`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
مصطفى عيسى أحمد كمال الدين
اللوحة حاضنة الوطن
- عندما نغيب عن الوطن نمسك أكثر بتلابيبه ونصبح أكثر اكتراثا به،
نتشبث بقلب الوطن حتي لا نضيع وتبقي اللوحة هي تلك? ` الحرقة ` التي عانيناها بعيدا عنه، تصبح هي الملاذ الأخير. يواكب ذلك في سنوات الغربة إحساس دفين بالذنب ناحية الوطن، نتابع آلامه بحسرة من كان بعيداً وقت الألم . من ثم تصبح اللوحة هي حاضنة الوطن نحتبس فيها ذكرياتنا في حضور كثيف كما لو كنا نخشي أن تتبدد في مكان آخر لا رائحة له..
الحوار الذييقيمه مصطفي عيسي مع لوحاته أطول كثيراً من الحوار الذي يجريه مع أي كائن آخر علي الأرض، وهو يبني في دواخله كل ما يعتمل داخله من تأملات حول العالم والبشر ويعترك معها هذا العراك الذي لايقيمه مع أحد من البشر حيث تتوازي طبقات الأداء فيها توازي طبقات شخصيته الجوانية.الشخصية التي تعتمل فيها أشياء كثيرة لاتبدو علي السطح. اختياره لعنوان المعرض: ` وطن لايصدأ` يحمل يقينه بأن هناك وطنا ينتظر عودتنا لم يعل الصدأ شغفنا به ولم تؤد الغربة إلي تآكله داخلنا.
لايغريك هدوء السطح في أعماله فهي تنطوي علي الكثير من التفاصيل لكن لابد أن ننصت لها ونبحث عنها؛ فلوحاته تحاكي تماما مظهره الهاديء الذي يقبع خلفه كيان فائق الحساسية والإنسانية، ولا يخدعك مظهر لوحاته التجريدي فالفنان يضعنا في خديعة التجريد فعلي الرغم من المظهر الخارجي التجريدي لأعماله المعروضة إلا أنها تحفل بالتفاصيل الواقعية المختبئة في عباءة التجريد: أجزاء من مراكب قديمة، كتب قديمة مدفونة في المسطح، صور شخصية وثائقية، صور لأعمال فنية سابقة للفنان، صفحات من أشعار أخيه، بصمة يده، الرسوم الجرافيتية في شوارع مصر، طبقات الورق الملصق، رسوم الطباشير، الديكولاج المصنوع، صفحات من كتب، صور الزوجة، فوتوغرافيا وجوه بسطاء مصريين، السبورة وحروف التعلم الأولي .. تهجي الحياة .. خضرة البدايات . خدوش علي جدار الوطن لعلها تضمن لنا البقاء فيه، حفر بآلة حادة فوق السطح كأنه حفر داخل الذاكرة حتي لا تسقط الأشياء الثمينة في تيار تفاهات الحياة اليومية.
من هنا كان هذا السرد البصري والحكايات التي تنطوي عليها الأعمال ففى هذا المسطح ذي البنية الرصينة المجردة المظهر يقبع وجه الطفلة المصرية الجميلة التي أَحَب ملامحها، إذا دققت أكثر ستري الطفلة تتدثر برداء زوجته القديم ذي الورود، وإذا أغراك التدقيق بمزيد من الاقتراب ستجد خدوشاً ورسوم لقلب محفور وخطوط متقاطعة ووريقات مطوية في عجينة اللوحة. بالإضافة للمفردات الجديدة في هذه المجموعة من رسوم حائطية شعبية ورسوم طباشيرية لزهور وطيور ونجوم وورود وكولاج من رسوم أطفال.
وعند مشاهدة الأعمال يجب أن تمتلك عين بصيرة تدرك فروق اللون الدقيقة ونقلاتها المرهفة ودرجاتها بالغة الخصوصية ويجب أيضا أن تمتلك الرؤية الهادئة لأن النظرة العابرة للأعمال لن تمنحك سوي القشور، إنها أعمال تتطلب أن تُري بتؤدة كما أُبدعت بتؤدة، عليك أن تجتاز نفس مسار الرحلة لتعرف سرها.
وجوه تتسلل من عتمة الجدران تختطف البسمة من الحياة اختطافاً، وجوه تطل من ثنايا بعض الأعمال كخبيئة تتخفي فيها، كثير منها وجوه أطفال تحضنا علي الفعل الأجمل وتلفتنا إلي أن هناك شيئا آخر لم نره بعد. وجوه فقراء قادرين علي صناعة الأسباب الصغيرة للسعادة بصبر ورضا.. وأحيانا تطل وجوه متكلسة متحجرة أو متحرقة أصبحت هي والأرض كيان واحد ذابت فيها حتي لانكاد نفصلها عن تربتها.
كأن الجدران هي التي تبني البشر وليس البشر هم من يبنوها، ففي الجدران فتحات تبدو كنوافذ تطل منها الوجوه علي الحياة وشخصيات تبدو متعلقة بالحياة من خلفها، وعندما تخلو اللوحة من الوجوه تبدو كترسبات جيولوجية ربما هي حصيلة كل الوجوه أو تبدو كبقاع جغرافية شاسعة خالية من العلامات حتي لانربطها بزمان ومكان ما.
تشير وجوه مصطفي للحياة من خلف الأنقاض، ولا يهم هنا إن كانت أنقاض بيوت أم أنقاض أرواح أم أنقاض أوطان، كأنك تكتشف بقايا لعبة طفل في بيت مهدوم، جريدة لم تكتمل قراءتها، كتاب أُهملت أوراقه، صورة فوتوغرافية شخصية في كوم من المهملات، وبقول آخر كأنك تكتشف بذرة حياة وسط هالة موت.
استدعت أعمال مصطفي لدي مشهدا لطالما آلمني: مشهد الجرافات وهي تهدم البيوت القديمة ليهب مكانها هذا النبت الخراساني الشيطاني، كم كنت أتأمل أنقاض تلك البيوت كأنني أبحث عن أنفاس ساكنيها وذكرياتهم، تلك التي لم يبق شاهدا لها وستتحول خلال ثوان إلي تراب ويتم تسويتها بالأرض لتبتلعها كما ابتلعت أجساد من سبقونا وكما تتأهب لابتلاع أجسادنا.
أصبحت أبحث عن تلك اللحظات التي يبث مصطفي فيها لقطاته المسروقة من الحياة لتحتفظ بها الجدران المتهالكة التي تشع رطوبة الإسكندرية وتراكمها الزمني في وسط دولة الغربة مصقولة الجدران التي لم يلتصق بها شيء أو ذكري، حتي ما صنعه من ذكريات خلال سنوات الغربة حفظها فوق لوحاته حتي يعود بها معه للوطن. اللوحة هي وطن المغترب.
ويستطيع مصطفي رغم تعقد التقنية التي يستخدمها أن يحتفظ بشريان الإحساس ناحية الأشياء التي يصورها، كأنه بحكم التجريب المتواصل مع السطح أصبح يستشرف حياة اللوحة ولاتقلقه مراحل الاستكشاف فهناك شغف بالتقنية يوافقه الأداء التعبيري الموافق لهذا الشغف.
في النهاية فإني اعتبر ذلك النص الموجز القصير ليس نصا نقديا يعني بالبنية الشكلية لتجربة فنان بل هو نص مواز للوحة الإنسانية تحرضنا علي البوح.
هي ليست مجرد عمل فني بل مساحة للشجن والانعطاف علي الذات نتشاركفيها مع الفنان.
د. أمل نصر
أخبار الأدب - 2017/4/2
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث