`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد حسين هجرس
إطلاق سراح تمثال الحرية
- المكان : معتقل طره السياسى.. بالقرب من حى المعادى السكنى الذى يعد أحد أهدأ و `أرقى` ضواحى القاهرة.
- الزمان : منذ أربعة وثلاثين عاماً، وبالتحديد سنة 1970.
- فى ذلك المكان وهذا الزمان، كان الاعتقال السياسى ـ دون محاكمة ـ من الأمور `العادية` وكان يشمل مجال الطيف ابتداء من `الإخوان المسلمين` وانتهاء بـ ` الشيوعية ` مروراً بمن لا يمكن وضعهم تحت إحدى هاتين اللافتتين فتم تصنيفهم تحت عنوان ` النشاط المعادى`.
- وكانت ظروف الاعتقال قاسية، حيث لم يكن مسموحاً بأجهزة الراديو أو التليفزيون. كما أن الكتب كانت تعامل معاملة المخدرات باستثناءات ضئيلة جدا. - وبعد سنوات من الحياة فى ظل هذه الظروف سمحت إدارة المعتقل فى نهاية عام 1969 بجهاز تلفزيون أبيض وأسود واحد لجميع المعتقلين لمشاهدته فى أوقات محددة ومحدودة ، كما سمحت بما سمى بـ` الهوايات `وبموجب هذة ` الهوايات `نشط بعض ` الإخوان` فى تربية الأرانب، كما قام أصحاب الحرف منهم بأنشطة شتى ومتنوعة .
- أما عن `اليسار ` فقد اقتصرت` هواياته `على القراءة والكتابة التى أصبحت محظوراتها أقل نسبياً.
-الاستثناء الوحيد فى هذا العنبر الملىء بالنظارات الطبية هو الفنان التشكيلى محمد حسين هجرس الذى وجد ضالته فى هذا الهامش الضيق الذى تم السماح به.
- فعندما شاهد جذع شجرة كبيرة يحملها المساجين الجنائيون لحرقها فى الفرن الذى كان يزودنا بالخبز اليومى.. تشبث بالجذع قائلاً إنه مشروع تمثال هائل وبعد `نضال` مع الإدارة للسماح بإدخال أزاميل النحت إلى المعتقل بدأ الفنان فى التعامل مع جذع الشجرة، الذى تحول بين أنامله إلى عجينة طيعة وبعد أسابيع من العرق والجهد والتأمل والإبداع وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه أمام تمثال رائع ارتفاعة يناهز المترين، ويصور شخصا ًيحمل صخرة، فى وضع ينطق بالتحدى والصمود رغم الوهن والإجهاد وهى كلها معان تتفجر ببلاغة شديدة من التمثال الناطق الذى كان بالأمس القريب مجرد جذع شجرة خرساء مرشحة للحرق، وتنقل هذه الخطوط موحيه متجاوزة للتفاصيل ومختزلة للثرثرة ومشحونة بطاقة تعبيرية مذهلة تحلقنا حول التمثال المدهش.. وتبارينا ففى تسمته، كل منا يقترح اسماً لهذا `المعتقل` الجديد ولم يكن صعباً أن يحظى اسم `سيزيف 70 ` بإجماع الآراء فور اقتراحه فهذا الاسم لم يعد مرتبطاً فقط بأسطورة الإغريقية التى تتحدث عن عذاب، وعناد، سيزيف فى مواجهة الأقدار الغاشمة والتديات الرهيبة الأزلية، وإنما أصبح رمزا لإصرار الإنسان وإرادته ومسؤليتة رغم معاناته فى مواجهة الأهوال حتى لو تدحرج الحجر من قمة الجبل المقدس إلى سفحة مرات ومرات.. فليس أمام مسؤلية الإنسان وإرادة الحياة إلا حمل الإمانة والمسؤلية والصعود بهاـ دائما وأبدأـ على أمل الوصول إلى القمة مهما بدت مراوغة وحتى مستحيلة .
- وأصبحت `سيزيف 70 ` نسبة إلى عام إبداعه 1970 `زميلنا ` الجديد فى معتقل طرة السياسيى، وأخفى حضورة جواً حميماً وعبقاً ساحراً فى أركان المكان الموحش، وأشع جمالاً آخاذا فى بقعة تجمعت فيها كل مفردات القبح.
- ورغم إضافته الجمالية إلى حياتنا غإنه وضع مهمة جديدة فى جدول أعمالنا اليومى هذه المهمة المستجدة هى المطالبة بالإفراج عن `سيزيف ` فى تلك الأثناء كان وزير الثقافة هو بدر الدين أبو غازى وكانت تربطه بالفنان محمد حسين هجرس صداقة حميمة، وكان يتردد بصورة منتظمة على `أتيلية حلوان` فقررنا مخاطبته بهذا الشأن. وكانت السيدة ` فايزة قرينة الفنان هجرس هى التى قامت بالاتصال به فى منزله ونقلت إلية رسالتنا.
- ولم يتأخر بدر الدين أبو غازى فى نقل الرسالة إلى وزير الداخلية شعراوى جمعة وقتها شعراوى جمعة الذى سارع بدوره إلى الاتصال بمأمور المعتقل العقيد عبد العال سلومة، طالباً منة الإفراج عن التمثال .
- جاءنا العقيد سلومة، وقال لنا إن الوزير يريد إطلاق سراح `سيزيف ` لكنة لا يستطيع تنفيذ هذا الأمر إلا بعد التأكد من ان التمثال لا يدعو إلى قلب نظام الحكم أو إلى الازدراء به سألناه: كيف نتأكد من ذلك ؟!أجاب : سأشكل لجنة فنية، وككى تكون هذه اللجنة `محايدة ` فإنة قرر تشكيلها من ثلاثة `مهندسين` من الإخوان المسلمين المعتقلين معنا !!
- انعقدت اللجنة فى جو يشبه أجواء محاكم التفتيش فى العصور الوسطى التى قرأنا عنها كثيراً وبعد الدوران حول التمثال قال أحدهم : أظن أن هذا التمثال يجسد شخصية الزعيم الشيوعى `لينين` اعترض علية الثانى قائلاً إنته أقرب إلى `ستالين` إما الثالث فرجخ أن يكون امرأة حاملا!!
-عند هذه النقطة فقد الفنان هجرس رباطة جاشه وصاح فى وجه قائد المعتقل: من أنت حتى تعطى لنفسك وللجنتك السخيفة حق تقييم أحد أعمالى الفنية .
- إننى لاأعترف بك ولا بلجنتك، والوحيد فى حكومتك الذى يمكن أن أسمح له بتقييم تمثالى هو وزير الثقافة لأنه مثقف قبل أن يكون وزيراً للثقافة..
- ومرة ثانية أوفدنا السيدة فايزة برسالة ثانية إلى بدر الدين أبو غازى تتضمن تفاصيل محكمة التفتيش المشار إليها، وقام أبو غازى بدوره ـ بنقل وقائعها إلى شعراوى جمعة الذى سارع هو الآخر للأتصال بقائد المعتقل وأصدر له أمراً جديداً بالإفراج عن التمثال أسقط فى يد عبد العال سلومة، لكن جراب حيله كان مازال به ذريعة يمكه التعلل بها لعدم تنفيذ لأوامر وزير الداخلية .
- ولم تكن هذه الذريعة سوى أن جذع الشجرة الذى نحته هجرس كان ملكاً للحكومة، وبالتالى فإنه لايستطيع الإفراج عن التمثال حفاظاً على المال العام، خوفا من الاتهام بتبديده !!
- قلنا له أن الحل بسيط وهو أن يزن التمثال ويحسب ثمن الخشب حسب سعر السوق، ويخصم القيمة من أماناتنا المودعة لديه.
- قال إن هذا ربما يكون حلا، لكنه لن ينفع لماذا ؟!
- قال : لأن جذع الشجرة الأصلى تم نحته وبالتالى فإن وزن التمثال لا يدل على حقيقة وزن الشجرة !! عدنا وأبلغنا وزير الثقافة بالقصة وأبلغها بدوره إلى وزير الداخلية، الذى استشاط هذه المرة غضباً وأصدر أمراً جديداً وصارماً وفظاً لقائد المعتقل بالإفراج عن التمثال فوراً دون أى `أجتهاد ` أخر فما كان من عبد الله سلومة إلا يوماً مشهوداً عندما جاء هانى هجرس ابن الفنان الكبير محمد حسين هجرس، وكان وقتها تلميذاً لا يزال فى الإعدادية ومعه عربة `كارو` حملت التمثال الذى رأى الحرية قبل صانعه وقبلنا جميعاً والمفارقة.. أن `سيزيف 70 ` تم عرضه فور الإفراج عنه فى المعرض القومى العام للفنون التشكيلية، ولقى استحساناً كبيراً من الجمهور والنقاد، بل واقتنته الدولة بينما كان صاحبه رهينة المعتقل ومازال واقفاً فى شموخ فى متحف الفن الحديث منذ ذلك الحين، وسيظل هناك إلى أبد الابدين لكن دون أن يفطن مشاهدوه إلى قصته التى هى أغرب من الخيال .
- أما قصة صمود صانعه قبل عام 1970وبعده، حتى 6 فبراير 2004 ـ حين توقف قلبه عن الخفقان ـ فربما كانت أكثر روعة وهى بالتأكيد كذلك، ليس فقط بالنسبة لـ`هجرس` حفيد النحات المصرى القديم الذى ورث جالياته وفلسفته وعناده وجبروته، وإنما أيضاً بالنسبة لهذا النقر القليل من المثقفين الحقيقيين الذين يجعلون لحياتنا معنى بإبداعاتهم الأصلية، ويجعلون لوجودنا جدوى بترفعهم عن مسخ الجوخ أو حرق البخور : فيا أيها النحات العظيم أحمد حسين هجرس، وداعاً.. وطبت حياً.. وخالداً .. يا توءم روحى .
سيد هجرس
أخبار الأدب - 15/ 2/ 2002
هجرس المتمرد الملتزم
- فى عام 1976 وكان قد تجاوز الخمسين بعام واحد حصل الفنان محمد هجرس على وظيفة بعقد مؤقت بالهيئة العامة للفنون ` قطاع الفنون التشكيلية حالياً ` كانت أقرب إلى منحة التفرغ لأنة لم يكن مطالباً بأداء عمل معين، وهو فى أمس الحاجة إلى مورد يعينه وأسرته على الحياة، وذات يوم وجد نفسة أمام موقف اختيار عصيب، عندما طلب منه رئيس الهيئة التوقيع على إدانة تعسفية لزميل فنان خلال صراع غير متكافىء بينه وبين أجهزة السلطة واكتشف أن المقصود هو التنكيل بهذا الفنان الذى عرف بمعارضته للنظام الاستبدادى وشعر هجرس بأن توقيعة ضد زميله خيانة لمبادئة ولنفسة وللحق فرفض التوقيع مجازفا بقطع الخيط الواهى الذى يربطه بمورد رزقه، فيما قبل زملاء أخرون التوقيع بالإدانة.. كنت أنا هذا الزميل !!
- وهكذا فقد هجرس وظيفته وإن غلف القرار بحجة أنه لا يوقع فى دفتر الحضور والانصراف منذ مدة !.. وواجه أزمة اقتصادية طاحنة وقد كان بإمكانه إدارة ورشة الخزف التى يملكها بمرسمه فى حلوان بشكل تجارى يضمن له عائدا مجزيا أو أن يقبل العمل بإحدى الدول النفطية التى كان جلده يصاب بالرتيكاريا كلما تخيل نفسة يعمل فيها، لكنه رفض الحلين واختار الموقف الذى تلاءم مع رؤيته وعقيدته فى الحرية والمقاومة، وهو الانضمام إلى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية فى لبنان ثم سوريا وذهب بالفعل، وعاش فى المناخ هو وأسرته عيشة التقشف وسط الجبال شأنه شأن أى مقاتل وليس شأن بعض المثقفين من أصحاب الأصوات الزاعقة عن القضية الذين عاشوا حياة الترف متنقلين بين بيروت ولندن وباريس والقاهرة، لكنه كان أغنى الناس بإحساسه المطلق بالحرية وبالمتعة بإنتاجه الفنى فى منزلة الريفى بين الجبال وسط زوجته وولدة هالى، مع ابناء القرية الذين كان يعلمهم صناعة الخزف وإبداع التماثيل متمتعا حتى الاعماق بتوحد الذات مع الجموع تلك كانت شخصية ذلك الفارس الذى رحل عنا منذ أيام الذى رفض من فرط عشقه لوطنه أن يساوم عليه أو يضعف أمام مظاهر فساده وفضل أن يحتفظ به فى قلبه اثنى عشر عاما فى منفاه الاختيارى ليعود إلية وهو لا يملك أى رصيد أو دخل يعينه على الحياة وليس له معاش أو مورد غير فنه الذى لا يهتم به أحد أو يربده !
- وبالرغم من أن المناخ فى مصر قد تغير كثيرا بين عام 1977عندما غادرها وعام 1989 عندما عاد إليها، فإن التركيبة التحتية للمؤسسات الثقافية ظلت محكومة بمنهج السلطة والدوائر المنافقة لها والمستفيدة منها، الأمر الذى كرس مبدأ التميز فى الحقوق والمكاسب لصالح تلك الدوائر بغض النظر عن الموهبة أو العطاء الحقيقى فى الإبداع والعمل الثقافى، وحكم على البعيدين عن تلك الدوائر بأن يظلوا هامشيين سحر ومين فى أغلب الأحيان من تكافؤ الفرص وهو ما عاناه هجرس بعد عودته فلم يهتم أحد بتكريمه أو إتاحة الفرصة له للحصول على منحة للتفرغ أو باقتناء أعماله أو تمثيل بلاده فى المعارض الدولية وهو ما ترك بداخله مرارة النفى المعنوى داخل وطنه ولم يكن يشعر بمثله وهو فى مهجره بينما تفصله عن هذا الوطن بحار وجبال بل كان يتمثله ويتفاعل معه كل يوم بقلبه وخياله ورؤاه الفنية .
- وواجه هجرس من جديد أزمة الاستقرار المادى له ولأسرته فى وقت لم يعد ممكنا أن يفعل مثلما فعل فى الماضى بعد أن ولى الشباب وبعد تفرق رفاق السجن الذى وجد نفسه فيه فى السبعينات كل فى طريقه مشغولا بهمه وبتأمين وجوده بل وبعد أن تاهت القضية لم يبق معنى حقيقى للسجن من أجله وسط الضباب المعتم لكن بقى مرسمه الشهير فى حلوان ملتقى للفنانين والشعراء والمثقفين الشرفاء الذين لا حول ولا قوة لتدور فيه ندوة مستمرة حول كل شىء لقد كان بمثابة بيت العائلة الكبير يتجه إليه الواحد منا مخنوقا لكربه ليجد فى حضن هجرس واسرته وتلاميذه مايخفف كربه ويجلى غمته بينما لا يجد هو نفسه من يفتح له باب الخلاص .
- وجاء الوقت لأرد بعضا من دينى الكبير له عندما توليت مسئولية مركز الخزف وصب البرونز ثم مجمع الفنون بمدينة 15 مايو ..فاستعنت بخبرته العريقة كخبير يضع أساسا لنهضة فنية فى هذا المجال واستمر هجرس فى عمله قدر ما سمحت له صحته واضطراره للعيش والاستقرار فى مرسمه الجديد فى برج العرب، بعد أن طارده مالك البيت فى حلوان بالمشاكل والقضايا بحجة أنه آيل للسقوط ! ولم تكن الجنيهات القليلة التى كان يتقاضاها تكفى حتى لنفقات السفر وهكذا اكتفى ـ حتى نهاية حياته ـ بمعاش زهيد عن الفترة التى عمل فيها منذ عام 1989 ليتفرغ لإبداع النحتى محققا شبابه الثانى!
- لقد كانت أعمال هجرس منذ بدايته حتى مراحله الأخير تحقيقا رمزيا للحرية والمقاومة ضد القهر الإنانى وايضا لقيمة الانتماء إلى الوطن وفى معالجته الفنية لم يكن يبدأ من الفكرة بل من المادة الطبيعية الغفل مثل جذوع الأشجار وكتل الصخر التى تلهمه بتعاريجها وتشققاتها وملامسها وتكويناتها العفوية اشكالا تعبيرية تتضمن جوهر الفكرة وليس ترجمتها الحرفية.. هكذا أسس حروف الفتة الجمالية وبشكل عصرى متحرر من التقريرية والتحضيرية.. `والطرطشة ` العاطفية المجانية حيث تتولد اللغة من مدلولاتها وتتوحد معها وتمتزج الفكرة بمادتها فى صياغة تنأى عن كل التفاصيل الواقعية، وتتوخى الدلالة والإشارة والرمز وراء الشكل الذى يعكس قدراً عاليا من التوتر والحركة الدائبة ومن التبسيط والتركيب ومن العنف والاتزان معا لخطوط الحركة والتكوين والسطوح المكعبية والكتله بفراغاتها الداخلية وما يحيط بها من الخارج من فراغ موحية ـ فى مجملها ـ بقدر هائل من الاندفاع أو الانطلاق أو التأزم أو التجاوز وتطور بها مختار منذ أوائل القرن الماضى وسارت على منواله أجيال من النحاتين حتى اليوم وقد ظلت مدرسة مختار منفردة بالساحة بلا منافسة قوية من تيارات فنية أخرى حتى أواسط الخمسينيات عند ظهور النحات الكبير جمال السجينى رائد أول ثورة نحتية فى فنا المعاصر .
- تعد التجربة الفنية لمحمد هجرس تجربة عصامية حيث بنى نفسة بنفسة بالرغم من أنه درس الفن فى إيطاليا وبولندا أوائل الخمسينيات حيث تركزت دراسته على فن الميدالية، أما النحت الفراغى فقد تأثر فيه بعدة أساتذة بولنديين وإيطاليين ولعل تمرده الدائم كان وراء عدم التزامة بمنهج دراسى أو بتعاليم أستاذ بعينه خلال فترة تواجده بأوروبا التى انشغل خلالها بالمعايشة والعمل والاحتكاك أكثر من انشغالة بالتأسيس المنهجى والحصول على الشهادات.
- وقد استطاع أن يحقق لنفسة مكانه مرموقة فى حركة الفن الحديث بمصر منذ أواخر الخمسينات لذلك اختاره النحات الكبير الراحل أحمد عثمان ـ أول عميد لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ـ ليكون أستاذا للنحت بالكلية منذ انشائها عام 1957وكان مرسمه بوكالة الغورى فى أوائل الستينيات إلى جانب منزله بحلوان ملتقى لشباب الفنانين والمثقفين الذين أصبح للكثيرين منهم شأن كبير فى الحركة الثقافية فيما بعد .
- إن حياة هجرس وفنه وحدة واحدة لا تتجزأ تعكس معنى ساطعا أن الفنان موقف فى زمن شحب فيه هذا المعنى حتى أوشك أن يتلاشى وعزاؤنا فيه أن مرسمه فى برج العرب قد تحول إلى متحف بالفعل وامتداد حى له من خلال حفيده الفنان الشاب محمود وهو ما يعطينا الأمل فى تواصله كقدوة مضيئة مع أجيال جديدة من الفنانين والمثقفين .
عز الدين نجيب

! محمد هجرس شاطىء مهجور .. للملاح التائه
- شهدت حياتنا ـ عبر الأعوام العشرين الماضية ـ غياب العديد من الفنانين المرموقين بعيدا عن الوطن، فى منفاهم الاختيارى بالدول النفطية تحت ضغط الظروف الاقتصادية شأنهم شأن أصحاب المهن الأخرى، والتهمت سنوات الغربة شبابهم أو كهولتهم، وعندما عادوا الى ديارهم كانت قرائحهم الابداعية فى أغلب الأحوال ضامرة وعليلة.. وكذلك قلوبهم وكم منهم مات بعد سنوات قليلة من عودته، وحيدا منسيا بلا رصيد من الابداع، وإن امتلك رصيدا من المال، ربما لم يمكنه القدر من الاستمتاع به .
-غير أن ثمة قله نادرة من الفنانين واجهوا ـ فوق الأزمة الاقتصادية الطاحنة ـ صنوفا من القهر والاضهاد فى وطنهم ومع ذلك رفضوا الخروج، وكان عزاؤهم فى احتمال ذلك كله هو وعيهم السياسى الذى يغذية شعور عميق بالانتماء، واقتناع بأن الفنان موقف، وجزء فاعل فى حركة تفيد الواقع، وان تخليه عن مكانه نوع من الخيانه لدوره ورسالته، وكان ذلك ـ خلال ظروف الجذر الساحقة للقوى المؤمنة بالتغيير فى السبعينات نوعا من الاستشهاد الرومانسى، حيث كانت العجلات الثقيلة لقطار الانفتاح الاستهلاكى تندفع فوق أجسادهم، ومعهم العديد من القيم، دون أن نشعر بتضحياتهم .
- وكان الفنان محمد حسين هجرس ـ المولود عام 1925ـ واحدا من هؤلاء، فبعد أن أتم دراسته الفنية بإيطاليا وبولندا أوائل الخمسينات، وبعد أن حقق مكانة مرموقة فى حركة الفن المصرى المعاصر، فنانا وأستاذا بكلية الفنون الجميلة بالاسكندرية منذ إنشائها عام 1957ومتفرغا للفن بوزارة الثقافة ومؤسسا لمرسم للنحت والخزف يقوم على رؤية ثورية ضد الجمود وفن الصالونات، وعلى الارتباط بالشعب وابداعاته الفقيرة المتميزة، عبر فواخير الفسطاط، ومحاجر مصر القديمة، مستكشفا من خلالها المواهب الأصلية لأبناء المنطقة، ومستقطبا فى الوقت ذاته العديد من الفنانين والمثقفين الشباب لتعميق هذا الاتجاه.. بعد ذلك كله يجد نفسه مطاردا من مخبرى مباحث أمن الدولة، ثم مودعا باحدى زنازين سجن ليمان طرة أواسط السبعينات، بتهمة واحدة هى `كراهية نظام الحكم` ! ..
- أما أدلة الاتهام فهى تماثيله التى تحرض على ازدراء الحكم والثورة علية وأصبح مرسمه ـ فى نظر أجهزة الأمن خلية لليساريين الكارهين مثله للنظام! لكنه يستطيع أن يمارس النحت داخل السجن متحرراً من سطوة القيد والسجان، وأن يهرب أحد تماثيله الصغيرة الى الخارج ، وهو عبارة عن ثوريندفع بقرنيه فى قوة عمياء، وقد نفذه بأسلوب تعبيرى حر أقرب الى التكعيبية.. فيستنسخه أصدقاؤه نسخا عديدة يتداولونها كالمنشورات، ويحتفظون بها لما تحتوية من قيم جمالية عالية فوق مضمونها الرمزى .
- وعندما يخرج من السجن - دون إدانة - يجد الأبواب موصدة أمامه فى التفرغ، حيث كان يحظى بمنحة من وزارة الثقافة قبل اعتقاله، ولم تكن له وظيفة أو دخل يعيش عليه هو وأسرته وإزاء الضغوط التى مورست على الهيئة المختصة بالفنون آنذاك يمنح وظيفة مؤقتة بغير عمل، لكنه يطالب بالتوقيع يوميا عند الحضور والانصراف حتى لا يتبقى له وقت للعمل فى مرسمه ومع ذلك لا يكف عن الانتاج لكنه يجد نفسه يوما أمام اختيار مصيرى قاس، عندما يطلب منه التوقيع على إدانة تعسفية لزميل فنان خلال صراع غير متكافىء بينة وبين أجهزة السلطة، واكتشف أن المقصود هو التنكيل بهذا الفنان، وشعر بأن توقيعه ضده خيانة لمبادئه ولنفسه وللحق ولكل شىء، فرفض التوقيع مجازفا بقطع الخيط الواهى الذى يربطه بالوظيفة.. وهكذا عاد الى البطالة، مفتقدا مورده الوحيد للمعيشة له ولأسرته الكبيرة .
- وحال اقتناعه الراسخ بموقفه دون أى تنازل من جانبه، سواء لرئيس هيئة الفنون ـ الذى كان على صلات وطيدة بأجهزة الأمن ـ أو نحو انتاج أعمال فنية ذات طابع تجارى، أو للعمل باحدى الدول النفطية.. وأخير اختار الموقف الذى يتلاءم مع رؤيته وعقيدته فى الحرية والمقاومة، وهو الانضمام الى فصائل منظمة التحرير الفسطينية فى لبنان ثم سوريا، وهكذا عاش فى هذا المناخ التقشف وسط الجبال، وشأنه شأن أى مقاتل وليس شأن بعض الفنانين والمثقفين الذين عاشوا باسم القضية حياة الترف .. لكنه كان يشعر بأنه أغنى الناس بإحساسة المطلق بالحرية وبالمتعة من خلال انتاجه الفنى فى منزله الريفى وسط الجبال، ومن خلال تعليمه أبناء القرية صناعة الخزف وابداع التماثيل، متمتعا حتى الأعماق بتوحد الذات مع الجموع .
- لكن الوطن هو الوطن فى النهاية، مهما كان من قسوته وشحة على أبنائه، لهذا قرر هجرس فى عام 1989 العودة الى مصر بعد اثنى عشر عاما قضاها بعيدا عنها، وهو لا يملك أى رصيد أو دخل يعينه على الحياة، وليس له معاش! أو مورد غير فنه الذى اكتشف أن أحد لا يهتم به أو يريده.
- وبالرغم من أن المناخ فى مصر قد تغير كثيرا خلال تلك السنوات من غيابه، وانعكس ذلك على واقع الحركة الثقافية والفنية بما سمح بوجود هامش للمشاركة فيه من المثقفين غير الرسميين أو من المختلفين مع النظام، فان التركيبة التحتية للمؤسسات الثقافية والفنية ظلت محكومة بمنهج السلطة والدوائر الأكاديمية المحيطة بها، الأمر الذى كرس مبدأ التمايز فى الحقوق والمكاسب لصالح تلك الدوائر، بغض النظر عن الموهبة أو العطاء الحقيقى فى الأبداع، وعن المشاركة الفعالة فى العمل الثقافى، وحكم على البعيدين عن تلك الدوائر بأن يظلوا هامشيين ومحرومين ـ فى أغلب الأحيان ـ من تكافؤ الفرص فى عرض أعمالهم داخليا وخارجيا، وفى اقتناء الدولة لها، وفى المشاركة فى رسم سياسة فنية وثقافية جديدة .
-هذا هو المناخ الذى وجد هجرس نفسة فيه بعد عودته صحيح أنه استطاع ـ بمساعدة بعض القائمين على المركز القومى للفنون التشكيلية ـ الحصول على وظيفة مؤقتة كخبير فنى بمركز مرتبا أقرب الى المعاش، إلا أنه ـ فعليا ـ بلا صلاحيات للعمل، انعكاسا لعجز امكانات هذا المركز، مما أصبح يبدد طاقته بغير طائل، خاصة وقد قارب السبعين من عمره وأصبح غير قادر على مواجهة المشكلات البيروقرطية مثلما كان منذ عشرين عاما على سبيل المثال، بينما كان يأمل ـ عندما عاد الى مصر ـ أن يتفرغ للانتاج وأن يتحقق كفنان وسط مجتمعه.
وهكذا حكم عليه أن يواصل مسعاه لاهثا بين الأجهزة الحكومية للإبقاء على مورد رزقه الوحيد، ولا أحد يسأله ماذا ينتج وأين يذهب بإنتاجة، ولا أحد يذكره فى محفل تكريم أو مناسبة قومية، ولا أحد يشركه فى لجنة تستفيد من خبراته الطويلة أو يختار أعماله للاقتناء بصورة لائقة فى متحف الفن الحديث وغيرة مما أصبح اليوم ممتلئا بأعمال المئات من الفنانين الشبان .
- وأحس ـ مع الوقت ـ بعجزه عن التأقلم مع هذا الوضع، وبحاجته الماسة الى الوحدة والاختلاء بنفسه فى أبعد مكان يستطيع الوصول الية، خاصة مع ضعف صحته وسرعة انفلات أعصابه، فانتقل للاقامة وحيدا فى منزل مهجور على شاطىء البحر يملكه بعض اقاربه فى برج العرب معتزلا العالم أجمع .. وبقدر ما يتيحه ذلك له من فرص للهدوء والتـأمل والانتاج، فإنه يتعرض لمخاطر الوحدة فى ظروف غير مستقرة مع تكرار الأزمة القلبية، خاصة مع اضراره لتحمل مشاق السفر من وقت لأخر الى مقر عمله بمدينة 15 مايو كى يظل مورده المالى مستمرا وهو وضع ـ فضلا عن مخاطره الصحية ـ غير كريم له فى مثل تاريخه وعمره، وكان الأكرم له أن يعطى هذا المرتب كمنحة للتفرغ للفن، أو كمعاش استثنائى يعفيه من تقديم كشف حساب لرئيس له، حتى ولو كان يعامله معاملة الاب ويقدر ظروفه. وأعمال النحت لمحمد هجرس لا تستمد قيمتها فحسب من مضمونها الرمزى ضد القهر الانسانى، ومن تهبيرها عن ارادة المقاومة، بل كذلك من لغتها الجمالية المعاصرة المتحررة من التقريرية والتحريض السياسى المباشر، متجهة بذلك نحو واقعية تعبيرية تنبذ الأكاديمية بكل أشكالها، بما فيها التبعية العمياء للتراث الفنى القديم أو الحديث، من هنا تعد تجربته إحدى العلامات المبكرة نحو تحديث النحت المصرى المعاصر، ضمن بدايات تحرر هذا الفن من سطوة التقاليد الفرعونية التى أكدها وتطور بها مختار منذ أوائل القرن وسارت على منواله أجيال من النحاتين حتى اليوم، وقد ظلت مدرسة مختار منفردة بالساحة بلا منافسة قوية من تيارات فنية أخرى حتى أواسط الخمسينات عند ظهور النحات الكبير جمال السجينى .
- واحب هجرس تجربة السجينى الذى كان يكبره بسنوات قليلة، وكان قد درس النحت مثله فى روما من 1950 ـ 1952 حيث حصل على ليسانس فن الميدالية، إلا أنه ـ ربما بتأثير مدرسة الفن البولندى التى عايشها تسعة أشهر عام 1955 خاصة مع النحات دينوكوفسكى ـ كان أقل انبهارا بالتراث من السجينى ، واكثر ميلا الى التعبيرية الرمزية، من منطلق واقعى انسانى شامل وبأسلوب أقرب الى التكعيبية، يفجر الشحنة الدرامية بنبرة جهورية .
- وثمة نقطة اختلاف أخرى بينه وبن كل من السجينى ومختار، وهى أن كل أعماله ـ تقريبا ـ لا تعرف السكون والاستقرار ، فهى فى حالة حركة وفعل ديناميكى متوتر، وهو ما اتاح له التحرير من الجاذبية الأرضية وإطلاق الأجسام فى الفضاء، وجعل الفراغات التى تتخلها عنصرا أساسيا فى بناء الشكل، بما يحدثه ذلك من تفاعل وحوار بين الكتله ومحيطها الهوائى والضوئى ومن ابتعاد عن نظرية الرسوخ التقليدية للكتلة على الأرض، من الحرص على ألا يخل ذلك بأسس اتزان الكتلة .
- وقد أتاح له مناخ الستينات المتطلع الى التحرر الوطنى والوحدة العربية، المطعم بشعارات اشتراكية، بيئة ثقافية مناسبة لآرائه الفكرية والسياسية فعبر عنها فى عديد من الأعمال التى تعكس قيمة العمل والبناء والتقدم والوحدة والمحبة والسلام ، مثل تمثاله ` الطفل والحمامة `, `المراكبية ` و`عمال السد العالى` ولم أدرك عمق الفجوة بين الواقع والشعارات، اكتست أعماله بطابع التوتر والتمزق والغموض، وتعمقت هذه الحالة بعد هزيمة 1967، حيث أصبح أقرب الى التجريد وأشد ميلا الى النطواء والبحث الشكلى، تعكس ذلك كتله الدائرية المجوفة الأشبه بالقواقع، المخرومة بثقوب واسعة، أو كتله الخشبية الضخمة لأجسام مبتورة الرؤس والأذرع والشيقان، تمتلىء بالأخاديد والتجاويف الناضحة بالمخاوف والرهبة، أو تمثاله لرجل يمد ذراعه الى أسفل نحو أعماق سحيقة، بينما يتمسك بالحافة بيده الأخرى مستميتا، وكأنما يحاول انقاذ شىء ما .. وجميعها تعبر عن حالات متناقضة بين الخوف والاحباط والصمود والاكتشاف والبحث عن يقين. لكنه سرعان مايتجاوز هذه الحالة باستعادته الثقة فى الحياة والانسان، فيستنهض فيه قوة الصمود والمقاومة والانطلاق حيث نرى أشخاصه يحاولون النهوض فى معاناة، أو يندفعون الى الامام كالسهام..
- والشكل الفنى فى تلك الأعمال يتميز بالقوة والصلابة بالرغم من تمزق كتلها فى بعض الأحيان.. لقد ازداد هجرس قدرة على التوقيق بين المضمون المباشر والقيم الجمالية، ممتلكا مزيدا من الحرية والجرأة فى احالة المجسمات الى سطوح تكعيبية ذات زوايا منشورة حادة وفى جعل `رمانة الميزان ` التى تؤكد الثقل فى عدد من تماثيله تقع فى جزئها العلوى وليس عند قاعدتها كالمعتاد، فتبدو الشحنة غالبا فى شكل اندفاعى متفجر وسواء كانت هذه التماثيل من النحت المباشر فى الجبس أو من الخشب أو من الحجر الجيرى أو من الرخام أو حتى من الطين المحروق، فإن الشحنة الدرامية تظل عالية فيها جميعا، ويمكن جزء من هذه الشحنة فى كون الكتلة أقرب الى الطبيعة الفطرية التى تنحتها عوامل التعرية فى الجبال والصخور، أو ما تتخذه جذوع الأشجار فى نموها العضوى من هيئات أقرب الى الانسان أو الحيوان .
- أما اللحن الأخير فى مسيرته النحتية فيتمثل فى مجموعته التى أنجزها فترة اغترابه الطويل.. وبقدر ما تحمل من معادن ومضامين نضالية أو انسانية. فإن المرء يفتقد فى بعضها الحرارة والتلقائية الفطرية التى اتسمت بها مراحله السابقة . لقد أصبح أكثراهتماما بالصقل والتجويد، وبالعلاقات التجريدية المبسطة للأشكال، من منطق عقلانى صارم، ولا غبار على ذلك بالطبع، لكن فقط قد يبدو هذا غريبا بالنسبة لفنان متأجج الانفعالات عفوى الاسقاط .. أهى نزعة الى التأمل الحكيم الذى يمليه تقدم العمر؟ أم هو رد فعل عكسى لما شاهده من أهوال الحرب والمذابح الوحشية فى لبنان أو فى مخيمات اللاجئين، جعلته يمج التعبير المباشر ويبحث عن الجوهر الفلسفى المجرد ؟ وبعد ...
- لقد تلاطمت بهجرس أربعين عاما متصلة، وظل يناوئها ويصارعها بغير كلل كملاح مغامر جبل على التحدى والاشتباك وكانت تغذى استبساله فى الصراع رياح ثورية مواتية أحيانا، وايمان لا يتزعزع بقضية يتوحد حولها الرفاق، وارادة فردية تغذيها طاقة الشباب المندفعة.. أما وقد خمدت رياح الثورة، واهتزت الارض تحت القضية ـ بل تحت كل القضايا التى كانت لها صفة النبل ـ وتحول الرفاق الى أعداء يحارب بعضهم بعضا، ووضع المقاتلون سلاحهم ودخلوا سرداب التنازلات ووهنت طاقة الشباب واردة الاندفاع فى جسد الملاح التائه، فلم يعد أمامه إلا الرسو بقاربه على أول شاطىء مهجور يقابله ليعيش عليه بقية حياته معتزلا العالم الذى أصبح بلا معنى، يتأمل ماحدث فى رحلته الطويلة أو يستوحى ما قد يحدث غدا، صامتا وحيدا متوحدا مع أمواج البحر التى لا تعرف السكينة .. ولا التنازلات !
عز الدين نجيب

( منحوتات هجرس التعبيرية .. فى ( كريم
- تحتفل قاعة كريم فرنسيس فى السابعة مساء ( 6 أكتوبر ) بافتتاح معرض الفنان الكبير محمد هجرس ( 74سنة ) حيث يقدم مجموعة من تماثيله التعبيرية ولوحاته بالنحت البارز .. هجرس هو أحد أقطاب الجيل الثالث فى حركتنا الفنية الذى تألق فى الخمسينيات وما بعدها، ويعتبر من أوائل النحاتين الذين انتهجوا اسلوبا تعبيريا دراميا عنيفا، وتعتبر أعماله عن المعاناة والصراع، وتتميز تماثيله بالصدق مع الالتزام بالفكر المعبر عن روح العصر، ويظهر فى إنتاجه استيعابه للتراث وتأثره بالشخصية المحلية.. إن أحب خامات النحت إلى قلبه هى خامهة الخشب، وله أعمال منحوتة فى الحجر وأخرى من الخزف والجبس، وهو يشكل تماثيله كشاعر درامى يملأ قلبه حب الإنسان بمعناه الشامل يمثل إنتاج هجرس قمة الاتجاه نحو استخدام الحركة والديناميكية فى فن النحت، فالتمثال عنده دائماً وسيلة لتجسيد الصراع بين الأشكال والصراع فى أقصى درجاته حدة وقوة، وله تمثال شهير يعبر عن وحشية متصارعين أكل كل منهما الآخر حيث لم يتبق غير ذيلاهما.. ونماذجه دائماً مشحونة بالتوتر ومتقلصة ومشدودة، انه يعبر عن عالم معذب، مشحون بالألم..
- وتعبيرية الفنان ترتكز على الواقع مع تلخيص الاشكال حتى تبدو فى أكثر هيئاتها بساطة وأقواها تعبيرا درس فن النحت بقسم الدراسات الحرة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة حتى عام 1948، ثم حصل على منحة دراسية فى إيطاليا لمدة 4 سنوات نال فى نهايتها دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة فى روما، كما حصل على دبلوم التخصص فى سك النقود وفن الميدالية، وعاد الى مصر عام 1952.. وعمل بعد عودته كفنان حر. وشارك عام 1955فى ترميم واستكمال الأجزاء الضائعة من تمثال رمسيس الثانى المقام بميدان محطة القاهرة ( ميدان رمسيس ) تحت إشراف الفنان الراحل أحمد عثمان .. وقد سافر إلى بولندا لمدة ستة أشهر، كما عمل بالتدريس فى كلية الفنون الجميلة بالاسكندرية وحصل على جائزة النحت الثانية من معرض صالون القاهرة عام 1957، والجائزة الثانية من معرض بينالى الاسكندرية عام 1963. سافر إلى بريطانيا حيث التقى بالفنان العالمى `هنرى مور ` وأقام معرض مشتركا فى لندن مع الفنانة صفية حلمى حسين عام 1976 ثم انتقلا بهذا المعرض ليقام فى برلين فى نفس العام .
- سافر عام 1977 إلى العراق حيث عاش بين الفلاحين المصريين المهاجرين، ثم انتقل إلى بيروت ليقيم فى معسكرات اللاجئين الفلسطينيين ثم إلى سوريا فى أعقاب الغزو الاسرائيلى لأراضى لبنان، وعاد إلى القاهرة عام 1989 ثم أنشأ مرسمه ومتحفه فى برج العرب وأقام معرضا شاملاً لانتاجه بالاسكندرية عام 1992إن الفنان محمد هجرس هو أحد نجوم الحركة الفنية الذين تفتخر بهم مصر المعرض يستمر حتى 28 أكتوبر .
-عرفت المثال الفنان `محمد حسين هجرس ` فى ربيع عام 1970فى معتقل طره السياسى حين جاء ضمن كوكبة كبيرة من طلبة الجامعة، وعمال حلوان، كانت تهمتهم أنهم ينشطون فى مجال دعم منظمات المقاومة الفلسطينية.. وأمضيت ساعات طويلة، أتحدث إلية، أو أتابعه وهو ينحت تمثال `سيزيف 1970 ` على الخشب، أو وهو يشكل باصابعه ميداليات لزملاء الزنزانة وحين دهمنى خبر رحيله هذا الأسبوع، تذكرت هذا المقال الذى نشرته قبل حوالى 20 سنة فقررت أن أعيد نشره، لأسباب لا أعرفها، وقد تعرفها حين تقرأه.. أشوفك بخير ياهجرس .


فى وداع الفنان ( محمد هجرس ) مزيكة بركات
- قبل أى سلام، وبدون أى كلام وحتى لا نختلف فتلعن سنسفيل جدودى أؤكد لك أنه ليس لهذه القصة معنيان بل واحد، وأن ظاهرها كباطنها . وأنها لا ترمز لشىء بتاتاً تماما كذلك التمثال الخشبى الضخم.. المهيب... الذى صنعه صديقى الفنان `هجرس` واختار له اسما فلسفيا عميقا حول `سيزيف 1970` ثم كتب على نفسه إقرارا إنه لا معنى له، ووقعه وختمه بخاتم شعار الدولة .
- ومع أننى أحد الشهود الذين تابعوا فصول المشكلة التى وقعت بين المقدم ` عبد العال سلومة ` والمثال `هجرس` `حول سيزيف 1970 ` إلا أننى على سبيل القطع لم أشهد تلك المشاجرة التى وقعت بين مدام ` الزا ` وبين ` بركات ` لأننى لم أعرفهما أصلا، وفى الغالب، فإن الذى رواها لى هو أحد ملوك الكلام المشهورين، وهو نمط من الناس يملك تلك القدرة العجيبة على أن يمسك صرصور أذنك، ويظل يتكلم فيه بالساعات متنقلا من حكاية لنكتة، ومن غيبة لنميمة، فلا يكف عن الكلام ولا يترك لك فرصة إلا لمجرد الاستماع... وهو ما أذهل صديقى القصاص `إبراهيم أصلان ` وربما لأنه من النوع الصامت النادر الكلام ـ فقال لى ونحن ننصرف يوما من جلسة طويلة مع أحدهم وهو فى حالة انبهار كامل ـ دا موش بنى آدم يا أخى.. دا مكلمة .
- والشىء المؤكد، هو أن الأزمة بين `مدام الزا ` و`بركات ` قد حدثت قبل الخلاف بين `هجرس` و`سلومة ` إذ أذكر أننى رويتها لهجرس ذات أصيل لكنه لم يهتم بها، إذ كان مشغولا بوضع اللمسات الأخيرة لتمثاله، فغيرت الحديث وعبرت عن إعجابى البالغ به، لأنه استطاع بعد شهرين من العمل الشاق أن يحول جذع شجرة التوت الذى وجده ملقى بإهمال فى فناء المعتقل، إلى تمثال جميل ضخم، يزيد ارتفاعه على متر ونصف المتر. والظاهر أن بنسيون `مدام الزا ` كان قد تحول إلى نوع خاص من `المكلمة ` فالعدد القليل من قاطنى حجراته المحدودة وموقعه المتميز فى أحد شوارع وسط القاهرة، ثم ظرف المدام وشبابها الذى لم يكن قد ذبل تماما، سرعان ما أغرى سكانه شبه الدائمين على قضاء سهراتهم فى صالته الواسعة ذات الأسقف العالية خاصة أن من بينهم من تحثهم ظروفهم أو مناصبهم، أن يرفهوا عن أنفسهم بعيدا عن أعين المتطفلين.
- وهكذا تحولت صالة البنسيون إلى كافتيريا مغلقة لها زبائنها الثابتون المتغيرون يدردشون ويأكلون ويشربون ويمزون فإذا كان مزاج المدام معتدلا عزفت لهم على البيانو العتيق الذى يستقر فى ركن الصالة، ألحانا يونانية شعبية مرحة، وتحدثت عن `ديمترى` الخائن الذى تنيح ـ أى مات ـ قبل الأوان وعن الولدين الخائبين اللذين رفضا أن يديرا التافرنا ـ أى المقهى ـ بعد وفاة الخائن، فهاجرا واحدا إلى استراليا والثانى إلى كندا. وعن البنت `العبيط ` التى ضحك عليها ولد ألمانى فتزوجها وطار بها إلى شتوتجارت.. وهى حكايات كانت المدام تستفيض فيها أحيانا بشكل مقصود. إذا لم ترتح لنظرات وافد جديد، لكى تنبهه إلى أنها أم وجدة، فإذا لم يرتعد وانتقل من النظرات إلى الملامسات بشكل متعمد يبدو عفوياً.. رشقت فى عينيه نظرتها الزاجرة... وقالت بلهجة ذات معنى : الويسكى تقيل قوى الليلة دى يا مونشير !
- ويوم ظهر `بركات ` فى البنسيون كان ذلك دليلا على أن المدام قد تقدمت أكثر فى السن وعلى أن آلام الروماتيزم والنقرس، قد قللت من قدرتها على العمل، فاضطرت للاستعانة ببركات، الذى كان ` جرسونه فى التافرنا من أيام المتنيح ديمترى` وبعد قليل أصبح `بركات ` أهم شخصية فى البنسيون وجمع بين دور الخادم واختصاصات المدير العام، وامتد نشاطه من تنظيف الغرف إلى شراء الطعام، ومن مساعدة المدام فى المطبخ إلى محاسبة الزبائن، ومن التعامل مع قسم الشرطة ومفتشى الضرائب والسياحة إلى االعزف على البيانو، شيئان فقط رفضهما بركات بإصرار عجيب الأول : أن يقوم بأى عمل فى أوقات الصلوات الخمس أو حين يكون مشغولا بقراءة ` دلائل الخيرات ` عقب صلاة الفجر والثانى: كل ما يتعلق بالخمر...فهو لا يشتريها ولا يشربها ولا يحملها ولا يسقيها ويرفض حتى أن يغسل الأكواب الفارغة التى كانت تحتسى فيها .فيما عدا ذلك كان ` بركات ` شأن كثيرين من أولاد البلد، يؤمن بأن أكل العيش يحب الخفية وتفتيح المخ، وتمشية الأمور، لذلك اكتفى بأن يكون صالحا فى ذاته، دون أن يحتج على شىء من الفساد الذى يجرى حوله، فإذا لم يكن فى العمل خطأ ـ أو خطيئة ـ ظاهرة قام به وبحماس فكان يشترى الصودا والمزات، ويعدها ويقدمها ويغسل أطباقها وأحيانا كان يتابع بعينيه أوراق اللاعبين فى برتيتة `بوكر` أو دور `برغوتة ` حتى تعلم ألعاب القمار من مجرد المشاهدة, وبذكائه الفطرى ومتابعته بشغف ودأب للمدام وهى تعزف على البيانو العتيق، تعلم كيف يعزف السلم الموسيقى، وأخذ يتدرب على أنغام يعزفها فى الفترات التى يخلو فيها البنسيون من سكانه...فإذا ما سأله متطفل تفسيرا لهذه الازدواجية فى سلوكه رد بهدوء قالوا لجحا البلد بقت كلها خبيزة... قال لهم مادام بعيد عن بيتى خلاص!
- وعندما زادت آلام الروماتيزم والنقرس على المدام، اهتمت أكثر بتدريب ` بركات ` حتى يتقن العزف على البيانو فيحل محلها فى تلك الاوقات العصيبة من السهرة حين يفقد `الويسكى الثقيل` الرواد حرصهم على الهدوء فيتحدثون بصوت عال، أو يتحركون بعنف أو يحدث بينهم خلاف حول الغش فى اللعب يتحول إلى خناقة يتبادلون فيها اللكمات والشلاليت، وهى أمور كانت تزعج المدام بشكل مبالغ فيه وتصيبها بحالة من الهيستريا، إذ كانت تخشى أن تقلق الجيران فيشكونها وهى ` موش حب البوليس ييجى هنا ` لأن كثيرا مما كان يجرى فى البنسيون كان مخالفات صريحة للترخيص القانونى الذى منح لها بإدارته كمكان للنوم، وليس كمطعم وكافتيريا وبار وصالة للعب القمار!
- أما حين تفشل الاحتياطات الكثيرة التى تتخذها المدام للحيلولة دون حدوث هذا المكروه فقد كانت تبادر مع أول كلمة، وأول شلوت، بفتح البيانو، وعزف نغمات عالية الجرس، لكى تغطى أصواتها على الخناقة وتوحى لمن هم فى الخارج أن قاطنى البنسيون يعيشون فى سعادة ويسودهم السلام والأمان وهو عزف يستمر حتى يتمكن بقية الرواد من إيقاف حرب الشلاليت واللكاكيم وكان هذا أحد الاختصاصات التى أجبر النقرس المدام على التنازل عنها راضية لبركات.. وأدها هو بحماس شديد ولافت للنظر، فإذا بدأت المعركة، وقبل أن يستقر أول شلوت فى مرماه، وقبل أن تنهى المدام صيحتها العصبية القلقة هاتفة فيه :
بركات.. امسكتوا موزيكا بسرعة يابركات امسكتوا موزيكا يكون هو قد قفز فى نفس واحد إلى مقعد البيانو، وفتح غطاءه بكف وبدأت الكف الثانية بشكل ميكانيكى العزف كيفما اتفق بينما تلمع عيناه اللوزيتان فى وجهه الأسمر، كانه يؤدى مهمة مقدسة.. وحين سأله متطفل عن سر حماسه الشديد للعزف... قال بمصطلحات البنسيون ريحة الخبيزة تقيلة قوى الليلة دى يا مونشير !
- ولابد أن هجرس ` كان قلقا حين حكيت له الحكاية لذلك لم يبد حماسا لها... وحدثنى عن شكه فى أن يسمح `عبد العال سلومة ` بإخراج التمثال من المعتقل، ليشترك به هجرس فى معرض كان موعده قد اقترب... وأضاف أن `سلومة ` قد نبهه إلى أن جذع الشجرة الذى صنع منه التمثال هو من الممتلكات الأميرية لوزارة الداخلية... وهو ما يعنى أنه يريد الحصول على التمثال لنفسه، ليزين به غرفته التى كانت تزدحم بتماثيل قبيحة فجة له، ولكبار المسؤلين فى الدولة صنعها مساجين بؤساء .. وكان هجرس ` منزعجا بشدة من فكرة عرض تمثاله فى غرفة قائد معتقل، بصرف النظر عن القبح الذى كان منتشرا فيها.. لذلك انهمك فى دراسة اللوائح والقرارات واستطاع أن يثبت لسلومة أن صنع التمثال من خامة من الممتلكات الأميرية، لا يعطيه حق الاستيلاء عليه، وأن كل الذى فى سلطته هو أن يخصم ثمن الخامة من أمانات `هجرس` المودعة فى خزينة السجن !
- وكنت ساعتها أقول لهجرس : أن `بركات ` الذى قبل بحماس أن ` يمسكتوا مزيكا ` بدلا من المدام، لم يجد فى سبب تافه مثل آلام النقرس فى أصابعها، مبررا لكى يحل محلها فى ملء كؤوس الخمر أو تقديمها أو غسلها فرفض ذلك بعناد.. وهو ما جعل المسألة موضوعا يوميا للشجار والنقار بين الإثنين، ينسحب `بركات ` فى نهايته إلى المطبخ يجلس على مقعد، ويبدأ فى قراءة ` دلائل الخيرات ` رافضا الرد على أى استدعاء، مكتفيا برفع صوته وهو يقرأ لكى يغطى على `برطمة ` المدام وهى تلعن بالجريجى الفصيح بركات والذين وضعوا تقاويه !
- لكن ` هجرس هاجمنى بعنف، وقال إننى أعطيت ` سلومة ` مبررا للاستيلاء على التمثال، حين اخترت له هذا الاسم الفلسفى المتقعر ` سيزيف 1970 ` ودافعت عن نفسى قائلا: إن التمثال يصور رجلا يحمل بين كفيه المرفوعتين فوق رأسه حجرا فى وضع من يهم بالقائه على آخرين ، بينما نفرت عضلات ساقيه، تمزق قيوداً كانت تغلله، وأن هذا قد ذكرنى بأسطورة `سيزيف ` اليونانية القديمة، الذى لعنته الآلهة، وحكمت عليه بعذاب دائم، يتمثل فى أن يصعد إلى قمة جبل وهو يحمل صخرة ثقيلة يلقيها من فوق القمة، ثم يعود إلى السفيح ليحملها ويصعد بها .
- وهكذا .. وقلت إننى أضفت تاريخ السنة إلى الاسم، لأن التمثال يوحى بأن ` سيزيف ` قرر بأن يتمرد على عذابه، وأن يحطم أغلاله، ويلقى بالحجر فى وجه الذين يعذبونه، وأنه لا علاقة للاسم برغبة ` سلومة ` فى الاستيلاء على التمثال وصاح ` هجرس ` فى وجهى قائلا إن سلومة استدعاه، وأبلغه أن التمثال لن يخرج من المعتقل، لأن له معنى باطنا غير معناه الظاهر، ولأنه يهاجم الدوله وسياستها والمسئولين، بشكل رمزى .. وختم ` سلومة ` كلامه متسائلا بلهجة خاصة `مين بقى سى زفت 1970 اللى أنت عامل عليه التمثال يا أستاذ هجرس ؟! ` .
- هونت الأمر على `هجرس ` وأخذت أروى له ما حدث حين تفاقمت الخلافات بين ` المدام ` و `بركات ` فقبلت اقتراحا تقدم به أحد أولاد الحلال، باعتباره الحل الوحيد للمشكله. وهكذا فاجأ الضيف الجديد `بركات ` وهو يضع طبقا من السلاطة أمامه بتقديم سيجارة إليه، بالإصرار على أن يشعلها له بنفسه، ثم اردفها بملبسه أخرجها من جيبه، ناصحا ` بركات ` بأن يضعها فى فمه أثناء تدخينه للسيجارة، إذ إن هذه هى الطريقة الطبية الموصوفة للاقلاع عن التدخين.
- ومع أن ` بركات ` شعر بأن مذاق الملبسة ليس مستساغا، وأن طعم السيجارة غير عادى، إلا أنه عجز عن مقاومة إلحاح الضيف، فقبل على امتداد السهرة عطاياه من السجائر والملبس.. ولم ينتبه لما حدث له، إلا حين وجد نفسه، بلا إرادة تقريبا، جالسا ببلاهة على كرسى البيانو، عاجزا عن التفكير لحظتها أشارت المدام إليه، بأصابعها التى كانت قد ربطتها بقماش طبى للتغلب على الآم النقرس، وقالت بتشف :
- ياعبيط.. إنتى مسكتى حشيش فى السجاير.. وملبس بالويسكى..قومى بقه اغسلى الكاسات!
- ولم يتحرك `بركات ` وظل جالسا على مقعد البيانو معلقا ابتسامته البلهاء على وجهه الأسمر.. ومع أنه أدرك أن المقلب الذى شربه هو موضوع القفشات التى ظلوا يتبادلونها لمدة تزيد على ساعتين بالجريجى والفرنساوى والإنجليزى وتتلامس خلالها كؤوسهم فى صحة ` بركات و ` دلائل الخيرات ` إلا أنه لم يفعل شيئا وفقط وحين تغير الموقف، فتحولت القهقهات إلى شتائم والقشفات إلى صراخ، وبدأ خلع الجاكتات والأحذية استعداد للشجار، تنبه ` بركات ` وانتشرت يقظة مفاجئة فى وجهه الأسمر.. وصرخت المدام بفزع : امسكتوا موزيكا يا ` بركات ` لكن ` بركات وقف بهدوء ووقار ليساعد المتشاجرين على أداء مهمتهم.. يناول هذا مقعدا .. ويناول الآخر فازة، ويخلى المكان من قطع الأثاث على سبيل تهيئة الساحة للمعركة.. ومع أن المدام لم تكف عن مناشدته بعصبية بأن يمسكتوا المزيكا، إلا أنه لم يرد عليها إلا بعد أن أيقن أن أحدا لن يستطيع ايقاف المعكة فاندفع يقهقهه بجنون.. وهو يقول: امسكتوا إنتى شلتوت يامدام!!
- فى ذلك الصباح، جاء `هجرس` ليصطحبنى قسرا إلى مكتب `عبد العال سلومة` فى الطريق قال لى بسرور بالغ : أنها أرسلت برقيات لكل المسئولين تحتج على اعتقال التمثال بتهمة معاداته للسياسة وخطرة على الأمن العام وقابلت وزير الداخلية ـ الذى ذهل من تصرفات `سلومة ` الغريبة وأمر بالإفراج فورا عن التمثال.. وكانت اثار الهزيمة واضحة على وجه `سلومة ` الأحمر وهو يستقبلنا لكنه تماسك، وناول `هجرس` ورقه، طلب أن يكتب فيها ما اخذ يمليه عليه، بلهجة أميرية جافة، ونصه :
- `أقر أنا الموقع على هذا أدناه، المعتقل ` محمد حسين هجرس ` وصنعتى نحات تماثيل، أن التمثال الذى صنعته من خشب الشجر، عهدة معتقل طره والمسدد ثمنه لخزينة المعتقل فى 13/ 12/ 1970 لا يرمز إلى أى شىء ولا يتضمن أى مساس بسياسة الحكومة، أو ازدراء بإحدى هيئاتها ولا معنى له على الإطلاق! ` .
- وبعد أن وقع `هجرس ` على الإقرار، تناول سلومة الورقة وكتب عليها بخط يده، وبالحبر الأحمر ` بمناظرة التمثال المذكور .. وجدناه مصنوعا من الخشب بطول متر ونصف المتر وعنوانه ` سى زفت 1970 ` وتأكدنا أنه لا يرمز لشىء، ولا معنى له على الإطلاق، ونسمح بخروج التمثال من المعتقل وتسليمه لزوجة المعتقل المذكور ` ومهر ` سلومة ` تأشيرته بتوقيعه، ثم بخاتم الدوله وسلمنا الورقة، لكى يسمح الضابط المختص لنا بإخراج التمثال ولأول مرة منذ بدأت الأزمة، استعاد `هجرس ` مرحه، إذ لم ينجح فقط فى الإفراج عن ` سى زفت 1970، بل نجحت اللعب التى اتفقنا عليها، فحصلنا على الإقرار الذى أجبر ` سلومة ` على توقيعه، واحتفظنا بتأشيرته العجيبة، وكان من رأينا أنها وثيقة تاريخية بالغة الأهمية، ودخل `هجرس` إلى الزنزانة وهو يحرك ذراعيه فى الهواء كما لو كان يقود وأوركسترا.. والاقرار بين اطراف أصابعه، ولأول مرة، أدرك أنه كان يسمعنى طوال الوقت، إذ ما كدت أقول له عابثا :
- انتى مسكتى موزيكا يا بركات.. حتى رد على قائلا :
- لا .. دى سلومة اللى مسكتى شلوت ! واندفعنا نضحك !
صلاح عيسى

اليد والعقل والفن والواقع
- فى منطقة برج العرب القديمة توجهت إلى مرسم الفنان محمد حسين هجرس وسط الطبيعة الهادئة بالقرب من قصر الرئاسة القديم حيث استقر هناك فى منزل قديم تم تجديده كان منزلاً لأحد الخبراء الإنجليز الذين وردوا للمنطقة قبل الثورة وكان مهجوراً اشتراه محمد هجرس وأسرته تحيطه حديقة كبيرة .. وجد هجرس فى هذا المكان راحة لنفسه وبعد فترة من إقامته فكر فى إنشاء مبانى أخرى يحفظ فيها أعماله ثم فكر فى إقامة متحف ومرسم وورش لتعليم الأطفال فهو فنان ينبض بالحياة وحب المجتمع وسريعاً ما يندمج مع من حوله فهو فنان مجتمع يستمتع بمساعدية من العمال من نفس المنطقة وهم عرب من المنطقة المحيطة ويتأمل النباتات والأشجار والمكان يتناسب مع فنان مثال ، وعندما جاء كوب الشاى كان هناك مطر منعش.
- وسط هذا المكان النقى بهواؤه وسكانه تتألق تماثيله الكثيرة وبدأ الحوار رأيت تمثالاً لإنسان فوقه كره كبيرة قال إنه تمثال العولمه.
- كيف تصورت العولمة فى هذا التمثال.
الإنسانية والإنسان البسيط متضرر من العولمه فى نظرى هى قيد للشعوب الفقيرة والدول المرهقة اليوم أنظر إلى تيار الفن اليوم تجد عبثية ، الفنان لا يعايش البشر وأحوالهم وكثير من الفنانين قد تحولوا ووضعوا ضميرهم على الرف الفنان الذى يحس بنبض الواقع السياسى الاجتماعى فنان صاحب دور يتمثل نبض الوطن وفى المجتمعات التى ارتقت تكون المنتجات الفنية تجريدية .
- نعم الدول الراقية تنظر إلى الفن نظره راقية ، نسبة التعليم والتذوق جعلت الناس تستوعب الفن بعد أن تقدمت فى هذا المضمار عن طريق الإعلام أيضاً، ولذلك احترام الفن التجريدى فقد ارتقى الشعب الأوروبى والأمريكى لذلك يستطيع استيعابه بسهوله .
- منذ فترة كان لى تجربة عمل تمثال لشاب عربى يلبس العمامة بجوار سكنى من منطقة السواحل وفوجئت انهم رجموه بالطوب لأن الشعب يخلط بين المعلومات الدينيه وبين فن النحت .
- فى الخارج هناك استيعاب وأنا أبحث الآن عن التعبير عن آلام وأحزان المقهورين والشعب الفلسطينى أحد هذه الرموز، وقد رسمت السلام ورسمت الأنتفاضه ولدى تمثال عن السلام فأنا أجسم ما يتطرق ويتواءم مع مشاعرى ، لقد تذوقت القهر وعانيت منه ورآيت السلام فى أيدى البشر وهى تطلق حمامات السلام ` مشيراً إلى تماثله ` الفنان هنا يعبر عن الواقع وعن الأمنية والأساس هو المعايشة ، الفنان الذى يعانى لا يصنع تجريداً وإنما يجسد قضيته.
- فى كل زمن هناك أحداث ومواقف ومشاكل.
- الدولة الآن تطلق حرية الفنان ، منذ زمن كنا نخاف ولكن الآن بالنسبة للديمقراطية ، فالفنان الذى يطلق طاقاته الكامنه ويعبر بحرية يبنى حجراً فى صرح الديمقراطية وهذا ما تسير فيه مصر.
- الفنان هو ضمير الشعب فهل له دور آخر غير الإبداع؟
- أنا أحاول كمثال أن أخدم المنطقه المحيطه بى وأشعر أن تطوير المجموعة المحيطه بى من البشر واجب هام ففى كل إسبوع استضيف أطفال المنطقه وأعطيهم الطين ليعبروا عن مايشعرون به ، إنه الدور المفقود والمفروض أن يقوم به قصر الثقافة وهو مبنى فخم وبنى منذ عشر سنوات ولم يفتتح حتى الآن ولا أدرى ما هى الأسباب وأنا أقترح أن يفتح للشعب ويستضيف فى ردهاته الموهوبين حتى ينتجوا وبعد ذلك يجد الجمهور فى افتتاحه هذه الأعمال التى تزين القصر.
- الزمن يمر ويجب أن نسابق الزمن فى مسألة التذوق الفنى.
- أرى كثيراً من التماثيل التى تحولت من فكر إلى نحت من فكر مجرد إلى مجسمات.
- بالنسبة للحركة الفنية العالمية الآن فهى تتطور بسرعة وأنا أتابعها لأنى أبحث عن قيم حديثة مع مضمون محلى قومى.
- أنا الآن سنى كبير أحب أن أدمج الموضوع مع الشكل المعاصر وهى قضية خطيرة فالشكل يصارع الموضوع والموضوع بحاول أن يضغط على الشكل.
- هل ترى أن مشكلة الإنسان والحرب والدمار قد تغيرت؟
- منذ أن رأيت المجازر التى حدثت فى مختلف البلاد العربية وأنا أحس بأن الإنسان العربى فى محنه كبيرة .
- هذه المحن مازالت تضغط على الإنسان البسيط فهل يقف الفنانون مكتوفى الأيدى .. لابد أن نعمل وننبه ونعبر فسوف تأتى أجيالاً جديدة تسألنا وتعاتبنا.
- الحصاد الثقافى كبير ويحتاج إلى فنانين مبدعين فى كل المجالات .
- المفروض أن الفنان فى مصر والدول العربية أيضاً ، المفروض أن المثال لا يبحث عن شكارة الجبس ، أو الألوان أو قطع القماش أو المرسم الذى يبدع فيه إننى أقول لا .. لا يجب أن ينشغل المبدعين بمثل هذه الأمور التافهة ، وفى رأيى أن هذا هو دور الدولة ، مثلاً أنا فى هذا الموقع أمنيتى أن أعمل متحف لخدمة المنطقة ، لو كانت الدولة مهتمة بالفن وبالفنانين فإن هذا المتحف سوف يصبح ملكاً لها ويجب أن تمد يد العون.
- فى الحقيقة أنه سوف يصبح ملكاً للشعب المصرى كله . وهى صورة سيئة لتجاهل الفنانين سواء من الدولة أو نقابة الفنانين أو من رجال الأعمال .
- فى معرض الانتفاضة لم يشترى أحد الأعمال . لعل المباع الوحيد كان لطالبة بمبلغ 30 جنيه فقط .وفى رأيى أن رجال الأعمال المصريين لا يهمهم على الإطلاق إبداع المبدعين.
- الفكر الأمريكى لتسيد العالم فكر غير سليم رغم عصر السموات المفتوحة والكمبيوتر والإنترنت ووسائل الاتصال الآن إذنا حتى الآن لا نرى أى عائد سوى متابعة مشاكل الآخرين وآخلا الآخرين. وعمومية الأفكار العالمية ميعت خصوصيات المبدعين بالإضافة إلى عدم وجود قضية . هناك اتجاهات كثيرة فى الفن الآن فما هو موقفك منها من خلال رؤيتك ومتابعتك لروافد الفن فى أوروبا وأمريكا من تجريدية إلى الحداثة وما بعد الحداثة إلى الأعمال المركبة وغير ذلك من تداخل الخامات.
- الأساليب الحديثة فى الموضوع الصحيح ، إنه أمنيتى وأتمنى الوصول إليها ، ليس الفن أسلوباً فقط.
- هناك تناول تكعيبى فى أعمالك جعلت الفورم قوى وأساليبك النحتية تشمل فورم حديث وحس إنسانى قوى وأعتقد أنك قد وصلت بالفعل إلى شخصيتك الفنية التى تبحث عنها دون أن تدرى.
- الحقيقة إننى أشعر بأننى لم أصل إلى شيىء حتى الآن . هذا الإنسان الخائف المتوقع على ذاته ` مشيراً إلى أحد تماثيله آنه تمثال ` أين المفر `
- تمثالك ` أين المفر ` هلى يقدم إنسان العصر الذى لا يجد حيلة يخرج بها من قدره ، من مصيره ، من حدوده ؟
- سقف المرسم يرشح المياة وأجد نفسى مشغولاً بهذه الأمور وأنا مضطر أن أقوم بكل ذلك فهل هذا هو دورى ؟
- ` أين المفر ` هو سؤال صريح ، هو أنا .. ذلك الأنسان المحاط بمشاكل كثيرة.
- الفنان ينتج لكى يبرز رؤيته وفكره ولكى يغير العالم من حوله ويتمنى أن يعيش فى بيئة تناسب رؤيته.
- البيئة التى يجب أن يعيش فيها الفنان هى البيئة التى يكون محبوباً فيها ويلقى الاحترام ويتوفر له الأساسيات مرسم ، خدمات ، إعاشة ميسرة.
- الفنان الحقيقى ينأى بكرامته عن ما يشينها لا ينحنى ، لا يتذلل .
- فى الستينيات ظهر كتاب هام للفن المصرى وكنت من المتابعين للكتاب أثناء تجهيزه من الفنان حامد سعيد وعرفت أنه لم يضع أى عمل من أعمالى داخل الكتاب ولكننى لم أتدخل ولم أبدى رأيى وبعد أن طبع الكتاب فى الخارج أحضره لى وسألنى عن رأيى فكانت إجابتى أنه كتاب رائع واكتفيت بذلك ولكن بعد لحظات من التأمل نظر إلى حامد سعيد وقال سوف تكون أعمالك فى الجزء الثانى .. ويبدو أنه قد أحس بالذنب دون كلمة .. والجزء الثانى لم يأتى بعد رغم مرور عشرات السنين.
- هناك فترة طويلة غبت فيها عن مصر ما يقرب من 12 عاماً أنجزت فيها عدداً كبيراً من التماثيل التى أصبحت من نصيب المكان الذى أقمت فيه فى جنوب لبنان ثم فى مخيمات اللاجئين بسوريا.
- بكل أسف هناك تم تحطيم الكثير من التماثيل التى أنشأتها هناك بسبب الاجتياح الإسرائيلى لجنوب لبنان كنت هناك فى القرى أقيم التماثيل المحرضة على مقاومة العدو .
- وفى بيروت أيضاً كانت لك أعمال كثيرة .
- فعلاً فى بيروت كان عندى مجموعة من التماثيل الهامة أهمها تمثالين من الخشب ارتفاع كل منهما 250 سنتيمتراً أى مترين ونصف وعرض متراً وعشرون سنتيمتراً وكانوا موجودين عند هانى ابنى وأثناء الغارات على بيروت واعتقد أنها ضربت وهدم المنزل وقد تكون تحطمت أو سرقت لا أعرف مصيرها ولقد غادرت بيروت من طريق جبلى إلى سوريا وأقمت مع الفنان السورى نذير نبعه وقد رحبت بى وزيرة الثقافة السيدة نجاح العطار وأقمت فى مخيم اليرموك وهناك كنت أجمع الأطفال وأعلمهم كيفية عمل الخزف وأنشأت فرناً لتدريب هؤلاء الأطفال ولكن السلطة الفلسطينية أخذت منى موقف لأنى لم أسافر معهم إلى تونس.
- عدت إلى مصر ببنطلون وقميص وفى المطار استقبلت استقبال حافل وفوجئت بأقاربى وأبناء إخوتى يستقبلونى بكل الحفاوه . وبعد تقبل العزاء فى أخى الأكبر فكرت فى العودة إلى سوريا ولكن أسرتى ساعدتنى على الاستقرار.
- التقيت بالفنان فاروق حسنى بعد عودتك .
- التقيت بالسيد الوزير فى أحد المعارض بالأسكندرية ومعه الفنان طه حسين ورحب بى الوزير وطلب منى العمل كمستشار فى الوزارة وكانت هذه لمسة رائعة منه دعتنى إلى الاستقرار.
- وعندما عرض على منزل مهدم قديم فى برج العرب رحبت وازداد حبى للمكان وبدأت فى ترميمه والاستقرار به وقد وأعجبنى المكان والجو الصحى وبعد عام فوجئت بإبنى هانى وقد جاء إلى بعد منتصف الليل وقد وجدوا المنزل وقد أصبح له سقف وكهرباء ومياه وأقيم به منذ عام 1990.
- مصير تماثيلك الموجودة فى جنوب لبنان.
- سافرت أبنتى إلى لبنان وأحضرت معها كافة التماثيل التى أمكن إعادتها وللأمانة قام أبنائى وتلاميذى بمساعدتها على صب تماثيلى وعادت الكثير من أعمالى وأقوم الآن بإعدادها للعرض فى مشروع المتحف الذى سوف يكون جاهزاً قريباً.
- لماذا دخلت المعتقل عام 1969 ؟
- سبب غريب دفع بى إلى الاعتقال لمدة سنتين وهو أن ابنتى كانت تريد الانتظام فى منظمة الشباب الناصرى وأنا كنت أرفض هذه التنظيمات وبعد يومين عينت أمينة تنظيم الشباب وساعدتها سيزا نبراوى وكان عندى فى ذلك الوقت معرض بالمركز الثقافى التشكسلوفاكى. وبه بعض التماثيل مثل (مصر والكلاب) وقرد واضع يده على فمه وهى وغيرها من التماثيل الرمزية كما تعلم .
- كان هناك فيلم قد أنتجة مختار العطار عن تماثيلى وقد فقد هذا الفيلم الذى عرض وكان سعد الدين وهبة موجوداَ وطلبوا منى عمل معرض بالاتحاد الاشتراكى فى حلوان وجاء بعض الشباب لمساعدتى .
- وفى يوم من الأيام جاءت ابنتى هاله وقالت لى إن الإخوان قالوا إن بالمنظمة تصرفات غير سليمة مثل وضع كتب الماركسية فوق القرآن أو وضع القرآن على الأرض وهذا لم يحدث على الإطلاق ومن الواضح تسلل الاتجاهات السلفية إلى هذه التنظيمات لهدمها وتدميرها . وتم القبض على الكثير من الشباب .كان ذلك عام 1969 بعد ذلك فى فجر أحد الأيام جاءنى زوار الفجر وطلبت من زوجتى تجهيز شنطة ، وقد اتضح لى فيما بعد أن التهمة كانت عمل تنظيمات وخلية شيوعية . أنها قضية ملفقة بالتأكيد .
- ماهو النحت من منظورك الفنى؟ .
- النحت هو لغة من لغات الفن مثل التصوير والرسم والعمارة والموسيقى والأدب والشعر كل فنان يميل إلى شىء.
- ماهو تصورك عن الكتلة هلى هى دفع بالفراغ أو احتجاب لجزء من الفراغ ، وجود أصم أم وجود متحرك أو وجود حى؟
- يمكن عمل كتلة متحركة ويجب أن تكون متحركة وأن يكون بها فراغ داخلى وهذا ينشىء حركة أنا أهتم بالخط التائه ، خط حائر يثير التساؤل.
- ما معنى الفراغ عندك ؟
- الفراغ يساعد على الناحية الجمالية وعندما تكون هناك كتلة صماء والفراغ المحيط بها يحركها مثلاً عمال التراحيل، العمال كتلة والفراغ بينهم يحرك الكتلة ، عندما أصل إلى تحريك الفراغ للكتلة أكون قد اقتربت الى ما أصبو اليه.
- هجرس هل هو رائد التعبيرية الرمزية فى النحت؟
- صحيح لقد تواجدت فى فترة يحكمها الرعب وعندما عملت لوحة النحت البارز التى يظهر فيها الكلاب تنهش جسد مصر اعتقلت سنتين لقد كان الرمز والفكر هم مشكلتى الأساسية الفن الرمزى يظهر فى الظروف اللاديمقراطية المظلمة . وأعطيك مثلاً بالعصر القبطى أيام الأضطهاد فنجد المسيح كان يرمز له بالحمل أو بالطاووس (الكاتا كومب) وأيام الفراعنة كانت هناك تهكم على بعض القيادات برمزية.
- أيام السجن كانت هناك رموز يستخدمها الفنانون ومختار كان أيضاً أبو الرمزية المصرية ، رمزية نهضوية
، نعم هذا صحيح .
- ماذا تريد أن تقول للأجيال وقد كنت أستاذاً فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية وتعرف الكثير منهم يترددون على مرسمك؟
- أقول للأجيال الجديدة من الشباب الفنانين أنا أطلب منهم أن يثقفوا أنفسهم وأن يقرأوا كثيراً فى الفن والفلسفة والأدب وأن يسمعوا الموسيقى وأن ينظروا إلى حال بلادهم ويعبروا عنها وعن أزمتها وعن آمال الوطن وآمال الشعب . وأنا أرى الآن الكثير من الشباب ` فاضى ` إما إخوانجى أو إرهابى وهذه كارثة وعندما نتثقف كشباب سوف ندرك كل السينايوهات التى تدور حولنا فى مصر والعالم أيضاً.
- كيف ترى مستقبل النحت فى مصر؟
- لو اتجهت الدولة إلى الحلول السليمة للمواقع الهامة فى الميادين . انظر إلى تمثال نهضة مصر وسعد زغلول وغير ذلك روائع ، والآن نجد الزلع والخوازيق فى الميادين ليس هذا مكانها وأتمنى أن أحقق فى أرضى ما أفتقدة فى كثير من الأماكن العامة .
- مشروع المتحف أنت تقوم به الآن؟
- المتحف الآن نقطه إشعاع لكافة المواطنين أنا محاط بكثير من العرب وكانوا يرفضون فى البداية رؤية التماثيل ولكنهم الآن أصبحوا أكثر معرفة بالتمثال وبالخزف وأطفالهم يأتون إلى كل أسبوع ليمارسوا الرسم وعمل التماثيل الصغيرة لقد أصبح المرسم مكان زيارة للأطفال ولذويهم . وإننى أتمنى أن يخرج من هذه الأجيال امتداد لى فى النحت .
- فى مدينة طنطا ولد الفنان محمد حسين هجرس فى 18 ديسمبر 1924 لأسرة متوسطة وهى ذات المدينة الهامة فى وسط الدلتا ، التى أنجبت عدداَ كبيراً من الفنانين المشاهير مثل الفنان فؤاد تاج الدين وجميل شفيق وأحمد عبد الوهاب ، حجازى ، أمين صبح.
- وتحتفل المدينة دائماً بمولد السيد البدوى وهو بمثابة مهرجان دينى وشعبى واسع الشهرة على مستوى مصر كلها ويقول هجرس عن تلك الفترة من صباه كنت تلميذاً فى المدرسة الابتدائية بطنطا وأذكر اسم مدرس الرسم ` صلاح ` وكان هذا المدس هو الباب الأول الذى دخلت منه إلى الإحساس بالفن وفى مولد السيد البدوى فى شارع القصر كان موكب الجمال والأحصنه والطبل البلدى والدفوف والمدائح والتختروان كل هذا كان يلهب مشاعرى وكنت أعمل من الطين الأسوانى تماثيل فى حصة الرسم وفى أحد الأيام طلب من الأستاذ صلاح أن أتأخر فى قاعة الرسم بعد المدرسة ، وكانت هذه البداية وغمرنى الفرح فقد عرفت طريق الفن ووضعت قدمى على أول الطريق` .
- التحق الفنان هجرس بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة حيت تتلمذ على يد الفنانين مصطفى متولى والسجين وإدوارد حتى عام 1948 وسافر إلى روما ليحصل على دبلوم النحت 1950 .
- ثم ليسانس مدرسة فن الميدالية بدارسك النقود بروما عام 1952 ثم أمضى فى عام 1955 تسعة أشهر مع الفنان دينوكوفسكى ببولندا فى تنفيذ أعماله التى عرضت بمناسبة بلوغة سن الثمانين فى المعرض الشامل له.
- وعاد الفنان محمد هجرس إلى مصر حيث اختاره الفنان أحمد عثمان كعضو مؤسس لقسم النحت بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية حال إنشائها 1957 وقد امتد نشاطه إلى المساهمة فى إقامة التماثيل والماسكات التى يحتاجها التلفزيون عند إنشاؤه 1960 بمدينة القاهرة .
- وفى عام 1962 حصل على التفرغ من وزارة الثقافة وحصل على مرسم بوكالة الغورى. - فى إيطاليا مارس الفنان هجرس فن الخزف القديم البابلى والأشورى مما دفعه بعد عودته إلى إعداد أتيليه للخزف مع الفنانه صفية حلمى حسين بحلوان حيث كان هذا الأتيليه مركز إشعاع لعدد كبير من رواده وتلاميذه .
- الفنان محمد هجرس بالغ النشاط فو مشارك دائم فى العديد من المعارض والبيناليات فمنذ عام 1952 وهو دائم المشاركة غزير الإنتاج مرتبط دائماَ بالطبقات الشعبية والكفاح الاجتماعى ، مؤمن بضرورة وضوح الرؤية السياسية عند الفنان .
- الفن والالتزام والشخصية :
- يعتبر هجرس أحد الفنانين الملاصقين للاتجاهات الثورية وهذا هو الأساس ومفتاح شخصيته الفنية . ففى تماثيله عن العمال أو الفلاحين أو حتى الكائنات أو الحيوانات تجد هناك كثيراً من الاسقاطات الرمزية القوية ، ويرجع ذلك إلى ميوله التعبيريه منذ خطواته الأولى فهو دائماً فنان مشحون وهذه الشحنات الداخلية جزء من حساسيته الإنسانية للتفاوت الشديد فى المجتمع بين عالم البشر الذين يدفعون لهم ولغيرهم من الجهد والعرق ويتساءل بينه وبين نفسه هل نتجاهل تلك الطاقات المبذوله من المتواضعين دون التفات لها .
- رفض القولبة وعصية التناول:
- فى تعبير الفنان عن تلك الفئات الفقيرة من عمال التراحيل والبحارة فى النيل وعمال الحقول من الفلاحين والفلاحات جانب سياسى اجتماعى قوى ولكن هجرس لم يكن يعمل كفنان تقريرى على الإطلاق فقد تناولها من حيث هى قضية يتفكر فيها الفنان عندما يبدأ ولكنه عندما يضمن شحناته الإبداعية هذه الأفكار لا يستسلم للتفاصيل وإنما يتصرف بذكاء المبدع فالإنسان هنا عبارة عن كتله رمزية تخضع لمواصفات فن النحت وقد أحب ندرة التفاصيل كما أحب تحريك الكتلة ففى تمثاله العمال نجد مجموعة من الكتل المتدافعة المائلة فى انحناءة حركية تساعد المتلقى على إدراك التدفق الحركى للشخوص التى لا يظهر منها أى تفاصيل . ولعل هجرس هنا يذكرنا بمثال مصر المبدع منصور فرج فى عمله الشهير عمال البناء (موجود بمدخل الفن الحديث) حيث تجد الحركة والعمل بلا أى تفاصيل وفى عمل آخر تنحنى الفلاحة التى تبدو انها تسير على أربع وهى تجمع المحصول ، تبدو وكأنها إحدى لوحات ديجو دى ريفيرا الفنان المكسيكى رائد التعبيرية الاجتماعية .
- الديناميكية أساس الإبداع :
- يقول هجرس لقد كان لفهمى كلمة ديناميكية أثر بعيد فى إدراك أهمية الحركة فى العمل الفنى وهى شيىء غال فى أعمالى.
- فالكتلة المائلة تخلق التوتر وهذا التوتر يجذب المتلقى إلى طرح تساؤلاته وهنا ادفع بإجاباتى وايحاءاتى إليه ليعايش العمل.
- الحركة الديناميكية فى أعمال هجرس :
- تعتبر الحركة عند هجرس هى أهم أركان إبداعه النحتى ، فقد تحول عن فكرة التمثال كجذع شجرة وترجع الأسباب الرئيسية إلى أن النحت عنده لم يكن ترفاً جمالياً من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الخطاب الفنى ارتبط وتمحور حول خطاب جماهيرى كفاحى تعبيرى ولكن هذه الأسباب الفكرية لم تكن هى فقط ، ولكنه أيضاً تعامل بذكاء من منطق الانفراد بشخصية مستقلة بالإضافة إلى تكوينه الإنسانى والثقافى وارتباطه الوثيق بأحوال المجتمع بعد عودته من إيطاليا عام 1952 وهو العام ذو الدلاله من ناحية التوجهات المجتمعية والفكر الذى بدأ ينمو وقتئذ، الفكر الاشتراكى ومجتمع المثقفين وقضايا العمال والفلاحين ومشكلة فلسطين والحروب المتتالية 1956 ،1967 ثم حرب تحرير الأرض عام 1973 .
- هجرس فنان يعيش التوتر الإنسانى تجاه حال الوطن وما مر به من مختلف المواقف معبراً عنها بقوة تعبيرية باطنه ضاغطة تشعل أفكارة وتضيف إليها ثورية وإنفعالاً متأججاً، فهو أن لم يخرج هذه الشحنات التعبيرية فسوف تدمرة وهو فنان يدرك ويعرف قيمة العمل متواصلاً مع كفاح الآخرين متخلياً عن حبه للجمال المطلق واستثارة الحواس لصالح علاقات بصرية .
- لقد أراد هجرس أن تكون له كلمه ووجود مثل وجود محمود مختار الذى عبر وتقمص وعاش ثورة 1919 وتك رموزه وشخصياته التى خلدها بعد تأصلها فى الدفاع عن مصلحة ووجود الشعب المصرى غير عابىء بحياته . ولقد كانت تماثيل مختار تجيش بأفكار كثيرة تشعل وجدان الشعب وتشغله الثورة والنهضة وطرد المستعمر أما قضايا هجرس فهى قضايا طبقية داخل المجتمع ودفاعاً دائماً عن المظلومين والمحرومين فى قاع المجتمع أو الثائرين على المجتمع أو الصارخين فى وجه الظلم ينتقل إلى الثورة على الظلم فى فلسطين وفى العراق وفى سوريا ليعيش التوتر فيتألق وهو أشبه بالذهب الخام الذى تكثفه وتبلوره النيران الحارقه . تمسك هجرس بالحركة وبالتعبيرية لماذا..؟
- لأنه يريد من التمثال أن لا يتوقف عن بث التوتر إلى المتلقى ، فلم يكن يجهل أن الخطوط المائلة أو الكتل المائلة ، المتضاغطة أو المتكاتفة أو المتكاثرة تنقل التوتر من ناحية وتنقل هذه الذبذبات المتأججة فى نفسة أو الكتل التى تعانى من ضغوط غير مرئية.
- ولكن هجرس بعد نقل التوتر إلى المتلقى فإنه يعيد إرسال الشحنة الجمالية مرة أخرى بعد أن جذبت المتلقى فى النظرة الأولى ويعتبر هجرس أن الشكل الجمالى يلعب دوراً هاماً فى الجذب لعين المتلقى للوهلة الأولى ثم يتنحى تاركاَ الشحنة الفكرية التعبيرية تتخلل وجدان المتلقى ثم يعاود بعد ذلك بث القيم الجمالية فيخرج المتلقى بالإشباع المؤثر المتوتر الفاعل.
- يخلق محمد هجرس حوار ديالكتيكى بين القيم الجمالية والقيم التعبيرية والإنسانية لدى المتلقى كما يخلق أيضاً حواراً بصرياً بين جزئيات الكتل داخل التمثال الواحد ولذلك لابد أن نتجاوز عن التفاصيل الصغيرة فلا يحتاج هجرس إلى فاعلية الملامح الدقيقة للتمثال بقدر حاجته إلى فاعلية حركة الكتل وتنويع اتجاهاتها بمعنى أننا لسنا بحاجة إلى ملامح عامل البناء عند رؤية الكتلة التى ينحنى ويئن تحت ثقلها كمثال لذلك .
- شخصية البطل عند هجرس هو إنسان واقع تحت فعل ما أكبر من طاقته ومن طاقة احتماله وقد أكد ذلك فى عدد كبير من أعماله وهى فى الحقيقة تمثل جانب من شخصيته ولكنه تسامى بوضعه الخاص ونقله إلى ماهو عام فحول الهم الخاص إلى هم عام فجمع بين ما هو ذاتى وما هو جمالى يلتقى حوله الآخرون.
- فى أحيان أخرى يتحول البطل عنده من الموقف السلبى إلى موقف إيجابى فتتخذ التماثيل موقف الاحتجاج أو الصياح فنجد عدد آخر من أعماله هى بمثابة صرخة احتجاج أو صرخة ثأرية أو رفض ومن المدهش أنه جسم فكرة الانتفاضة قبل تحققها بسنوات فصور إنساناَ يقذف بقوة بحجر فى وضع حركى فريد ، وهى رؤية مستقبلية تحسب له .
- وقد نجد فى تكاتف العمال أثناء العمل قوة رغم تضاغطهم وتلاصقهم المتتابع المتدافع إلى الأمام هذا التحريض على التعاطف معهم بقوة كما فى تمثال المراكبية أو الثورة على القمع كما فى معظم أعماله عن فلسطين.
- هذا التحريض القوى فى أعمال هجرس هو الركن المؤثر الرائع فى أعماله فالفنان هنا يستوعب الواقع الملموس ويعيش عصره ويحوله إلى واقع آخر محسوس وفاعل لا يقف به عند التعبير الفنى الصامت إنما إلى شحنات فاعلة تحرض على التحرر وعلى السلام والتعاطف مع المظلومين المقهورين فى كل الأحوال .
- يقول عز الدين نجيب فى كتابة أنشودة الحجر : ` لقد كانت أعمال هجرس منذ بدايته الفنية حتى مراحلة الأخيرة ، تحقيقاً رمزياً للحرية والمقاومة للقهر الإنسانى ، وهو فى معالجتها لا يبدأ من الفكرة بل يبدأ من الخامة ؟؟؟ ` ويضيف : ` فى صياغة تنأى عن كل التفاصيل الواقعية ، وتتوخى الدلالة والإشارة والرمز وراء الشكل الذى يعكس قدراَ عالياً من التوتر، والحركة الدائبة `.
- وربما يتحدث عز عن نحته فى كتل الخشب أو الحجر المباشر ولكن فى الحقيقة أن براعة هجرس فى التعامل توحى بذلك أقصد استيحاء الكتلة واستنطاقها بينما هو حقيقة يفرض موضوعه وفكره على الكتلة ويجعلها توحى ببساطة ولقد أنجز هجرس الكثير من أعماله فى الجبس المباشر أو فى الطين وفق تخطيط وتصميم فهو لا يتوقف ولا يستطيع التوقف عن التعبير والعمل من أجل إخراج المشاعر التى تمور بداخله ، هذه المشاعر التى تربطه بقوة بالمتلقى ، فهو إذن لا ينتظر إيحاء الكتلة ولكنه يشرع فوراً فى العمل لتحقيق جمرة من التعبير الذى يؤرقه .
- توجه محمد هجرس مملوء بالعصية والتحديث فهو ينتمى إلى التعبيرية التكعيبية وإننى أجد فى بعض أعماله توجه نحو المستقبلية وهذا هو المدهش فهو نظراً لتمكنه وقوة موهبته يبحر بين الأتجاهات الحديثة ببساطة يحسد عليها محققاً العمل الفنى بما يتناسب أو يتلائم معه من اتجاه فهو فرعونى عندما ينفذ الرليف أو النحت البارز أو الغائر. وهو مكعبى الإنتاج عندما يريد أو مستقبلى عندما يعبر عن التتابع الحركى وهو واقعى عندما ترى كل هذه الاتجاهات ، واقعية بلا تفاصيل لأنها واقعية الفكر والرؤية وليست واقعية الشكل وهو تجريدى أحياناً أخرى .
- يقول عز الدين فى المرجع السابق ` من العنف والاتزان معاً ، لخطوط الحركة والتكوين والسطوح المكعبية والكتلة بفراغاتها الداخلية وما يحيط بها من الخارج من فراغ ، موحية فى مجملها بقدر هائل من الاندفاع أو الانطلاق أو التأزم أو التجاوز متجهه بذلك نحو تعبيرية تنبذ الأكاديمية بكل أشكالها.
- الفنان هجرس يمرح بين الاتجاهات ينتخب منها ما يفيد التكوين والفكرة فهو مثال نادر للفهم الواعى لفن النحت المعاصر نذر نفسه لقضايا الإنسانية ولا يتوقف لحظة عن التناول الجاد المؤثر .
- يقول محمود بقشيش فى مقال بجريدة المساء 1975 :
- ` إن الكتلة عند هجرس .. تبدو معبرة بقوة ضاغطة عليها من الخارج وفى نفس الوقت متحدية لشكل ما.. ومشتبكة مع قوى غير منظورة خارج حدود فعل وجود المنحوته وتبدو ` دراما ` المد والجزر هذه ممثلة فى وسيلة التعبير...الجسد الإنسانى الذى يحوره حتى يصبح صرخه مدوية مثل منحوته ` أناديكم ` حيث تمتد الذراع اليمنى .. وتستطيل مبالغاً فيها .. وتمتد باحثة عن شيىء ما مستقر فى قاع سحيقة .. الجسد يبدو بتضاريس أشبه بجبال وكهوف.
- ويضيف بعد ذلك ` إن الأجساد البشرية التى يبدعها ليست أجساماً للشهوة... ولكنها مجال لدراما الواقع المصرى الذى يغوص فيه الفنان ويقاتل من أجل ` بسمه ترسم غداً على الشفاه . و إذا كان هذا هو مضمونه فموضوعه هو الطبقات الكادحة المصرية : ` عمال التراحيل ، جامعه البطاطا ، الأم المصرية الفقيرة ، الحمالين ` .
- يقول الناقد محمد شفيق فى مقال له بمجله سنابل العدد الأول 1969` لقد تمرد هجرس على المفهوم السائد للنحت وكان على النقد أن يكون على مستوى هذا التمرد حتى يتيسر له استيعابة وتقييمه .
- لقد بدأ تمرد فناننا فى محاولة تكسير المفهوم الاستاتيكى ` السكونى ` للنحت ، الذى بدأ مع فناننا الكبير محمود مختار فى أوائل هذا القرن ، والذى يمكن أن نعثر على أصولة الجمالية فى كلمة بودلير الشهيرة ` إننى أكره الحركة التى تفسد جمال الخط `.
- ويضيف فى موقع آخر إن الأمر الذى ينتسب لهجرس وحده هو جذرية تمرده وعنفه فعلى النقيض من استاتيكية مختار نجد ديناميكية هجرس المشحونة بالتوتر والعصبية.. والنماذج التى يختارها للتعبير عن عالمه هى دائماً نماذج مشحونه بالتوتر ، متقلصة ، مشدودة . عمال الجبل ، إن العمال الأربعة يتحولون إلى كتلة متلاصقة متكاتفة ومتلاحمة ، فهم يعانون ضغطاً واحداَ هو ثقل كتلة الصخر الممدودة على رؤوسهم .. أو الحركة المتقلصة لقط متوحش يفترس طائر صغير ويضيف فى موضع آخر كل هذه الأعمال النحتية إنما تجىء هنا لتعبر عن موضوع واحد لا يفارق هجرس : عالم معذب ، مشحون بالألم ، قاس ، ووحش، بل وحيوانى فى بعض الأحيان ، ولكنه يقاوم ويستميت فى البقاء ويتحدى كل عوامل تفككه وانهياره .
- هذا هو هجرس طاقة فنية مشتعلة فى حركة دائمة تنادى بتغيير الواقع وبتحرير أرادة الآنسان .
بقلم : مكرم حنين
من كتالوج دراسة فى إبداع خمسة مبدعين مصريين
مدخل مصرى إلى الشكل العالمى ..محمد حسين هجرس
-.. الموهوبون فى جميع أنحاء العالم قلة، وأقل منهم.. العباقرة، لكن هذه القلّة القليلة هى التى تسطر تاريخ العلوم والفنون، وتدفع الحضارة الإنسانية إلى أمام، ومع أن الفرق بين الموهوب giffed والعبقرى genius ، إلا أنهما يتفقان فى النشاط العقلى المعرفى، الذى يسعى إلى التكيف مع المتغيرات الثقافية والفنان الموهوب: هو من ينتج أعمالاً شيقة.. ممتعة.. مثيرة.. جذابة، فى إطار معروف أو نظرية معينة، كالكلاسيكية أو الرومانسية أو الانطباعية أو التجريدية.. الخ، أما العبقرى فهو: مؤسس ومنشئ هذه الأساليب ومبتكر صياغتها، ومبدعها كحلول تلبى احتياجات التغيّر الثقافى، ثم هناك ضرب ثالث من العظماء هو: الفنان الماهر talented، صاحب الكفاءة العالية والأداء الدقيق المتميّز، والبراعة فى استخدام الأدوات والخامات..
- أبرز مثال للعبقرية فى عصرنا الحديث هو: بابلو بيكاسو (1881-1973)، لأنه منشئ الأسلوب التكعيبى qubism، ورسم به لوحته الشهيرة `فتيات أفينيون` سنة 1907، كما أنه - دون غيره - حوّل مسار فن التمثال فى القرن العشرين، حين صنع رأس الثور سنة 1908، من تجميع مقعد الدراجة ومقودها، أما صديقه العظيم: جورج براك (1882-1963) فنموذج للموهبة الفذة، لأنه تناول الأسلوب التكعيبى منذ أن شاهد لوحة صديقه بيكاسو، ومضى به إلى منتهاه المتكامل، وأما الفنانون الأكفاء البارعون، فيشكّلون الغالبية العظمى ممن ترد أسماءهم فى القواميس ودوائر المعارف فى مختلف العصور، ففى عصر النهضة الإيطالى، نصادف رسامين ملونين يصارعون: ليوناردو دافنشى (1452-1519)، لكنه هو العبقرى الذى ابتكر `نصف الظل` sfumato، مما نقل فن الرسم والتلوين إلى عالم التجسيم، بعد التسطيح الذى ساد العصور الوسطى وما قبلها، ومن الأمثلة البارزة للكفاءة والمهارة وقوة الأداء، المناظر الطبيعية التى أبدعها الرسام الإنجليزى: وليم تيرنر (1789-1851) بالألوان المائية والزيتية، فهى جذابة ومثيرة وجميلة، ذات مسحة انطباعية قبل أن يظهر الأسلوب الانطباعى فى باريس سنة 1874، لكنها فى إطار العصر ولا تنشئ أسلوبا جديداً.
- المثال: محمد حسين هجرس (66 سنة)، يضمّن إبداعه جانباً من كلّ من هذه الصفات الثلاث: العبقرية.. والموهبة.. والبراعة، ويشكل مَعْلَماً على طريق فن التمثال، بعد إشارة البداية التى أطلقها: محمود مختار (1891-1934) صاحب تمثال نهضة مصر، ورفيق طريق للمثّال جمال السجينى (1917-1977) صاحب تمثال العبور، وإن أختلفت بينهما السبل وتنوعت اتجاهات التعبير، لقد تزاملا فى دراسة فنون التمثال والميدالية فى أكاديمية روما (1947-1952) ثم عادا لتدريسها فى مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة، لكن هجرس لم يحالفه الحظ لافتقاره إلى العلاقات الشخصية والمصادفات الحسنة، التى أسعفت السجينى، والتى تساعد الفنانين عادة على التوقيع فى سجل التاريخ.
- هكذا أصبح السجينى مدرساً فى مدرسة الفنون الجميلة العليا، ومضى هجرس يبدع تماثيله مجسداً آلام المجتمع والناس. يستمد موضوعاته من تجربته ومشاهداته ورؤاه، من البيئة الثقافية والطبيعية، مستخدماً الرمز ومسبغاً إنسانياً على الكائنات التى ينحتها فى الخشب والحجر أو يشكلها بالصلصال أو الجص. فالقط.. والسمكة.. والذئب العاوى.. والغراب الجاثم على الجيفة، والأسدان اللذان يلتهمان بعضهما: كلها تشير إلى قضايا إنسانية ومصرية. وهى مدخل المثال إلى دنيا الأسلوب التعبيرى والرمزى، كما كانت مدخلاً لرواد التعبيرية الاجتماعية الألمانية أمثال: ماكس بيكمان (1884-1950)، الذى كان يرمز للإنسان بالحيوان، وهو مدخل قديم رسم به المصريون الأوائل مجلس الفئران، التى تريد تعليق الجرس فى عنق القط، كما روى به الفيلسوف الهندى بيدبا قصص كليلة ودمنة، التى ترجمها عن الفرسية عبد الله بن المقفع سنة 750 ميلادية، وهى حكايات تجرى فى عالم الحيوان لكنها ترمز لما يقع بين البشر وموجهة إلى الملوك والساسة، ليتخذوا من أحداثها عظة وحكمة.
- مضى هجرس يجسد خلجات نفسه وخواطر عقله وصور خاليه، وإذا كان مختار قد مزج بين شاعرية الفرنسى: أوجست رودان (1840-1917) وجلال التمثال المصرى القديم، وكان السجينى يمد جذوره إلى مبادرات مختار الرومانسية، مستطردا إلى أساليب تكعيبية وتجريدية، تؤكد قوة تعبير موضوعاته التى تناولت القضايا المحلية والأفريقية والإنسانية، فإن حسين هجرس يجمع بين عدة أساليب، ويغوص إلى جوهر المعانى الإنسانية، ويحدثنا بلغة المشاعر والأحاسيس، التى نلمسها فى الخطوط المنحنية والحيوية الدافقة، التى تضفى الحركة الدرامية على تماثيله النابتة، حتى ليخيل الينا أنها كائنات رأيناها من قبل. مع أنها تتسم بالبلاغة المفرطة، من حيث إسقاط التفاصيل عن الملامح إلى أقصى حد، فلا يبقى من الكائنات سوى الروح، والتعبير المجرد، الذى لا يخطئه الحس الإنسانى بحال من الأحوال.
- لما كانت التكليفات الفنية فى العالم الثالث، تلقى على عاتق الموظفين وأساتذة الفنون دون غيرهم فى معظم الأحوال، لم تتح الفرصة لفناننا الكبير لإظهار مواهبه وإثبات نبوغه وتأكيد مكانته بعمل ميدانى صرحى كبير، وظل يخوض بحار الإبداع كفنان حر غير مقيد بمنهج أو تعاليم أو فلسفة.. وكم دفع ضريبة تلك الحرية الإبداعية من حريته الشخصية .
- ربما كان يصور حياته الذاتية حين أبدع تمثال `الجمال` أثناء إقامته فى معسكرات الفلسطينين بسوريا سنة 1988، تشكيل مباشر فى الجص بارتفاع 90سم بلا أى تفاصيل، يجمع بين القيم الاستطيقية والمضمون الإجتماعى، فى مجسم إنسانى الهيئة، يحمل شيئا ضخما يتخذ مكان الرأس والكتفين فى تعبير بليغ فصيح عن جوهر حركة السير.. والصلابة فى مواجهة الصعاب، كأنه صياغة تشكيلية للنشيد الفلسطينى القائل: فى يدى غصن الزيتون وعلى كتفى نعشى.. وأنا أمشى وأنا أمشى..
- إلا أن الفلسفة الاجتماعية الليبرالية لدى هجرس ليست وليدة اليوم، بل كانت منذ البداية وراء التأثير القوى والحيوية الدافقة فى إبداعه المبهر، فالموهبة تتألق حين تجد ما تقوله، وتكشف عن عطائها فى الأسلوب والصياغة وحيل الصنعة، وتطرح معايير استطيقية وجمالية حديثة تناسب المتغيرات الثقافية، ولو تأملنا تماثيله الباكرة سنة 1947 منذ 43 عاما للمسنا كيف استلهم البيئة المحلية، للتعبير عن أرفع القيم الإنسانية وعذابات الطليعة فى كل العصور، نلمس هذه المعانى من خلال تشكيلات مبتكرة غير مسبوقة، ومعايير فنية جديدة ذات أصول كلاسيكية رصينة، فقد أبدع حينذاك، سلسلة تماثيل من طراز السهل الممتنع، مستقاة من مشاهد المراكبية، الذين كانوا ينتشرون على ضفاف النيل أيام التحاريق قبل بناء السد العالى، يسحبون مراكبهم الشراعية المحملة بالبضائع، بعد أن عزت الريح وأبطأ التيار يشدون الحبال الغليظة إلى الخصور والصدور، ويندفعون إلى أمام يكادون ينكفئون على الوجوه، لولا أن الحبال تقيدهم إلى أقدار لا فكاك لهم منها. هكذا رمز فناننا الكبير الى أصحاب الرأى والمبدأ، المرتبطين برسالتهم الإنسانية.
- تكوينات غريبة مثيرة وجذابة، ذات عنصر واحد أو أكثر، لا نشاهد فيها مراكب ولا حبال لكننا نشعر بوجودها لفرط الصدق فى التعبير والتكامل بين الشكل والمضمون، سرعان ما ندرك رمزية العناصر الظاهرة منها والخافية، ونتعرف على المضمون الإنسانى الرفيع، والحركة المتدفقة بلا هوادة، والصلابة فى مواجهة المشاق. تتضح تلك المعانى من خلال تشكيلات وتضاريس وايقاعات غنية بالقيم الاستطيقية المجردة، التى تجتذب العقل والخيال وتدعو الى التأمل ومراجعة مواقفنا من الحياة..
- لاشك فى أن هجرس من أقدر المثالين على التعبير عن المضامين الإنسانية والاجتماعية، بأسلوب حديث يوجد ليبقى. ومن أقدرهم على اكتشاف الشكل الذى يجسد المعنى، فى قالب عصرى يتخذ من التجريد لغة ناطقة بوضوح، ومن أروع أعماله فى هذا السياق تمثال بعنوان النجدة أبدعه سنة 1962، حين أهدته الدولة منحة التفرغ الفنى ومشغلا بوكالة الغورى. عبر فيه عن الرغبة فى مساعدة الآخرين، بينما يكون الموقف فوق الطاقة. تبلور هذا الشعور فى صدره وخياله وعقله، حتى حشد له كل مواهبه وامكاناته فتحول الإحساس الى سلوك على هيئة تمثال من النادر أن نلتقى بمثل تكوينه الغريب الفريد، فلابد أو يوضع على قاعدة مرتفعة، تسمح بتدلى الذراع القوية الضخمة الطويلة، التى تكاد تلخص كل الجسم البشرى الجالس فوق القاعدة، تتدلى لكى ترفع كائنا مهزوما لا نراه، لكننا نكاد نسمع استغاثته، مع أننا فى نفس الوقت نشعر بأن صاحب الذراع الممدودة يبذل أقصى ما يستطيع من طاقة وجهد دون جدوى.
- تعتبر هذه التحفة من روائع الإبداع المعاصر ليس فقط لفرط حداثة تكوينها وخروجها على مألوف التقاليد الكلاسيكية، أو لإهمال الملامح وتعميم التضاريس، واسقاط التفاصيل وبلاغة الصياغة، ولكن أيضا لقوة التعبير ووضوح المضمون وتكامله مع الشكل فى وحدة مدهشة، قلما نلتقى بمثلها فى المجسمات الحديثة. بالإضافة إلى الإثارة والجاذبية واستنفار خيال المتلقى، ورفع معنوياته وتزويده بقيم جديدة تعوضه عن القيم التى فقدها أثناء التغير الثقافى الذى لم يتبلور بعد!
- أمضى هجرس عشر سنوات متوالية مرافقا لمنظمة فتح الفلسطينية، معايشا لواقع حياتها ومتصلا بقضية الحرية، أبدع خلال تلك السنوات عددا من التماثيل تجسد أرفع معانى الفداء والانتماء والتضحية. نحتا فى الخشب تارة وفى الحجر تارة وشكلها فى الجص المسلح بالسلك والأسياخ تارة ثالثة. نزح الى سهل البقاع سنة 1978 وشيد مشغلا حافلا بالأدوات والخامات وأفران الخزف، فالتف به شباب المقاتلين وتلاميذ وحواريين، يعلمهم ويراعى مواهبهم ويدخل البهجة على قلوب المعوقين، ودبت الحركة الفنية بينهم، تلطف من جفاف العيش بين رائحة البارود وأشلاء الضحايا. أقيمت المعارض الفنية وعقدت الندوات الثقافية. والتقى مثالنا الكبير بالأمثلة الحية لما يشعر به من قيم إنسانية فجسد خياله فى سلسلة من التماثيل، تتسم بجزالة المعنى وقوة المضمون وواقعية الموضوع، بالرغم من البعد الشاسع الذى يفصلها عما يعرف بالمحاكاة. إلا أن البلاغة التجريدية للواقع الثرى، تحتفظ بسحرها وطاقتها واشعاعها وعمقها، على عكس التجريد العبثى الذى ينتجه مثالون ورسامون بين جدران أبراجهم العاجية!.
- .. لكن الاجتياح الإسرائيلى ما لبث أن اكتسح جنوب لبنان فجأة كالاعصار وزحفت الدبابات الصهيونية على سهل البقاع، لتطفئ شعلة الثقافة الإنسانية التى أضاءها هجرس فى مشغله، فحطم تماثيله ولملم ما خف حمله من متاع، ومضى بزوجته وأولاده فى ضوء القمر فى جنح الظلام، يخترق طريق القصر سيرا على الأقدام طوال سبع ساعات فى أحد أيام الصيف. سار فى خط متعرج للتمويه على الأعداء، متسترا بأطلال الاثار الرومانية القديمة، حتى بلغ حدود سوريا وقد أخذ التعب منه ومن جماعته كل مأخذ. هناك حملته سيارة إلبى حيث استقر مرة أخرى فى رحاب المنطقة فى قرية `المنارة` التى كانت منطلقا للانتفاضة فيما بعد، وأقام مشغله وأفرانه من جديد ليكون قبلة فتيان الفدائيين ذوى المواهب الإبداعية.
- هذه المواجهة التى استمرت حتى عام 1988، بين محمد حسين هجرس وأعماق قضايا عالمنا العربى ومآسيه، وصراع الموت والحياة بين القهر الصهيونى وحقوق الإنسان، كان لها أبعد الأثر على بلورة المضمون الإنسانى الذى تنضح به تماثيل هجرس، منذ التحاقه بمدرسة الفنون الجميلة العليا سنة 1946 قبل سفره إلى إيطاليا. هذه المواجهة الأخيرة طوال عشر سنوات متوالية، وما حفلت به من تجارب مريرة، أتاحت لأسلوبه الإبداعى الأصيل أن يتألق بالموهبة العريقة المصقولة ويسفر عن إبداع يلبى احتياجات التغير الثقافى الذى يجتاح العالم بجميع أركانه. إذ أن تماثيله تضع لبنة فى صرح فن التمثال الحديث، وتطرح معايير بديلة، متمثلة فى المفهوم المعمارى لفن التمثال، وكيف يرقى الشكل إلى مستوى الرمز والمضمون ويصبح مدخلاً لفن التمثال الحديث.
- `الفزّاعة`.. أو `البعبع`: تمثال يجسّم الخوف والهلع والقوة الغاشمة البلهاء. مجرد تجاويف ونتوءات وتضاريس، فى تكوين رباعى حركى الهيئة، يتضمن الرهبة ويسترجع صور الطواطم البدائية وما تشع به من سحر غامض، وما يحوطها من أساطير وخيال. تتشابك خطوطه الخارجية والداخلية، كأنها خيط العنكبوت. تعكس إحساساً بالأطراف المبسوطة، فى تكامل متزن يحمل معنى الهجوم الذى لا يقهر. يساعد اللون الأبيض على إظهار تفاصيل دقيقة وتجاويف غامضة تنم عن مواقع الرأس والبطن والأطراف، وتوحى بجناحين أو ذراعين ينتهيان بقبضتين مضمومتين، كأنهما ملوثتان بشئ خطير. والتمثال تشكيل مباشر بالأسياخ والأسلاك والجص بارتفاع 90سم سنة 1971، فى تعبير قوى مجرد عن السجن والعذاب والهول، الذى يلقاه الفلسطينيون فى أرضهم المحتلة.. أو يلقاه الشرفاء كلما غابت حقوق الإنسان.
- يعتبر هذ التمثال من أنجح المجسمات ذات الطابع التعبيرى المجرد، التى ظهرت بين المثالين العرب فى العصر الحديث.
- بنفس الأسلوب، أبدع هجرس فى عام 1976 سلسلة من التماثيل الجصية الواقفة على ساق واحدة. لها سمات الكائن الحى، لكنها ليست إنساناً أو حيواناً أو نباتاً. لا يدهش المتلقى لرؤياها، لأنه يلمس فيها تجسيداً لأحاسيسه الداخلية، وتعبيراً حياً عن الحركة اليائسة لكائنات ترقص على صفيح ساخن. فهى على قدر كبير من الواقعية، والتكامل المثير بين الفرغات والمساحات المسمطة، والاتزان اللطيف الذى يتيح للحركة المجسمة الثابت على قائم واحد، فى تعبير غريب عن الهلهلة النفسية، التى يسقط فى حبائلها الانسان القوى حين تؤخذ عليه السبل، تجسيداً لمشاعر تتناقض مع ما تحدثنا عنه. فى سلسلة تماثيل `المراكبية`، ومع مزيد من بلاغة التعبير الشكلى. إلا أن إبداع هجرس بوجه عام، يتميز بسمة نلقاها فقط فى أعمال كبار المثالين خاصة: ميكل انجو (1475-1564)، حيث نحس بأن التماثيل فى فترة سكون بين حركتين، لن تلبث أن تهب واقفة لتمضى لحال سبيلها، بلا أطراف أو ملامح كأنها كائنات حية غريبة، لكنها مألوفة لعيوننا قريبة من نفوسنا. تعود هذه السمة الفريدة إلى صدق التعبير ومهارة الأداء، والقدرة الخارقة على التحدث بلغة الشكل المستمد من جوهر الطبيعة والحياة. القدرة التى تجلّت قبل أن يبلغ العشرين، فنذر لها حياته وصقلها بالدراسة فى مصر 1947، وإيطاليا 1950، وبولندا 1955. وأقام معارضه فى عديد من الدول العربية والأوربية. كان آخرها فى موسكو سنة 1985، ثم فى القاهرة فى قاعة اخناتون فى الأيام الختامية للعام الماضى 1989. وجدير بالذكر أن الفنانة المعروفة: صفية حلمى، رفيقة فكر وزميلة طريق للفنان الكبير منذ عام 1962. وقد أسفرت تلك الرفقة الثقافية الإنسانية عن إنجازات هامة لكل منهما، من خلال المركز الإبداعى الذى أسساه فى حلوان، وتخرج فيه عدد من شباب الفنانين الحواريين.
- .. تماثيل محمد حسين هجرس تخاطب فينا فطرتنا الأولى التى لا تخطئ الإحساس. تماثيل لا تقرأ (بضم التاء) ولكنها تقول. ففى تمثال `جذور البطاطا`، يصور فى بلاغة مدهشة إنحناء الفتاة الفلاحة على أرض الحقل، لتنزع بكل قوتها شواشى الثمار المدفونة. تجذبها فى عنف يتجلى فى الخطوط المنحنية والذراعين المنبثقين من الجسد النحيل المتوتر فى صبر نافد - مع إغفال جميع التفاصيل والملامح والأطراف. تصوير شبه مجرد للرغبة الجياشة المندفعة نحو الأرض كمصدر للحياة. لا يتضمن هذا التكوين ما يحاكى الواقع، سوى إشارات طفيفة تكاد تختفى، فى غمرة الإشعاع السحرى الحيوى الحركى، الذى يتفجر به التمثال.. شأن كل روائعه.
بقلم : الناقد./ مختار العطار
من (كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الأول )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث