`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
زكريا أحمد الزينى

ـ عندما شاهدت لوحاته عن ` الزهور ` فى آخر معارضه منذ شهور قليلة طافت بذاكرتى طيوف لوحات بعض كبار مصورينا التى دارت حول نفس الموضوع ووجدت أن كل ما بدا لى ناقصاً فى لوحاتهم قد اكتمل فى لوحاته وبمعنى إضافى كشفت لى لوحات زكريا الزينى ما فى مناهجهم من نواقص ، جمعت لوحاته فى توازن دقيق بين ثنائيات متكاملة جمعت بين البناء والحس الشعرى ، بين الصراحة الساخنة فى اللون والصراحة الباردة ، بين مصادمات الدرجات الظلية العريضة وفقاعات من الضوء منتشرة بين الاحتفاظ بالأساس التكوينى للوحة عصر الأحياء والتخلص من ثرثرة تفاصيلها بين البراعة الفائقة والحساسية الفائقة
ـ عندما سألنى أحد الاصدقاء عن رأيى قلت دون خوف من أفعل التفضيل أو نفور منها ربما لأول مرة أن زهور الزيتى هى أفضل زهور فى التصوير المصرى إن هذا الوجه أعنى وجه اللقاء الأخير الذى أراده الفنان أن يكون مشرقاً ومناسباً لوداع محبيه ليس هو الوجه الوحيد بالطبع فثمة وجوها أخرى قد ظهرت عبر رحلته الإبداعية وتأرجحت بين البهجة والحزن وبين الثراء والتقشف
وشكلت بتنوعها خطاباً جمالياً وأخلاقياً ينسج وجوده من الواقع الاجتماعى وربما كان زكريا الزينى هو أول من نبه بفنه للأشياء المهملة بلوحاته النفايات ولم يرسمها لكى ينفرنا منها وهو كرسام يجيد الرسم ومصور يجيد فن التلوين والتجسيم ، أول فنان مصرى استلهم رمز القناع وأضاف إليه ما أعده جيدا فالأقنعة التى نشاهدها فى الرسوم التعبرية فى المدرسة الألمانية ونعرفها عن المسرح الإغريقى تعنى ضمناً وجود حقيقة خافية أو كامنة تتناقض معها أما عند الزينى فقد توحد القناع ، وإذا إكتفينا بالزهور قلنا إنه فنان متفائل وإذا إكتفينا بالاقنعة قلنا إنه متشائم. وإذا اكتفينا بلوحاته عن النفايات قلنا انه بين .. فأيهما كان زكريا الزينى الاجابة من اين انه لم يكن فناناً وانساناً ذا بعد واحد فقد كان يشارك الناس احزانهم وأفراحهم كان يغضب ما يستحق الغضب وبالذات مايجرح كرامة الانسان ولم يرسم تلك الاقنعة ليدعونا الى اليأس بل يحزرنا منه ولو كان يائساً ما قدم لنا زهوره المشرقه ولا أحال نفايات الطريق الى لالىء.
محمود بقشيش


يعتبر الفنان `زكريا الزينى` شأنه شأن الكثير من المصورين الذين يعدون الطبيعة او الواقع الحياتى رافداً يمدهم بالعطاء السخى من الميزات الجمالية وقوانين البناء والتشكيل التى تعينهم دوماً وأبدأ على مواصلة رحلة الفيض والابداع.. و`الزينى` وهو يذهب الى تلك الروافد مستلهماً ومسجلاً برسومه السريعة مشاهداته وانطباعاته لايذهب إليها دارساً ومجوداً.. وإنما يذهب اليها ليلتقط ويختزن من تلك المشاهدات مايعينه على التعبير عن أحاسيسه وأفكاره فهو حين يشرع فى الرسم يسدل الستار على مايراه وما يثيره من نماذج مرئية واقعية، ويرسم مايتوافق مع رؤياه الخاصة سواء كان منظراً طبيعياً كالبيوت والأزقة والشوارع، أو موضوعاً شعبياً كالافراح والمآتم، أو الزار والموالد حيث تتحول الاشكال لديه إلى مفردات ورموز خاصة يؤلف منها عوالمه الفنية التى تبدو موازية للطبيعة أو الواقع فى جوهره. ورسومه من المناظر الطبيعيةالتى سجلها فى ايطاليا أثناء بعثته الدراسية فى أوائل الستينات تعكس شغفاً بعلاقات الخطوط والأضواء والمساحات والكتل والملامس.. وتمكنا فى الاداء بالقلم الفلوماستر. ليس فقط من ناحية مهارة التسجيل لتناغمات الخطوط وايقاعات الاضواء والكتل.. ولكن من ناحية إدراكه العميق لطبيعة وخاصية المكان واستخلاص القيم الجمالية وهى قيم - تشكيلية وتعبيرية - انظر الى الرسوم التى سجلها فى ايطاليا عام 1963 وفى مناظر البيوت بدت أكثر سكونية مع الاحتفاظ بالشكل الطبيعى. ثم مناظر لبيوت بدت محورة قليلاً اشبه بالكتل الخزفية الضخمة او النحيفة، مكسراً بذلك قواعد المنظور البصرى بادئاً برحلة نحو التكعيب للأشكال ثم مروراً الى أشكال أكثر تحويراً وأقل تمثيلاً للواقع..
مثال على ذلك رسم بعنوان- شباك صيد بقلم فلوماستر 1965 - تبدو شباك الصيد المعلقة على حواملها كما لو كانت `راقصات باليه يؤدين رقصات عنيفة الايقاع تخلفت من تداخل اجسامها مساحات بينية تتحاور فى صخب بسبب حركة الخطوط المتقاطعة فى حدة.. داخل الدائرتين أو خارجهما. وفى مثال آخر لمرحلة لاحقة من أعماله فى أواخر الستينات - مرحلة الموضوع الشعبى- حيث أصبح الشكل أكثر اقتراباً وانتماء الى الواقع نجده قد آثر التعبير عن تلك المرحلة برسومات عديدة يتناول فيها `الإنسان` كمضمون اجتماعى بأسلوب بالغ البساطة، وبالغ التعبير. يعد `الزار` أبرزها كرقصات إيقاعية يتمتع بها مؤدوها، وانما كحالة يختلط فيها `الجنون بالوجد` فتنطبع على الوجوه ومظاهر مؤديها انطباعات تعبيريةعنيفة، وقد استهوته تلك الإيقاعات النغمية الحادة، وكذلك تلك الحركات العنيفة من حيث الشكل لا كمثيرات مرئية وحسب، إنما كواقع عاشه واختلط به.. ذلك حيث أن الخط فيها لايبدو محدداً للأشكال قدر ما يبدو محدداً لحالة نفسية وذهنية أثرت بشكل مباشر فى سيره على السطح، مرتعشاً تارة، أو منطلقاً تارة أخرى، دائراً حول نفسه فى عصبية وكأنما ينحت به شكلاً صخرياً، وبرغم ذلك يبدو الخط رشيقاً يسير فى استمرار يتوقف عند البصر عندما يغلظ بعد تحول ثم يعود لتحوله ثانية، فتضع المساحات الغليظة فيه مايشبه نقاط ارتكاز للبصر يتوقف عندها ليلتقط انفاسه، ثم يعود للانطلاق مع الخط ثانية حول الشكل فى دائرة مستمرة. وهكذا أن الرسوم التى يسجلها الزينى وهى عديدة ليست بالضرورة أن تكون إعداداً للوحة أو حتى مشروع لوحة أنه يرسم فقط من أجل استجلاء الفكرة أو استدعاء تصوره الخاص لما سوف يكون عليه عمله الفنى القادم من هنا تنتفى صفة العلاقة المباشرة بين الرسم المبدئى والمنتج الفنى النهائى فهو كثيراً ما يفضل الرسم والتلوين مباشرة على سطح القماش أو الخشب كى يحتفظ دائماً داخله بدفء المشاعر وطزاجة الانفعال وقوة الخيال وعفوية التعبير وتألقه.
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
مولد يا دنيا وزيارة جديدة لزكريا الزينى
- يعد الفنان التشكيلى الراحل زكريا الزينى ` 1932-1993` واحداً من أهم الفنانين التشكيليين المصريين الذين قدموا إسهامات فنية تحمل خصوصية مصرية واضحة، وهو فنان موهوب له طابع مميز على الساحة الفنية المصرية الحديثة، ومن هنا تأتى أهمية معرض `مولد يا دنيا` بجاليرى سفرخان الذى يضم مجموعة من إبداعات الفنان الراحل، وهى مجموعة فنية متعددة ومتنوعة تكشف عن مهارته فى تصوير ونقل القضايا المختلفة من خلال تقنيات مميزة.
ويتسم المعرض بأنه يتجاوز فكرة الموضوع الواحد إلى تصوير الحياة المصرية فى مختلف أشكالها، ولهذا نجد به موضوعات متنوعة كالسحر الأسود، والخرافات والممارسات الشعائرية غير الدينية التى تنتشر فى الطبقات الاجتماعية الأكثر فقرا فى مصر، والمناظر الطبيعية والبورتريهات والمرأة فى المجتمع الشرقى وما تتعرض له من الاضطهاد.
وفى أعمال المعرض التى تتجاوز العشرين عملا يقدم الزينى لنا نافذة رائعة تكشف عن تمكنه كرسام من خلال الرسوم التوضيحية، والأشكال الهندسية وكذلك الكتل المحتشدة داخل اللوحات، وإطارات من التجريد والأشكال الغامضة والظلال التى مزجت مع كتلة الألوان لإنشاء تشكيلات فنية، وكذلك الأشكال البسيطة أو الشخصيات البشرية إلى الواقعية الشديدة فى البورتريه والمناظر الطبيعية.
والمعروف أنه خلال المسيرة الفنية للفنان الزينى قدم مجموعة من المراحل الفنية منها مرحلة المولد والزار وطقوس الاحتفالات الشعبية، التى تأثر فيها بالسيدة زينب ذلك الحى الذى ولد ونشأ فيه، وهو ما جعله يحمل تراثا ضخما فوق كتفيه وهو ما أثر فى تكوينه الفنى فيما بعد، سواء فى مشروع تخرجه فى كلية الفنون الجميلة عام 1960 الذى كان عن مولد السيدة، أو فى تجربته الفنية ومنها رصده لعالم الزار الذى اقتحمه الزينى مسجلا بالاسكتشات ملامح وطقوس هذا العالم الملىء بالصور والتفاصيل ليختار إحدى علامات هذا الحدث، وهى العروسة التى أصبحت عنده الموديل التى تجتمع فيها شخصيات المجتمع، وله مرحلة مهمة هى النفايات التى سلط الضوء عليها فى الثمانينيات اعتراضا على حجم القمامة فى حياتنا باحثا عن الجمال فى القبح، وهناك مرحلة توابيت النساء المتحجرات مستفيدا من وجوه الشخوص فى الفن القبطى ومعبرا عن الجمال الأنثوى فى الشرق، وهناك مجموعة لوحات الزهور وهى ذات إشراق وجمال مكثف وذات لمسة شاعرية.
• الجانب الفلسفى
ويصل الزينى إلى الأقنعة - وهى كما يقول الناقد والفنان محمد الناصر- آخر مراحلة الفنية والتى اتخذ فيها الجانب الفلسفى، حيث لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم ليرتفع القناع بواسطة عصا بلا حراك لا حول لها ولا قوة تلك الأقنعة وخيوط موضوعاته التى تربطه بجذوره فى المولد ليستلهم الأعلام التى يحملها الناس ويحولها إلى أشكال مستطيلة تميزها ألوانها من خلال علاقات بين الأشكال والألوان فى تصميمات محكمة وحسابات التكوين بنظرة فلسفية مفادها أن الناس داخل مساحة واحدة، ولكن كل فرد يعيش داخل المربع الخاص به وفى النهاية فالمساحة الكلية تحتوى هذه المربعات.
• مفردات خاصة
وزكريا الزينى - بحسب دكتورنا الراحل الفنان التشكيلى السيد القماش فى قراءة له فى أعمال الزينى- هو واحد من المصورين الذين ينهلون من الطبيعة كمصدر فنى، لكن بعد أن تتحول الأشكال والعناصر والألوان داخل معمله الخاص بالرؤية، حيث يتبلور فيها الحس الصادق والأداء العالى والوعى بحركة المجتمع والتطور إلى مفردات خاصة يؤلف منها أعماله مؤكدا أنه- أى الزينى - لم يكن هدفه تسجيل الواقع لونيا وخطيا، بل كان يعمد إلى خلق حوار متوازن بين الشكل والمعنى مستلهما فى جانب كبير من تلك الأعمال الواقع الشعبى وهو مصور يعشق اللون والفرشاة ويجيد التعامل والجمع بينهما.
وجدير بالذكر أن الزينى تقلد عدة مناصب منها أستاذ ورئيس قسم التصوير الأسبق بكلية الفنون الجميلة - جامعة حلوان، وكيل كلية الفنون الجميلة الأسبق لشئون التعليم والطلاب، عمل كرئيس لقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالمنيا بالانتداب، وهو حاصل على دبلوم كلية الفنون الجميلة بالقاهرة قسم التصوير 1960، دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة بفينيسيا قسم التصوير 1964، دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة برافنا قسم التصوير جدارى 1966، ومثّل مصر فى العديد من المعارض الدولية، وحصل على الجائزة الأولى `تصوير` بينالى الإسكندرية 1991، ورحل عن عالمنا فى العام 1993، وله ابنتان وولد.
زين إبراهيم
صباح الخير - 2017/2/28
شباك بلا ترباس
- تنطوى متابعة خطوات النمو فى الجماد والنبات والحيوان على تجربة ذهنية ونفسية غاية فى الإمتاع والإثارة .. وأكثر منها إمتاعاً قراءة رحلة الفنان عبر إنتاجه ، أو مجموعة من إنتاجه فى فترات متباعدة ومراقبة مراحل تطوره أثناء نموه وتمدده طولاً وعرضاً وعمقاً ..
- والمعارض الشاملة التى يقيمها الفنانون من حين لآخر هى بمثابة محاولة لاختزال السنين الطوال ، وتركيزها فى حيز ضيق من الزمان والمكان لكى يتسنى الإحاطة بالفكر المتطور النامى فى إطار يضم الماضى والحاضر مجتمعين.
- ويدعونا الفنان ` زكريا الزينى` لمشاهدة معرضه المرحلى الشامل الذى يقيمه فى المركز الثقافى السوفيتى ، والذى يضم مختارات من أعماله ابتداء من مشروع البكالوريوس الذى تقدم به لإنهاء دراسته بكلية الفنون الجميلة سنة 1960 كعلامة عند مفترق الطريق أو مروراً بفترة بعثته الدراسية لإيطاليا ثم بعد عودته منها ليصبح عضواً بهيئة التدريس بالكلية التى تخرج منها..
- وبالحوار العميق مع هذه الأعمال ذات الأعمار المتفاوتة ،نتبين أنه بالرغم من اختلاف أثوابها ، وبالرغم من التفاوت الواضح فى الأسلوب وطريقة الأداء والتناول ، وكذلك المضمون الفكرى فى مختلف المراحل ، إلا أننا نستطيع أن نستشف الخيط الرفيع الذى يصل وشائج هذه المراحل بعضها ببعض ، ويكسب الكيان كله سمة عامة تظل عالقة به طوال الرحلة .
- ففى الإنتاج المدرسى الذى يمثله مشروع البكالوريوس بغموضه السحرى العميق الأثر، نتوقع من الطالب` زكريا الزينى ` بما يملك من إرهاف الحس وعمق النظرة وانتماء قوى للبيئة ، نتوقع منه إضافات جديدة دون شطط ، وتحركاً طموحاً غير محفوف بمواقع الزلل ، ورؤية أكثر شمولاً وأوسع مدى يتيحها له ارتفاع قامته التدريجى من منبته ومنطلقة ، كما ترتفع النخلة رغم تشبثها بالأرض لتطل على مزيد من الأبعاد والآماد.
- إن الفنان وهو يخطو أولى خطواته بثقة يشوبها الحذر الشديد. لا تستهويه بهرجة الألوان، ولا تبهره المهارات الاستعراضية أو تلهية عن تقوية دعائم عمله وترسيخها بإحكام عناصره البنائية دون أن تفقد نبضها الروحى الذى يتدفق من التعبير الساكن المتأمل دون تبلد ، ومن ألوانه الداكنة ، والبنيات الوقور وقار التربة المصرية وخصوبتها .. والتى لا تلبث أن تنجلى عن ألوان أكثر إشراقا وشفافية لتبلغ ذروتها فى الستينيات معلنة عن مرحلة أكثر نضجا وأكثر اقترابا من الفكر التقدمى الحديث.
- وتبدو علامات انبهار الدارس القادم من الجنوب عندما تحتوية مدينة البندقية بمعالمها الأسطورية وعمائرها ونسمع أصداء هذا الانبهار فى أعماله التى يستوحيها من مدينة الجزر العائمة والقنوات الحالمة ، لا من خلال شكلها ` الطوبرغرافى ` ، ولكن من خلال انطباعات جوانية عميقة الغور لدارس مدفوع بنهم شديد للاغتراف.
- ويتعرض أسلوب الفنان إلى طفرة من التحول المفاجىء نتيجة لتغير المناخ الفكرى من دفء الجنوب إلى برودة الشمال، وتتغير لغة التعبير ، وتتبدل حروف الهجاء باستعارة بعض مقومات ` التكعيبية ` دون إسراف، ومن غير أن تفقد مذاقها الإنسانى الذى يلتزم به الفنان منذ بدء رحلة الإبداع .حتى عندما يقوم بتصوير المنازل والقوارب والقنوات وشباك الصيد لا يتخلى عن إنسانيته التى يضفيها على الجماد.. وتصطبغ ريشته لأول مرة بزرقة داكنة عميقة عمق مياة الخلجان ، لتتزاوج مع بنيات الطمى المترسبة فى أعماق الفنان القادم من مصر..
- ولكن سرعان ما يعود الفنان إلى فلكه القديم الذى يدور حول محور ` الإنسان ` ويبلغ ذروته فى بداية السبعينيات عندما يتفق مع نفسه على نوع الإنسان الذى سيتعامل معه، أو الذى سينطق بلسانة .. وهنا نلتقى بالإنسان الأيقونة ، الإنسان المتحجر ، ` الأركاييكى` الطابع .. مثل الأيقونات أو الدمى التى يعثر عليها المنقبون فى ركام الحفريات مبتورة الذراعين، متآكلة
السحنة ، كأنما مسحت ملامحها السنون ، ومسخت معالمها أنامل القدم.
- ويتركز التعبير كله فى ذلك الجسد الأيقونى بعد أن تبتر أطرافه الطائشة الهشة رامزاً بالجسد الأسطوانى إلى ` وعائية ` الغرائز والشهوات ، ورامزاً بالرأس الكروى إلى ` دينامية ` الفكر والخاطر.
- ولا يقف الإنسان ` الرمز` الذى يمثل الزمان فى عالم ` الزينى ` الغامض الملىء بالأسرار ، لا يقف أعزل فى متاهات الصمت ، بل يختار معادلاً مكانياً يؤنسه أو يتحرك فيه أو يبدو من خلاله .. معادلاً هندسى الشكل .إطارا مستطيلا يبدو تاره مفرغا كحدود برواز ، وتاره مصمتا كجدار .. وبهذه ` التيمة ` الثنائية يصيغ تنويعاته الزاهدة بتصرف ذكى ، وإيجاز بليغ وصمت فيلسوف ، دون أن ترهقنا ملالة التكرار وتشابه العناصر.
ويقوم هذا المعادل أو القرين الهندسى فى اللوحة بدور النافذة التى يطل منها الإنسان ، أو التابوت الذى يضمه فى نهاية الرحلة .أو السرير الذى يلقى عليه متاعبه، أو المرآة التى يشبع عليها غروره .. غير أنه فى مجموعة يعبر عن السجن الصغير الذى فرضته الظروف على الإنسان ، أو الانغلاق الذاتى الذى فرضه الإنسان على نفسه وما يصاحبه من كبت مدمر وتمرد داخلى يخنقه ، ذلك الصمت الذى يخيم على السطح الأبكم ، والذى تعجز عن الإفصاح به الشفاه المغلقة أو الأطراف المبتورة .
-وتكاد تسمع شهيق السطح الخشن وزفير المعاناة الذى يتخلف تحت اللمسات المرهقة الثقيلة الوطء البطيئة الإيقاع ، كأنها تحمل على أكتافها آلام الإنسان .وأحياناً يتحول التنفس إلى شخير حاد عندما يتأزم التعبير.وأحياناً تسمع نبض الخطوط الهندسية بإيقاعها الرتيب وهى تخلع عنها هندسيتها وتهمس فى الوجدان بسرها الحميم الذى يحاول الفنان أن يخفيه فى ثنايا معميات الرموز والاستعارات والعناوين المقهورة .. ` بناء على رغبتها ` ، ` أرواح وأجساد ` ، ` نافذة زرقاء بدون ترباس ` ، ` فى المشرحة ` . ` عنبر الولادة `.
بقلم : حسين بيكار
من كتاب آفاق الفن التشكيلى
(الزينى.. حوار إيقاعى بين التشخيص والتجريد)
-ينتمى الفنان `زكريا الزينى بنتاجه إلى تلك المجموعة من فنانى جيل المصورين المحدثين الثالث بمصر، التى راحت بعد امتلاك الأدوات الأكاديمية، تبحث فيما قد بدأه `راغب عياد` مع منتصف الثلاثينيات، وواصلة `عبد الهادى الجزار` و`حامد ندا` خلال الأربعينيات والخمسينيات من اهتمام بما يسمى بالشخصية المصرية فى الفن.
- تلك المجموعة التى برغم ضآلة حجمها، بالقياس إلى حجم الجيل الثالث كله، تشكل بنتاجها ونتائجها، المحور الأساسى الجاد للحركة الفنية بمصر الآن، ربما لأنها قد امتلكت أدواتها بشكل ايجابى، ولم ينبهر أفرادها بمثيرات `الموضة` الغربية المبهرة، كما لم ينسجنوا داخل تراكيب تراثية، أدت دورها فى زمنها فحسب، وإنما راحوا يبحثون فى جدية، عن صياغات ملائمة للعصر، بعد استيعاب وهضم معطيات التراث وليس شكله الخارجى، منطلقين من الواقع المصرى، بظروفه الاجتماعية والسياسية، مستوعبين أثناء البحث، معطيات الحضارة الغربية من أشكال الفن المختلفة، دون انبهار بها، ودون إسقاط لأهمية الوعى بمنجزاتها.
- المصرية لا تعنى الرفض المتعنت لكل ما هو غربى، لأن ذلك من شأنه إيقاف الحوار، والانسحاب للداخل، وبالتالى اجترار الموروث دون إضافة له أو إنماء لملامحه، كما بالضبط لا تعنى، مجرد الوقوف إزاء التعبير بمباشرة، عن واقع اجتماعى أو ظروف لحظية، معينة، لأن ذلك من شأنه `قتل` رحابة البحث، وإيقاف أهمية الحوار الإيجابى مع الآخر.
- وهى لا تعنى أيضا أهمية استحضار أشكال التراث كما هى، فى تبلورها، وتحويلها إلى
`موتيفات` داخل النتاج، لمجرد الرغبة فى تحقيق قدر ما يسمى بالأصالة.
- لأن الأمر يعنى بالضرورة، كى تتحقق الأصالة والمعاصرة معاً، إقامة جسور من الحوار الدائم والمستمر مع أحدث ما فى العصر من نتاجات وأساليب، بل ورؤى، حتى وإن تناقضت معنا، واستيعاب معطيات ذلك النتاج ليصبح `خبرة` يمتلكها الفنان، وليس قيدا عليه، بالضبط كما هو الحال مع أشكال التراث الفنى المختلفة، التى لا يجب الوقوف إزاءها بشكل سلبى لأن ذلك من شأنه صنع حالة من `المسخ`، ومحاولة إلباس شكل، هو نتاج ونتيجة لعصر سابق بكل ملابساته وظروفه، لعصر قائم مختلف تماما عنه.
- الأمر إذن يحتاج قدراً من `الوعى` بمعطيات هذا وذاك، وهضم بعد استيعاب تلك المعطيات، لتمثلها بعد ذلك فى النتاج كخبرة أعلى وأكثر اتساقاً مع العالم والمحلية معاً.
- وربما كان نقص `الوعى` بذلك، بجوار افتقاد السيطرة على الأدوات ومهارة الأداء، هو ما يجعل العديد من فانينا، يلجأون إلى الإبهار والإثارة والجرى وراء التقاليع فحسب، فيأتى إنتاجهم وتذهب، دون دور حقيقى أو قيمة باقية، وبالتالى فإن القليل الجاد منهم، يبدو متميزاً، وتحمل أعماله بجوار القيمة والتفرد، أهمية الدور الهام في تشكيل الملامح الحقيقية الفنية التشكيلية المصرية المعاصرة.
- الملامح
- ونعود `للزينى` وهو واحد من المتميزين في جيله، لنجد أنه قد استطاع، من خلال امتلاك أدواته الأدائية الأكاديمية بمهارة عالية، ثم وعيه المستوعب لأشكال ونتاجات فنون التصوير المستحدثة في العالم، ومن واقع اهتمامه بالإنسان المصرى البسيط في سلوكه وعاداته وظروف حياته، أن يبلور لنفسه أسلوباً، متنامياً معه، الشكل فيه قائم على أصوله لغة التصوير الأدائية والمضمون فيه متواجد من خلال الشكل ودون طغيان عليه.
- لذا جاء نتاجه فى مجموعة ذا سمات مصرية ومعاصرة معاً، متفردا فى فتراته المتتالية، برغم ما على بعضه من ملاحظات، فهو بسيط في تركيبه دون تطرف باهر، ودون مباشرة تقليدية في التعبير أو التناول الأدائى.
- الروافد
- وكما أن لكل ملامح متبلورة، روافد أولية، تمدها وتشكل لها سمات، تميزت التجربة لدى `الزينى` `باحتوائها` على ملامح في الشكل وفى إيقاع البناء، لها روافد وجذور، تمتد عبر زمن طويل، بدءاً من وجوه الفيوم القبطية، وحتى تناولات التجريد التعبيرية لدى العديد من فنانى الغرب الحديثين، قام باستيعاب معطيات الشكل وفيها ملامح التحوير، استيعاباً أقرب إلى `الهضم` والذوبان، لتصبح تأثيراتها، جزءاً منطقياً فى نسيج التجربة لديه، وليست مضافة إليها قسرا من الخارج.
- فقد تميزت ملامح أشكاله، بانصهار أربعة روافد رئيسية داخل تراكيبها، أمدتها بغنى تأليفى، دون أن تقيد حرية الإنماء والإضافة المستمرة فيها.
- أول تلك الروافد تصاوير وجوه الفيوم القبطية، ببساطة بنائها وعيونها الواسعة المحدقة في مواجهة صريحة، وألوانها البنية، ولمسات التصوير الحية البسيطة فيها.
- بينما تشكل `عروسة المولد` الشعبية، الرافد الثانى، بتلخيص الملامح فيها، وتحورها إلى خطوط واضحة صريحة تحيط بالعينين المحدقتين، والأنف الذى يصنعه خط بسيط وبمجموعة ألوانها الزاهية، هذا من ناحية الروافد التشكيلية التراثية المصرية، ومن ناحية أخرى يشكل نتاج كل من `كامبيللى` و`برميك` المصورين المعاصرين، بشخوصهما الساكنة، والمشحونة بحس إنسانى عال، وبلمسات الأداء التقنى، التى تشكل سطوحا غنية فى أعمالهما، رافده الثالث، كما تبدو تبسيطات كل من `وليم سكوت` و`بن تكلسون` التجريدية، وتقسيماتها البنائية لأشكال الطبيعة الصامتة، رافده الرابع، وهكذا تبدوا روافد الشكل الأولى لديه، خليطاً من التراث المصرى والحداثة الغربية، لا تبقى جميعها كم هى، وإنما تذوب مختلطة بالتجربة، لتتمثل بعد ذلك كجزء حميم من الشخصية الفنية، فترتفع بمنطق التناول التأليفى للأشكال، وتخدم المضمون، الذى يظل دائما على طول تجربته، حتى فى فترة الاغتراب - سنوات البعثة العلمية بإيطاليا - آتيا من رافد واحد، هو الحياة الاجتماعية فى مصر، رافد لا يتغير، سواء أنتج أشكالاً لشخوص فى موضوعات تعبيرية، أو تحول للتجريد وصياغات الشكل الخالصة، حيث يظل دائما المثير الأول، هو موضوع مطروح ، مصرى الملامح والمذاق.
- التجربة
- تبدو التجربة لدى الفنان `زكريا الزينى` فى مجموعها، على مدى الربع قرن الماضى، غربية فى منطق نموها وتحولها، غير تقليدية فى اتجاه حركتها، حيث من الطبيعى أو المنطقى، أن تتحول الرؤية من التشخيص للتجريد، أى من التعبير الواضح المتراكب العناصر، نحو التبسيط والتلخيص، ولكن `الزينى` قد قام بثلاث رحلات متتالية مع الأشكال، بادئا في كل منها بالتشخيص التعبيرى الساخن ثم متحولاً للتجريد، وعائداً مرة ثانية إلى التشخيص وصولاً للتجريد وهكذا.
- فقد بدأ مع بداية الستينات، وبعد الانتهاء من فكرة الدراسة الأكاديمية، مرتبطاً إلى حد كبير بالطبيعة، دون تحوير مهتماً بتصوير مناظر وشخوص بأداء تقليدى، أقرب إلى التسجيل لما يراه دون تدخل، إلا بما يرتفع بالتعبير قليلا، كأن يهتم باتساع العيون شيئا ما، أو يتخلص من بعض التفاصيل التى من شأنها شغل البصر عما تحمله الوجوه من تعبيرات هادئة بسيطة، أو يضفى على ما يختاره من مناظر، حساً ساكناً أقرب إلى الإيحاء المسرحى.
- ولم يستمر ذلك طويلاً، إذ سافر في منحة دراسية إلى إيطاليا، فتغيرت المؤثرات المحيطة به، وتغير بالتالى منهج الرؤية، بل والتناول، وكأنما يحاول استرداد الروح المصرية التى يفتقدها، يصور وجوها، تحولت إلى مسطحات بسيطة التركيب، تحمل عيونا أقرب إلى عيون وجوه الفيوم القبطية، بل وملونة بنفس المجموعات اللونية الساخنة المستخدمة فى تلوينها، ولكن تأثير البيئة المحيطة يطغى، فيترك بعد ذلك تصوير الإنسان بشكل مباشر، ليتجه إلى تصوير مناظر متنوعة من الطبيعة، شكلت المحور الأساسى، الذى تبلورت من خلاله أدواته ونمت معه، فقد بدأ بتصوير منازل وقوارب من مدينة فينسيا التى عاش فيها، ليس بهدف تسجيل ملامحها، وإنما مستلهماً إياها كمثيرات أولية، يعيد صياغة أشكالها، فى تراكيب بنائية، ينتقى منها الإبهام بالبعد المنظورى التقليدى، جاعلاً الأبنية تبدو أقرب إلى الكائنات الحية، عيونها نوافذ وأفواهها أبواب، تسبح في `هارموني` من الألوان الساخنة الحمراء والصفراء، وتشكلها لمسات عريضة متدفقة، فى اتجاهات متخالفة.
- ثم انتقل إلى تصوير شِباك الصيادين المعلقة على حوامل التجفيف، بدت كشخوص راقصة فى إيقاع تجريدى، بعد أن تحولت بشكل تجريدي إلى أشكال تجريدية خالصة، مبتعدة فيها وصلت إليه من تلخيص، عن الملامح الطبيعية الأولى لها، فقد أصبحت المساحات البيئية الفاصلة بين حوامل الِشباك الأشبه بالشخوص، أشكالا مسطحة، تتداخل وتتراكب في اتباع هندسى، قاده بعد ذلك إلى استنباط تراكيب تجريدية خالصة، وحدتها الأولى المربع واستخراجاته المستطيلة والمثلثة، تبدو فى بنائها `ساكنة` من الخارج، تعمل بموحيات الحركة الداخلية، بتوزيعات اللون وتباينه، وقيادتها للبصر كى ينتقل عبرها في تتال مستمر، ليختتم رحلته البحثية الأولى ببناءات تجريدية مركبة من مساحات مسطحة، لا ترتبط بمصادرها الأولى فى الطبيعة، ليعود بعد قضاء فترة دراسته بإيطاليا، إلى مصر منتصف الستينات بقليل.
- وللتشخيص ثانية يعود، ليس بمفهومه الاصطلاحى، وإنما بمنطق ما أطلق عليه
`التشخيصية الجديدة` وهو اصطلاح يعنى الارتباط بالطبيعة وبالإنسان بشكل خاص، ولكن دون `التقيد` بمظهره الخارجى، وإنما مستلهماً إياه بعد تحوله إلى `حامل` للتعبير، حتى وإن تغيرت ملامحه، لتتوافق و`حالة التعبير` التى يقدمها.
- عاد `الزينى` للتشخيص بذلك المفهوم، بعد أن انتهت رحلته الأولى مع الشكل إلى التجريد الخالص، وتغيرت الظروف المؤثرة لا المحيطة به بعودته من بعثته الدراسية.
- ومن طفولته يستحضر من مخزون الرؤية، عديداً من المظاهر والطقوس الشعبية المصرية، ليبدأ صياغة أهم نتاجاته على الإطلاق، تلك التى شكلت الملامح الأساسية لتجربته الفنية.
- فقد صور العديد من صور الطقوس والعادات الشعبية، وعلى رأسها رقصات الزار، المشحونة بالإيقاع وبالتعبير الحاد معاً، لم يصورها بغرض تسجيلى كما فعل `الجزار` قبل ذلك، وإنما بدت `كمثير` موضوعى أولى، يعطى وسائط ورموزاً، يطرح بعد إعادة صياغتها `موضوعا تشكيليا`، البناء المستحدث فيه، وتوافق الشكل والمضمون معاً، دون أن يجور أحدهما على الأخر، هما البغية الأساسية، فقد عمد بشكل عام إلى طرح تكوينات وتراكيب، تبدو فى مظهرها ساكنة، وإن حفلت بحركة داخلية عالية، نتاجاً لتدفق اللمسات اللونية بأداء جيد، وكذلك لتباين عديد الألوان من ناحية، ومن ناحية أخرى، بدأ تحول الشكل الأدمي إلى رموز تتحاور بما تحمله من شحنات تعبيرية مع تقسيمات السطح الهندسية المحكمة، أشبه بتلاقى نقيضين هما `فطرة التعبير` و`هندسة البناء` بحيث أصبح `الزار` - المثير الأولى - ذائباً فى حالة حية من التعبير الإنسانى. - فى تلك الفترة نراه دائما يعمد إلى تقسيم السطح إلى مساحتين متجاورتين، متناقضتين من حيث اللون وكذا الشكل، متوافقتين من حيث ما تطرحانه من حوار منسق بين كلتيهما، وأصبحت المرأة البدينة في حركتها وانتفاء ملامحها، رمزا مجهلاً للخصوبة، بينما تحيطها دائما قيود هندسية الشكل، تبدو كما لو كانت تحدث `توفيقاً قسرياً` لأعلى لحظات انفعالها، فتظل هكذا حاملة لقدر عال من التعبير.
- ومن `الزار` كمثير أولى، برموزه كالسمكة والديك المذبوح، وبألوانه الساخنة، وأوضاع شخوصه التى تحمل قدراً كبيراً من الديناميكية، ينتقل إلى مثير جديد، هو احتفالات الموالد الشعبية، لينتقى منها على وجه التحديد، `لعبة النشان` الشعبية، مستلهماً تقسيمات سطوح الأهداف إلى مربعات ودوائر، في تكوينات جديدة، تمتلئ فيها سطوح اللوحات بتقسيمات متشابهة، تتحاور بسكونها كمربعات، وبألوانها الزاهية المتباينة، مع شخوص تحفل وجوهها - على بساطة ملامحها - بقدر كبير من التعبير الإنسانى، يتأتى عن عيونها الواسعة المحدقة الأشبه بعيون وجوه الفيوم، حوار أيضا بين الشكل الهندسي والتعبير الإنسانى.
- ومع بداية السبعينات، تبدأ حدة التباين في عديد الألوان في الخفوت، وتتحول إلى تناغم بين الألوان الفاتحة، وتبدأ حركة الشخوص، بل وتحيطها خطوط منتظمة مربعة ومستطيلة، تحدث `تثبيتاً` لحركتها، بل وسجناً لها.
- ومن التناقض بين نبض الشكل الإنسانى، وبرودة قيوده الهندسية، يتوالد التعبير هادئاً، وإن امتلأ بسخرية مريرة، ويظل الإنسان يتضاءل، والمربعات تزداد انتظاماً، حتى تتحول إلى نوافذ يطل منها بعيون محدقة مستغربة، متبرمة بقيودها، وإن سكنت حركته تماماً، وتقيدت بذلك الانتظام الهندسي الذى يحيطه، ويجد من الإيحاء بحركته، حتى يتحول الأمر في النهاية إلى نوافذ مربعة متشابهة ومتجاورة في انتظام فحسب، بدت بألوانها الزاهية وخفوت درجة تواجد الشخوص خلفها، بل وتضاءل حجومها، هى البطل الأساسى في تركيب اللوحة.
- وينتقل بعد ذلك، وفيما يشبه البحث عن مثير جديد لإذكاء التجربة، ليصور مناظر لعوامات رأسية على النيل مليئة بالتفاصيل الهندسية المتداخلة، والمتحولة من لوحة لأخرى إلى مساحات تجريدية، متقاربة الشكل واللون معاً، مختتماً بها رحلته الثانية، من التشخيص للتجريد، بعد منتصف السبعينات بقليل.
- ويتوقف بعد ذلك تقريباً، وكأنما هى حالة من السكون الكامل، أو الابتعاد عن الساحة، أو هى فترة ترتيب للأوراق وبحث على مثير جديد.
- ومع بداية الثمانينات، يبدأ ثانية، مستلهماً في تلك المرة، أشكال الزهور، محاولا من خلال التنويع في ملامحها وألوانها، بل ومنطق تناولها الأدائى، إيجاد صياغة جديدة لرؤية جديدة، وإن ظل الأمر واقفا عند حدود البحث والتجريب، حتى منتصف الثمانينات، حينما بدأت رحلته الثالثة، مع التشخيص في البداية، وصولا بعد ذلك للتجريد الهندسي الخالص.
- وكعادته تبدأ التجربة حادة التعبير، فقد اختار في البداية `القمامة` كمثير، بأشكالها المتناثرة غير المنظمة، وبما يمكن أن تحمله من رموز ودلالات، لها معان تعبيرية حادة، ثم راح يصنع من الشكل والمعنى معاً، موضوعا، طرحه في البداية هكذا، صريحاً وقاسياً من خلال استلهام أشكال النفايات، صورها بلمسات عنيفة منهمرة على السطح، خشنة الملمس، وبإيقاعات تعبيرية عالية، يحدثها التناقض بين الانطفاء والسطوع الضوئى وكذا التباين بين اللون الزاهى والقتامة، وبين السكون المتأتى عن التسطيح للأشكال، والحركة التى يحدثها تراكب العناصر، هكذا بدأت التجربة، ثم تحول التناول بعد ذلك تدريجياً من لوحة لأخرى إلى غنائيات أقرب إلى التجريد، حتى أصبح الشكل بسيطاً مسالماً، متناثراً في هيئات مربعة ودائرية مسطحة، ذات حسن `فانتزى`، راقصة علي السطوح بعديد من الألوان الزاهية، تبدو كما لو كانت تنتشر في أرجاء الصورة من بؤرة مركزية وهمية، غير مرتبطة بواقع مرئى، وغير حاملة لأية أغراض تعبيرية، إلا ما يحدثه الانتقال `النطاط` من شكل لآخر على السطح من حوار بينها كأشكال تجريدية هندسية الملامح.
- وهكذا... تبدو التجربة لديه، تجارب ثلاثاً، تستغرق من كل منها فترة، تبدأ تشخيصية وتعبيرية واضحة، لتنتهى تجريدية الشكل والإيحاء معاً.
- وكأنما الفن `حالة` من القول والاستمتاع معاً، يتساوى فيه الالتزام بموضوع محدد سلفاً، أو التحرر التجريدى فيما يشبه المغامرة.
بقلم: د./ فاروق بسيونى
مجلة : إبداع (العدد 11) نوفمبر 1987
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث