤطر عنصراً واحداً داخل العمل له كل السيادة والحضور، شكل واحد مشع يمثل مركز العمل ومحوره فى مجموعة أعمال حملت ذلك الطابع، على سبيل المثال بيضة نعامة ضخمة، ظهر سلحفاة، مقص ضخم من مقصات الحدائق، منفضة سجاد، قرن حيوان.

- ويمكننا أن نقرأ حضور تلك العناصر على مستويين.. مستوى رمزى ومستوى شكلى، فقد ترمز البيضة إلى الخصوبة وتجدد الحياة وترقب ما هو قادم، ولكن لابد أن الفنان أيضاً اغتواه شكل البيضة للونها المضىء الرائق وكتلتها النحتية المصقولة الناعمة فى حضورها مع خلفية من الفلين الطبيعى الداكن ذى الملمس الصخرى، وقد يرمز ظهر السلحفاة للوجه الذى لم يفصح بعد عن معالمه وعما ورائه وكأنه سر لم يولد بعد. إلا أنه أعجب أيضاً بتقاسيم هذا الجسم العتيد بقانونه البنائى الخاص، وقد يكون المقص علامة احتجاج ورغبة فى التغيير لكنه أيضا ذو تشكيل نحتى خاص يضفى على المساحة جواً من التوتر والتحفز، كذلك قد يكون استخدامه للمنفضة رمز لعهد دخول الأشياء المهملة إلى اللوحة الفنية، لكن تدوير الفنان لمقبضها يعلن فيه قدرته على إعادة تحريك الثوابت حتى على مستوى الشكل، ويعيد تشكيل العنصر ليكون من خلاله علامة الرمز اليونانى القديم للانهائية، ويؤكد هذا البنية المغلقة للأشكال الداخلة فى تركيب العنصر.

- وفى بعض تلك الأعمال قد يضيق الإطار على الأشياء فيحاصرها بشدة لتكثيف معنى أو رمز محدد كاللوحة التى وضع فيها قرن حيوان يتصدر العمل يؤكد به فجاجة العنصر ووحشيته ليبدو وكأنه أداة وخز يريد من خلالها أن يحرك الرواكد والثوابت، ويقوم بنوع من التنبيه الحاد لعين المشاهد المستكينة. وقد تخرج الأشكال متمردة خارج الإطار، إنه دور جديد للإطار داخل العمل يكرسه عبد السلام عيد فى واحد من أهم مساراته الإبداعية ذات الطابع التجريبى.

- ثم يجد عبد السلام عيد ضالته المنشودة فى الأنسجة القديمة والأقمشة والمفارش اليدوية المطرزة والأكلمة الشعبية والملس الصعيدى وشبك الصيد، حين يغمرها فى مختلف أنواع اللواصق لتتحول إلى عجائن سهل تشكيلها، يتأمل متغيراتها ومظاهرها ومعطياتها، خيوط النسيج بعفويتها وتداخلها أعطته ما لانهاية له من احتمالات التشكيل وأعطته أيضاً انطباعاً بتعقد المدينة وتناقضها وأنها يمكن أن تأخذه أيضاً إلى تعقيدات العالم المعاصر وأصدائها فى عقولنا التى تحاول تفسيره، ويتدخل الفنان فى توجيه خطوط النسيج واتجاهاته وتأثيراته الملمسية وخلاياه الدقيقة لتقديم بنيات فنية متعددة الصور.

- ومن تلك العجائن المغمورة بالوسائط اللاصقة يصنع مسطحه التصويرى المنحوت البارز ويؤكد مستوياته بالتعامل مع طبقات اللون الداكنة فى الأماكن الغائرة وتأكيد الضوء فى الطبقات الأعلى. يكتشف النسيج كما يكتشف فيما بعد خامة الحبال، يعيد تلوينه مرة بألوان القدم ومرة بألوان ضبابية أو طيفية ومؤخراً بألوان صارخة. يكتشف كيف يمكن أن يصنع من خلاله ذلك التصوير المنحوت، يُكوم النسيج ويصنع منه عُقَد والتفافات وكسرات، كذلك فإن البنية الدقيقة للخيوط المطرزة والنسيج الضيق لغُرز القماش تتيح له أن يرى عالماً متسعاً من الاحتمالات يكثفها ويعقدها فى كسرات عديدة متتبعاً ما يمنحه الضوء من خطوط نورانية دقيقة أو خطوط ظلية سوداء، وقد يبسطها فتتحول لمسطح ينتهى لأفق وهمى ينشىء من ورائه عناصر ومفردات تتخذ هيئة السحب أو التفجرات أو الأشلاء المتناثرة، وقد يعالج ركام الأقمشة بمسحات لون تطوف بمناطق مختارة من العمل، ما بين لمسات الأبيض المضىء الذى يكسب الحافات استدارتها وما بين غلالات شفافة تتشبع بها طبقات النسيج المتراكب متعدد المستويات التى يتحكم الفنان فى تقدمها وتأخرها تبعاً لمقتضيات وحدة العمل. ويستثمر الفنان علاقة المجسم البارز الصلب فى الجزء المشغول من اللوحة مع المساحة المسطحة فى الفراغ المتبقى فيها خاصة عندما تتحول إلى فراغ لانهائي.

- وأحياناً يصيغ الفنان النسيج فى شكل جدار مرتفع يطل على عالم سديمى غامض ورائه يعكس انشغال الفنان باللامرئى، وأحياناً ما يصنع بالأنسجة أفقاً وهمياً عالياً يكشف من ورائه عن ممالك بعيدة، وقد يتحول القماش إلى بنية كثيفة تلقائية ثم فجأة ينهض شكل معمارى أو هرمى أو دائرى كمجسم بارز وسط تلك الشبكات المعقدة فتبدو كأنها آتية من وراء الزمن خارجة عن التعامل العضوى الحيوى مع النسيج، أو قد يتحول القماش إلى رقائق متحجرة متراكبة كطبقات الأرض تحمل طابعاً أركيولوجياً يؤكد قدرة عالم التشكيل أن يكون حاملاً لأفكار وانشغالات وحيرة الفنان إزاء العالم، وإزاء تجربة الحياة ومحاولات تفسيرها.

- وبتشكيل الفنان للأنسجة بكسراتها ومنحنياتها على اتساع ملامسها مع دمجها وإعادة صياغتها باقتدار، تتحول كما لو كانت طينة نحتية يصنع منها عوالم تندثر وعوالم تقام وعمائر قديمة وأنهار، طوفان من بحور وأمواج، موجة عاتية تقلب العالم رأساً على عقب وتخلف قاعاً محشوداً بالأشياء والرواسب، و حافلاً ببقايا الحياة والبشر. حفائر عديدة يستبق بها الفنان الزمن ليحاول أن يرى ماذا سنخلف من مظاهر وآثار حياتنا للمستقبل، إنها نشوة الاتصال بالمطلق وكسر حدود الزمن. وكثيراً ما يستحضر عبد السلام الدائرة التى يرصع بها قلب الشكل فتتحول مرة إلى بللورة مسحورة يحلم بأن يكشف لنا من خلالها عالماً غيبياً نتوق لأن نرى بعض خيالاته، وقد تتحول الدائرة إلى عين تحدق بنا أو نافذة نطل منها، عجلة، أو طوطم غريب، أو دوائر ذات وحدات زخرفية من فنون حضارات قديمة.

- وفى مرحلة النسيج المُشكل باللواصق يتخذ الإطار حضوراً مختلفاً إذ يختفى ويغيب تحت بناء النسيج ليصبح مدغماً فى اللوحة يكسوه القماش أو يلتف من حوله أو يخرج من ورائه لينثنى مرة أخرى على قلب اللوحة أو يغطى جزئياً بعجائن الأقمشة ليستفيد الفنان من بروزات حليته أو مستوياتها فى عمل مضاد رياضى أو هندسى يعادل عفوية النسيج وتركيبه العضوى العاطفى.

- وقد قام الفنان بتحرير إطار الشكل ونسبه المألوفة فنجد الشكل البيضاوى والدائرى وغير المنتظم، وقد يعتمد فكرة إطار داخل إطار ولا شك أن هذه الأشكال الجديدة للمسطح المصور كانت تسمح بخلق تخيلات جديدة للأسطح لا يمكن الوصول إليها عن طريق القطعات العرضية التقليدية، من هنا كانت تشكل مجالاً مختلفاً لأسلوب وضع التكوين مما كان يسمح بوجود مساحات لإعمال الخيال بما يتناسب مع الحلول الخاصة للفراغ التى تقترحها النسبة الخاصة لكل مسطح. وفى أعمال أخرى يختفى الإطار تحت غطاء يلقيه الفنان على مسطح العمل الذى يكون قد سبق وشغله ببعض العناصر والمجسمات يؤكد بعضها ويلونه ويبرزه ويجعل البعض الأخر خافت الحضور ذو صفة غامضة لا نستطيع أن نتبين كنه أو ملمح محدد له، فالفنان يحمل تقديراً خاصة لقيمة الإيحاء فى العمل الذى يعتبره أجمل من الأشياء المكتملة أو المنتهية التى تعطل خيال المشاهد وتفاعله مع العمل.

- دائماً ما يفتح طاقة ضوء من وسط ظلمة وعتامة على عالم آخر منشود وبعيد، خاصة عندما يصور مغاراته الصخرية من النسيج المتراكم المتصلب بخشونة والتى يفتح فيها طاقة أمل وخير وسلام، يريدنا الفنان ألا ننساه وسط تشابك الحياة المعاصرة وجهامتها وتعقدها.

- ثم فجأة تنسحب كل تلك العوالم لتتركز فى أطر ضخمة حصينة حافلة بالأشياء والملامس والألوان لتترك فراغ اللوحة رائقاً إلا من أثير قزحى ملون صاف، وذلك فى سلسلة من الأعمال التى أسماها الفنان بمجموعة ` الأفق ` حيث يزيح كل انشغالات المدينة وضوضائها وزحامها وتراكماتها المثيرة، يزيحها جميعاً إلى جوانب الإطار لينبثق من قلب اللوحة فقط : الأفق. كأنه في وسط كل هذا الصخب الذى نعيشه يدعونا لتأمل الأفق في لحظة خارج الزمن وأن يرسم كل منا ما يتمناه في أفقه الخاص. وينتقل من الحجوم البارزة والملصقات والأعمال المركبة إلى شفافية الكون وأضوائه، ومن صخب الحياة المعاصرة إلى ضبابيات وغموض الأفق.

- وتنطوى تلك الأعمال على فكر فريد فى تاريخ التشكيل إذ يؤدى الإطار الدور الأكثر درامية فى العمل، وينسحب إليه كل الصخب والحيرة والتشابك التى قد يحفل بها قلب العمل الفنى، لكنه صخب يديره الفنان بحكمة ويلزمه أن يدمج فى عالم محدد. فالصخب والانشغال والفوضى العارمة تحيط بعالمنا وبنا، لكن هذا لا يمنعنا من أن نرى داخلنا بقعة مضيئة من الصفاء والحلم. وفى النهاية نجح عبد السلام عيد من خلال خامات غير مألوفة أن يبدع عوالمه الغرائبية وهو يفرح بتشييد هذه العوالم كأنه يطاوع حلماً قديماً فى تشكيل زمان حر ومكان حر يجارى خياله الطليق.
د. أمل نصر

مدن عبد السلام عيد
- مثلت فكرة المدينة شاغلاً إبداعيا للفنان عبد السلام عيد، وربما انشغل الفنان بفضاء المدينة لأنها بالنسبة له هى ساحة العرض الأرحب التى تصلح لاستقبال أعماله المتسمة بالصرحية والتى يتوافق معها فكره المعاصر الذى يعتبر أن المشاهد يستطيع أن يدخل إلى قلب العمل ويصبح جزءً منه, وقد ارتبطت المدينة بأعمال الفنان ارتباط قدري منذ بداياته، فقد قدم على مدار تجربته الإبداعية عدة أعمال تتخذ اسم المدينة، مثل: مجسم المدينة 1982، المدينة الفاضلة ` متحف تونى جارنييه - مدينة ليون بفرنسا ` ... المدينة الحائرة 2002 ` بينالى ساو باولو - البرازيل ` وعندما نشاهد سلسلة أعماله للمدينة نجد أنها لا تمثل انطباعا بصرياً عن المدينة كوجود جغرافي وعمران بشري بل أنها تشكل تمثلاً لذلك الوجود وانعكاسه في وعي الفنان وشعوره. وقد تناولت الدكتورة مارى تريز عبد المسيح عملين من أعمال المدينة لعبد السلام عيد فى كتابها ` التمثيل الثقافى.. بين المرئى والمكتوب ` حيث ربطت بين العملين وبين مفاهيم هامة فى علاقة العمل الفنى مثل علاقة الذات بالثقافات الأخرى والمصالحة بين العلم والفن. وقد تناولت مجسم المدينة 1982 قائلة.. تبارى فنانو الإسكندرية فى معالجة الهموم المعاصرة، بالاستفادة من التجربة السكندرية ـ فيما تمثله من تعددية السياقات التاريخية والجغرافية ـ يبعث العناصر المرئية المحلية التراثية لتوظيفها فى التحديث التقنى... هذا الجدل المحتدم بين العلم والواقع، أو العلم وما وراء الواقع، أفضى إلى الفصل بين التجربة الصوفية والعقلانية، وبين الفن والعلم، مما أصاب الفرد بشقاق داخلي. ويجوز رأب هذا الصدع الداخلي لدى الفرد في حالة معاودة صياغة علاقة الذات بالثقافات الأخرى.

- ويتصدى عبد السلام عيد إلى هذه الإشكالية في أعماله المركبة، ويتضح ذلك في عمله ` مجسم المدينة ` الذي عرضه في بينالي فينسيا الدولي 1982. وهو يعبر عن تمثيل بصري لكوكب منقسم، والفرد فيه هائم تتقاذفه دوامة تدفع إلى حافة الهاوية. والعمل المركب يتكون من مخلفات قديمة، ومواد منتقاة من البيئة ويتخذ طابعا روحيا. ` فالمدينة1 ` أقيمت على حامل به آنيتان من النحاس، في وضع أفقي ثبتت واجهاتهما نحو الخارج، ربما لتوحيا بفجوة سحيقة على وجهتي الكرة الأرضية وتفصل الآنيتان أشكالا عمودية ممتدة الأطوال، تمثل حلقات وصل، والعواميد من الخشب القديم، وأشكالها قد توحي بمبان معمارية صناعية أو ناطحات سحب، مثبت على إحداها شكل مصغر لإنسان هائم في الأفق.

- وبالدوران حول البنية المعمارية، قد يتحول هذا العمل المركب، المتنوع الأشكال والخامات إلى عملية دالة، فبدلا من رؤية الآنيتين المثبتتين كوحدتين منفصلتين تتعارض اتجاهاتهما، فتبدوان منفتحتين لكافة الجهات، لتصبحا في حالة تكامل وليس تضاد. أما العواميد الفاصلة، فهي تمزج القديم والحديث، الأسطوري والصناعي، الطبيعي والثقافي، مما يوحي بتجاور الأزمنة وتلامس الأضداد. فالخامات المنتقاة تحمل إيحاءات بأزمنة ولت، وثقافات تبدلت وتنوعت، فهي تذكرة بالطبقات الثقافية المحفورة في تاريخ الإسكندرية تساعد المشاهد على تقبل تنوعها الثقافي. فالعوائق الفكرية التي تظهر في أزمنة التحول تدفع الأفراد الى الارتداد إلى حقب ثقافية تتفق وتكوينا تهم الأيديولوجية، مما يصيب التكامل الثقافي بالتفكك. ويسعى هذا العمل المركب إلى تجاوز الشقاق الثقافي بتجسيد للمدينة بوصفها فضاء تمتزج فيه العناصر الطبيعية والثقافية لتستوي علاقة الفرد ببنيته. كما تناولت ماري تريز عبد المسيح المدينة الثانية وهى.. ` المدينة الفاضلة ` 1993 هذا العمل الذي رشحه فيه المركز القومي للفنون التشكيلية، وتم افتتاحه في احتفالية كبيرة، ليصبح بصمة مصرية مشرفة في ذاكرة المتاحف الفرنسية المعاصرة.

- تقول مارى.. ` حينما تنخرط التجربة الفردية الذاتية في الممارسة الجمعية تغدو تجربة بين ذاتية، مما يوفر إمكانات لإنماء حوار بين للثقافات `. ويتطلع عبد السلام عيد إلى إقامة ذلك الحوار في جداريته العملاقة ` المدينة 2 ` ، متحف توني جارنييه ، ليون، فرنسا. ففي هذه الجدارية تتجسد ثلاثة أعمدة منقوشة بلغات بصرية متعددة، فهي تتكون من جزئيات تشمل أيقونات، وأشكالا أسطورية، ورسومات بيانية في أشكال حروفية ، حتى يصعب تفسير تلك النقوش تفسيرا واحدا، ينسبها لثقافة بعينها. فالعلامات تشكل نسيجا بصريا يعيد صياغة ثقافة مصر والعالم بقراءة العلاقات التبادلية بين مفرداتهما الثقافية.

- وبتمثيل عناصر المزاوجة والتفكك التي تربط الثقافات وتفرقها في آن واحد، يثير هذا التكوين التساؤلات لصعوبة تصنيف علاماته في إطار تراث ثقافي بعينه، فقد يمثل واجهة معبد أو صورة خائلية Virtual image، يبثها جهاز الكتروني فالمشاهد بصدد بضع علامات قد تكون ذات مرجعية تصويرية، أو الكترونية وعليه التعاطي معها دون تثبيتها في نقطة مركزية، أو محاولة التوصل إلى صياغة نهائية لها. هذا العمل المركب يلمس العلاقات بين العلم والفن، الشرق والغرب، وهي علاقة تكاملية تتجاوز الثنائيات المتعارضة، فهناك حاجة لإضفاء مسحة روحية على التكنولوجيا. فالتكنولوجيا ليست وليدة الفكر العقلاني وحده، بل ولدتها الإرادة الصلبة أو الإيمان القوي الناشئ عن الميتافيزيقا الشرقية، تلك المسحة الروحية ألهمت الغرب في عصر الأنوار لتتحول إلى دافع للعمل أشعل الثورة الصناعية. فهناك حاجة لفهم روح العلم، وعلم الفن، وحاجة لمساءلة الحداثة عبر الذاكرة ولإعادة تقييم الماضي عبر المخترعات الحديثة حتى يتسنى للفرد إيجاد موضع في عالم الغد.

- أما المدينة الثالثة لعبد السلام عيد فهى.. المدينة الحائرة، التى عرضها ممثلاً مصر فى بينالى ساو باولو 2002، وفى هذا العمل نجد الفنان ينشىء مدينة كونية جاءت كمكثف لرحلة فنان شغوف بالحياة وبالفن والتاريخ، كأنه أتى بها من كل المدن، ومن كل الأماكن التى سافر إليها، جمع كل الأشياء التى يحبها.. يحملها على كتفيه.. يسير ويسير ويلتقط من البلاد والدروب والشوارع الضيقة.. حتى فاض حمله فطرحه مدينة كاملة معجونة بكل سنوات الخبرة وبكل شذرات الفكر وشططه والتماعاته، مجمع لرؤاه البصرية ويكتمل البناء.. خبراته الأدائية المفرطة فى البساطة وفى التعقيد، إنسانيته العالية، وأبعاد شخصيته المتشابكة الفريدة ما بين العقلانية المركبة والشاعرية الرقيقة والعفوية الفطرية.

لقد كثف الفنان العالم فى مجموعة من البنايات، لكنها بنايات تسمح بالرحيل والمغادرة والسفر بين الأزمنة.. ووضعها على مساحة بيضاء طيفية اللون توحى بالطيران، تعامل الفنان مع ما يسمى بأسلوب التركيب الفوقى حيث يقيم علاقة ما بين الصور الجمالية المختلفة.. ويضع اللمحات الحضارية بعضها فوق بعض بحيث يخلق توترا بين الأزمنة التى تنتمى إليها كل منها.

هذا التوتر يخلق نوعا من المتعة اليقظة المدهشة المصحوبة بالتحليق والخيال، وهو يدير هذا العالم باقتدار ويدعونا أن نعيش ونحلم معه ونطير بين أبنيته التى اخذت من كل عصر سمته الجميلة ومن كل فن روحه المحلقة.. تمثال من فنون حضارة ` الأزتيك ` القوة الفطرية الغاشمة بأسرارها المغلقة، والتى قد تندفع فى أى اتجاه دون حساب، أعطى وجوده إيحاءات ورموزاً بالغة الأهمية. دائرة تخرج من الكتلة الصلبة فيها حالة حركية توحى بأن مكوناتها تكاد تتطاير، ولكن فى مجال مغناطيسى، أى إنها فى حالة حركة لكن مازالت مشدودة إلى مركز ذلك القرص الذى يحدد مجالها المغناطيسى، تكثيف ملون من الأقمشة والحليات الصغيرة المدغمة معها والخامات التى فقدت صلتها بالواقع أصبحت وكأنها جزء من كيان عجيب يلتقط كل الأشياء حوله تماما كذاكرة الفنان اليقظة. ناطحة سحاب زجاجية ذات حس الشرقى مشغولة بالدانتيل، نوافذها المخملية، وأبوابها الأثيرية تجذب الأرواح فتنساب فيها وكأننا نسمع من داخلها موشحات أندلسية قديمة. و يقدم ذلك من خلال عمل كلى يعتمد على بناء مكان كامل يتجلى فيه وحدة الفنون، ويحمل تراكمات تاريخ الفنون الإنسانية وآثار تفاعل الفنان معها واحتفاظ ذاكرته الفنية بمفرداتها، فى تدفق سارى يرتحل عبر تاريخ الفن ويحترم كل فنون الحضارات.

- ويقول الفنان عن هذا العمل... لم استطع مقاومة قوى الجذب، فالعمل الفنى الذى أقدمه، هو أيضا يحمل اسم ` المدينة ` و لكنها ليست المدينة الفاضلة، وإنما هى المدينة الحائرة.. المدينة الهائمة.. والتى تحمل ما لا نهاية له من آثار الإنسان، كى تمخر فى بحور من الصراع والقلق.. المدينة العالم أو العالم المدينة، وعندما بدأت.. تحول كل شىء الى ألوان وأشكال.. تحول كل بناء إلى إيحاء وأطياف وأزمان عاشها الإنسان يوما ومازال يعيشها.. وبقيت الرؤية تندفع من وراء الحقيقة.. والخيال.. تدفع الخامات والعناصر والألوان ..على طريق التعبير بلغة الشكل، تحث الآخرين على اكتشاف الدلالة بين المدن الحائرة.. و الهائمة.. والمتجاورة.. والمتعانقة.. والمتقاربة.. والمتشابكة على أرض.. وتحت سماء المدينة الكبيرة ساوباولو... ويقول الفنان أ.د/أحمد نوار في مقدمة كتالوج البينالي... عندما صاغ الفنان هذه الصفوف الهندسية والمجسمة بين المكعب والمستطيل والمخروط والاسطوانة وشبه الدائرة... مضافاً إلى ذلك الشكل العضوي المنفذ بالحبال... وأبجديات الحضارات المحفورة في العمق والتي تذكرنا بجدران المعابد المصرية القديمة وأطر مداخل الكنائس والمساجد وأيضاً الجدار الدائري الصرحي لمكتبة الإسكندرية.. والتماثيل المعلقة علي هذه الصروح... والتفاصيل المنمنمة علي هذه الأشكال... كلها أبجديات بصرية دالة على المكمن الإنساني الذي تحتويه المدينة... ودال على طاقة الإنسان الفاعلة والجامعة في الفراغ المكمل لهذه المنظومة البنائية التي تنبثق منها بلغة بليغة التعبير الدال على ذوبان المدينة والإنسان في العمق الداخلي للفنان عبد السلام عيد...

- وعلى ضوء هذا فإننا إذا تأملنا عمله.. ` المدينة الحائرة ` سنجده ينشئ مدينة كونية جاءت كمكثف لرحلة فنان شغوف بالحياة وبالفن والتاريخ، كأنه أتى بتلك المدينة من كل الأماكن التي سافر إليها، جمع كل الأشياء التي يحبها حملها على كتفيه.. يسير ويسير ويلتقط من البلاد والدروب والشوارع الضيقة.. حتى فاض حمله فطرحه مدينة كاملة معجونة بكل سنوات الخبرة وبكل شذرات الفكر وشططه والتماعاته، مجمع لرؤاه البصري.. خبراته الأدائية المفرطة في البساطة وفي التعقيد.. إنسانيته العالية.. وأبعاد شخصيته المتشابكة ما بين العقلانية المركبة والشاعرية الرقيقة والعفوية الفطرية.
د. أمل نصر

حلم المدينة
- مثلت جداريات عبد السلام عيد سجلاً مرئيا مشهودا لتعدد الحضارات التى استقبلتها الإسكندرية فى بنية تراكمية متعددة الروافد ولكن تدمجها الروح المصرية بطبيعتها الضامة فلا يظهر منها أى تنافر. وتعكس جميع جداريات عبد السلام عيد روح المدينة التى تحتوى الآخر وتحفل به، وهو يدرك أهمية وجود جدارية فى قلب المدينة يتوافد عليها الألاف من أهلها يومياً ذهاباً وإياباً، وإنها يجب ألا تقدم بروح غريبة عن روح المدينة. وقد سعى الفنان طوال مشواره الفنى فى سبيل تحقيق حلمه بأن يكون الفن حياة كاملة تحوطنا ونسكن فيها، فدخل حقل الجداريات بروح مغامر وقدم سلسلة من الجداريات طرحها من خلال حلم المدينة.
- فى عام 1983 وقف عبد السلام عيد مع طلبته من شعبة التصوير الجدارى يشيدون أول عمل جدارى على سور مبنى قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية كأول مشروع تطبيقى للشعبة بعد أن كان التصوير الجدارى يدرس فقط كمادة من خلال خامة ` الفرسك ` على مساحات صغيرة، وبدأ يعمل حثيثاً فى تنمية شعبة التصوير الجدارى وإدخال تقنيات الزجاج المعشق والفسيفساء وغيرها من الخامات فى المناهج الدراسية، وكان هذا التعامل الأول مع الجدران فى إطار التدريس على مستوى كليات الفنون فى مصر.
- وفى عام 1992 قدم عبد السلام عيد أول جدارية معاصرة فى مصر وهى ` جداريه البحر` التى تغطى واجه فندق سان جيوفانى بمنطقة ستانلى على شاطئ الإسكندرية ومنفذة بالسيراميك وبتقنية الحفر على الاسمنت بمساحة 100 م2 ، وبدأ يضع من خلالها جميع إمكانات اللوحة المعاصرة فى فن التصوير الجدارى بغرض تقديمه كعمل فنى متكامل وليس كحلية تزين العمارة.
- وبدأ عبد السلام يكرس للمتلقى العادى ملامح اللوحة الفنية ويطوع إمكانياته ليجعل مفاتيح تلك اللوحة تحمل بعداً تثقيفياً يناشد الناس التعامل بلغة الشكل ورموزه مقدماً لهم حلولاً لم يعتادوها فى الشارع المصرى. فقد استطاع فى جدارياته أن يحقق ذلك المزج الصعب بين القيم المجردة للوحة التشكيلية وبين القيم المضامينية للوحة التى يستطيع أن يستقبلها المتلقى العادى. من هنا نستطيع أن نستقبل المشهد الجدارى عند عبد السلام عيد على مستويات عديدة من القراءة.
- وبعد جدارية سان جيوفانى قدم الفنان جدارية كلية الطب وبدأت الجداريات تتوالى بمدينة الإسكندرية خاصة فى إطار فكرة تجميل المدن وبصورة حفزت المدن الأخرى فبدأ انتشار العمل الجدارى فى مدن مصر بصورة واضحة `الإسكندرية، القاهرة، مرسى مطروح, المنصورة, وغيرها` بل بدأت بعض المدارس فى تزيين أسوارها بعمل جدارى، وكذلك بعض الأماكن الحكومية وبعض المبانى الخاصة، وبدأت تنتشر فكرة وجود العمل الجدارى كجزء من العمارة داخل المدينة بدرجات متفاوتة من الوعى والقيمة الفنية خاصة مع زيادة الوعى بضرورة تجميل المدن.
- جدارية مصطفى كامل
أتوقف هنا عند عمل هام ورائد فى تجربة الفنان المبدع ربما حشد له كل أحلامه فى مجال الجداريات ودخل من خلاله فى تحديات عدة على مستوى الفكرة وأيضاً على مستوى التحقيق، إنه جدارية منطقة مصطفى كامل ` 1998 ـ 2000 ` التى تمتد فى عرض بانورامى فى مواجهة البحر وقد أصبحت تمثل جزءاً مألوفاً من شاطئ الإسكندرية كمعلم من معالم المدينة، يشارك أهلها مناسباته السعيدة حيث يقومون بالتصوير أمامها كطقس من طقوس أفراحهم فى تصرف بسيط تلقائى لكنه يعرب عن تواصل الإنسان مع الفنون طالما وجد مساحة مشتركة بينها وبينه، ووجد فيها صدى لوجدانه وروح مدينته.
- وهو عمل متعدد المراكز بانورامى وشمولى يبدو كحلم يجمع بين الماضى والحاضر والمستقبل فى طرح كثيف ومتداخل ومتعدد المنابع... الهرم ، التابوت الرومانى، الخرطوشة الفرعونية، الإناء الخزفى الإسلامى، تمثال الإسكندر، نتوءات من آثار مبهمة غير محددة الطراز، تاج عمود قبطى، كتابات من جميع العصور، عملة رومانية عملاقة بالإضافة لقطع أثرية مأخوذة كنسخ من المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية. إن هناك ملمحاً أثرياً يربط العالم الخيالى الفنى للجدارية بالعالم التاريخى ويعطيها عبقاً تاريخياً كأنها تضم مشهداً لعرض ملحمى متعدد المراكز يتجلى فى عدة اختيارات وضعها الفنان كعلامات تؤشر لحضارة مصرية سكندرية متعددة الروافد وممتدة إلى عمق التاريخ، تمثلت بعض رموزها وتجانست بفعل وحدة أضفاها عقل الفنان وقدرته التنظيمية.
- تبدأ الجدارية بالهرم الشكل الأكثر دلالة وإشارة للحضارة المصرية القديمة، وهو هرم تراكمى وعفوى وقديم تصطف فيه مئات القطع بعشرات الأيدى التى تتالت عليه لبنائه وإقامته بالصورة الأكثر تراتبية وعفوية كما أراد له الفنان، كل مشارك يساهم بأداء مختلف بتلقائية ودون ترتيب مفروض مسبقاً مما أعطى تأثيراً نهائياً بعفوية وطبيعية ذلك البناء وكأنه شريحة من طبقات الأرض تكونت على مدار السنوات، تراكم كثيف من قطع الرخام مطعم بقطع الفسيفساء ودخول لحروف هيروغليفية وخطوط وعلامات وأجزاء ملونة من الزجاج، يذكرنا بما يطلق عليه فى الإسكندرية ` كوم الشقافة ` المنطقة التى سميت بهذا الاسم نظراً لتراكم قطع الفخار والخزف والزجاج بها. هو ليس هرماً منتظم البناء ذا هندسة معقدة كأهرامات الجيزة، لكنه هرم افتراضى، لقد أراد له الفنان أن يبدو كأن كل إنسان مصرى قد وضع فيه حجر ورحل، وكل حضارة على أرض مصر أضافت طبقة ورحلت، إنه هرم رمزى قادر على احتواء كل العصور.
- وبعد هذا الهرم تبدأ رحلة الجدارية التى تبدو كنسج حضارى قادم من الماضى إلى المستقبل من قوارير الدموع الرومانية إلى شبكات العلم المعقدة، وبناء الجدارية يعتمد على حركة منسابة عمودية تتخذ شرائح طولية عدة تنتظم متعامدة على حركة الموج التى تمتد بامتداد الجدارية من بدايتها لنهايتها فى تبادلية متزنة بين الأفقى والرأسى, بين الموجات الممتدة الأفقية وبين الأستار الرأسية التى تنسدل كمطويات قديمة ليحمل كل ساتر ملمح حضارة مصرية ما.. ساتر إسلامى، ساتر مصرى قديم، ساتر من زخارف شعبية، ساتر من وحدات رياضية، ساتر من قطع ملونة ذات إيقاعات لونية معاصرة متعددة لم تتخذ لها بعد شكلاً محدداً، ساتر من شبكات الكترونية يتقدمها مجسم لقوقعة متخيلة، ساتر لنسيج من إيقاعات موجية ترددية، ساتر من نسيج كالخوص الإفريقى.. وهى تتوالى باختلافها لتشكل نسيج هو ذاته نسيج الإسكندرية الثقافى والحضارى ، الذى ضم فى خيوطه الكثيفة خبرات المغامرين والمستثمرين والفنانين والهاربين من ظلم وقع عليهم فى أوطانهم. إنها الإسكندرية مدينة الآخر.
- وقد مثلت الموجة كمفردة تشكيلية وكمعنى العامل المشترك بين أجزاء الجدارية المختلفة وقامت بدور هام فى تحقيق الإيقاع الممتد كوسيلة الربط الأساسية بين صور الجدارية المختلفة القيم والمصادر موجات ملونة من قوارير الدموع الرومانية، موجة مصرية قديمة من تعاريج مياة النيل فى تصاوير المقابر، موجة ` مايكرويف ` ، وموجات أشعة فوق صوتية، موجات افتراضية فى عالم الرياضة والهندسة. موجة منحنية لينة بيضاء تمتد بطول الجدارية، وموجة ضارية تهز الرواسخ وتقلبها، إنها الموجة التى تحمل فلسفة الحياة ما بين الميلاد والموت وآلاف هى الموجات التى يشهدها شاطئ الحياة تبدأ لتنتهى ويبدأ غيرها، إنه القانون الأزلى للوجود.
- ثم يتحرك الشكل عبر انتقالات عدة لينتهى بمجموعة من الكرات الأرضية التى تصور العالم ككرة تتلقفها أمواج كثيرة، أمواج التحولات التاريخية التى تحرك كل ما هو مستقر ساكن، وجسد ذلك فى مستطيل أبيض أمالته الأمواج, ثم تنحصر تلك الأمواج لتخرج ثلاث مراكب محملة بالغلال والورود تشير للقيم الخالدة فى تاريخ الإنسان... الحق، الخير، الجمال, وهى تأتى فى إطار الحضارة المصرية القديمة حيث تمثلها الفنان بوضوح من خلال مراكب الشمس المصرية.
- ثم نأتى إلى جوهرة هذا العمل الكبير التى تكثفت فيه الرؤية وبلغت منتهاها، نقطة التقاء جناحى الجدارية الأيمن الذى يبدأ بالكرات الأرضية والأيسر الذى يبدأ بالهرم الكبير، وتتمثل تلك النقطة فى إطار بيضاوى مهيب منحوت فى شكل أحبال ضخمة مجدولة ويتخذ زاوية ميل خاصة تجعله يواجه الضوء ويستقبل كل نور جديد، يقتحم الإطار من أعلى الجهة اليمنى جناح حورس يكاد يتماس مع الذبذبات المنبعثة من قمر صناعى يقتحم الشكل من الجهة اليسرى نستشعر حركته ووميضه ليذكرنا بالتصوير المجازى للحظة الخلق فى عمل مايكل أنجلو بسقف ` الكابيلا سستينا ` بالفاتيكان. إنها لحظة اللقاء الخلاق بين الماضى والحاضر والمستقبل احتواها بتكثيف رمزى ذلك الرحم البيضاوى الذى انتصفت به الجدارية. والذى تعتمل فيه متغيرات وتحولات عدة مازالت فى طور التشكل والنمو ومجهولة النتائج وتوقيت ميلادها غير محدد.
- وفى قلب الشكل تتناثر شذرات ضوء لتصبح فى لحظة ما غير محددة وكأنها مازالت غامضة غموض الغد الذى لانعرف بماذا يأتى، ويدخل من الجانب الأيمن شكل هرمى ومن أسفل العمل يدخل جسم منشورى ناقص وكلاهما يتجه إلى منتصف البؤرة المضيئة التى تحمل نبؤة المستقبل الذى لم يحدد بعد، وعلى خلفيتها آفاق متعددة الألوان متوازية ومائلة فى اتجاهين متقابلين ثم فى خطوط مستقيمة أفقية مختلفة الاتجاهات ترمز لتعدد الآفاق التى يشهدها العالم الآن، وفى الأسفل تتراكم طبقات أرضية توحى بركيزة الأرض وثقلها وترسيبات الماضى الذى ترتكن عليه انطلاقات المستقبل بكل مغامراتها وأحياناً نزقها.
- إنه تداعى صور الماضى أو موسيقى التاريخ يرددها عمل عبد السلام عيد فى جدارية مصطفى كامل، كأننا نرتاد آلة الزمن تعود بنا لأطياف حضارات ولت، لكنها ترتطم بقوة لتضعنا فى قلب المستقبل.
- جدارية الشركة المصرية للإتصالات
جدارية الشركة المصرية للاتصالات التى نفذت عام 2007 على مساحة 800 متر مربع بمبنى الشركة بالقرية الذكية، عمل يتوج عبد السلام عيد به مشواره فى مجال الجداريات، وقد حشد له خبراته الطويلة فى هذا المجال، خبرة من اعترك وجاهد وليست خبرة من تأمل من بعيد، تعامل عبد السلام عيد مع هذه الجدارية كما تعامل الفنان المصرى القديم مع جدران معابده ومقابر ملوكه التى اعتبرها بيوتا للحياة الآخرة, يحل فراغها بالصورة ويمضى مع منحنيات طمس جدرانها، يحيل معتقداته لصور ورموز وألوان.
- ففى هذا المرة يتعامل عبد السلام عيد مع العمل الجدارى، لا لكى يشغل جزءً فى مسطح معمارى من خلال مساحة محددة بل تعامل مع جميع أسطح العمارة الداخلية للعمارة الخاصة لمبنى الشركة المصرية للاتصالات، إنه يحل تشكيلياً وبصريا مبنى صمم كالهرم المقلوب. المبنى بالكامل تم تحليله جمالياً وبصريا بحل ذكى اعتمد على فكرة التعامل تاريخياً من خلال طبقات زمنية متصاعدة تبدأ من الدو الأرضى للمبنى لتنتهى فى الدور الأخير.
- وقد سمحت له تلك الفراغات الشاسعة بإعطائه مساحة يتمثل فيها فكرته بحرية وسعة، وفى نفس الوقت وضعته أمام العديد من التحديات التى تتعلق بالطبيعة الخاصة للمبنى والحسابات الدقيقة التى لابد أن تتجلى من خلالها صوره المبدعة، كيف يضخ تلك الحرية فى قنوات عمل منظمة وخرائط مرسومة بدقة لا مجال للعشوائية فيها.. إنها قدرة المصور الجدارى الذى يجب أن يحترم حضور العمارة وجلالها.
- وكما وضع الفنان المصرى القديم الأحداث المصورة فى سجلات متتابعة ليبدأ الحدث الأقدم أدنى الجدارية والحدث الأقرب أعلاه ليمضى زمنياً عبر عدة مستويات متتالية عرفت فى الفن المصرى القديم بالسجلات، هكذا عبر عبد السلام عيد عن فكرة الاتصالات من خلال تعامله بشكل كلى مع العمارة الداخلية للمبنى والمكونة من خمس أدوار اعتمادا على فكرة السجلات ليسرد بترتيب زمني فكرة الاتصالات منذ القدم وحتى الآن، بادئاً بالدور الأرضى الذى يتخذ نغمة هادئة بإيقاعات زخرفية بسيطة وغير منتظمة ومتغايرة بفسيفساء من لون الطمى الدافىء الذى تتخلله صفوف ملونة وبعض الكتابات الهيروغليفية مكونة خلفية هادئة لمجموعة من المجسمات الهامة التى أعطاها الفنان أدواراً أساسية فى العمل، موضوعة فى خانات محددة ليؤكد الفنان فيها فكرة العرض المتحفى. ويضع الفنان مجموعة من التليفونات القديمة فى فجوات مربعة الشكل داخل المسطح المائل للمبنى، ومن التليفونات القديمة المعروضة ما كان يطلق عليه اسم ` المسرة ` وهو التليفون التلغرافى الذى استخدم فى المراحل الأولى لتنفيذ فكرة التليفون.
- وفى ركن هام من الجدارية يتصدر عمود من أعمدة التليفون الهوائية التقطه الفنان ـ فى مصادفة سعيدة ـ من أحد شوارع الإسكندرية ملقى كمهلات بعد أن انتهى عهده، وقام الفنان بتنظيفه ومعالجته وحفظه وتنصيبه فى هذا الركن كرمز هام فى تاريخ الاتصالات، وقد وضع له خلفية من المرايا التى تعكسه بشكل متكرر مما يضعه فى منظور ويعطى له أبعاداً وينقل للذاكرة حالته الأولى كما كنا نراه فى طرق السفر البعيدة.
- وعلى الجانب الآخر نجد عنصراً يخرج من قلب المثيولوجيا المصرية وهو تمثال أسود لوجه ابن آوى أو آنوبيس ` إله التحنيط ` عند المصريين القدماء ويضع الفنان فوق رأس أنوبيس تليفون أسود قديم، ويضفى وجود آنوبيس طابعاً مفاجئاً على العمل يلقى إليه بظلال ميتافيزيقية لغرابة تواجده فى هذا المحيط ولكن سرعان ما ترتبط بطرافة كتلة وجه آنوبيس السوداء و كتلة التليفون الأسود لنجد فيهما توافقاً وقبولاً وخاصة بين سماعة التليفون وبين اذنى أنوبيس التى طالما أنصتت لأسرار ساكنى البر الغربى. ويرتكن أنوبيس على عمود يأخذ شكل المومياء ذات اللفائف الكتانية وفى الخلفية نجد أجزاء أخرى من عمود التليفون الهوائى الخشبى تعطى إيقاعاً وتربط بين هذا المستطيل وبين ركن العمود الهوائى.
وعلى حائط أخر يقدم الفنان مجموعة من تيجان الأعمدة المتخيلة التى يحل فيها الملف الكهربى محل زهرة اللوتس فى تصميم طريف حيث يضع هذه المفردة فى إطار تاريخى أثرى نظراً لأهميتها فى تجسيد فكرة الاتصالات حيث تتحول من خلالها الذبذبات الكهربية إلى ذبذبات مغناطيسية ثم إلى موجات صوتية. ويتخلل تلك الأعمدة المعروضة متحفياً إطار تنتظم من خلاله مجموعة من الكابلات شق الفنان بعضها ليكشف عن مجموعة من الأسلاك مختلفة الألوان، وقد رأى الفنان أن هذه الكابلات مفردة تستحق تأطيرها وتقديمها لما تحمله من انتظام فنى رياضى له جماله الخاص فى إطار موضوع الجدارية، وكذلك قدم الفنان مجموعة من الإطارات التى احتوت تشكيلات لموجات كهربية وإلكترونية وملفات كهربية توزعت عبر سجلات الجدارية المختلفة.
- وينهى هذا السجل الأول شريحة عريضة منفذة بمجموعة من الألوان هى من باليتة التصوير المصرى القديم تذكرنا بألوان قناع توت عنخ آمون كما يذكرنا بألوان الأحجار الكريمة للحلى المصرية القديمة ويضعها الفنان فى مساحات تجريدية ذات إيقاع نغمى متنوع أضفى الكثير من الحيوية وشكل نقلة مناسبة إلى السجل الأعلى الذى تصطف فيه مجموعة من التليفونات القديمة فى تجاويف مربعة الشكل على خلفية هادئة تنتهى بحزام من الزخارف الذى يستلهم قانونها من الدوائر الكهربية.
- ثم ينتقل العمل أحد مراكزه الهامة وهو أشبه بنحت بارز مكوناته هى تشكيلات من التليفونات ولوحات المفاتيح الخاصة بأجهزة الكمبيوتر بطرز مختلفة وقد تم توحيدها بطلاء معظمها بلون واحد ليتبقى فقط كتلتها وإيقاعها الشكلى مكوناً ريليف معاصر على خلفية من الخطوط المتقاطعة المجسمة يتصدره من الجهة اليسرى مجسماً ضخماً لشكل أذن يجسد فكرة الإنصات التى يقوم عليها مفهوم الاتصالات مع جزء من خلفية غطاء رأس لتمثال مصرى قديم, وقد اتخذ هذا الجزء النحتى إيقاعاً خطياً لاقى تجاوباً له مع خطوط لوحات المفاتيح وتفاصيل التليفونات وهنا يصر عبد السلام عيد على أن يعتبر كل الأشياء صالحة كمفردات للعمل الفنى وأن روح الفنان قادرة على أن ترى فى الأشياء المعتادة جمالاً يغرينا أن ننظر لها على نحو آخر، وأن يحترم فى كل هذا مادة موضوعه الذى يقدمه ويؤدى رسالة من خلاله.
- ثم يعلو هذا النحت المجسم سجل جديد من زخارف إسلامية تتخذ لونا مشابها للون الجزء المنحوت فترتبط معه لكنه فى نفس الوقت يضعها على خلفية جديدة من درجات لألوان مختلفة تمهد للجزء الأعلى وتمثل منطقة وسيطة بين المساحة التى تعلوها والمساحة التى تعلو هى فوقها. فتنتقل ألوان الجدارية بإرهاف شديد من لون الأرض إلى لون السماء بتبدل تدريجى فى الألوان من درجات الأخضر الدافئة ودرجات البنى الطينى الأرضى إلى درجات الأزرق الأثيري فتنفتح الجدارية فى أعلى أجزائها على حس هوائى سماوى كونى كأن هذا الجزء يمثل سماء الجدارية التى يتم فيه إطلاق فكرة الاتصالات إلى منتهاها وبالفعل تنفتح الجدارية من أعلى على السماء من خلال مناطق من الزجاج الشفاف الذى ينقل نور السماء الذى يتحرك عبر حوائط الجدارية ليرسم بالأضواء ترديدات من الأشكال الظلية لمجسمات الجدارية تضفى عليها حالة من الحيوية وتؤكد مناطق التألق فيها.
- ويتخلل هذا الجزء السماوى مجموعة من أبراج الاتصالات المتخيلة التى تتخلل اللون الأزرق الذى تم تصويره بحلول شكلية الكترونية خافتة الدرجة تمثل مرحلة انتقال الصوت عبر - الإنترنت ` لتشكل تلك الطفرة التكنولوجية فى عالم الاتصالات.
- وفى النهاية فإن تاريخ الأدوات التى صنعها الإنسان يوشك أن يكون هو نفسه تاريخ الحضارة فكل أداة ابتكرها كانت وكأنها امتداد لحواسه وتجاوز لقدراته البشرية المحدودة وهذا هو المدخل الذى اتخذه عبد السلام فى تعامله مع فكرة الاتصالات، لقد تناول عبد السلام عيد هذه الجدارية كمتحف مفتوح أطلق من خلاله فكرة التواصل والاتصال التى بدأت مع بداية تاريخ البشرية, الذى شهد رغبة الإنسان الدائمة فى الاتصال عن بُعد فاستخدم لذلك الدخان والمرايا وطبول الغابات والحمام الزاجل والإشارت. وقد مثلت جدارية الشركة المصرية للاتصالات ساحة رحبة لإطلاق الطاقات الإبداعية للفنان وحلمه القديم بأن يكون الفن الجدارى حياة تحوطنا فى بيئة تخيلية لموضوع العمل يستحضر من خلالها آفاق الفكرة من أقدم تمثلاتها وأكثرها بدائية وفطرية إلى أحدثها وأعقدها تكنولوجيا..فكرة الاتصالات.
د.أمل نصر

( جداريات عبد السلام عيد تحرر اللوحات ( الأسيرة
- هل تتمكن الجداريات الطليقة من أن تحل مكان اللوحة التشكيلية أسيرة جدران صالات العرض والمتاحف؟ سؤال يشغل بال أستاذ التصوير فى كلية الفنون الجميلة فى جامعة الاسكندرية وفنان الجداريات عبد السلام عيد الذى يرى أن الجدارية يمكنها أن تقدم شرائح ميكرسكوبية رمزية تشكيلية للتفاعلات الإنسانية. فهى تحول فضاء المرافق العامة إلى مساحات تشكيلية ولونية مليئة بالحياة، وتحمل أحلام ورؤى وافكار الملتقى ما يجعله يعيد اكتشاف العالم والاخرين من حوله.
- يعتبر عيد الحاص على عشرات الجوائز الدولية والعربية أن `فى امتداد الجدارية الفنية ووقوفها فى الفناء، معادلا موضوعيا لامتداد تاريخ الامة العربية وقضايا الشعوب فهى من قديم جدا، يتناول تراث الشعوب وتاريخها وفكرها لما تحمله من رسئل مهمة ويشرح الفنان الذى تعرف مدينتا نانت وليون الفرنسيتان جدارياته الضخمة أنه` من الممكن ان تكون الجدارية مثيرة ومذهلة وهادئة، أو تحريضية` وهو يسعى لفك طلاسم قضايا مجتمعية شائكة من خلال جدارياته، مستلهماً الحل من التاريخ أو مستشرفاً إياه من المستقبل،فتتحول الجدارية إلى لوحة فسيفسائية عملاقة، ترصعها أشكال هندسية فريدة، تطرح مقامات بصرية متفاعلة مع عوالم بحث وتجريب ذات أبعاد ورؤى وتوصيف للواقع واستشراف للمستقبل `الجدارية هى أسهل وسيلة يمكن للفنان من خلالها ان يشارك فيها شعبه ويعبر عن همومة `يقول عيد الذى أعاد الحياة لكثير من ميادين مدينة جدة بجدارياته. ويضيف `الجدارية ماهى إلا لوحة فى الفضاء العام تخاطب جمهوراً عاديا مختلفا فى توجهاته ورؤاه وأيديولو جياته ومستوى ثقافته، الأمر الذى يتطلب استخدام رموز يسهل فهمها والتعاطى معها دون تعقيد ومبالغة ولان الجداريات أكثر الرسئل الفنية تأثيراً فى ذائقة الملتقى البصرية، لكونه يصادفها يوميا فى الطريق وليس مضطرا لزيارة صالة عرض ليراها، ينصح عيد فنانى الجداريات ان يتعاملوا مع هذا الفن بدقة وبساطة وحرفية عالية لانه يعيد صياغة قناعات الملتقى الفنية والمجتمعية `.
* الجرافيتى لا يستمر والجدارية خالدة :
- وعن الفرق بين فن الجدارية وفن الغرافيتى الذى سطع نجمة عقب ` ثورة 25 يناير` يوضح عيد أن الغرافيتى فن تحريضى ومرتبط بحدث معين ` ولا يكتب له الاستمرار لان التقنيات المستخدمة فيه تكون غير معالجة لمواجهة تقلبات العوامل الجوبة، بينما الجداريات فن له أصول وقواعد وتستخدم فيه خامات تقاوم العوامل البيئية ليكتب له الاستمرار والخلود لعقود طويله `.
-عيد الذى يصفة النقاد فى جرانه بزيغفريد العرب بسيفه الشهير الذى لم يعرف الخوف ويقفز فوق حدود الأطر والقوالب العادية، يرى أن الفنان يبتدع العالم الذى يعيش فيه باحثا دائما عن طرائق ووسائل ومعالجات لونية تساعده فى التعبير بصدق عن رؤيته لذاته ولمجتمعة وللعالم من حوله .
- ويقول عيد : `قدرى أن أكون حائراً ومتسائلاً ومتفاعلاً باستمرار مع العالم الذى يحيط بى، ومنذ البدايات الاولى اكتشفت اننى مشدود الى عالم سحرى غامض` ويضيف : `انا مشبع بالحياة بكل معالمها وتأثيراتها التاريخية والطبيعية.
- وعن اهم المدارس الفنية التى يتوقف فى الشرق والغرب فهو دائم التوقف عند المستقبلية والتجريدية والتعبيرية حيث يستخلص فى كثير من اعماله الشاهقة القيم الجمالية المستمدة من وحدات التراث العربى والاإسلامى، مستكشفا جماليتها وابعادها الفلسفية والفنية، وموظفاً إياها بصورة مباشرة وصريحة أو بصورة مجردة ورمزية أو بشكل تعبيرى.
-فنان الجداريات العملاقة والملقب ب` خبير تجميل المدن من قبل منظمة المدن العربية، يفيد بانه يحاول ان يحقق ذلك المزج الصعب بين القيم المجردة للوحة التشكيلية وبين القيم المضامينية للوحة الجدارية.
- وعن أحدث جدارياته والتى كشف الستار عنها أخيراً فى منطقة مصطفى كامل على كورنيش الإسكندرية مباشرة يشرح أنها تعكس الطبيعة الكوزموبوليتانية التعددية لمدينة الإسكندرية الساحلية حيث يحتضن البحر بأمواجه الزرقاء المتلاحمة وزبدة الابيض إناء فسيفسائياً من الآنية المقدسة الرومانية الشهيرة، وتاج أحد الأعمدة الفرعونية المزين بزهرة اللوتس المصرية الشهيرة وناحية أخرى تحتضن الجدارية أجنحة حورس المقدس مياه البحر الذى تتماوج فيه مقدمة سفنتين ويلوح فى الافق البعيد طيور النورس، باسطة أجنحتها وهى فى طريقها لتحط على قلعة قايتباى الشهيرة فى المدينة.
- وعلى رغم أن الجدارية تبدو بسيطة ومباشرة، لكن جمعت لغات بصرية متعددة، فهى تتكون من جزيئات تشمل أيقونات وأشكالا أسطورية ورسومات تعبيرية، يصعب تفسيرها لكنها تحمل علامات تشكل نسيجا بصريا يعيد صياغة ثقافة مصر والعالم بقراءة العلاقات التبادلية بين مفرداتهما الثقافية وتمثل عناصر المزاوجة والتفكك التى تربط الثقافات وتفرقها فى آن واحد.
سامر سليمان
الحياة - 13/ 5/ 2013
تشكيلات جديدة ومضامين عصرية
- بين فنانينا رواد يشقون طرقا جديدة للتعبير. كما شق الذين من قبلهم. والرواد قلة على كثرة المعارض والفنانين. قلما نلتقى بما يثير الوجدان ويلفت الانتباه ويلهب العاطفة ويحرك الأفكار.
- لا نقلل بذلك من مستوى الفنون الجميلة والتشكيلات في بلادنا، وإنما نفرق بين ` الفن الريادى` و` النشاط الإبداعى` الذى لا يخرج على تقليد ما هو قائم، أو إدخال بعض تعديلات خالية من صدق الإحساس ووجهة النظر الاجتماعية والإنسانية.
- الفنان التشكيلى السكندرى: عبد السلام عيد هو أحدث من دخلوا دائرة الضوء من فنانى الطليعة، بلوحاته البارزة ذات التضاريس. ليس رساما أو مثالا أو مصمما ولكنه كل ذلك فى آن واحد يبدع أعماله من خامات مختلفة تجمع الخشب بالحديد بالقماش بأنواعه برغوة المطاط أو الإسفنج الصناعى بالعناصر والأشياء الجاهزة.. وكل ما تقع عليه يداه ويصلح للتشكيل والتلوين.
- يستهدف`عبد السلام عيد` التعبير المرئى أو البصرى بغض النظر عن` البطاقة` التى يمكن أن نضعها على إبداعه. لذلك لا يمكن تصنيف لوحاته البارزة ذات التضاريس فى أى من الأقسام التقليدية للفنون الجميلة من رسم ونحت وحفر، أو فى اتجاه فنى معروف مثل السيريالية أو التعكيبية أو التجريدية. بل لا نستطيع التحديد بدقة إذا ما كانت تشخيصية أو لا تشخيصية. هذه الحيرة نابعة من الصفة الريادية التجديدية التي يتسم بها إبداع `عيد` وهى التى أثارت الفضيحة الأولى فى بينالى الإسكندرية 1976، حين منحت لجنة التحكيم وكانت مكونة من قناصل الدول الأجنبية المشتركة وبعض الموظفين - حين منحت تلك اللجنة الجائزة الأولى فى فن التصوير (أى الرسم الملون) لعبد السلام عيد. مع أنه إشترك بعمل مجسم تماما مؤلف من المرايا والأخشاب والمصابيح المضاءة وصمامات الأمان من الارتفاع الفجائى للتيار الكهربى. كان عملا مجسما يرى من جميع الزوايا الـ 360. ومع ذلك إعتبرته اللجنة رسما ملونا لعدم ملاحقة أعضائها والمشرفين على إقامة البينالى للأعمال. الريادية الطليعية التى يبدعها الفنانون الذين يعبرون عن ثقافة العصر بلغة العصر.
- تكررت الفضيحة مرة أخرى فى بينالى الإسكندرية أيضا سنة 1984 فى` فن التمثال` لنفس الأسباب. وكذلك فى بينالى القاهرة الأول فى نفس العام 1984 فى فن الرسم الملون (التصوير).
أسماء جديدة ينبغى أن تطلق على الإبداع الفنى الجديد. هذا ما يحدث فى المجتمعات الأورو أمريكية المتحضرة. وهذا ما حدث سنة 1908 فى باريس حين أبدع الفنان الروسى الأصل: ألكسندر أرشبينكو (1887 - 1964) لوحة ميدرانور رقم 2 بارتفاع 125سم- سنة 1914/1915 - الآن فى متحف سولومون جوجنهايم بنيويورك. صور فيها بهلوانة من سيرك ميدرانور بارزة الهيئة على خلفية ملونة مع تحويرات فنية جمالية بخامات مختلفة. وقد أطلق اسما مبتكرً على مثل هذه التشكيلات الجديدة التى لا تستوعبها الأقسام التقليدية للفنون الجميلة `سكولتو - بانتور` إسم تجمع ترجمته صفات من كل فن الرسم الملون وفن التمثال. من هنا ينبغى أن يندرج هذا الفن الهجين المستحدث تحت اسم جديد يناسبه ولا يجوز للجان التحكيم أن تقومه على أسس تقليدية فتفسد القديم وتجهض الإبداع الجديد!.
- لوحات عبد السلام عيد تعيد للفن المصرى الحديث مصداقيته وجديته واحترامه وايجابيته، فى الحركة الثقافية جنبا إلى جنب مع الشعر والأدب والموسيقى والمسرح والسينما كالضوء وسط الظلام الذى يغمر معارضنا بكل رخيص مبتذل من الممارسات التشكيلية تحت مظلة الحداثة والمعاصرة بمعنى الفوضى، ولجان التحكيم غير المختصة المتعصبة لفنون العبث واللاشكل.
- فى لوحة بعنوان `الفنار` 63 × 63سم - 1987 -إستطاع `عيد` أن ينقل إلينا جو الإسكندرية كاملا: البحر العميق البعيد الغامض الحافل بالأسرار. أشباح وأمواج رهيبة جو عاصف مكفهر. والفنار ينبثق شامخا يوحى بالأمل وعظمة الإنسان. تكوين إيحائى رمزى متكامل يبرز فيه إيقاع الظلال كلما سقطت الأضواء الجانبية والألوان الرمادية الضاربة إلى الزرقة تكاد تثير حاسة الشم لدى المتلقى فيستشعر رائحة البحر فى الشتاء. استطاع الفنان بقدرته التشكيلية وموهبته ومهارته، أن يحول المعانى المجردة مثل `الأمل` و`الرهبة` إلى مرئيات يتأملها المتلقى بعينيه ويتحسسها بأصابعه.
- يستخدم `عيد` فى إبداعه أساليب مبتكرة. يغمر النسيج فى مواد لاصقة شديدة الفاعلية ثم يشكله بأصابعه على سطح اللوحة متحكما فى التضاريس والخطوط البارزة المتموجة، مضيفا قصاصات الدانتيل أو الموكيت أو السجاد أو أية ملامس يتطلبها ` التعبير`. نقول `التعبير` عن المعانى التى تدور في خياله وليس مجرد `العبث` بالأشكال والعناصر. لذلك تحتمل لوحاته التأويل والتفسير إلى جانب التذوق الفنى والاستمتاع الجمالى - شأن الشعر والأدب - وتحمل على الدوام مفاهيم ومدركات تتصل بالمستقبل والتكنولوجيا والفضاء يستطيع أن يخاطب عدة مستويات اجتماعية ثقافية الأمر الذى يجعلها من الأعمال التشكيلية الحديثة النادرة .التى تلعب دورا فى التطوير الاجتماعى وتشارك في أداء الرسالة التى تؤديها الفنون الأخرى. مما يدعو إلى الاهتمام بتكرار وطبع صورها فى ألبومات فى متناول الجماهير حتى تؤدى دورها الحضارى الفنى. فهى لا تخاطب الأحاسيس فقط بل العقل أيضا. ولا يقتصر تأثيرها على إثارة الخيال بل يتعداه إلى التفكير. وهذه هى الرسالة الدائمة لكل فن يستهدف البقاء مدة أطول.بل إن ` الفكر الإجتماعى الإنسانى ` هو السبب المباشر فى شهرة وبقاء الأعمال الفنية العظمى مثل ` تمثال نهضة مصر` أو `سعد زغلول` لعملاق النحت المصرى الحديث: محمود مختار (1891 - 1934).
- يبدو أن الصدفة تلعب دورا مستمرا فى إعداد الفنانين وإبراز مواهبهم فالبيئة الثقافية والاجتماعية التى ينشأ فيها الفنان تؤثر على إبداعه وإتجاهاته الفكرية والتكنيكية. كم من مواهب وعبقريات ظهرت وإختفت دون أن تحقق الرسالة الإنسانية والتقدم الثقافى. لأنها لم تصادف البيئة المناسبة لازدهارها وإثمارها لكن الصدفة الحسنة أدت واجبها فى حياة فناننا هذه المرة لتمنح حركتنا التشكيلية ذلك الإبداع المصرى الأصيل.
- ولد `عبد السلام عيد` سنة 1943 فى الإسكندرية فى واحد من أكثر أحيائها شعبية هو حى باب شرق الخامس بين ستة أخوة يهوى بعضهم الفنون. أما الوالد فمتحرر التفكير ومتخصص فى شئون التبريد. امتلك فيما بعد مصنعا لتجهيز المؤسسات بمعدات التبريد.
- هكذا فتح عينيه وهو بعد فى سن السابعة على ورشة طويلة عريضة تشغل مساحة الدور الأرضى كله فى البيت الذى تملكه الأسرة فى `حى الحضرة` كانت ` البيئة البصرية` التى شب فيها وترعرع، مؤلفة من الماكينات والمواسير والآلات والأدوات والأسلاك والصواميل والمسامير.. إلخ. شب يلعب بكل ذلك ويفسده أحيانا. وطالما راقب والده بلا ملل وهو يستخدم تلك الأدوات والأجهزة. تغمره الفرحة كلما طلب منه المعاونة. الأمر الذى حقق الألفة منذ الصغر بينه وبين مفهوم العلم والتكنولوجيا، واقترب بتفكيره من رومانسية الخيال إلى واقعية الحياة الحديثة وطبيعتها المادية - فجمعت لوحاته بين الجانبين الرومانسى والواقعى المادى. وهى طريقة جديدة مبتكرة تعتمد على مدركات العصر ومفرداته وتعبيره.
- الخطوط والملامس والألوان لا يضعها على سطح أملس كما هو معهود فى فن الرسم، بل يشكلها في ثنيات القماش المتحجر بفعل المواد اللاصقة القوية، والملامس مستقاة من إختلاف أساليب النسيج الملصق مثل الشبك والدانتيل والموكيت والسجاد... إلخ بالإضافة إلى العناصر الجاهزة ذات الإيحاءات مثل: المسامير والأسلاك والصواميل والأخشاب الجاهزة أو التى يشكلها بنفسه. ففى لوحة بعنوان `الطائر` (50×50سم) يخرج من المساحة التشكيلية جسم خشبى يلامس البرواز الخارجى ويكاد يغادر الصورة بأكملها .هذا الجسم ليس سوى القالب الخشبى الذى يستخدمه صانعوا الأحذية فى تشكيل منتجاتهم. ويحفل باقى اللوحة بتضاريس إفريقية المذاق. ومجموعة من الملامس ذات الإتجاه الرأسى تلاحق الجسم المضىء المنطلق كالصاروخ. أما الألوان الرمادية المحايدة فتفسح المجال للأضواء لكى تظهر التضاريس ذات الارتفاعات المختلفة والإيقاع المتباين .بينما ينطلق الطائر أو الصاروخ بجسمه البارز بلون الخشب .لوحة مثيرة جذابة طريفة تدعو إلى التأمل الشاعرى وتمزج بين الحلم والواقع.
- إذا كان `عيد` قد تخفف من العناصر الموضوعية إلى حد بعيد. فإنه أبدا لم يمهل المضمون الإنسانى الاجتماعى، الموحى بأفكار فلسفية عن الحاضر والمستقبل وموقع `إنسان العالم الثالث` والبشر بصفة عامة من التغيرات السريعة المتلاحقة التى تسبق إستيعابه للحقائق العلمية الجديدة. ومن أعماله المثيرة لوحة - دعنا نسميها - `نظرة على المستقبل` فهو لا يسمى لوحاته مع أنه يستطيع تسميتها كلما طلبنا منه ذلك. لأنه فنان ` تعبير` أى أن أعماله تقول ولا تقف عند حدود الإمتاع الحسى الجمالى السطحى ليست تجريدا هندسيا أولا شكليا عبثيا كما لا ينبغى تصنيفها فى القوالب التقليدية التى ظهرت فى عالم الفن التشكيلى.
- تتألف هذه اللوحة من الحبال والشباك المختلفة الفتحات وبروزات متباينة الإرتفاعات يجوز أن يكون قوامها قواقع أو زلطا متنوع الأحجام. فى الثلث العلوى من التكوين طاقة تبدو منها سماء صافية توحى للمتلقى بأنه محبوس داخل بركان خامد يكاد يثور فى لحظة. يشعر بأنه محاط بركام من الأطلال وعليه أن يجتاز الكثير حتى يصل إلى طاقة النجاة . قيم فنية جديدة يرسيها الفنان فى هذا التكوين غير التقليدى. الذى يخالف كل الأعراف لكنه يمتعنا بإيقاعاته المقلقة، التي تشعرنا بالحركة والحيوية. يزيد من ديناميكيتها شدة تناقضها مع الصفاء التام البادى من خلال الفتحة الكاملة الاستدارة فى أعلى التكوين.
- لم يكن فناننا على هذه الدرجة من التحرر إلى وقت قريب. فالبرغم من نشأته الحرة فى ورشة الأسرة وإنطلاقه بين العدد والآلات. كانت جمعيات الرسم والأشغال فى المدارس التى التحق بها تعيده إلى الطرق التقليدية فى ممارسة النشاط الإبداعى. أنهى تعليمه الإبتدائى سنة 1954 وإلتحق بالمرحلتين الإعدادية والثانوية فى النصف الثانى من الخمسينيات ومطلع الستينيات - سنوات من الفوران الوطنى والعدوان الثلاثى والصحوة الثقافية. كان أيامها ملتصقا بحجرة الرسم وصديقا لمدرسى التربية الفنية. أبدع فى تلك المرحلة سلسلة من اللوحات الزيتية العملاقة عن العدوان ومؤتمرات عدم الانحياز واستقلال الشعوب الأفريقية وإزدهار القومية العربية والموضوعات المشابهة التى كلف بها المدرسون مع مجموعة مختارة من زملاء الدراسة. فتمرس في الرسم والتلوين واكتسب مهارات أكاديمية عديدة. وأنهى مرحلة الثانوى بلوحة كبيرة (3 × 1,5مترا) بألوان الزيت على سيلوتكس صور فيها إنسانا عربيا يخرج من داخل الكرة الأرضية كما يخرج الفرخ من البيضة (كناية عن الميلاد الجديد للعالم العربى).
- لكن خبراته الفنية في تلك المرحلة لم تتوقف عن النشاط المدرسى. فمنذ السنة النهائية من المرحلة الإعدادية وهو يتردد على `عم سلامة` الحلاق فى حى ` نمرة 3` ليرافقه أيام الجمعة من كل أسبوع إلى حدائق الشلالات والطبيعة المفتوحة. يرسمان المناظر جنبا إلى جنب بألوان الزيت. يشتريها عبد السلام من المكتبات ويصنعها الحلاق بيديه ويملأ بها أنابيب المعجون الفارغة. كان فنانا فطريا يكسو جدران دكانه بصور المناظر والشخصيات الهامة. يبدعها بأقلام الفحم حينا وألوان الزيت أحيانا.
- هذه الخبرات الفنية المنوعة التى اكتسبها عبد السلام عيد منذ طفولته ساعدت على صقل موهبته كأنما كانت يد خفية تمهد لها الطريق. وحين التحق بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية سنة 1964، كان قد شاهد أربع دورات بينالى الإسكندرية لدول حوض البحر الأبيض المتوسط وتذوق الإبداع المنوع لفنانى العالم. فضلا عن المعارض المحلية لكبار الفنانين: سيف وانلى وكامل مصطفى وأحمد عثمان وجمال السجينى ومحمود سعيد ممن وضعوا اللبنات الأولى فى صرح الحركة المصرية التشكيلية الحديثة. كما كان قد أثرى فكره بكتابات الأدباء والشعراء والفلاسفة التي كانت تصدر بغزارة كان من المنطقى بعد ذلك أن يتفوق على زملائه فى الفنون الجميلة. وأن تتخاطفه أقسام الكلية التى إختار منها قسم التصوير (الرسم الملون).
-إزدهرت خبراته رويدا رويدا خلال سنوات الدراسة ، وإستجاب للمدركات العلمية الجديدة، وتسربت مفاهيمها إلى شكل الإبداع ومضمونه. إسترجع أيام الطفولة فى ورشة الأسرة، فخرج فى منتصف سنوات الدراسة على الإطار التقليدى للرسم الملون، مستعينا بمهاراته التي اكتسبها عبر السنين. وقدم فى نهاية الشوط سبع لوحات مثيرة للجدل بعنوان `التحول` لينال بها درجات البكالوريوس `التحول` بمعنى الأمل فى مستقبل أفضل لمصر ينتشلها من وهدة التخلف. بعضها صرحى يصل إلى 165 × 140سم. استخدم فى إبداعها ألوان الزيت وقصاصات النسيج الملصقة وطلاء محترق فى بعض أجزائه. تحفل بعناصر طبيعية كالصخور ومصنوعة كأنابيب الاختبار. تسبح جميعا فى الفضاء فى إحدى اللوحات إنسان إفريقى الملامح يملأ بحركته كل الفراغ كأنما خرج على نطاق الجاذبية. ومجموعة تكوينات مستقاة من قضايا الساعة تمتد جذورها- شكلا وموضوعا ومضمونا إلى ثقافة العصر الحديث.
-هكذا تفوق عبد السلام عيد سنة 1969 بالرغم من خروجه على التقاليد الفنية للرسم الملون. وأصبح مدرسا فى نفس الكلية. وفى العام التالى كان عليه أن يؤدى الخدمة العسكرية ويقضى قرابة العامين فى صنع نماذج الدبابات وتأمل المزارع والأشجار في منطقة `أدفينا` بالقرب من ` رشيد` وإعداد القراءات اللازمة لرسالة الماجستير. بين هذه القراءات صادف كتابا إنجليزيا بعنوان `صدمة المستقبل` كان له أبعد الأثر على تفكيره ورؤيته الفنية. تناول الكتاب مفهوم العصر والتكنولوجيا والتقدم العلمى وأثره السلبى على العالم الثالث، الذى أصبح بين عشية وضحاها يواجه مستقبلا لم يستعد للقائه بعد. يتعامل مع قيم وأجهزة بعيدة عن متناول إدراكه، مما يشكل إحباطا نفسيا وتناقضا ثقافيا ذا آثارا سلبية عميقة. أصبح التقدم العلمى أسرع خطوا من الملاحقة كان التكوين المجسم الذى أسهم به `عبد السلام عيد` فى بينالى الإسكندرية سنة 1976 ثمرة مباشرة لتلك القراءات والمفاهيم كان معقدا وجميلا فى نفس الوقت، لم تستطع لجنة التحكيم أن تدرك الفرق بينه وبين لوحة الرسم الملون المسطحة مع أنه بارتفاع 260سم ويتوسطه مكعب 80 × 80 × 80 سم، ويتألف - كما أسلفنا - من مرايا ونحاس وبرونز وخشب وأجهزة ومصابيح كهربائية.
-` الفن الحديث` كما تقول دائرة معارف الفنون البصرية 1983- صادف مصاعب جمة فى طريقه إلى الذواقة والمتلقين. إنه فى معظم الأحوال وسيلة للحديث والحوار، وشكل من التعاليم والوصايا، وهو للبهجة في نفس الوقت. لكن أغراضه أصبحت رخيصة خلال قرن واحد من الزمان، نتيجة للادعاء والابتذال. الأمر الذى حدا ببعض الفنانين فى القرن العشرين، أن يأخذوا على عاتقهم مهمة إعادة الفن إلى قيمته.
- `عبد السلام عيد` من الطليعة التى آلت على نفسها إعادة الفن فى بلادنا إلى مستواه الرفيع وانتشاله من هاوية الإسفاف والابتذال والادعاء التى سقط فيها. خاصة وقد دخلت إلى دائرة التذوق جماهير جديدة من المثقفين والطبقة المتوسطة. نتيجة لتقدم وسائل الإعلام والاتصال وإزدهار حركة نقدية قوية تفرض الأمانة وصدق التعبير. فالناقد كما تستطرد دائرة المعارف المذكورة - هو الذى يشرح الموضوعات الصعبة للجمهور الذى لم يألف الفن إلا قليلا. لأن المعالجات الفنية التى إتسمت بالشذوذ فى بداية القرن أصبحت مألوفة ومتداولة صار التغيير طابعا للأساليب الفنية. كما أصبح من مهمة الناقد أن يرشد المتلقى إلى الطريق الذى يساعده على معرفة ما يختفى تحت المظهر السطحى للعمل الفنى. يفرق بين الجد والعبث والصدق والزيف.
- إذا كانت لوحة `عيد` تكاد تخلو من أشكال لها ما يقابلها فى الطبيعة من حولنا فهى مبتكرات لها ما يناظرها فى نفس الفنان ومخيلته ورؤاه، وبقليل أو كثير من التأمل بقلب مفتوح، والتأويل الحالم والخيال الرحب، نستطيع أن نشاركه المشاعر والأحاسيس والأفكار. كما أن إلمامنا بأساليبه الإبداعية ومؤثرات البيئة الثقافية التى شب فيها والأحداث ذات الدلالة فى سيرته الذاتية - إنما يساعد المتلقى على إشباع حاجاته الجمالية والفكرية.
بقلم : مختار العطار
رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر والعالم العربى
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث