`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
ثروت عكاشة
البناء العظيم .. لأعمدة النهضة الثقافية
- انطلق مشروعه فى ثورة يوليو من مخزون معرفى وفير من الثقافة الإنسانية.. ومن الملامسة الحميمة لشتى أنواع الفنون والآداب كالموسيقى والفنون التشكيلية والأدب والمسرح والسينما.. وغيرها .
- تفاوتت أدواره بين السياسة والقلم.. بين التخطيط والممارسة على أرض الواقع بدءا من دوره القيادى فى الثورة وانتهاء بدوره كأحد مشاعل التنوير فى مصر الحديثة مجموع سنوات عمله وزيرا للثقافة فى فترتي تكليفه لا يتعدى 8 سنوات فيما تبدو إنجازاته وكأنها استغرقت دهرا .
- إلى أى حد يمكن - فى مقال واحد - الإحاطة بكل جوانب شخصية د. ثروت عكاشة على مدار رحلته الممتدة وأدواره المختلفة عبر 60 عاما؟ .. إنها أدوار تتفاوت بين السياسة والقلم.. بين التخطيط والممارسة على أرض الواقع ..بدءا من دوره القيادى فى ثورة يوليو 1952..وانتهاء بدوره كأحد مشاعل التنوير فى مصر الحديثة..ودوره فى وضع بنية راسخة للثقافة الجمالية تشمل مختلف الفنون.. من خلال موسوعة ذائعة الصيت `العين تسمع والأذن ترى`.. مرورا بأدواره فى التخطيط الاستراتيجى للعمل الثقافى بمصر.. وفى إرساء قاعدة مؤسسية لهذا العمل على امتداد أرض الوطن من أقصاه إلى أدناه.. وإدارة عجلة القيادة لتنفيذه كرجل دولة رفيع المستوى يتمتع بروح الإبداع لأشكال وآليات جديدة للممارسة.. وإحاطته لمشروعه الثقافى بحصانات لحرية التعبير الفنى والأدبى وباحترام التعددية الفكرية والمذهبية ولو أختلف معها، وتشجيعه للرؤى التجريبية فى الإبداع المحلقة خارج السرب،فى وقت عزت فهى الحصانات لأى شىء.. واختفت منه التعددية بكل ألوانها..كما انتقى أى تحليق لجماعة أو لشخص خارج السرب فترة هيمنة الحكم الناصرى.
* بيت المبدعين ..
- كانت وزارة الثقافة فى عهده هى بيت أغلب المبدعين، ليس على نمط `حظيرة المثقفين` فيما رأيناه فى وزارة فاروق حسنى، بل كانت فى عهده هى الأمان الأقتصادى والمعنوى لهم بغير تفرقة أو احتواء أو شلة مفضلة، وإنما بشكل مقنن وشفاف ومتكافئ، من خلال قانون التفرغ للإبداع غير المشروط بموضوع أو توجه، مع توفير الدخل الذى يغنيهم عن ربقة الوظيفة وعن السعى خلف لقمة العيش، ومن خلال صندوق الرعاية للأدباء والفنانين فى حالات المرض والعوز والكوارث، وعن طريق الانتقال بإبداعاتهم إلى كل مكان عبر قصور الثقافة وعبر المسارح الجوالة وقاعات العرض فى المناطق المزدحمة والمكتبات المتكاثرة وسلاسل الكتب التى تباع النسخة منها بقرشين إلى خمسة قروش، وعبر الأفلام السينمائية الجادة التى تعرض قضايا الواقع والتحول الاجتماعى وعبق التاريخ، فأعفت السينمائيين من سيطرة رأس المال على السينما ومن قانون السوق التجارى المفروض عليهم وعلى الجمهور.. لقد وفرت تلك السياسة للشعب `خبز الثقافة ` وغذاء القلوب بشكل مجانى إلا قليلا، فردمت ولو جزئيا - الفجوة التاريخية بين المثقفين وبين المجتمع، وفوق ذلك عمل`عكاشة `على أن يشارك المبدعون فى قيادة العمل الثقافى، بمختلف أجيالهم واتجاهاتهم الفكرية وأغلبهم من الشباب ومن أصحاب الفكر الثورى، حتى وإن تجاوزوا الاتجاه السياسى للسلطة الحاكمة، حيث وضعهم على رأس المؤسسات الثقافية، بدءا من رئاسة قصور الثقافة حتى رئاسة الهيئات الكبرى فى الوزارة، وأعطائهم كامل الصلاحيات للعمل بغير إملاء أو وصاية، وأثبت استعداده للدفاع عنهم وحمايتهم من بطش السلطة أو من فلول الثورة المضادة، دون مطالبتهم بإعلان الولاء للنظام، بل بإثبات الإخلاص للرسالة الثقافية التى اختارهم لتحقيقها، وفى القلب منها : ديمقراطية الثقافة.. بوصولها إلى كل مساحة من أرض الوطن، وبقدرتها على تفجير طاقات الإبداع من أعطاف الطبقات المحرومة تاريخيا من ثمار الثقافة، حتى يتحولوا من مستهلكين إلى مبدعين لها، بل إنه كان يحرض القيادات الشابة لقصور الثقافة - بمعاونة رئيسها العظيم المرحوم سعد كامل - على الاستقلال الثقافى عن العاصمة، ويطالبهم بأن يجعلوا من القصر فى كل إقليم وزارة ثقافة مصغرة، يطلب ذلك من شباب أغلبهم دون الثلاثين، ومنهم أدباء وفنانون تشكيليين ومسرحيون، وآخرون ناشطون ثقافيون وجميعهم يمارس العمل القيادى - بل والإدارى - لأول مرة فى حياته، من هنا تحققت موجات ثورية متنامية فى الإبداع المسرحى الشعرى والقصصى والتشكيل، كأنها تنبع من منجم للمواهب لا ينضب، والتحمت أعمالهم بآلفات - مثل مليونيات اليوم - من الجماهير فى المدن والقرى والكفور فى أقصى المحافظات، ولأول مرة نرى الجمهور - بعد انتهاء العروض والندوات - يتكلم ويبدى رأيه ويختلف وتتجلى من خلاله مواهب فى النقد،فيصبح مشاركا حقا فى العملية الثقافية، هذه كلمة صدق عن فترة عشتها عبر تجربة كنت فيها شريكا وشاهدا، ليس بمحافظة كفر الشيخ التى قمت فيها بتأسيس قصر للثقافة فحسب، بل فى عشرات المواقع على أرض مصر .
- لم يكن كل هذا أمرا معتادا فى العمل الثقافى بمصر عبر تاريخها الحديث، صحيح أنه سبقتها بعض المحاولات فى الأربعينات من القرن الماضى، عبر ما أطلق عليه `الجامعة الشعبية ` فى مجالات المسرح الشعبى الجوال وفصول محو الأمية والحروف اليدوية ودروس الآلة الكاتبة والتفصيل والأشغال النسوية .. الخ، إلا أنها المرة الأولى بالنسبة لضابط فى الجيش، والمدهش أنها كانت بالنسبة له على طرف نقيض لطبيعة الحياة العسكرية، لما تقوم عليه من ضبط و ربط ومن التزام شديد بالطاعة والمحافظة على النظام، والتحفظ تجاه كل جديد ، والنظر بحذر نحو الفنانين والمثقفين باعتبارهم أناسا هوائيين ومنفلتين، ونحو قضايا التحرر والتغيير، ما يجعل من ثروت عكاشة استثناءا فريدا وجديرا بأن تدرس أصول تكوينه الطبقى والثقافى والفكرى .
* تكوينه الثقافى :
-أما عن تكوينه الثقافى فمن السهل معرفة أنه انطلق نحو مشروعة فى ثورة يوليو من مخزون معرفى وفير من الثقافة الإنسانية ومن الملامسة الحميمة لشتى أنواع الفنون والآداب: كالموسيقى والفنون التشكيلية والأدب والمسرح والسينما وغيرها.. وأما بالنسبة لتكوينه الفكرى فمن السهل أيضا معرفة ما وراء إيمانه العميق بأفكار ثورة يوليو بشأن الحرية والعدالة والتحرر من الاستعمار والقضاء على الإقطاع والاستغلال ، وقد امتزج بداخله الرافدان `الثقافى والفكرى` فتكونت منهما قناعة بأن الثقافة ضرورة للشعب وليست ترفا أو عملا ثانويا يأتى فى مؤخرة برامج الثورة بل إنها لا تقل على ضرورات الحرية والعدالة الاجتماعية، وقد تسبقهما كونها ترتبط بوعى الإنسان الذى يتوقف عليه مصير الثورة، إن إيجابا فى حالة بناء وعيه، وإن سلبا فى حالة غياب هذا الوعى، وإذا كانت أصول ثروت الطبقية تتقاطع مع أهداف العدالة الاجتماعية، بحكم انتمائه إلى الشرائح العليا من المجتمع التى تهدد الثورة مصالحها ،فأظن أن الفضل فى إيمانه بالثورة يرجع إلى الرافدين المشار إليهما : الثقافة والفكر، اللذين انفتح عليهما مبكرا بإرادة ذاتية، فقللا من حاكميه انتمائه الفكرى إلى النخبة الطبقية، كما قللا من حاكميه انتمائه إلى فكر النخبة العسكرية وتطلعاته السلطوية، وقربا المسافة بينه وبين القاعدة الشعبية، مع كل ما تعيش فيه من فقر وجهل، وأمداه بالإيمان برسالة تغيير واقعهم المادى وبناء وعيهم الثقافى فى ذات الوقت.
- أستطيع - بعد كل هذا - أن اختزل تجربته الطويلة فى كلمتين: التنوير والتغيير، وقد وضع بالفعل البنية التحتية لكل منهما، وعمل - بقدر ما توفر له من التمويل والوقت - على استكمالهما وجنى الثمار من ناتجهما، لولا حدوث هزيمة 1967، التى زعزعت أركان النظام، وفرضت من التقشف المالى ومن الكوابح السياسية ما أبطأ سير ألته الثقافية وقيد حرية قياداته المستنيرة ، إلى أن اضطر اضطرارا إلى تسريحهم بيده بعد عام من الهزيمة العسكرية، لتصبح هزيمة معنوية، خفتت على إثرها أنوار مشاعله، قبل أن يتخلى عنه عبد الناصر، بعد أن جعله يتخلص من كل القيادات اليسارية فى الوزارة، على أن العمل فى مشروعه الثقافى استمر بعد تركه المنصب بضع سنوات بقوة القصور الذاتى، خاصة على يد الكاتب المسرحى سعد الدين وهبه الذى أسندت إليه من بعده رئاسة قصور الثقافة حتى أواخر السبعينيات، ثم أخذت ذبالات المشاعل تخفت تدريجيا حتى انطفأت أنوارها تماماً.
- إن مجموع سنوات عمله وزيرا للثقافة فى فترتى تكليفه لا يتعدى ثمان سنوات، فيما تبدو إنجازاته وكأنها استغرقت دهرا، ولا أغالى إذا قلت إنه لم تحدث إضافة صروح ثقافية تذكر منذ انتهاء فترة وزارته الثانية عام 1969، وأن ما تم من بعده لا يزيد على قشور أوعمليات تجميلية لما سبق، أو أنشطة مهرجانية عابرة، أو إضافات تكميلية بسيطة إلى ما أنشأه، وليس استحداثا لمشروعات نوعية ترسى قواعد لها صفة الاستمرار .
* مؤسس الأكاديمية :
- إن من أسس أكاديمية الفنون بكل معاهدها : الفنون المسرحية، السينما، الكونسيرفتوار، البالية، فرقة أوركسترا القاهرة السيمفونى، فرقة الموسيقى العربية، الفرقة القومية للفنون الشعبية، المسرح القومى، مركز الفنون الشعبية، فرقة المسرح الحديث، فرقة مسرح الجيب للأعمال التجريبية، فرق الأقاليم المسرحية، قصور الثقافة، جوائز الدولة للفنون والآداب، متحف الحضارة والقبة السماوية بالجزيرة، متحف مختار، متحف محمد محمود خليل، قاعات الفنون التشكيلية بكل من ميدان باب اللوق وشارع قصر النيل، المراكز الفنية المتخصصة مثل: الحرف التقليدية بوكالة الغورى، البحوث الفنية ببيت السنارى، الفن والحياة بسراى المانسترلى، النسجيات المرسمة بحلوان، الخزف بالفسطاط، مراسم الفنانين بوكالة الغورى وقصر المسافر خانة، مسرح العرائس بميدان العتبة، ووضع حجر الأساس لمدينة الفنون الشعبية بأرض الأكاديمية بالهرم، نقل معابد رمسيس الثانى إلى أبو سمبل، إقامة مشروع الصوت والضوء لآثار الجيزة والأقصر وأبو سمبل، دعوة الفنانين والأدباء والباحثين،عبر مركب فى النيل من القاهرة إلى أسوان، والإقامة لمدة شهر لمعايشة تجربة بناء السد العالى وتسجيل معالم قرى النوبة وفنونها الموسيقية وحكاياتها الفلكلورية قبل إغراقها تحت مياه بحيرة السد 1963، تسجيل التراث الشعبى من الفنون والعادات والتقاليد فى مختلف المحافظات النائية، بعث الباحثين والفنانين العاملين فى فنون التراث إلى دول أوروبا الغربية والشرقية للاستفادة بخبراتها فى هذا المجال، استضافة مشاهير الفنانين الأوروبيين فى مصر وعرض أعمالهم فى بعض الفنادق الكبرى، استضافة مشاهير النقاد والمفكرين الفرنسيين لإلقاء محاضرات ثقافية، إصدار مجلات ثقافية عامة مثل المجلة والمتخصصة مثل الفنون الشعبية والمسرح والفكر المعاصر، إطلاق مشروع التفريغ للفنانين والأدباء، ومشروع صندوق الرعاية لهم، ومشروع إقامة متحف الفن الحديث، ومشروع اقتناء أعمال الفنانين لتزويد المتاحف بها ولتأسيس ذاكرة الفنون التشكيلية، طبع أعمال الفنانين فى مستنسخات مكبرة بتقنية عالمية وإتاحتها لمحبى الفن، تعيين رموز الفن الكبار فى مناصب قيادية بالوزارة تقديرا لمكانة الفنان فى الحركة الثقافية أمثال : سعيد الصور، صلاح طاهر، حامد سعيد، رمسيس يونان تكليف بعض الفنانين بإقامة جداريات ضخمة بمحطات السكك الحديدية ومراكز الاتصالات الكبرى ومجمعات المحاكم.. الخ
* مشروعات وأنشطة :
- ولا يخفى على القارئ ما وراء هذه المشروعات والأنشطة من فلسفة.. إنها تتخلص فى الربط بين إحياء التراث والانفتاح على العصر ` بمعنى الأصالة والمعاصرة `..وفى بناء وعى المواطن بثقافة متعددة الأبعاد متحررة التوجهات، وفى مد الجسور الراسخة بين المبدعين والشعب، وفى استكشاف المواهب فى كل مكان على أرض مصر وإتاحة الفرص أمامهم للتحقق والتواصل مع العاصمة وبقية المحافظات عبر الفرق المسرحية والموسيقية والمعارض التشكيلية والقصائد الشعرية والأعمال القصصية، أما الاستراتيجية النهائية فهى تحقيق لا مركزية الثقافة وكسر احتكار العاصمة لها، والانتقال بها من كونها نشاطا نخبويا للخاصة إلى أن تكون ضرورة شعبية وليست شعبوية أو تعبوية ثقافة يطلبها المواطن كحق أصيل مثل ضرورياته الحياتية، وهى فى مردودها الأسمى: ثقافة الهوية الحضارية التى تمثل تاريخ ووجدان شعب يضرب بجذوره فى عمق التاريخ، وهى الهوية التى تنعكس- فى النهاية - فى إبداعات الفنانين فيما يسمى ` بالشخصية المصرية `، وأظن أنها التى أتاحت الفرصة لأدباء مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ويوسف إدريس وميخائيل رومان وألفريد فرج وغيرهم ليشيدوا صروحهم الأدبية بدون أن يضطروا إلى التنازل عن استقلالهم الفكرى عن النظام أو إلى كبح أخلاقهم معه، وهذه ` الشخصية المصرية هى نفسها التى جعلت من تماثيل السجينى ولوحات الجزار وندا وحامد عويس وصلاح عبد الكريم، بل حتى اللوحات العارية لمحمود سعيد، والتجريدية لرمسيس يونان وفؤاد كامل، واللوحات التعبيرية لأنجى أفلاطون فى سجن عبد الناصر، ولوحات تحية حليم وعفت ناجى وجاذبية سرى، تحظى بمكانة رفيعة فى مصر والعالم، لقد حقق كل هؤلاء الحرية لأنفسهم فى حدها الأقصى، وتكفل ثروت عكاشة بتوفير الحصانة لها والتفرغ لإنتاجها والتكريم لأصحابها.
- لكن العلاقة التى نستخلصها من تعامله مع المبدعين والمثقفين كانت هى السير على السلك الشائك لحل مشكلة المثقف والسلطة وقد جاء انحيازه فى النهاية لصالح المثقف، بالرغم من أنه شخصيا جزء أساسى من السلطة .
- لقد خصنى المرحوم ثروت عكاشة بثقته الكبيرة مرتين، الأولى عندما وافق على تكليفى بتأسيس ورئاسة قصر الثقافة بكفر الشيخ فى ديسمبر 1966، وظل ظهيرا قويا لى فى مواجهة كل العواصف السياسية والأمنية، حتى اضطررت إلى الاستقالة فى يوليو 1968 بعد ملاحم حفرت سطورها فى تاريخ العمل الثقافى، لم يكن يتردد فى أن يقول لى - حين تضعف قدرتى على المقاومة، وحين تتكالب على قوى الثورة المضادة - `يجب أن تصمد! .. أنت على رأس قلعة أمامية للدفاع عن مشروعنا، ولو سقطت سيسقط غيرها تباعا ` !
- وأذكر أن الدكتور أحمد عكاشة كان حاضرا فى أحد تلك اللقاءات، بمكتب الوزير الذى كان يعلم بانتمائي إلى الفكر اليسارى، وبأن الصراع كله بينى وبين أجهزة السلطة يتلخص فى ذلك تحديدا، وكان يمكنه بجرة قلم أن يتخلص منى ليرضى السلطة فتسلم سفينته من الدوامات التى كانت تشدها بعنف إلى القاع، ويخرج بها إلى بر الأمان، لكنه رفض بمنتهى الحسم حتى أمام عبد الناصر عندما تصاعد الموقف بينى وبين المحافظ وأجهزة أمن الدولة وسأله عبد الناصر فى ذلك، فثبت على موقفه، ليس دفاعا عن شخص، فلم أكن إلا شابا فى الثامنة والعشرين وأمامى المستقبل كله، بل لقناعته بأن التنازل فى موقف واحد سوف يجر إلى سلسلة من التنازلات، فوق أن قناعته بموقفى كانت تتنماهى مع موقفه فى الوزارة بالرغم من أنه لم يكن من المنحازين إلى الفكر اليسارى مثلى .
* هل رأيتم قائدا ثقافيا بمثل هذه الجسارة الثورية فى تاريخنا الحديث والمعاصر ؟ !
* المسافر خانة :
- أما المرة الثانية فكانت عند تكليفه لى بإدارة قصر المسافر خانة الأثرى بحى الجمالية كبيت الإبداع الفنانيين التشكيليين عام 1969بعد تجربتى المجهضة فى كفر الشيخ، طالبا منى أن أحقق من خلال هذا القصر الذى كان تحفة معمارية نادرة، بعد ما حققته هناك، وسرعان ما لا حقتنى لعنة أجهزة أمن الدولة حتى انتهى الأمر بقرار رئيس القطاع الذى يتبعه القصر بتنحيتى من منصبى، وكانت مواجهة عاصفة بقاعة باب اللوق وسط عشرات الفنانين فى افتتاح رسمى لأحد المعارض بين الوزير وذلك المسئول، عندما علم بالأمر من غير طريقى، وإذ به يثور ثورة عارمة وينذر المسئول على الملأ بأنه إن لم يصدر قرارا بعودتى سوف يضطر إلى إصدار قرارين معا الأول بعودتى: والثانى تنحيته، وهكذا عدت، وبعد سبع سنوات من ذلك شهدت فى القصر ما هو أنكى وأمر، هذه المرة ليس على يد المسئول الكبير وحده، بل على أيدى بلطجية مأجورين قاموا بتدمير مرسمى ولوحاتى، وانتهى الأمر بفصلى من العمل!، ولم يكن ثروت عكاشة حينذاك - عام 1976- ذا نفوذ فى السلطة ليحمينى من الفصل والتنكيل كما حمانى من قبل أكثر من مرة !
* لقد بدأت المقال بالتساؤل عن مدى إمكان الإحاطة بكل جوانب شخصية ثروت عكاشة فى مقال، وهاهو ينتهى ولم أتعرض إلا لجانب واحد من جوانبها وهو ما تسمح به المساحة، ذلك أن كل جانب منها يحتاج إلى ما هو أكثر من مقال، ولعل ذلك سيبقى دينا فى عنقى حتى أفى بيه يوما.
- أيها البطل الملحمى فى عصرنا..أيها البناء العظيم للبشر قبل الحجر، ولأعمدة النهضة لا دعائم السلطة، سقطت قلاع كثيرة منذ رحيلك عن ميدان العمل الثقافى، لكن قلاعك الجديدة التى شيدتها بقلمك ورسمت على جدرانها أوجه الجمال السبعة، وجدت لتبقى راسخة أبد الدهر، ومنها سوف يستمر إشعاع تنويرك، فرحيلك الجسدى سوف يزيدها إشعاعا وتنويرا .
عز الدين نجيب
القاهرة - 6 / 3 /2012
الدكتور ثروت عكاشة أحيل إلى المعاش قبل الخمسين فأنجز حلمه الكبير
* صاحب موسوعة فنون الشرق الأقصى..
- بأسلوب رفيع مشحون بالرؤى والقدرة الفريدة على انتقاء عناصر الجمال يقدم لنا الدكتور ثروت عكاشة كتاب `فنون الهند` الجزء الثلاثون من موسوعة تاريخ الفن `العين تسمع والأذن ترى` - الصادر عن `دار الشروق ` للنشر والتى ينبغى أن نقدم لها الشكر على إصدارها هذه الموسوعة بما فى ذلك من كلفة عالية وجهود كبيرة .
-عايشت الجهد الشاق الذى بذله د. ثروت عكاشة فى إعداد هذه الموسوعة الفريدة والممتعة، بحكم العلاقة الوثيقة بين أسرتينا، حيث اقتحم المؤلف بهذه الدراسة الجادة تاريخ فنون الشرق الأقصى وأقدم على تحقيق ما ينوء كاهل أى باحث بالتصدى له وكأنها نتاج مؤسسة ضخمة وليست من عمل فرد واحد.. فرد تتسم شخصيته بمثاليات يندر أن تجتمع فى شخص واحد من أمانة علمية وانضباط بالغ الصرامة ومكابدة وتحليل شديد الدقة و إرادة فولاذية تتحدى كل المصاعب.. كنت أشفق عليه أحيانا كثيرة من جهده المتواصل الذى لا يفتر وإصراره ومثابرته وصبره من أجل أن يضيف إلى حياتنا الثقافية جوهرة أخرى ترصع جيد المكتبة العربية .
- يطل صاحب هذه الدراسة فى بداية الموسوعة على عقائد الهند الدينية وأربابها كما يطوف بملامحها الكبرى الخالدة ثم يتناول فنون النحت والعمارة الهندية عبر عهود الأسرات الحاكمة وينتقل إلى فن التصوير الهندوكى ومدرسة التصوير المغولى مع إطلالة على العمارة المغولية فى الهند وبصفة خاصة مقام تاج محل مختتماً هذه الدراسة بفنون الدراما والرقص والموسيقى والأدب الهندى.
- يشتمل هذا المؤلف القيم على 435 صفحة ويضم 339 لوحة مصورة ما بين ملونة وأبيض وأسود ، كما ينفرد بنشر بعض اللوحات التى لم يسبق نشرها من قبل سواء فى مصر أو فى غيرها.
- يتناول المؤلف فى البداية نشأة الشعب الهندى ومراحل تطوره على مدى تاريخه ويستعرض معتقداته الدينية وآلهته على مر القرون وما صاغه من ملاحم وطقوس وأناشيد ترددها الألسن إلى اليوم.. كتوطئة منطقية للوقوف على أسرار الفن الهندى الذى استلهم موضوعاته منها مجتمعه.
- ثم ينتقل إلى عقائد الهند المتعددة : البراهمانية، الهندوكية، اليوجا، الأسفار المقدسة، الكرمة إلى الهندوكية الحديثة والتى تقوم على ثالوث الهند المكون من براهمة `الإله المتعالى`، فشنو `الإله الهادم` وشيفة `الإله الواقى` حتى يصل إلى علاقة الفن الهندى باللغات وفك شفرة اللغات القديمة واللغات المستخدمة والنصوص المقدسة ثم علاقته بالأختام أى `التوقيعات` على الوثائق وأنماط الكتابة والعملات النقدية وأنساق الفن والأدب التى يلجأ إليها الكاتب لاجتذاب المتلقى بطريقة غير مباشرة مثل استخدام عناصر لافتة ومتنوعة كالفكاهة أو الهزل و البطولة أو الترويع.
- بعدها يتطرق المؤلف إلى الفنون الهندية من حيث مدى تعبيرها عن العقائد الدينية وأهمها الهندوكية والبوذية .
- يتناول بعد ذلك د.عكاشة فنون النحت والعمارة الهندية `المركبة ` حيث يرى أن هذه الفنون قد نبعت من صميم المعتقدات الدينية وإن وفدت عليها تأثيرات أجنبية على مر التاريخ .
- إلى أن يصحبنا فى رحلة مثيرة يستعرض فيها الفنانون الهندية عبر عهود الأسرات الحاكمة - مع التركيز على أسرة جوبته 320 -510م والتى تمثل ذروة الأمجاد الفنية - مرورا بالخصائص النحتية والمعمارية للمعابد الرائعة التى شيدتها الأسرات عبر العصور ولم ينس صاحب هذه الدراسة الجادة الممتعة أن يتناول فى الوقت نفسه فنون المناطق الشمالية المتاخمة لشبه القارة الهندية والتى غدت اليوم تابعة لدول أخرى بعد أن كانت تدور فى فلك الحضارة الهندية فى زمن سابق وهى كشمير وأفغانستان وبختريا .
- بعدها ينتقل المؤلف إلى المد الآسيوي للفنون الهندية على أيدي الملاحين المغامرين والتجار والمفكرين والفنانين الرحالة الجوابين فى تلك الأنحاء النائية والذى تؤيده النقوش الموصولة فى الملاحم فى مختلف الأقطار المجاورة مثل سيريلانكا، إندونيسيا ، كمبوديا، فيتنام، وبورما.
-ثم يتناول صاحب الموسوعة الفريدة بعد ذلك موضوع التصوير فى الهند بمدارسه المختلفة : أسرة بالا، المدرسة الجينية، المدرسة الدكنية، الراجه مالا، المدرسة الراجستانية ومدرسة منطقة ميوار والأخيرة كانت مصدر إلهام المصورين بفضل ما تميزت به من طبيعة خلابة .
- ثم تطرق د.عكاشة إلى موضوع مصورى الهند، رغم صعوبة تناولهم بسبب إنكار المصور الهندى لذاته تماما بالإضافة إلى أن هؤلاء المصورين كانوا من بيئة أمية تجهل القراءة والكتابة .
- وينتقل بنا د.عكاشة بعدها إلى الإسهام الإسلامى المغولى فى الحضارة الهندية حيث ازدادت العناية بتصوير المخطوطات مع دخول الإسلام الهند فى القرن التاسع، وبعد الغزو المغولى أدخل السلاطين التصوير المغولى الذى هو نابع أصلا من التصوير الفارسى وأتحفوا الدنيا بالمنمنمات المصورة المغولية والذى بذل فيها المصورون غاية جهدهم لتصوير عظمة بلاط السلاطين.
- ثم يتناول المؤلف العمارة المغولية وتطورها مع التركيز على مقام تاج محل والذى يعد درة المبانى الجنائزية على وجه البسيطة .
- يطوف بنا ويمتعنا بعد ذلك د. عكاشة بفنون الدراما والموسيقى والرقص والأدب فيتحدث عن مصادر الدراما الهندية ` وهى الملاحم الدينية الكبرى ` والتى كانت تعد نشاطا حضاريا يرتبط ببلاط الملوك والأمراء، ثم يتناول الموسيقى باعتبارها فنا هنديا عريقا يرجع تاريخه إلى ثلاثة آلاف عام وهو الفن الذى ينفرد عن الفنون الأخرى بأنه يشارك فيه الشعب كله مرددا صداه يتناولها جيلا بعد جيل فظلت بذلك موصولة باتصال الحياة. أما الرقص فيوضح لنا المؤلف أن الهنود يعتبرونه قربانا يقدمونه إلى الآلهة.. لذا فقد جرى العرف على التحاق مجموعة من الراقصات بكل معبد، ليقدمن رقصاتهن قربانا طقوسيا وهو عرف يمتد إلى يومنا هذا .
- ويختتم د.عكاشة موسوعته بفنون الأدب الهندى الكلاسيكى مشيرا إلى نجومه وهم: فالميكى، فيدا فياس والشاعر العبقرى كاليداسة الذى احتذى طريقته كل من جاء بعده من شعراء ومؤلفى الدراما.. مع التركيز على الشاعر والروائى والفيلسوف والمصلح الاجتماعي `رابندرانات طاجور` الحائز على جائزة نوبل للآداب والفائز بأرفع وسام من ملك السويد برتبه فارس ` سير` من العرش البريطانى والذى امتدت حياته ثمانين عاما عبر القرنين التاسع عشر والعشرين والذى لم يلتفت إلى نظم الشعر فى مدح الملوك والأمراء والاستعمار البريطانى الغاشم - كما جرت العادة حينذاك - بل انبرى بكل حماس ينشر فى العالم بأسره فلسفة شاعر يؤمن بتوحد البشر وأخوة الشعوب مهما تختلف لغاتهم وعقائدهم واهتماماتهم لأنهم - فى عرفة - أبناء الله الواحد الأحد خالق الكون ومدبره.. وترك طاجور فى كل الأسماع والقلوب أثرا لا يمحى ولا يزول من إنتاج أدبى وشعرى بلغ درجة عالية من السمو حتى لم يدع قلبا إلا نفذ إليه ولم يلق وجدانا دون أن يخلف فيه بقية من رنينه وأنينه معا.
نجوى عزت
نصف الدنيا - 29 /5 /2005
ثروت عكاشة .. أنقذ (فيله) و (أبو سمبل) - أديب ووزير برتبة ضابط
* فى الذكرى الأولى لرحيل مؤسس صحافة ثورة يوليو ..
-عام يمر على ذكرى رائد الثقافة المصرية المعاصرة ثروت عكاشة الذى أسس للسياسة الثقافية المصرية بعد ثورة يوليو 1952 وهو المؤسس الأول لصحافة الثورة، حين تولى رئاسة تحرير مجلة `التحرير` فى سبتمبر 1952 التى تركها فى العيد الأول لثورة يوليو، ثم مهمة وزارة الثقافة والإرشاد القومى عام 1958 حتى 1962، لكنه بعد تركه الوزارة تولى رئاسة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ثم عاد مرة أخرى وزيرا للثقافة عام 1967.
- تميز ثروت عكاشة بأن أداءه كان أداء ثقافيا أكثر منه إعلاميا، فكان يعقد اجتماعا شهريا مع قيادات الوزارة لمتابعة وتطوير السياسة الثقافية وهو ما توقف بعد تركه الوزارة، كل مشروع ثقافى مهم بمصر الآن هو من تأسيس وفكر عكاشة، فالحال الثقافى وقت الخمسينيات والستينيات هو الأفضل من الوقت الحالي، فهو واحد من ثلاثة مع فتحى رضوان وأحمد حمروش ممن ألقوا بظلالهم على الثقافة المصرية فكان مترجما من قبل توليه الوزارة ومن أهم ترجماته كتاب `مصر فى عيون الغرباء`، أيضا تجربته الصحفية الهامة مجلة `التحرير` التى كتب فيها أهم الكتاب والشعراء، عن قيمة ثروت عكاشة الثقافية والفكرية والفنية يقدم عدد من المثقفين والمفكرين شهاداتهم فى السطور التالية..
- يرى الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق أننا كنا بحاجة إلى شخصية مثل الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة فى العصر الناصري، فهو أحد البناءين العظام للثقافة المصرية ورمز من رموز النهضة الثقافية التى تمزج بين القول والفعل والرؤية والإنجاز وإسهاماته تتنوع بين الكم والكيف وهى تتنوع فى التأليف والترجمة، كما أن المشروعات الثقافية التى أنجزها مثل كتاباته عن فنون الشرق مثل الفن المصرى القديم والكتابة عن فنون الإغريق والرومان مرورا بعصور النهضة وصولا إلى الفن الحديث وتأسيسه لمدرسة مصرية فريدة فى الكتابة والتأريخ للفن، حيث كان يمزج بين الطلاقة والأصالة وكان يمتلك الرؤية والقدرة على متابعة تلك الروية باستمرارية متواصلة وكان يكتب فى علوم النفس والترجمة.
- وأشار عبد الحميد إلى أن بدايات عكاشة كانت قبل ثورة 1952 ككتاباته فى علم النفس وعلاقته بالفن هى علاقة ممتدة، وأردف قائلا: من إنجازاته الثقافية إنشاء وتأسيس الثقافة الجماهيرية، فرقة الموسيقى العربية، والفرقة القومية للفنون الشعبية وفرقة باليه القاهرة والسيرك القومى، وعروض الصوت والضوء فى الهرم، وقطاع التفرغ الخاص بالأدباء ومتحف مختار وإنقاذ آثار النوبة وتطوير أكاديمية الفنون وإنشاء قانونها، إضافة لتأليفه أكثر من ستة وعشرين كتابا تعرض لعصور الفن المختلفة ووصولا إلى كتاباته عن الجماليات ومذكراته عن السياسة والفن وترجم كتابات جبران خليل جبران، ومتيرلنك، وأوفيد وبرنارد شو التى تقترب من النقد الثقافى لأنه لا يقوم برصد تسلسل تاريخى بل رؤية بانورامية مكثفة للعصر وما يحدث فيه وأهم أحداثه التاريخية وطبيعة المكان والفنانين البارزين آنذاك، إضافة لتحديده الملامح الفنية كناقد فى الفن وعالم اجتماعى يقدمه فى لغة متدفقة ذات أثر خاص على القارئ تضيف إلى معارفه وثقافته.
- الناقد والفنان التشكيلى عز الدين نجيب أحد الذين عملوا مع ثروت عكاشة بوزارة الثقافة يقول عن تلك المرحلة : الحديث عن عكاشة ذو شجون كثيرة لأنه صانع مؤسسات، وكان يراهن على الشباب فى البناء الثقافى حيث كان يستدعى مجموعة من الشباب للقيام بأدوار قيادية فى الأعمال الثقافية، خاصة أن الشباب فى ذلك الوقت كان ما بين مؤمن بمبادئ الثورة ومنهجها، وما بين معترض على مسارها الديمقراطى، بالتالى لا أحد يتنبىء بما سيفعلونه آنذاك.
فبالرغم من أنه آت من منطقة العسكريين لكنه رائد ثقافى مهم وله رؤية ثقافية سابقة لعصره فى الخمسينيات، وكان لى الشرف أن أكون على مقربة منه وقت إنشاء قصور الثقافة من 1966حتى 1968 وربما لا أبالغ حين أقول أن أغلب المؤسسات الحالية لم تستطع الحكومات المتعاقبة أن تضيف لها الكثير بعد عكاشة، فالمتاحف وآثار النوبة وهيئات الكتاب ومؤسسات كثيرة وضع بذرتها، فلم يكسر مشروعه الثقافى سوى نكسة 67، وتنبغى الإشارة أن عكاشة عالمين عالم إبداعي وعالم الإدارة الثقافية، فموسوعته الشهيرة `العين تسمع والأذن ترى` لم تظهر موسوعة جديدة على مستواها، كما أنه كان دائما ما يبحث عن المبدعين المهمين والفنانين المهمين اهتماما منه بالحصول على حق نشر أعمالهم واقتناء أعمالهم الفنية، أيضا اهتمامه الواضح بالموسيقى فلم يكن يهتم بفرع واحد من الفنون دون غيره.
- أكمل نجيب حديثه: حمل عكاشة شخصيتين هما شخصية المثقف الذى استطاع نقل ما سمى بفنون النخبة إلى أن تصبح فنونا لجموع الشعب وذلك بإنشائه أكاديمية الفنون التى أخرجت قامات رفيعة من مختلف الفنانين، أيضا حرصه الشديد على الثقافة الجماهيرية وذلك بتأسيسه الإدارة العامة للثقافة الجماهيرية عام 1966 ولم يبخل على أي من قصورها بما يحتاجه من إمكانيات وكذلك المبنى نفسه واهتمامه بما يقدم بهم من فنون، كما أن تبنيه القضية الثقافية من الناحية السياسية كان له بعد آخر، فواقعة صدامى الشهير مع محافظ كفر الشيخ إبراهيم بغدادى الذى كان من قبلها رجل المخابرات العامة المعروف الذى وقف فى وجه استضافة أحد الكتاب الشيوعيين الهامين هناك ووقف عكاشة سدا منيعا بينى وبين المحافظ وعبد الناصر وتطور الأمر إلى احتمال هدم هذا المشروع من أساسه، وكانت معركة سياسية وقتها انتهت بنجاح عكاشة فى إقناع عبد الناصر بأنه مهم للنظام ويعتبر مراجعة للفكر، بعد ذلك أعطاني فرصة إدارة مراسم الغورى وهو من أسس منح التفرغ للتشكيليين وأعاد افتتاح متحف الفن الإسلامي والمصري، ويذكر له أن أسعار الكتب كانت تباع بقروش زهيدة لإيمانه بأن القراءة والثقافة هى كالماء والهواء، كذلك استعارته للقوافل الثقافية من أوروبا والتى تجمدت وأهملت بعد خروجه من الوزارة، وكانت فكرة هامة جدا وبسيطة لا تحتاج لتكاليف والتى كان لها فعل السحر فى تنمية وعى وثقافة الجماهير، الأخطر من ذلك هو مناقشة أسباب النكسة فى قصور الثقافة فالفلاحون كانوا يسألون ويستفهمون ويدلون بآرائهم فى النكسة.
- أما الدكتورة فينوس فؤاد أستاذ النقد الفنى وخبير التنشيط الثقافى تقول : ثروت عكاشة ليس أول وزير ثقافة بعد انفصالها عن هيئات الإرشاد القومى فقط بل هو أيقونة المنظومة الثقافية الناجحة،فعلاوة على أنه واضع اللبنة الأولى للثقافة الجماهيرية التى تحولت فيما بعد إلى قصور الثقافة فهو راعى الثقافة الأبرز فى مصر حيث إن أفكاره المتجددة دائماً كانت أهم أسباب وضع مصر على المصاف العالمى فى المؤسسات الثقافية فهو من أسس : أكاديمية الفنون بمعاهدها النادرة فى ذلك الوقت والتى حظيت فى بداياتها وحتى وقت قريب قبل أن تتدهور أحوالها بمكانة عالمية من خلال التبادل الثقافى والبعثات الخارجية والخبراء الروسيون الذين أسسوا قاعدة عريضة من الفنانين القائمين على الحركة الموسيقية والمسرحية والسينمائية والباليه ، كما أنه المسئول الأول عن تحول الثقافة من كونها ثقافة النخبة والطبقة العليا إلى أن أصبحت الثقافة جماهيرية عن طريق تدعيمها بهيئات المسرح وبيوت الثقافة التى تحولت الآن إلى قصور الثقافة أو بالأحرى أصابها القصور فى الثقافة كما قام بتوسيع مجالات الفنون الشعبية وشجع الحرف التقليدية وأقام مراسم للفنانين فهو باختصار بان الثقافة المصرية الحديثة ويكاد يكون أول من ربط بين المؤسسات المتحفية والمؤسسات الثقافية والوحيد الذى قام بتقريب الثقافة الغربية والكتب المترجمة إلى القارئ المصرى وطباعتها وتوزيعها بمبالغ زهيدة لتصبح فى متناول الجميع.
- كما أنه أول من وضع سياسة ثقافية معلنة وناجحة فى مصر حيث يرجع السبب الرئيسى فى نجاح سياسته الثقافية هو حرصه الدائم على التنسيق بين الهيئات والمؤسسات الثقافية المختلفة وهو عكس ما يحدث الآن حيث تحولت المؤسسات الثقافية إلى جزر منعزلة لا تتعاون ولا تتلاقى على الإطلاق .
-وكان أول من أخرج الثقافة من الحجرات والصالونات الفكرية وتواصل مع سكان القرى والنجوع عن طريق القوافل الثقافية مما يسر إيجاد لغة للحوار السياسى والاجتماعى بين أفراد المجتمع الواحد بعد سنوات طويلة من القمع والكبت والتى أدت فيما بعد إلى تسهيل مهمة إنشاء الأحزاب السياسية كما ساعدت على تأصيل الهوية المصرية وتكامل جوانبها.
-علاوة على دوره المعروف فى إنقاذ الآثار التى ساهمت فى إنعاش السياحة الثقافية مثل معبدى فيلة وأبو سمبل كما أنه صاحب أكبر موسوعة فى تاريخ الفنون الأوروبية باعتباره أستاذا لتاريخ الفن فى `كوليدج دى فرانس` حيث قام بإصدار أكبر موسوعات الفنون التشكيلية والنقدية التى تدرس حتى الآن فى كليات الفنون المختلفة.
تغريد الصبان
روزاليوسف - 26/ 2/ 2013
6سنوات على رحيل فارس الثقافة..ثروت عكاشة
- تولى الدكتور ثروت عكاشة وزارة الثقافة لفترتين الأولى من 1958 إلى 1962 والثانية من 1966 حتى 1970، فاستطاع أن يحدث تغييرا جذريا فى المشهد الثقافى فى مصر، أدى إلى نهضة ثقافية حقيقية خاصة على المستوى الفكرى، ويراه الكثيرون الشخصية الثقافية الأولى فى مصر، وكان اسمه يتردد صداه على امتداد الوطن العربى الكبير، وفى عواصم الثقافة فى أوروبا.
وُلد الدكتور ثروت عكاشة فى 1921م فى القاهرة وهو شقيق الطبيب النفسى أحمد عكاشة، وقد تخرج فى 1939 من الكلية الحربية، ودرس فى كلية أركان الحرب من 1945 إلى 1948 ثم حصل على دبلوم الصحافة من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1951 وعلى درجة الدكتوراه فى الآداب من جامعة السوربون بباريس عام 1960 وقد بدأ ثروت عكاشة حياته العملية كضابط بالقوات المسلحة وعقب ثورة يوليو 1952 عمل ملحقا عسكريا بالسفارة المصرية فى بون ثم باريس ومدريد من 1953 إلى 1956 وكان سفير مصر فى روما من 1957 إلى 1958 ثم جاء وزيرا للثقافة والإرشاد القومى من 1958 إلى 1962، كما كان رئيساً للمجلس الأعلى للفنون والآداب (المجلس الأعلى للثقافة) فى 1962 فضلا عن عضويته فى العديد من الهيئات الأخرى ومنها المجلس التنفيذى لمنظمة اليونسكو بباريس من 1962 إلى 1970.
كان عضوا بمجلس الأمة من 1964 إلى 1966 ونائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة من 1966 إلى 1967 ثم وزيرا للثقافـة من 1967 إلى 1970، كما كان نائب رئيس اللجنة الدولية لإنقاذ مدينة البندقية من 1967 إلى 1977، ثم مساعد رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية من 1970 حتى 1972 والمجمع الملكى لبحوث الحضارة الإسلامية، كما كان أستاذا زائرا بالكوليج دو فرانس بباريس عام 1973م، وانتخب زميلاً مراسلا بالأكاديمية البريطانية الملكية فى 1975 ورئيساً للجنة الثقافة الاستشارية بمعهد العالم العربى بباريس من 1990 حتى 1993.
حين تولى ثروت عكاشة وزارة الثقافة فى عهد الرئيس عبدالناصر أنشأ كثيرا من الهيئات التى تعمل على إثراء الحياة الثقافية والفنية إلى يومنا هذا مثل المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (المجلس الأعلى للثقافة) والهيئة العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية وغيرها، وحقق نجاحًا كما أنشأ أكاديمية الفنون عام 1959 بمعاهدها الفنية المتخصصة المختلفة، وأسس فرق دار الأوبرا المختلفة مثل أوركسترا القاهرة السيمفونى وفرق الموسيقى العربية، والسيرك القومى ومسرح العرائس، وأنشأ قاعة سيد درويش بالأكاديمية لعمل الحفلات بها، ووجه اهتمامه للآثار المصرية، حيث وضع الأساس لمجموعة متاحف هى من أعظم المتاحف المصرية للآن، كما بدأ تقديم عروض الصوت والضوء، كما كان له دور وطنى بارز من خلال إقناع المؤسسات الدولية بالعمل على إنقاذ معبدى فيلة وأبوسمبل والآثار المصرية فى النوبة.
حظى ثروت عكاشة بالعديد من مظاهر التقدير وحاز العديد من الجوائز المحلية والعالمية ومنها وسام الفنون والآداب الفرنسى عام 1965م، ووسام اللجيون دونير «ووسام جوقة الشرف» الفرنسى بدرجة كوماندور عام 1968 وعلى الميدالية الفضية لليونسكو تتويجاً لإنقاذ معبدى أبوسمبل وآثار النوبة، والميدالية الذهبية لليونسكو لجهوده من أجل إنقاذ معابد فيلة وآثار النوبة عام 1970م، وجائزة الدولة التقديرية فى الفنون من المجلس الأعلى للثقافة فى 1987 وجائزة مبارك فى الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 2002. ولثروت عكاشة العديد من الكتب والموسوعات الفنية تقترب من 45 كتابًا مترجمًا، من أشهرها ترجمة للشاعر جبران خليل جبران، وأعمال الرومانى أوفيد، كما يعتبر كتابه «مذكراتى فى السياسة والثقافة» وأيضًا مجموعة كتب «العين تسمع والأذن ترى» بأجزائها المختلفة، والتى تعبر عن الفنون فى عصورها المختلفة، بمثابة موسوعة فنية متكاملة فى الفن والحياة وإعصار من الشرق والقيم الجمالية فى العمارة الإسلامية، وقد توفى عكاشة فى 27 فبراير 2012 عن 91 عاماً.
ماهر حسن
المصرى اليوم : 2018/2/23
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث