`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
صلاح عبد الكريم

- إذا ذكر أسم ( صلاح عبد الكريم ) تبادرت إلى الأذهان صورة أربعة فنانين يحملون نفس الأسم . فهناك صلاح عبد الكريم المصمم المزخرف، وصلاح عبد الكريم المصور ، وصلاح عبد الكريم المثال ، وصلاح عبد الكريم الخزاف ...
- وإذا أردت أن تحدد موعداً مع هؤلاء الفنانين جميعاً فى ساعة معينة ومكان معين .. فيدهشك الا تجد فى استقبالك سوى شخص واحد يأسرك برقته وبساطته ، وشدة أدبه وتواضعة ، وستدرك بعد أن تلتقى بهذا الشخص أنك فى لقاء مع الفنانين الأربعة ...
- فليس صلاح عبد الكريم سوى أربعة فنانين كبار .. مجتمعين فى شخص واحد .. وإذا أردت أن نتحدث عن جانب من جوانب هذا الفنان - تحتار عن أى الجوانب تتحدث .. فكل جانب من جوانبه موهبة كاملة ، وعبقرية فذة ، ولايمكنك فى مجال المقارنة أن تفضل بحال من الأحوال صلاح المزخرف .. عن صلاح المثال أو المصور.. فهو كالجوهرة المتألقة لا يمكن النظر إليها من جانب واحد .
- ومن النادر أن ترى هذا الفنان غير منشغل بعمل جديد بضيفة إلى انتاجه الضخم .. فهو فى جميع ساعات النهار والليل يفكر، ويبتكر.. ويندر أن تجد قبضته خالية من مشعل الأكسجين يعالج به قطع الحديد الخردة ، يجمعها ويلحمها ، ويخلق منها تحفاً رائعة، كل قطعة تحتل مكانها بدقة وعناية لتؤدى وظيفة تشكيلية معينة .. كل جزء فى هذا الهيكل الكبير محسوب ومقدر ومنظم بروح ملهمه ، وعقل كبير ..
- ان صلاح عبد الكريم موهبة تفخر بها حركتنا الفنية المعاصرة .
الناقد / حسين بيكار
الفنانون - صلاح عبد الكريم
في معرض الفنان جلال جمعة
شدو الكائنات فى تشكيلات من السلك المغزول
- ذات يوم من عام 1943 كان بيكاسو معجزة القرن العشرين يتجول بأحد الشوارع باريس عندما عثر على بقايا دراجة وأخذ الكرسى والجادون وحولهما إلى تشكيل بديع بهيئة رأس ثور .. وفى أول معرض له أقيم بعد الحرب العالمية الثانية ... كان شديد الاهتمام بأن يعرض هذا المسخ الآلى على أكبر عدد من الجمهور ... وقد حظى هذا التشكيل بعد ذلك بشهرة كبيرة فى الفن الحديث كأبسط أسلوب فى التعبير الفنى عن طريق التوليف من الأشياء المهملة والمألوفة التى تتعامل معها فى حياتنا اليومية .
- وعلى الجانب الآخر تمثل أعمال فناننا الشامل صلاح عبد الكريم إضافة جديدة على نفس الطريق .. فقد قدم إبداعاته الفنية فى كل اتجاه من التصوير الويتى والرسم الصحفي والتصميم الزخرفى وفن الإعلان وتشكيلات ومجسمات الخزف وديكور المسرح والسينما .. لكن وبالإضافة إلى هذا قدم فتحاً جديداً فى الابداع التشكيلى المصرى وقد وجد ضالته فى سوق الحديد الخردة من تلك الأكوام التى ترقد جامدة بالا حراك وكانت من قبل تنبض بالحياة .. فقد كانت فى الأساس أجزاء لمحركات عملاقة وآلات هادرة .. وجاء تساؤله وإجابته فى نفس الوقت : لماذا لا يعيد الحياة إلى هذه الأشكال الساكنة التى كانت من قبل في سباق مع الزمن , وكان أن بدأ فى جمعها وتشكيلها فى العالم جديد .. بهذا التوليف المحكم من تلك الأشلاء من التروس والأسلحة والمفاتيح والرولمان بلى والسلاسل والجنازير والمفكات والمقابض والمقصات .. وبدأ يشكل منها عالماً بديعاً أعاد لها الحياة .. تألفت فى أعماله العديدة .. مثل تمثاله التصنيع والذى يمثل انطلاقة عملاق يحمل بين ذراعيه رمز العلم من الذرة والجزئ وأيضا تماثيله العديدة كتمثال السمكة من الرقائق المعدنية وتمثال الديك من المسامير ورقائق الحديد .. وتمثال الضفدعة من الرولمان بلى والتى تكاد تقفز من فرط التعبير وقوة الحركة .. كل هذا مع البومة والثور وغيرها من تماثيل نفايات الحديد .
- وقد توج هذا المشوار من الإبداع بفوزه بجائزة النحت الشرفية فى دورتين من دورات بينالى ساووباولو بالبرازيل .. وهذا أجمل تقدير وأكبر تأكيد على احترام النفايات البسيطة من مهملات حديد الخردة .
الناقد / صلاح بيصار
حواء 17 /1/ 2009
صلاح عبد الكريم .. إبداعات متعددة !
بين الحين والآخر ، نحاول استرجاع قيمة فنانينا الذين سبقونا .. لندرس سيرة حياتهم ، نشأتهم ، وإهتماماتهم وإبداعاتهم ... حتى تكون خريطة حياتهم أمامنا دائما ننهل منها ونتعلم ، وتهدينا إلى الطريق الحق للفن .
فى شهر نوفمبر من كل عام ، وتحديداً فى اليوم الخامس منه يحتفل الفنانون فى مصر والعالم العربى بذكرى مولد الفنان الكبير الراحل ` صلاح عبد الكريم ` فهو من مواليد مدينة الفيوم بمصر وكان والده موظفاً ، وترتيبه الثالث بين الأشقاء فى العائلة المكونة من خمسة أولاد.
ولد الفنان صلاح عبد الكريم عام 1925 وظل فى الفيوم حيث التقى بالفنان حسين يوسف أمين وأعضاء ` جماعة الفن المعاصر ` بمدرسة الملك فاروق الأول الثانوية بالعباسية ، وتعرف على اتجاهاتهم السيريالية ، وفى عام 1943 التحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة وتخصص فى الفنون الزخرفية ، وظل طيلة سنوات الدراسة بالكلية يبحث وينقب ، وكان مجتهداً ومتفوقاً إلى أن تخرج بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف عام 1947 .. وقد دفعه تفوقه إلى أن يتبوأ مكانته الطبيعية كمعلم للفنون بكلية الفنون الجميلة ، ثم تفتحت أمامه أبواب النجاح على مصراعيها فذهب إلى فرنسا وإيطاليا فى بعثة دراسية لاستكمال دراسته فى فنون التصميم والديكور المسرحى والسينمائى ، وزادت خبرته فى مجال تصميم الأثاث والعمارة الداخلية ، وانتشرت تصميماته فى مصر وخارجها حتى أصبح أحد أعلام الديكور.
فن الصورة الشخصية
بدأت خطوات ` عبد الكريم ` تتجه نحو رسم الصورة الشخصية ` البورتريه ` معتمداً فى خوض هذه التجربة على رصيده المخزون فى التصميم الزخرفى ، فجاءت لوحاته فى التصوير كما لو كانت قصائد شعرية رصينة تقوم على دعائم الايقاعات الرياضية حيث كان شائعا فى ذلك الوقت الاتجاه التكعيبى ، خاصة تكعيبية ` بيكاسو ` و ` براك ` فهما أقرب إلى عقله وقلبه بعد أن أعد جولة واسعة فى شوارع ودروب باريس.
استعان ` عبد الكريم ` فى رسم الصور الشخصية بملهمات من فتيات فى مرحلة الشباب ، جانحاً تجاه سلامة النفس الراضية وهدوء السريرة ، التى كان يغلف بهما وجدانه وكان توجههه الأساسى بنائياً لا عاطفياً ، مع تأكيد تجسيم السكينة الداخلية لملهماته .
عالم الرسم الصحفى
شعر الفنان ` عبد الكريم ` أن مواهبه تتعدى الحدود الطبيعية ، وابداعاته تتفجر يوماً بعد يوم ، وزاد إصراره بأن مواهبه الابداعية لا ينبغى أن تظل منغلقة على المثقفين وهواة الاقتناء فقط ، وإنما ينبغى أن تسعى إلى القارئ العادى ، وأول ما يلتقى به هذا القارئ هو الصحيفة التى يقرأها يومياً..فراح يرسم للصحف والمجلات ، ولكن الرسوم هذه المرة لم تكن تقريرية أو توضيحية إنما انتهج نهجاً مختلفاً يحدث الترابط والثنائية المتسقة التى تؤنس النص وتقوية وتضيف إليه رؤية جديدة مستحدثة دون أن تكون دخيلة عليه.
ولم تكن رسومه الصحفية متعالية على الجمهور العادى ، وإنما كانت تتميز بالسهولة واليسر فى نفس الوقت الأمر الذى حدا بالكثير أن يحتفظوا بتلك الرسوم المنشورة واعتبارها لوحات شعبية رائعة ، ولأنه كان مقتنعاً فى ذلك الوقت الذى كان فيه الفن التشكيلى والمعارض ليس لها رواد أو اهتمام ، فكان على قناعة كبيرة بأن الذى يرى أنه الغذاء اليومى لعامة الناس..وقد فتحت الصحافة وقتها أبوابها لاستقبال فن صلاح عبد الكريم
ليضيف إليها اللمسة رفيعة المستوى ، وأصبح من المعتاد يومياً أن ينتظر القراء لوحاته مترابطة مع الكلمة المقروءة وأصبحت ظاهرة يفتخر بها الإعلام وقتذاك.
دنيا الحديد الخردة
فى عالم غير مسبوق ، تطرق الفنان ` عبد الكريم ` إلى تجربة تطويع الحديد الخردة وتشابك أطرافه بلحام الأوكسجين استكمالاً لمسيرة حياته الفنية التى تميزت بالتحدى الدائم ، لقد قام بتطويع الحديد عن طريق تعريضه للهب لحام الأوكسجين الذى يستخدمه عمال المصانع فى تثبيت الأجزاء فى مواقعها ، .. وكاد يفقد عينيه بسبب شظية طائشة من الحديد المتطابر اخترقت عينية ، وكانت أغلى ضريبة يدفعها فنان نظير تجربة قابلة للنجاح والفشل فى آن واحد.
لقد انبثقت قريحة الفنان المبدع على البحث عن كميات الحديد الخردة بواقى المصانع والمقاولين وغيرهم ، فذهب إلى وكالة البلح وهى مكان لفضلات الحديد بكل أشكاله ، حيث كان ينظر إلى مخلفات الحديد الخردة وكأنها أشلاء من كائنات حية كانت منذ لحظات تؤدى دوراً فى غاية الأهمية فى حياة الإنسان ثم أصابتها الشيخوخة .. من هذا المنطلق كان ينظر إلى أكوام الحديد الخردة بنظرة تشريحية حيث يرى فى احداها أرجل لحيوان أو أذرع لإنسان أو جسم ديك ، فهناك التروس ومحاور العجل الخاص بالسيارات ، وخزانات الوقود والأسلاك والصواميل ..
ومن أمثلة الأعمال النحتية التى نفذت بالحديد لعبد الكريم تمثال ` ألبومه ` وربما يكون هذا التمثال خير مثال لاستعانته ببعض الأدوات الدقيقة التى ينسقها فوق جسد التمثال لكى يحقق الإحساس بملمس الزغب ، الذى يحمل الريش ..وتتميز عنيا ` ألبومه ` باختراق ظلمات الليل وتنقض على فريستها بكل مهارة بفضل هاتين العينين النفاذتين اللتين تمثلان محور الصدارة والبطولة فى التمثال.
وفى تمثال ` المعزة ` الذى نفذه الفنان بالحديد والذى عبر فيه عن رقة هذه الحيوان ووقفته المختالة رغم أن خامة الحديد صلبة إلا أن التمثال يمتاز بالرشاقة والرقة وتناسق النسب فضلاً عن وقفته المتزنة التى تتميز بالاعتداد بالنفس.
اشترك ` عبد الكريم ` فى مسابقة للنحت تحت عنوان ` العمل ` شكلت لها لجنة من المتخصصين لتحكيمها بحيادية وموضوعية .. وفوجئت اللجنة بتمثال ضخم من الحديد من عمل المصمم ` صلاح عبد الكريم ` ، فما كان من أحد المحكمين أن قال : إن هذه بدعة جديدة لا علاقة لها بفن النحت وإن هذه بدعه جديدة لا علاقة لها بفن النحت وإن هذا التجمع من مخلفات الخردة لا شأن له بفن النحت على الاطلاق .
ودار حوار ساخن وجدلى إلى أقصى حد انتصر فيه تمثال الحديد الخردة على أقرانه من التماثيل الاخرى البرونزية والرخامية والخشبية .. وقد تكون هذه المسابقة هى السبب المباشر فى تغيير مفهوم فن النحت من قوالبه التقليدية وانتصرت القيمة الفنية المجردة على وسائل التعبير المعتادة .
عادل ثابت
الكواكب :6 / 12 /2011
نحات كبير بالصدفة
- أقام الفنان الكبير ` صلاح عبد الكريم ` أكتوبر 1985 معرضاً شاملاً لإنتاجه فى مجال النحت والتصوير، وكان المتوقع أن يضم المعرض إنتاجه من ` الخزف ` أو على الأقل ` تصميماته الديكورية ` التى تخصص بها ، وسافر من أجلها إلى إيطاليا، وفرنسا، فى بعثة استغرقت خمس سنوات، ويبدو أنه انحاز إلى فن النحت منذ عودته عام 1958، وربما كان الدافع إلى هذا الانحياز الموفق كلمة أمينة فتحت أمامه آفاقا جديدة .
- فقد حدث أن كان منشغلا بصنع شكل نحتى لـ ` سمكة متوحشة ` من الحديد الخردة يزين بها غرفة الطعام ، حيثما صادفه الفنان والناقد ` حسين بيكار ` ، وأبدى إعجابه بها ، ولم يكتف بذلك بل لح عليه فى الاشتراك بها فى بينالى ، ` ساوباولو` وفوجئ بفوزها بالميدالية الشرفية ..
- وكانت المفاجأة حافزا له للاشتراك فى بينالات أخرى ، فاز فى معظمها فيما أظن . إلا أنه عندما اشترك فى مسابقة محلية ، ارتبكت لجنة التحكيم التى كانت تضم كبار النحاتين المصريين ، وتساءلت إن كان ذلك العمل منتميا أصلا لفن النحت ، واحتج البعض على اشتراكه أصلا فى مسابقة للنحت باعتباره أستاذا للزخرفة !!
- لم يكن الحديد معرفا فى مصر كخامة نحتية ، إلى أن أدخلها ` صلاح عبد الكريم ` عام 1958 وأثارت من المناقشات .. واختلاف وجهات النظر .. التى لا يخلو بعضها من طرافة الركود بعض الشئ ..
- ومن الاتهامات التى سيقت ، ذلك الاتهام الموجه ` للخامة ` باعتبارها خامة لا تفصح إلا عن هوية غربية .. ولا تعبر إلا عن مجتمعات صناعية .. ومن ثم ليس من حق فنانى العالم الثالث الاقتراب منها!!
- غير أن منحوتات ` عبد الكريم ` قد فجرت بشكل واضح ، وصريح ، الاحتياج إلى تجديد الخلايا .. بالخروج من قوقعة الجمود ، بالتعرف على ما يدور فى العالم الخارجى.
- دار المعرض حول أربعة موضوعات هى بالترتيب : ` الحشرات ` ` الحيوانات ` ` الإنسان ` كما قدم بعض ` منحوتاته التجريدية ` الأخيرة الشبيهة بالعقد .
- والمتابع لرسومه الصحفية ، ولوحاته التصويرية ، يكتشف أن أنسب الخامات الطبيعية خطوطه ، وتصميماته ، هى خامات الحديد فخطوطه حادة قاطعة يلتزم بالأسلوب ` التكعيبى ` إلا أن تكعيبيته ` تخلو من ` التحريف الصارم ` الذى يميز الفنان الغربى وتميل إلى التزينية ` كما تميل إلى ` البنائية ` المنطقية للعناصر .
- إن لحنه النحتى الأساسى هو ` الحشرات ` وهو موضوع عشق قديم ، فقد كان يقوم بتجميعها وتصنيفها والاحتفاظ بها فى غرفته ، والعناية بغذائها . وكان يتمرد أحيانا على دور الراعى ، ويتقمص دور الجراح ، أملاً فى اكتشاف أسرارها التشريحية.
- ولقد أتت تلك الدراسات القديمة بنتائجها فى التزامه بالنسب الواقعية غير أنها - على الرغم - من تمتعها بالأناقة تبدو محملة بشحنات تعبيرية عارمة ، فتبدو ` حشراته وحيواناته ` فى مجملها فى حالة ` تحفز ` استعداداً لخوض معركة .. وتشاركها خطوط ، ومساحات الواحدات الحديدية المتقاطعة مع الضوء النافذ .. ذلك الاندفاع المقاتل .. أما ` الإنسان ` فيظهر هامشياً فى أعماله النحتية . أما مرحلته الأخيرة :
- ` المرحلة الأنبوبية `
- حيث الاعتماد على عنصر واحد، وهو الشكل الأنبوبى ، فإنه يعتمد فى التنفيذ على أعمال تحضيرية ، تعتمد على الحركة الخطية ، المتداخلة ، والمتواجهة ، وتشكل كيانا نحتياً شبيهاً بالعقد ، وتكشف عن إيحاءات حسية ، غير أنها فى تقديرى أقل إثارة ، وإمتاعا للعين ، على الرغم من اقتصادها البليغ.
- ضم معرضه أكثر منحوتاته شهرة ، وإن لم يكن أعظمها مستوى ، أعنى منحوتة بعنوان ` صرخة ` والتى نشرت فى معجم ` لاروس ` العالمى ، وتنتمى الأعمال إلى أسلوب واحد ، باستثناء بعض الأعمال التى تبدو غريبة نوعاً ما .
إن عملاً واحد من أعمال الفنان فى نهايات الخمسينيات كان كفيلاً بإثارة الجدل ، وتحريك السكون ، أما اليوم فمعرضه الشامل يمر فى صمت جنائزى !
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال : نوفمبر1985
الموهبة الواعدة والإصرار العنيد : إخطار الفن رفيقاً للحياة
- ` صلاح عبد الكريم ` اسم لمع فى سماء الإبداع الفنى باعتباره نحاتاً تجاوز المألوف ومصوراً ، صاحب بالته ألوان ، ومزخرفاً ، تألق فى عالم المسرح والسينما وأضاف إلى العمارة الداخلية والديكور الكثير ، لم لا ؟ وقد كان عضواً دائما ومستشاراً فىياً للعديد من مواقع اتخاذ القرار التعليمى والأكاديمى .. كان عميداً لكلية الفنون الجميلة ، ثم نقيباً للتشكيليين .
- ما زلت أذكر يوم رحيله وقد توافد الآلاف لتشييع جنازته من كبار الفنانين وتلاميذه ومحبى فنه والمقدرين لدوره كفنان مبدع ، جمع بين التشخيص والتجريد معتمداً على ذكاء نظرته وقدرته على استيعاب الأساليب الحديثة والتعمق فى أسرارها الحرفية لاستخلاص عناصر التعبير التشكيلى المناسبة من الخامة التى اختارها لتنفيذ وتجسيد أفكاره.
- فقدت الحركة التشكيلية رائد النحت الحديث فى نوفمبر 1988 بعد حياة حافلة بالإنتاج الفنى ، وقد ترك لمحبى فنه وتلاميذه الكثير من القيم الفنية متمثلة فى لوحات فرسك وموزاييك شغلت عدة أبنية رئيسية فى مصر . كما ترك رصيداً بالغ الأهمية على المستوى الإنسانى لنبل شخصيته المتواضعة .. ووقوفه إلى جانب العديد من الزملاء وأعضاء النقابة فباتوا يدينون له بالكرم وحنان سعيه.
- وعلى صعيد الجوائز والأوسمة التى تمنحها الدولة لرواد الفن، نال عام 1963 وسام العلوم والفنون ، وفى عام 1965 فاز بجائزة الدولة التشجيعية لإبداعاته فى مجال النحت والتصوير ، وفى عام 1986 ، أى قبل رحيله بعامين ، فاز بجائزة الدولة التقديرية عن إنتاجه فى شتى المجالات .
- وعلى الصعيد الدولى فاز بجائزة ( سان فيتورومان ) الدولية للتصوير بروما عام 1956 ، وفى عام 1959 فاز بالجائزة الأولى للنحت ببينالى الإسكندرية ، وفى عام 1960 نال الجائزة الأولى فى مسابقة جوجنهايم. النحت الحديث
- خلال منتصف القرن الماضى شهد العالم ، خاصة بعد المثال ` رووان ` ، دفعات من التحول غير المسبوق شملت أساليب الأداء ومضمون فن النحت وخاماته التقليدية.
- وبعد أن كان الرخام والحجر والبرونز والخشب هى المواد المستخدمة فى هذا الفن لتحقق النبل والجلال للمنحوتات ، اتجه النحات المعاصر لاستخدام خامات تحمل بصمات المدنية الحديثة .
- وقد كان الحديد من أكثر الخامات التى شغلت ذهن النحاتين المعاصرين ، عالجوه بأساليب متعددة وظهر تعبير التشكيل فى الفراغ، والمعروف أن ` بابلو بيكاسو ` صاحب أول تمثال تشكيلى فى الفراغ أو التجميع الإنشائى ما بين عامى ( 1930- 1932 ) وسبقه صديقه الإسبانى ` بابوجا رجالو` عام 1911 ، ومن قبل كانت البداية على يد الفنان ` جوانزاليه ` قبل عشرين عاماً ، وفى أعقابهم أتى جيل من النحاتين الشبان فى معظم بلاد العالم وخاصة فى أمريكا وفرنسا وإنجلترا وتعددت طرق التناول للتعبير البنائى ، كما تزاوجت الخامات بين صفائح المعدن والقضبان الخام وبين مخلفات الأدوات والآلات .وكلها جاءت تعبيراً عن روح العصر الآلى.
- وكان الفنان المصرى ` صلاح عبد الكريم ` أول من بنى إبداعه النحتى على تراث عالمى ، حديث اتسم من حيث الشكل بقوة الإحساس بالعصر وسعة الأفق حين أضاف الجديد إلى ما سبق . تميزت رؤية ` صلاح عبد الكريم ` فى تماثيله الحديدية بالمضمون الإنسانى المتزن مع الشكل ( التجميعى البنائى ) الذى ظهرت فيه المهارة والإتقان ممثلة فى تمثال البومة حين شكله من المسامير ، كما تميز ` صلاح عبد الكريم ` بالتنوع الإبداعى بالإضافة إلى غزارة الإنتاج وقد شكل تمثالاً لثور من الحديد ، ثم عاد ليستخدم الخشب فى العمل الثانى، كما جاء تمثال البومة من خامة الحديد مرة وفى المرة الثانية بالرخام.
- ورغم نجاح الفنان الرائد فى فن النحت الحديث ، فإن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود . ظهر ذلك عندما تقدم للمشاركة فى مسابقة عامة تحت عنوان ( العمل ) ، وكان عمل التشكيل فى الفراغ الذى تقدم به ` صلاح عبد الكريم ` كسابق أعماله من الحديد الخردة .. وفى اجتماع لجنة التحكيم ارتفع صوت أحد أعضاء اللجنة مستنكراً هذا العمل قائلاً : ( هذه البدعة الجديدة لا علاقة لها بفن النحت وإن هذا التجميع من المخلفات الخردة لا شأن له بفن النحت على الإطلاق ، وإنما هو إسفاف وتحقير للقواعد النحتية التى استقر عليها الرأى من قديم الزمان ) .كان الحوار ساخناً ولكنه انتهى بالانتصار لهذا التمثال على نظائره من التماثيل البرونزية والرخامية والخشبية.
- وبهذا انتصرت القيمة المجردة على وسائل التعبير المحدودة لتضيف لغة جديدة إلى اللغات المتداولة التى استقرت فى الأذهان دون أن تستطيع أى قوة زحزحتها ، وربما كانت هذه المسابقة بالذات السبب المباشر فى تغيير مفهوم فن النحت فى مصر .
- وأصبحنا نستقبل أعمالاً نحتية جديدة تحت اسم التشكيل الفراغى .
- وتأتى التجربة الثانية فى تمثال ( صرخة الوحش ) ، حيث جاء التعبير فى هذا التمثال كاشفاً فكرة الوحشية بكل أبعادها الغريزية والعدوانية ، بحيث تشعر بأن صرخات مكبوتة تخرج من التمثال كما تعكس معنى التربص المشوب بالتوتر والقلق . وجاء تمثال الضفدعة من الخردة مثيراً للشفقة يوحى بالصوت ( النقيق ) كما نجح فى تشكيل الخطوط التشريحية فى بساطة واختزال .
- وعندما تتحدث عن تمثال ( المسيح) الذى شارك به فى بينالى ( ساو باولو ) سنة 1964 أظهر فيه الألم والضعف والتهالك حين يخيل للمتلقى أن الحديد يكتسب لوناً باهتاً وقواماً رخواً ، المسامير فى الرأس توحى بالتشتت والعذاب بفعل الصلب.
- ` صلاح عبد الكريم ` مصوراً
- عند الحديث عن ` صلاح عبد الكريم ` وإبداعاته فى فن التصوير ، تتجلى روح الفنان فى اختياره للألوان وأسلوب توزيعها وتحوير العناصر وتبسيطها إلى الحد الأدنى.
- ويعتبر إنتاج ` صلاح عبد الكريم ` نبته طبيعية نبتت جذورها الشكلية والتكنيكية من الناقد العالمى ` أندريه لوت ` الذى رشحه للفوز ببعثة إسماعيل إلى باريس لدراسة فن الديكور . إلى الفنان الفرنسى ` أكاسندر ` الذى تعرف منه على الرمزية الحديثة فى فن الديكور ثم انتقل إلى معهد ( بول كولان ) لدراسة الفن الحديث ، وفتحت الأساليب أمام ` صلاح عبد الكريم ` من التجريد والرمز والتكوين التعبيرى . وأصبح منهجه الفنى بكائيا لا عاطفياً وكان همه الوحيد تأكيد الاستقرارية وتجسيم السكينة داخل إطار اللوحة فى إطار من الواقعية التى تلتزم بالإيقاعات الحسابية والرياضية ، كما كان شائعاً فى ذلك الوقت من تكعيبية واعية تقف فى مواجهة هشاشة الانطباعية اللحظية العابرة ، حيث كانت تكعيبية ` براك` و ` بيكاسو ` أقرب إلى عقل وقلب فناننا ` صلاح عبد الكريم ` .
- ولم يكتف ` صلاح عبد الكريم ` بالإبداع فى فن اللوحة فانتقل إلى روما ليستكمل خبراته ودراساته بدراسة فن الخزف بمرسم الفنان ` سلفادور ميلى ` وأنتج العديد من التشكيلات الخزفية التى تم تشكيلها بأسلوب النحات فى البناء والتكوين وأضاف إلى الشكل قصائد شعرية من الألوان المكونة من أكاسيد معدنية يتأثر بريقها بدرجات الحرارة فى الفرن ، وما زالت هذه الأعمال محفوظة بمتحف الأكاديمية المصرية بروما .
- وإلى جانب فن الخزف درس ديكور السينما ، وعاد إلى مصر عام 1960 ، واستقبلته ساحة المسرح مرحبة بجهوده وإبداعاته بتصميم الديكور والملابس والإضاءة بأسلوب جديد لم تعهده الساحة المسرحية من قبل . وقد كان المجال مفتوحاً لبعض الأجانب . وبعودة ` صلاح عبد الكريم ` عرف المسرح التكنولوجيا الحديثة فى بناء الديكورات وتحريكها على خشبة المسرح ، وشعر الجميع بريادة ` صلاح عبد الكريم ` لهذا المجال كما تعرفوا على أسلوب جديد يؤيد بطولة الديكور وامتزاجه بالأزياء والإضاءة واحترامه الشديد للتعبير عن فكر ورؤية المخرج للنص المكتوب . ولعلنا نتذكر اهتمام الدولة بفن المسرح فى الستينيات من القرن الماضى وتكاتف الأدباء والفنانين ، واعتلى الجيل المسرحى معتمداً على الموهوبين من الكتاب والأدباء والمخرجين من ` نبيل الألفى ` إلى ` كمال ياسين` و ` كمال عبيد ` و ` سعد أردش ` و ` عبد الرحيم الزرقانى ` و ` فتوح نشاطى ` وغيرهم من الأجيال اللاحقة .
- ومن الأعمال الهامة لفناننا ` صلاح عبد الكريم ` ديكورات وملابس مسرحيات ( د. كنوك ، ماكبث ، النابين ، وحاملات القرابين العمدة ).. وغيرها.
- وأخيراً ينبغى علينا أن ندعو شباب الفنانين من المبدعين والموهوبين إلى التمسك بالتعبير عن مضمون يتسم بالمعاصرة مستهدفين التعبير عن المشاعر الإنسانية والقضايا البشرية الراهنة والفكر العالمى المعاصر . ولدينا فى تاريخ الحركة التشكيلية العديد من النماذج التى رحلت عنا وما زلنا نستمتع ونتعلم الكثير مما عبروا عنه بأصالة وارتباط بكل جديد له معنى ومضمون إنسانى ، كما جاء فى الموسوعة العالمية ( لاروس ) عندما استشهدت بأعمال ` صلاح عبد الكريم ` فى معرضه الحديث عن المذاهب الفنية المعاصرة.
بقلم : حسن عثمان
مجلة الخيال : العدد ( 35 ) فبراير 2013
صلاح عبد الكريم والعزف بالحديد الخردة
- ولد صلاح عبد الكريم عام 1925 بمدينة الفيوم،وقضى بها طفولته وصباه ، وعندما حصل على الشهادة الإبتدائية عام 1938 انتقلت أسرته إلى القاهرة، أما هو فقد انتقل إلى مدينة `قنا `حيث التحق بمدرستها الثانوية , وانضم إلى جمعية الرسم مصاحبًا أستاذ الرسم والأشغال اليدوية بالمدرسة الفنان ` حسين بيكار ` لمدة عامين كاملين . لقد كان مدرس الرسم فنانا مدهشا حقا ، فتح أبواب عالم الفن أمام الفتى ، فقد كان يعزف الموسيقى ويعلمه العزف ، يرسم المدرسين ويتيح لتلميذه مصاحبته ومعاونته أثناء عمله ، وهكذا كانت تلك الأيام هى أسعد فترات حياته ، تحدد خلالها مسار موهبته وقرر أن يتجه إلى احتراف الفن.
- انتقل إلى القاهرة ليلتحق بالمدرسة النموذجية الثانوية التى كان مدرس الرسم بها هو المفكر الفنان ` حسين يوسف أمين `. والتقى صلاح فى جمعية الرسم بالبراعم التى كونت فيما بعد ` جماعة الفن المصرى المعاصر ` . عبد الهادى الجزار - ابراهيم مسعودة - سمير رافع - كمال يوسف - حامد ندا ، وعلى مدى ثلاث سنوات من 1940 حتى 1943 كان يتردد مع زملائه على مرسم الفنان حسين يوسف أمين عند سفح أهرامات الجيزة , ويتعرف على أفكار الجماعة ويستوعب مفاهيمها التى اقتنع ببعضها ورفض بعضها الآخر .
- وفى عام 1943 التحق بكلية الفنون الجميلة واختار قسم الفنون الزخرفية لتخصصه بينما التحق زملاؤه فى جمعية الرسم خلال الدراسة الثانوية بقسم التصوير الزيتى ويرجع هذا الاختيار إلى اقتناعه بفكرة أن الفنون الزخرفية تتيح مجالاً أوسع للابتكار والتعبير الفنى المتصل بحياة الناس والملتصق بالجماهير، وهكذا أعد نفسه من البداية لإنتاج الأشكال الفنية التى تجد طريقها إلى الناس بما تتضمن من قيمة استعمالية ، مفضلاَ إياها على الفنون البحتة التى تتطلب من الجمهور مشقة السعى إليها للاستمتاع بها وتفهمها .
- تخرج عام 1948 متقدماَ على جميع زملائه وحصل على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف فى مشروع الدبلوم ، وبعد ثلاثة أشهر عين معيداَ بالقسم الذى تخرج فيه .
- جماعة صوت الفن
- ينتمى صلاح عبد الكريم إلى الجيل الثالث من الفنانين المصريين .. الجيل الذى تتلمذ على الجيل الثانى ثم تمرد على الاتجاهات الأكاديمية السائدة .. ولقد بدأ التمرد من منتصف الثلاثينات ، وظهر الصراع بين الاتجاهات التقليدية والاتجاهات الحديثة فى الفن .. واتخذ هذا الصراع مظهر الجمعيات الفنية التى يكونها الشباب لإقامة المعارض ونشر البيانات العنيفة هجوماَ على الاتجاهات السابقة ودعوة إلى فهم وتقدير الاتجاهات الحديثة فى الفن باعتبارها أكثر تعبيرا عن العصر ( العصر هو فترة الحرب العالمية الثانية ومابعدها ) ... فى ذلك الوقت ظهرت جماعة الفن والحرية بزعامة جورج حنين ورمسيس يونان ، ثم جماعة الفن المصرى المعاصر بزعامة حسين يوسف أمين .. وكلا الجماعتين كانت تضم الرسامين دون النحاتين .. فى عام 1944 كون المثال جمال السجينى جماعة ` صوت الفنان ` التى شارك فى تأسيسها صلاح عبد الكريم ، وكانت تضم محمد عويس وجاذبية سرى - وسيد عبد الرسول - والعديد من فنانى الجيل الثالث الذين كون بعضهم ، بعد تفكك جماعة ` صوت الفنان ` ، جماعة أخرى ذات أهداف أكثر وضوحا هى` جماعة الفن المصرى الحديث ` لم يشارك فيها السجينى وصلاح عبد الكريم أو عز الدين حموده ، وقد استمرت الأخيرة حتى عام 1952 .. لقد اقتصر نشاط فناننا فى الجماعات الفنية على الفترة من 1944 حتى 1947 من خلال جماعة ` صوت الفنان ` التى أقامت معرضين كبيرين تميزا برفض الاستغراق فى المذاهب الغربية الحديثة وعلى رأسها السريالية مع التحرر من القيود المتزمتة للكلاسيكية والتأثرية فى فن التصوير بالإضافة إلى إشاعة الرومانسية والتعبيرية ثم الرمزية فى فن النحت .. كانت جماعة صوت الفنان تمثل مرحلة وسط بين تزمت الجيل الثانى وانقلاب بعض أبناء الجيل الثالث من الفنانين
- من خلال هذه الجماعة بدأ صلاح عبد الكريم يمارس إقامة التماثيل من الصلصال والجبس بالإضافة إلى أعماله فى المجالات الزخرفية ، ولم ينقطع عن الرسم بالألوان الزيتية وألوان الجواش حيث كان يمارس هذا النوع من النشاط مع أعضاء الفن المعاصر الذين حافظ على علاقته بهم ورائدها ، يزورهم فى مراسمهم ويشاركهم الإنتاج الفنى دون أن ينتمى إلى جماعتهم .
- مسابقة إسماعيل
- فى عام 1951 خاض الفنان مسابقة حكومية لفروع النحت والتصوير الزيتى والجرافيك والفنون الزخرفية ، أقيمت تحت اسم ` مسابقة إسماعيل ` ( الخديو إسماعيل هو جد الملك السابق فاروق ) .وفاز صلاح عبد الكريم بالمرتبة الأولى على المتقدمين لفرع الفنون الزخرفية ، وقد تولى التحكيم فى هذه المسابقة ثلاثة من النقاد العالميين هم ` اندريه لوت ` و `سافان ` الفرنسيين و `كومندادور ` الأسبانى .
- وكانت جوائز الفائزين بالمرتبة الأولى فى كل فرع من فروع المسابقة الأربعة هى بعثات مدة كل منها خمس سنوات فى أوربا لاستكمال الدراسة الفنية على نفقة الدولة ، وقد فاز الفنان كمال أمين فى الجرافيك والفنان محمود عبد الرشيد فى التصوير ولم يفز أحد بالمرتبة الأولى فى فن النحت .
- ولم يبدأ تنفيذ هذه البعثات إلا بعد ستة أشهر من قيام ثورة يوليو عام 1952 ، وقد توقفت هذه المسابقة التى أقيمت لمرة واحدة بسبب اسمها الملكى ، وحل محلها بعد بضع سنوات مسابقات الإنتاج الفنى الكبرى التى تولى تنظيمها الفنان عبد السلام الشريف والفنان صلاح يوسف كامل ، ثم تقررت جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية بعد تكوين المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ، واستمرت هذه الجوائز سنوياَ حتى الآن.
- سافر صلاح عبد الكريم فى بداية عام 1953 إلى باريس ليبدأ الدراسة ، إذ اكتشف أنه يفتقر إلى الكثير من المفاهيم النظرية عن فلسفة التشكيل الفنى ، ومنهج الإنتاج الذى يرتكز على خطة فكرية تستوعب آخر ماوصل إليه الفن من تقدم تكنيكى يرتبط بالتقدم الصناعى والمكتشفات العلمية ، فالفن النفعى يستلزم بالضرورة التعرف على أحدث وأعلى المستويات المعروفة فى فنون التصميم والطباعة والتكنولوجيا المرتبطة بالأشكال التى تنتج لتتلاءم معها .
- وفى باريس التحق بمرسم الفنان العالمى `كاسندر ` الذى أحدث انقلابا فى فن الإعلام عندما انتقل به من تعبيرية ` تولوز لوتريك ` إلى المدرسة الرمزية الحديثة وانتقل بالديكور المسرحى من الأسلوب الواقعى وعصر الصالونات إلى التبسيط الموحى للمدرسة الرمزية .
- وانبهر صلاح عبد الكريم بأستاذه العالمى .. الذى استطاع أن يطور كل مفاهيمه السابقة عن الفن وعلم الجمال فى محاضرات نظرية مطولة تتناول الألوان وعلاقاتها ودلالاتها ومفاهيمها المختلفة .
- وكانت تعاليمه الموسوعية هى الأساس النظرى والعملى الذى استوعبه صلاح عبد الكريم وأقبل عليه فى نهم فأقام أعماله الفنية فى تلك الفترة على أساس هذه المفاهيم الجديدة التى أعطته ثقل الفنان المتمكن .. وكانت دراسته تتضمن التصوير الزيتى وتصميم الديكورات المسرحية والإعلان والتصميم المعمارى .
- ولكن ` كاسندر ` عرف بموقفه المعارض للتجريدية .. وهو يعتبرها ` موضة ` .. ورغم الانقلاب الذى أحدثه `كاسندر ` فى فن الاعلان إلا أنه لم يكن فى وسعه تقديم أحدث المفاهيم التشكيلية إلى تلميذه إلا من خلال موقفه المعارض للتجريدية والمتمسك بالرمزية ومع هذا يرجع إليه الفضل فى تنمية مهارات صلاح عبد الكريم المتشعبة وصقلها .. لقد وجهه إلى استخلاص كل الدلالات والرموز التى توحى بها الألوان المختلفة ودرجاتها فى علاقاتها مع الخطوط ، ودفعه إلى تجريب هذه الدلالات ، كما فتح عينيه على نظرة نقدية جديدة للأعمال الفنية المختلفة جعلته يستوعب فى ذاكراته الفنية كل مايراه فى المتاحف والمعارض من أعمال ، فأثرى بذلك مخزونه الذهنى من الصور والأشكال وطرق المعالجة .
- وفى نفس الوقت لم يهمل الفنان الشاب ، الأستاذ الأول لجميع الفنانين ، أى الواقع .. وظل متمسكا بالدراسة المباشرة عن الطبيعة ، فالتحق بأحد مراسم ` مونبارتاس ` بعد الظهر حيث مارس الرسم والرسم السريع ( الاسكتش ) عن النماذج البشرية الحية .
- وبعد ثمانية أشهر من الدراسة على يدى الفنان ` كاسندر ` طلب من المشرفين على بعثته مضاعفة عدد الدروس الأسبوعية أو الانتقال إلى مرسم فنان آخر يمثل مفاهيم أخرى أكثر حداثة وشمولا من مفاهيم `كاسندر ` ..
- وهكذا التحق بمرسم الفنان ` بول كولان ` وهو أحد منافسى `كاسندر ` فى مجالات الفنون الجميلة الزخرفية ( هندسة الديكور ) .. وهو يفتح مرسمه لطلاب الفن فى الشرق والغرب بعكس ` كاسندر ` الذى كان صلاح عبد الكريم هو تلميذه الوحيد ثمانية أشهر .
- إن كولان يتبع المدرسة التجريدية وينتقد ` كاسندر ` بجرأة رغم تقديره لاتجاهه الفنى .. ويعلم تلاميذه كيف يستخدمون الأسلوب التكعيبى وكيف يستفيدون من المفاهيم التجريدية المستخدمة فى التصوير الزيتى عند التصدى للديكور والإعلان والتصميم وغيرها من الأشكال والإعلان والتصميم وغيرها من الاشكال الفنية ذات الاستخدام المباشر فى الحياة اليومية .
- واستمر صلاح عبد الكريم فى مرسم هذا الفنان لمدة عامين درس خلالها أعمال الفنان العالمى ` بابلو بيكاسو ` وناقش إنتاجه بدقة ..
- وقد أنتج فى تلك الفترة عددا كبيرا من اللوحات الزيتية باعها كلها ، وتبلغ حوالى أربعين لوحة معظمها تصور الطبيعة الصامتة .. وقد كانت صاحبة الفندق الذى يقيم فيه من المعجبات بفنه .. فكان يقدم لها فى نهاية كل شهر لوحتين من إنتاجه مقابل الإيجار الشهرى لإقامته فى فندقها .
وكانت تثبت تلك اللوحات فى ردهاته .. وعندما عاد صلاح عبد الكريم فى منتصف الستينيات إلى باريس زار الفندق فلم يجد لوحاته أو صاحبة الفندق ، وعلم أنها باعته وحملت اللوحات ورحلت إلى مكان غير معروف ..
- انتقل الفنان إلى إيطاليا فى أواخر عام 1955 حيث أقام فى الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة بروما والتحق بمعهد السينما التجريبى لدراسة الديكور السينمائى .
- وانصرف الفنان إلى الإنتاج الحر فى التصوير الزيتى ، حيث قدمت له ` الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة ` مرسما كبيرا ووفرت له كل خامات وأدوات الرسم والتصوير .. فاستغرق فى الانتاج .. وحصل على درجة الامتياز عند تخرجه من معهد السينما التجريبى بروما. كما درس فن الخزف من عام 1955 حتى 1957 خلال إقامته بايطاليا .
- التفوق
- فى عام 1956 شارك فى مسابقة ` سان فيتو ومانو` للمناظر الطبيعية ، وهى مسابقة سنوية عامة يشارك فيها الفنانون الإيطاليون والأجانب .
- كما خاض الفنان فى نفس العام مسابقة الإعلانات بإيطاليا ففاز بجائزتها الأولى وهى كأس فضية . وشارك فى بينالى البندقية عام 1956 بست لوحات زيتية فى الجناح المصرى بالمعرض .
- وفى عام 1957 اشترك فى مسابقة الإنتاج الفنى فى مصر وأرسل من روما لوحته فى فرع ` التصوير الزخرفى ` ففاز بالجائزة الأولى .. وكانت هذه المسابقة قد أقامتها وزارة التربية والتعليم وبلغت جوائزها أربعة آلاف جنيه وشارك فيها 145 فنانا فى فروع النحت والتصوير والحفر والفنون الزخرفية والفن التطبيقى .
- إن إحساس صلاح عبد الكريم الدائم بالرغبة فى التطور والنمو واستيعاب المفاهيم الجديدة فى عالم الفن ، قد دفعه إلى محاولة إشباع هذه الرغبة عن طريق ممارسة العديد من أشكال الفنون الجميلة بالتنقل من خامة إلى أخرى ومن أسلوب إلى غيره وهذا هو السبب فى تعدد مهاراته وتنوع أشكال إبداعه الفنى
- وفى عام 1958 عاد من بعثته ليشتغل بالتدريس فى قسم الفنون الزخرفية بكلية الفنون الجميلة .. .. وقد حاول الاستمرار فى إنتاج الخزف ولكنه اصطدم بمشكلة عدم توفر الأفران الخاصة بهذه الصناعة .. فاقتصر إنتاجه الفنى لفترة على التصوير الزيتى .
- وألحت عليه الرغبة فى التشكيل المجسم .. فلم يستطع مقاومتها .. وفى نفس الوقت لم يتمكن من إشباعها بالخزف ففكر فى عمل شكل مجسم من الحديد ليزين به ركنا فى بيته .
- كان الفنان قد شاهد فى باريس أعمالا ` لبيكاسو ` و` شادويك ` و`مولر ` و` سيزار` استخدموا فى تشكيلها خامات غريبة وبقايا ونفايات .. ولكن صناعة التماثيل المركبة من الحديد لم تكن قد انتشرت فى أوربا وإنما كانت مجرد محاولات متفرقة فى المعارض .. واستطاع صلاح عبد الكريم أن يدرك مايتضمنه الحديد كخامة من تعبير عن التقدم الصناعى .. فكان أول فنان عربى يخوض هذا الميدان ويبرع فيه ويصبح رائدا فى هذا المجال .
- وأبدع سمكته الشهيرة التى رآها الفنان بيكار وكان رئيسا لقسم التصوير الزيتى بكلية الفنون الجميلة حيث يعمل الفنان فى ذلك الحين ورشحها لتعرض فى ` بينالى ساو باولو ` بالبرازيل عام 1959 .. وشجع الفنان على الاستمرار فى هذا المجال ، فكان تمثاله الثانى ` الثور ` الذى تقدم به إلى ` بينالى الاسكندرية ` .. وكانت مفاجأة له عندما حصل على جائزة النحت الشرفية عن سمكته من` بينالى ساو باولو` متقدما على فنانى ثمانين دولة وبعد شهرين أعلنت نتيجة التحكيم فى ` بينالى الاسكندرية ` ففاز بجائزة النحت الأول على القسم المصرى بالمعرض .
- وفى عام 1957 شارك بمجموعة من أعماله فى المعرض المصرى المتجول بمدن إيطاليا والمجر والنمسا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا وسويسرا ويوغسلافيا وفرنسا.وقد شارك فى هذا المعرض بعشر لوحات مع خمس قطع خزفية .
- وفى عام 1960 حصل على الجائزة المحلية لمسابقة ` جوجنهايم` العالمية فى فن التصوير الزيتى .. ثم اختيرت مجموعة من أعماله الفنية لتمثل مصر فى معرض `سباتيل` الدولى لفن القرن العشرين بالولايات المتحدة الأمريكية الذى أقيم عام 1962 ، وقد تولى تصميم وإقامة جناح مصر فى هذا المعرض .
- كما اشترك بأعماله فى دورتى بينالى ` فينيسيا ` عامى 1960 ، 1966 .
- وشهدت القاهرة أعماله فى معارض الربيع التى أقامتها ` جمعية خريجى كلية الفنون الجميلة ` من عام 1958 حتى 1961 .
- وفى عام 1963 شارك للمرة الثانية فى بينالى` ساوباولو` بالبرازيل ففاز للمرة الثانية بميدالية الشرف الدولية لفن النحت.. وقد أقام فى نفس العام معرضه الشامل الأول فى قاعة الفنون الجميلة بمبنى الغرفة التجارية وقد حصل على وسام الاستحقاق للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1964
- وقد اشترك فى أسبوع الجمهورية العربية المتحدة فى مدينة ` ديزبورج ` بألمانيا الغربية عام 1964 ، وفى معرض نيويورك الدولى عام 1966 قام بتصميم جناح مصر فيه .
- وهو الفنان الذى قام بتصميم وتنفيذ كل الجوانب التشكيلية بفندق فلسطين بالإسكندرية .. الأثاث والديكور ولوحة النحت البارز الضخمة على واجهته الداخلية . بالإضافة إلى بانوه زخرفى من الحديد ، مثبت بقاعة الطعام يمثل قاع البحر ، وهو الذى فاز عنه بجائزة الدولة التشجيعية مع وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1966 .
- وكان له فى فى مدخل مبنى التلفزيون العربى بالقاهرة لوحتان زخرفيتان كبيرتان تم طمسهما فيما بعد الزمن الردىء . وله لوحات أخرى فى مداخل عدد من فنادق القاهرة والمبانى العامة .
- كما صمم عدداَ كبيراَ من أغلفة الكتب والكتالوجات بالاضافة إلى أعماله فى فن الإعلان والرسم الصحفى وما إلى ذلك من أوجه النشاط الفنى فى الحياة العامة .
- وقد اشترك عام 1968 ممثلا لمصر فى معرض الترينالى الدولى الأول فى نيودلهى بالهند وقد اقتنت الحكومة الهندية تمثاله المصنوع من نفايات الحديد الذى يصور ` الكابوريا ` من بين معروضاته .
- وقد سافر عام 1970 إلى اليابان حيث صمم وأشرف على تنفيذ الجناح المصرى وجناح إمارة أبى ظبى فى معرض ` اكسبو 70 ` الدولى .
- وقد أصدر عنه كاتب هذه السطور كتابا عام 1970 يضم صور45 عملاً من إنتاجه مع شرح لجمالياتها .
- وخلال عامى 1971 ، 1972 قام بتصميم ديكورات فندق ` ايتاب ` بالأقصر كما أشرف على التنفيذ ، وقام بنفس العمل فيما بعد فى عدة فنادق من بينها فندق ` كونكورد ` بمطار القاهرة وفندق ` ايتاب الاسماعيلية ، وقام بتزيين هذه الفنادق بمجموعة من اللوحات الزخرفية ذات الطالع الشعبى من النحاس وقطع الزجاج الملون ..
- وفى ميدان التماثيل الضخمة فاز عام 1980 بالجائزة الأولى فى مسابقة تصميم النصب التذكارى لمدينة العاشر من رمضان .. كما أقام فى المملكة السعودية سبعة أعمال ميدانية تشكيلية .. الأولى فى مدينة جدة بارتفاع 25 مترا من النحاس المطروق يمثل سبع سنابل بكل سنبلة مائة حبة .. والثانى والثالث يرتفع كل منهما 30 مترا من الحديد المجمع ويعبران عما بهذه الخامة من بأس شديد .والرابع يرتفع 30 مترا ويعبر عن التضامن ، أما الخامس فهو عبارة عن تكوين من المآذن المملوكية الطراز بارتفاع 25 مترا ..والسادس تشكيل لمجموعة من المزهريات عبارة عن تكوين فى الفراغ . أما السابع فهو من المقرنصات التى اشتهرت وانفردت بها العمارة الإسلامية ، ويرتفع 40 مترا .
- وهناك عمل ثامن فى جدة يعبر عن ` المجرة ` وهو تصميم من المانيا الغربية ارتفاعه 60 مترا من الصلب الذى لايقبل الصدأ قام الفنان صلاح عبد الكريم بتصميم قاعدته المخروطية الشكل والتى تفترش حوالى مائتى متر مربع .. وترتفع هذه القاعدة المخروطية عشرة أمتار وقد صمم الفنان كسوتها الخارجية بأحجار الموزاييك الملونة ( الفسفساء ) معبرا عن الفضاء الخارجى .
- وتقتنى حكومة المملكة السعودية تمثالا لحيوان خرافى من الحديد ونفايات المعادن مثبتا فى متحف الهواء الطلق على شاطىء البحر فى ` جدة ` ، وتضم هذه الحديقة تماثيل ` لهنرى مور ` و ` كالدر ` و ` فازاريللى ` .
- وقد صمم الفنان عام 1979 جائزة أوسكارمهرجان الاسكندرية السينمائى الدولى على هيئة عروس البحر الأبيض المتوسط تحمل قرص الشمس ، كما صمم مجموعة من الشعارات من بينها شعار ` المصرف العربى الدولى ` ، وشعار ` الاتحاد العربى للاذاعة والتليفزيون ` ، وشعار الاذاعة والتلفزيون فى مصر ، كما صمم مقدمة القناة الثانية للارسال التلفزيونى فى مصر ومجموعة من الفواصل التى تربط بين البرامج .. وغير ذلك من التصميمات.
- والفنان الذى تخصص فى تدريس مادة الديكور بكلية الفنون الجميلة عمل عدة سنوات أستاذا لفن الديكور بالمعهد العالى للسينما ، ومعهد الفنون المسرحية ، كما تولى منصب رئيس قسم هندسة الديكور بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ثم منصب عميد الكلية ثم نائبا لرئيس جامعة حلوان حتى سن التقاعد ، ليعمل بعد سن الستين أستاذا غير متفرغ بقسم هندسة الديكور ( الفنون الزخرفية ) .
- الديكور المسرحى والداخلى
- لكل عمل مسرحى أبطال ، ، أبرزهم الممثل والمؤلف والمخرج .. ولكن هناك بطل فى كل عرض مسرحى لايتلقى تصفيق الجمهور ، هو مصمم الديكور والملابس .. انه البطل التشكيلى فى المسرحية .
- ومن الأبطال المعدودين فى ديكور المسرح العربى فناننا صلاح عبد الكريم بلغ عدد العروض المسرحية مابين أوبرا وأوبريت وباليه واستعراض ومسرحية .. أكثر من 80 عرضا مسرحيا قام بتصميم ديكوراتها وملابسها ، منها أعمال الفنان قدمت على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة قبل احتراقها ومنها ماقدم على مسرح البالون الضخم مثل استعراض القاهرة فى ألف عام الذى قدم سنة 1969 بمناسبة ألفية القاهرة .
- ويتركز التطوير الذى حققه الفنان فى ميدان الديكور المسرحى فى تعبيره تشكيليا عن النص .. أما منهج الفنان فيتمثل فى شعار : ` كل شىء فى خدمة النص المسرحى ` ، وعلى كل العاملين أن يبرزوا هذا النص ولايطغوا عليه .
- أما الاضافة التى حققها فى فن الديكور فهى تتلخص فى استخدام البعد الثالث أو العمق استخداما تشكيليا ، بعد أن كان مهملا لايتصدى له مهندسو الديكور .. وقد تميز هذا الفنان بإحساسه بالفراغ وقدرته على استخدامه وتشغيله نتيجة لممارسته الطويلة بنجاح لفن النحت الذى يتعامل مع الأحجام ، بعكس فنون الرسم التى تتعامل مع المسطحات .
- قبل صلاح عبد الكريم كان الاتجاه التقليدى يتحرك على الحوائط المعطاة لمهندس الديكور فيشغل الجدران ويلتزم باتجاهاتها ، وحتى تناسق الالوان وتدرجها كان يراعى عدم إعطاء إحساس خادع بعمق إضافى ، بل يتركز العمل فيما يعلق على الجدران وما يلتصق بها من قطع أثاث تتخذ نفس اتجاهاتها .
- وجاء صلاح عبد الكريم ليترك الحيطان ويتحرك داخل الحجم الذى تمثله الحجرة أو خشبة المسرح وما يحيط بها من جدران .. فتحول فن الديكور على يديه من تبعيته لفن لرسم ليصبح جزءا من فن النحت ، وأصبحت أعمال الديكور الداخلى يتخللها الهواء والضوء من جميع الجهات لتحقق أهدافاَ جمالية ونفعية محددة ، فالصالة أو البهو تصبح مدخلا أو ممرايحوى فاصلا جميلا يقسم المكان دون أن يمزقه ويفصل بين الأشياء دون أن يحجبها.. أما الفواصل فهى قواعد لتماثيل أو حوامل لأصص الزرع ونباتات الظل فى نفس الوقت الذى تقوم فيه بدور نفعى كأثاث له استخدام عملى .. أما فى المسرح فقد أصبحت المنصة على يديه متعددة المستويات ، وهى بهذا تحقق للممثلين حركة لها دلالاتها التى تنفى العشوائية مثل السلم المتحرك فى خلفية المسرح والأبواب المتحركة فى الستائر، والفواصل المتنقلة وغير ذلك من قطع الأثاث المبتكرة التى تحقق تشكيلا جماليا وتنوعا فى المناظر يكسر الملل دون أن يشد الالتفات بعيدا عن الحوار والتمثيل .
- وحتى المسطحات أدخل فيها الفنان خبرة المدارس التكعيبية والتجريدية فأصبحت الحوائط مشغولة بالألوان المتناسقة ذات الدلالات الرمزية .
- لقد كان ديكور المسرح قبل صلاح عبد الكريم صالونات مصممة بطريقة تقليدية فأدخل الرمز المعبر عندما نفذ مايتخيله من أشكال تحقق تلخيص النص المسرحى وتركيزه فى عدة رموز .. أما إذا تعذر التعبير الرمزى فى الديكور والستائر فهو يلجأ إلى الألوان والإضاءة .. وبهذا أدخل المدرسة الحديثة فى ديكورالمسرح والديكور العام ، وأضاف ذلك إلى منهج الدراسة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة فتخرج جيل من المصممين الناجحين الذين درسوا على يديه .
- كان الإيطاليون هم المشتغلون بديكور المسرح فى مصر حتى عام 1956عندما رحل ` أينوشنتى ` وزملاؤه وكانوا يستخدمون أسلوب عصر النهضة التفليدى ، ويلتزمون بالواقعية والترجمة الميكانيكية للنص .. فتحول بعدهم على يديه إلى الرمزية والتعبيرية والأساليب الشكلية فى الديكور، هذا بالاضافة إلى الاهتمام بالملمس وهو شغل المساحات بألوان متداخلة أو متدرجة بها ` خربشة ` أو عجائن بارزة `، ولم يكن هناك من استخدام الملمس الموحى المسرحى فى الديكور المسرحى من قبل بل كانت المسطحات تغطى بلون واحد نظيف وصريح .
- وقد امتد أثر الفنان فى ميدان الديكورإلى الأسواق الدولية التى كانت من قبل عبارة عن ` دكاكين ` لها ثلاث حوائط ثم حائط رابع مفتوح ، فتحولت قاعات الأسواق الدولية إلى ديكورات فى الفراغ يلف فيها الزوار ويدورون ، فيتضاعف حجم القاعة فى نظر الزائر ، وتبدو المعروضات باهرة غنية شيقة الشكل بل أجمل من حقيقتها.
- النحت
- خاض الفنان تجربة النحت منذ عام 1958 ، فكان أبرز من عالج تشكيل التماثيل وبقايا المصنوعات المعدنية ( الخردة ) ، لقد أضاف إليها مرونة وتعبيرية لم يسبقه إليها أحد ،وأسلوبه يجمع بين التجريدية والتعبيرية .. يختار مادته من بقايا الآلات والأدوات ينتجها من بين أكوام مهملات المعادن التى علاها الصدأ وعفا عليها الزمن وأصابتها الشيخوخة واستسلمت لعوامل الفناء .
- إن هذه الأشكال الميكانيكية تلهم الفنان موضوعاته فيعيد تجميع هذه الوحدات وفق تصميمات تتميز بالجدة والابتكار ، فهى تتألف فى إيقاع شكلى ووظيفى تكتشفه حواس الفنان التى توجه اختياره ، وهكذا تكتسب تماثيله طاقة تعبيرية قوية ، وهو يستخدم لهب الأكسجين أو لحام الكهرباء ليثبت كل قطعة فى المكان الذى يناسب شكلها وحجمها بحيث تؤدى دورا تعبيريا يثير الدهشة وإعجاب المشاهد .
- إنه يكتشف علاقة مابين الميكانيكى والعضوى ، بين الصناعى والطبيعى .. أى بين الأداة التى اخترعها الإنسان والجزء الإنسانى الذى توسع هذه المخترعات إمكانياته .
- ولتوضيح فلسفة هذا الاختيار علينا أن نتذكر أن المجهر ( الميكرسكوب ) أضاف إلى عين الإنسان ألف عين .. وأن الطائرة أضافت إلى الإنسان أجنحة وأن السيارة أضافت لنا ألف حصان وهكذا .. بهذا المنطق يكتشف الفنان العلاقة بين نفايات المعادن وبين الأشكال التشريحية فى الإنسان والحيوانات التى يقوم بصياغتها .. وتعكس خيالا خصبا وقدرة ابتكارية متدفقة ، وتعبر بشكل عام عن سلطان الآلات وسطوتها فى العصر الحديث .
- إن أعماله تخضع للقوانين الجمالية من توازن وتوافق وترديد وإيقاع .. وفى تماثيله التى تصور الوحوش الخيالية يراعى التشريح المقنع ولايلجأ إلى التحوير أو المبالغة وإنما يعتمد على مايضفيه على الخامة من قوة تعبيرية ، وعندما ينحت الخشب تحس فهمه العميق للخامة وتعرفه على أسرارها وخصائصها فهو يحترم الخامة التى يعالجها ويتمشى مع اتجاه أليافها فلا يخضعها لشخصية فنية اصطنعتها من قبل وإنما يوفق بين خصائصها الذاتية وشخصيته الفنية .
- قالوا عن فنه
- فى عام 1963 نشرت موسوعة ` لاروس ` الفرنسية فى الجزء الثالث بصفحة 395 صورة تمثاله ` صرخة الحيوان ` الذى أنجزه عام 1960 مع دراسة للناقد الفرنسى المعروف ` رينيه ويج ` كما نشرت صور أعمال أخرى للفنانين `بابلوبيكاسو `و `روبرت مولر `و` روزساك `و `لين شادويك ` تحت عنوان ` الكتلة والطاقة والحيوان ` باعتبارها نماذج وأمثلة ` للفن الرمزى الحديث `.
- ويعتبر ` رينيه ويج ` أن الإنسان المعاصر يحس بالرعب والاغتراب أمام قوى العلم المدمرة التى أطلقها الإنسان من عقالها ، وأصبح يخاف من القنابل الذرية ووسائل الدمار الشامل ويملؤه الإحساس بانعدام قدرته على التحكم فى مصيره .. هذا الإحساس أيقظ الرعب ` الأنطولوجى ` الكامن فى أعماقه والذى هيمن على البشرية طوال العصور الحجرية قبل ظهور الحضارات الكبرى حينما كان خوف الإنسان وعجزه أمام قوى الطبيعة يجد التعبير عنه فى الرسوم المحفورة على جدران الكهوف التى سكنها الإنسان الأول ، وكلها تمثل الحيوانات التى تهدده ويعيش على صدها وصيدها ( الثيران والغزلان والأسود وغيرها وقد مارس الإنسان رسم هذه الحيوانات لآلاف السنين .
- إن إنسان العصر الحاضر يعيش فى رعب مشابه ، أيقظ فى أعماق الفنانين المعاصرين رسوم أجدادهم القدامى فعبروا عن هذا الخوف بأسلوب فنى حديث وفى خامات تعبر بشكل قوى عن روح العصر الصناعى هى خامات الحديد والصلب وبقايا المعادن .
- وهكذا أدخل ` رينيه ويج ` تماثيل صلاح عبد الكريم للحيوانات المشكلة من نفايات المعادن ضمن الأعمال العالمية المستوى باعتبارها معبرة عن عصرنا الحاضر تعبيرا رمزيا ناجحا.
- لقد كانت تماثيل الفنان المصرى المعدنية هى سبب شهرته، فهى أقرب إلى التعبير عن لغة العصر وطبيعته ..عصر الآلة والصناعة .. فهى خامة ذات دلالة رمزية واضحة وقد أجاد التعبير بها .
- بينما كتب عنه أحد النقاد فى مصر يقول : ` فجأة .. وبلا مقدمات .. أحست نفسه بحنين جائع إلى الصراع العنيف مع أشد الخامات عنفا وصلابة ، ولم ترض عزيمته إلا بالعمل المضنى الشاق الذى ينهك البدن ، وأبى طموحه عليه إلا أن يثبت تميزه الرجولى بالتعامل مع أشد الوسائط صلابة وعنادا ..
- وجاءه الإلهام فى شكل أصداء من الآية الكريمة ` وألنا له الحديد ` فشعر بظمأ لايرويه إلا ذوب الحديد ولسع الشرر ، وفى سوق الحديد الخردة رأى الأشلاء الصلبة ترقد جامدة فى هذه المقبرة بلا حركة .. وكانت من قبل أجزاء محركات عملاقة ، وآلات هادرة ، , تحرك الموتورات وتدير المصانع وتدفع السيارات فخطر له أن يتحدى الموت ويصارع الفناء ..
- وبدأ دور الفنان لينفخ الحياة فى الأشلاء المتنافرة لتقوم بدور جمالى رائع ، فيتحول السلك الرفيع إلى شريان ، والترس إلى مفصل ، والملعقة إلى ضلع والحلقة إلى حدقة عين والمسمار إلى هدب ، والمضخة إلى قلب .
- وكذا رد الفنان إلى المهملات اعتبارها وأعاد الحياة إلى الحديد الخردة .
- العقد
- أما آخر مجموعة من التماثيل المعدنية فيصل ارتفاع بعضها إلى 2,5 متر متر يكشف فيها الفنان عن علاقة شكلية بين الحبال والخيوط من ناحية والمواسير والأنابيب المصنوعة من المعادن من ناحية أخرى ، وتتحول الأنابيب بين يديه إلى مايشبه نبات البامبو ثم تنحنى فى رشاقة وليونة كالحبال أو الخراطيم .
- لقد ظلت هذه المجموعة من التماثيل تداعب خيال الفنان أكثر من عام كامل وعلى لوحة صغيرة من الخشب راح يثبت بالدبابيس نماذج مصغرة أو تصميمات من الدوبار والحبال ثم راح ينفذها لتقدم إضافة جديدة فى فنه .
- هذه المجموعة من التماثيل التى أطلق عليها اسم ` العقد ` يتجلى فيها اتجاهه الرمزى الذى يربط فى تلخيص شديد بين الجسم الإنسانى ومايملأ العقل الباطن من صور وخيالات ورغبات مكبوتة ، إشارة إلى ` العقد النفسية ` كما يسميها علماء النفس .. هذا بالإضافة إلى الجماليات الشكلية التى تتحقق من خلال مراعاة التوازن والرشاقة والتناسق والاحساس بديناميكية الخط عند تعبيره عن الحركة العنيفة المتمثلة فى مسارات الأنابيب .. إن هذه الأشكال توسع رؤيتنا للجماليات الموجودة فى الواقع باكتشاف التشابهات بين عناصر موجودة فى عالمنا ورموز عامة فى النفس البشرية يقدمها لنا مجسمة فى شكل مريح .
- ضريبة التفوق
- لكن هذا الفنان المتفوق الذى لاترى الجماهير سوى مبتكراته التشكيلية وأعماله التى تزيد رفاهية الواقع وتجعله أكثر احتمالا وأقل ألما.. هذا الفنان يدفع ضريبة باهظة من نور عينيه حتى فقد قدرا كبيرا من قوة الإبصار ، إذ استقرت فى احدى عينيه منذ حوالى عشرين عاما شظية طائشة ملتهبة أثناء عمله فى لحام أحد تماثيله بالشرارة الكهربائية ، كان من نتيجتها أن فقد إحدى عينيه رغم سفره إلى أسبانيا عدة مرات حيث أجرى جراحات دقيقة بالغة الحساسية عند جراح العيون العالمى ` باراكير` الأب لكن كل هم الاطباء الآن هو حماية العين الباقية من تناقص قوة الإبصار .. فيالها من ضريبة غالية.
بقلم : صبحى الشارونى
مجلة إبداع ( العدد 3 ) مارس 1987
ساحر الحديد.. أو ` فن التجميع البنائى` صلاح عبد الكريم 1925- 1988
- كل ما كان يرجوه الفنان صلاح عبد الكريم هو أن يستكمل ديكور مسكنه الجديد بقطعة خزفية أبدعها خصيصاً لهذا الغرض. اعتذر عن مساعدته الفنان الراحل: جمال السجيني، بسبب انشغال الفرن الذى يملكه بأشيائه الخاصة. تحول صلاح حينذاك (1960) إلى أكوام الحديد الخردة عسى أن يصنع منها شيئاً جميلاً يحل محل تشكيله الخزفى. استأجر ورشة أنهى فيها `لحام` عناصر تمثال `مجمع` من الصواميل والمسامير والمفاتيح القديمة وغيرها. صادف أن مر به أستاذه القديم وزميله فى ذلك الوقت فى هيئة تدريس كلية الفنون الجميلة `حسين بيكار`. أقنعه بإرسال `المجسم` الحديدى إلى بينالي ساو باولو للنحت بالبرازيل. لأن مصر لم تكن ستشترك إلا بتماثيل منصور فرج.
- بعد شهرين.. فوجئ بصورة تمثاله فى صحف الصباح. فائزاً بجائزة الشرف الدولية على فنانى العالم.
- اشتعل حماسة ومضى في تجميع الخردة ولحامها وتركيب مجسماته المثيرة. لكن السلفيين من الفنانين عارضوه بدعوى أن الحديد ليس من تراثنا. وأن خاماتنا هى الجص والخشب والحجر بأنواعه. كان أول من أدخل `فن التجميع الإنشائى` فى الحركة التشكيلية المحلية. لكن الأعتراضات زالت جميعاً بعد أن فاز بالجائزة الدولية فى دورة تالية `1964` فى نفس البينالي. وسار على نهجه فنانون آخرون لكن أحداً منهم لم يشد الأبصار بتراكيب الحديد، ويقدم المضمون الإنسانى العميق، ويضفى على مجسمات الخردة جلالاً وعظمة وصرحية.. كما فعل رائدها: صلاح عبد الكريم.
- أتاحت له مشاهداته فى معظم دول أوروبا أن يستوعب خبرات الفنانين ويتأمل أعمالهم لكنه لم يفكر أبدا فى أن يبدع التماثيل والمجسمات. كان يدرس الرسم والتلوين والخزف والديكور السينمائى والمسرحى وكل شئ ما عدا النحت. إلا أن الصدف إذا تواعدت على اللقاء واجتمعت الموهبة بالثقافة والخبرة وسعة الاطلاع.. ورحابة الرؤية والذكاء والنشاط والظروف المناسبة.. أصبح المستحيل ممكناً وما كان كامناً فى أعماق النفس الموهوبة مهيأ للازدهار والأثمار.
- لكى نتذوق إبداع صلاح عبد الكريم ينبغى أن نتتبع جذوره البعيدة فى كل من `الشكل والمضمون` أو `الأصالة والمعاصرة`. هذه الأصطلاحات التي تطلق على عواهنها في أروقة المعارض كأنها كلمات سحرية، لا يسبر غورها إلا `كهنة الفن`. مع أن الأصالة بعض الشكل والمعاصرة بعض المضمون. إذا نبع الشكل من أعماق الفنان وتراثه اتسم بالأصالة. لا يضيره أن يكون مسبوقاً بتكوينات وخامات مشابهة. لأنه في نهاية الأمر يقوم بمدى بلورته `المضمون` وإتزانه معه بلا زيادة أو نقصان. أما المضمون فيتسم بالمعاصرة حين يستهدف المشاعر الإنسانية والقضايا البشرية الراهنة والفكر العالمى. المعاصر ليست شكلاً إنها سلوك ذو معنى ومضمون. والفن سلوك إنسانى.
- تماثيل صلاح البنائية التجميعية تعود بتاريخها من حيث الشكل إلى فجر القرن العشرين. معروف أن `بابلو بيكاسو` صاحب أول تمثال تجميعي إنشائي. أضاف صلاح عبد الكريم موهبته الفذة إلى هذا الطراز التشكيلى. لا يضيره أن يسبقه `بيكاسو`. لأن هذا العبقرى لم يكن الرائد حقاً حين أبدع تماثيله `البنائية التجميعية` الخمسين ما بين عامى 1930 و1932 فى `بواجيلو` - البيت الريفى الذى استأجره لهذا الغرض - سبقه صديقه ومواطنه `جارجالو` الذى شاركه مشغله فى أسبانيا سنة 1901 وفى باريس سنة 1906. أول أعمال `جارجالو` الحديدية كانت فى عام 1911 قبل `بيكاسو` بعشرين عاماً. سبقهما كليهما صديقهما ومواطنهما `جونزاليه`.
- أعني أن العمل الإنساني لا يأتي من فراغ. إنه حلقات في سلسلة واحدة كالعلم تماماً. بني `صلاح` إبداعه التجميعي على تراث عالمي حديث.. من حيث الشكل. اتسم بقوة الإحساس بالعصر وسعة الأفق حين أضاف إلى ما سبق - شأن كل الخلاقين - لذلك منحه `بينالي ساوباولو` جائزته الشرفية الدولية مرتين 1960 و1964. `الإضافة` التى يصمم بها `صلاح` تماثيله الحديدية هى `المضمون الإنسانى` المتزن مع الشكل `التجميعى البنائى` المنطوى على قدر رفيع من المهارة والبراعة واتقان استخدام الأدوات. و`اختيار` العناصر المناسبة للمضمون من ركام الخردة. كما فعل فى `تمثال البومة` حين بناه بالمسامير. أو في `تمثال الضفدعة` حين استخدم كرات معدنية `رمان البلي` خلعت على المتلقى جواً شاعرياً واقعياً ساحراً. يوحى بالمتناقضات مجتمعة فى هذا الكائن الصلب الرخو.. القوى الضعيف.. الشجاع الجبان.. صفات نعثر عليها مجتمعة أيضاً فى الكائن البشري.
- `بيكاسو` هو الرائد الذى توغل فى أكوام الخردة لأول مرة في تاريخ الفن، فغلبت على إبداعه روح `التجريب` أكثر منها روح `المضمون` أقرب إلى `الطواطم` القبلية البدائية والأفريقية التى تأثر بها كما هو معروف. أما تماثيل `صلاح` فأكثر تكاملاً وأوفر تعبيراً وألصق بالمشاعر الإنسانية العصرية. تتضح بالجهد الإبداعي السلس الطلق، رغم دفء الطلعة وقسوتها. `الأتزان` يكاد يكون تاماً بين `الشكل الحديدى التجميعى البنائى`.. و`المضمون الرافض` المتطلع التشريح والتخطيط ورعاية الحشرات وتربيتها، ومراقبة سلوكها وأملها تحت المجهر والدهشة التى كانت تنتابه وهو فتى فى الثانوى كل تلك الخبرات المخزونة طفت على السطح بعد عشرين عاماً لتصبح `تفسيراً رمزياً للسلوكيات الإنسانية`.. صور `قتال الضعفاء` في تشكيلات حشرية. واستنفاد الكائنات القوية محذرة من المساس بحقوقها فى `مجسم صيحة الوحش` واستشهاد الإنسان حين يصبح `الموت احلى مذاقاً من الحياة` فى تمثال `المسيح المصلوب`.. مضامين أبرزتها `تماثيل` صلاح عبد الكريم التى تعتبر `مَعْلمَ` على طريق `فن التجسيم`.. ولا نقول `فن النحت`. الطريق الذى يضيئونه: محمود مختار `1891-1934` وجمال السجيني `1917-1977` وكمال خليفة `1926-1968`.
- الأول بدأ الطريق
- والثاني تغني بأمجاد مصر وأفريقيا والقيم الإنسانية بأساليب اختلفت بين: الواقعية والرومانسية والتكعيبية ثم التجريدية التعبيرية.
- أما الثالث فصاحب الأتجاه التعبيرى المصرى الحديث، المتضمن كل معانى الاحتجاج الاجتماعى. ثم يأتى دور `صلاح عبد الكريم` ليؤسس `التجميعية البنائية` وما يصاحبها بالضرورة من طابع سيريالي. يستخلص `كائناته` من أكوام الخردة كما كان `ميشيلانجو` يستخلص شخصيات تماثيله من كتل المرمر. يفكر بالمسامير والصواميل والخردة كما يفكر الرسام بالورق والقمائر والألوان. يبدأ التجميع والتأمل فى عمليات تشبه `التسخين` عند الرياضيين ثم يتشكل `المجسم` شيئاً فشيئاً من ضباب الخيال وشظايا الحديد الملتهب أثناء اللحام واللهب الأزرق المنبثق من اسطوانة الأوكس استيلين يعيش حلها جميعاً مع عناصر الخردة من صواميل ومسامير وسوست وأسلاك وقصاقيص الصاج لعد أسابيع أو شهور. كلما توغل فى الإبداع اتضح `المضمون` يهيب به أن يضع مسمار مَعْلَماً هنا وصمولة هناك أو مأسورة أو مفتاحاً قديماً يؤدى إلى `تجسيم` التعبير. هكذا خرج `تمثال المسيح` الذى اشترك به في `بينالي ساوباولو` سنة 1964. أظهر فيه الألم والضعف والتهالك والموت. حتى يخيل للمتلقي أن الحديد يكتسب لوناً باهتاً وقواماً رخواً. المسامير فى مكان الرأس بالتشتت والعذاب والصليب كأنه مسمار كبيراً أما `مجسم الجنين` فهو نصف بيضاوي في شكل هرمى بارتفاع 75سم. لم يكن يقصده حين بدأ العمل فى جو خيالى ضبابى مدفوعاً برغبة غامضة لا يدرك كنهها. تبلور المجسم أسبوعاً بعد أسبوع وإذا بفناننا يلاحظ شيئاً بداخله كالجنين - هذا نص كلماته - إلا أن تفسيرنا لذلك هو أن الإنسان يرى عادة ما يحب أن يراه. حين أبدع صلاح تمثاله في العصر الذهبى لمصر سنة 1965 كان يشعر بالميلاد الجديد ويعبر عنه. أتاح له التشكيل أن يرى الحياة الوليدة، ويفتح الطريق للدوافع الأساسية كيما تطفو على السطح وتعبر عن نفسها.
- فى وعى كامل يبدأ صلاح فى تجميع الخردة والذهاب إلى الورشة ووضع نظارات اللحام وتجهيز المكان. رويداً رويداً ينزاح كل شئ من `بؤرة الشعور` تحل محله هيئة `المجسم` المرتقب كأنها عملية `مزج` سينمائى. دخول صورة وخروج أخرى فى نفس الوقت. حياة جديدة يحياها صلاح عبد الكريم وكل فنان صادق مع خاماته وأدواته ومضمونه.
- ولد صلاح عبد الكريم سنة 1925 فى مدينة الفيوم. الوالد مهندس والوالدة تهوى التطريز بأنواعه والنسيج المرسم على `الطارة` أو `النول`، أسرة تتسم بالوعى الثقافى شب فيها فناننا طفلا يتوسط ستة. لم يستمتع بالريف طويلاً إذ نقلت العائلة إلى القاهرة حيث حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1936. كان المفروض بعد ذلك أن يبدأ الدراسة الثانوية - حسب نظم التعليم آنذاك - دون حاجة لتركه القاهرة. إلا أن الحياة بالنسبة لبعض الموهوبين لا تمضى فى خط مستقيم. تقع مفارقات يخيل إلينا أنها متعمدة من قوة خفية أسمها الصدفة أو القدر أو الحظ لم يكن هناك أى مبرر لكي ترحب الأسرة الميسورة المستقرة لسفر الولد مع خاله الأعزل المنقول إلى `قنا` فى أقاصي الصعيد المدينة التى كانت تعتبر منفى الموظفين فى ذاك الزمان، لحرها اللافح وحشراتها القاتلة وبعدها عن العاصمة. هكذا قضى عامين فى مدرسة قنا الثانوية حيث كان اللقاء الحاسم الذى حدد مسيرته القادمة. ألتقى بمدرس الرسم `حسين بيكار` وتتلمذ عليه على طريقة `الصبينة` التي كانت سائدة، قبل أن يعرف العالم ما يسمى `المدارس الفنية`.. `بيكار` الذى عرفناه فيما بعد أستاذاً وفناناً وناقداً. صفات كانت لديه وهو مدرس صغير. فالفروق طفيفة بين خصالنا فى شبابنا وشيخوختنا.. وجد الفتى صلاح مرسم أستاذه عامراً بالألوان والأوراق والقماش، والأقلام والفرش والأدوات. لازمه كالظل يحمل حقيبته ويعاونه ويراقبه وهو يرسم المدرسين. يتابعه بذكاء وهو يبدأ بالتخطيط ويلون كأنما يكسو العظام باللحم والجلد. أصبح الرسم والتلوين شغل الفتى وشاغله حتى ألهاه عن مواد الدراسة. زاد الأمر تعقيداً أن بيكار كان موسيقياً يعزف على عدة آلات ويشرف على فريق الموسيقى، حيث كان الفتى صلاح `ضابط الإيقاع` على الطبلة الكبيرة حيناً أو الصغيرة ينقرها بالعصى حينا آخر.. أو الصناجات يصفقها بيديه.. الروح الزخرفية التي نلحظها في إبداع فناننا.. خاصة فى الرسم الملون لها جذور تمتد إلى مدرسة قنا الثانوية. اكتسب فى تلك الفترة خبرات لا يبلغها خريج عادى فى كلية الفنون الجميلة الآن.
- تكررت الصدف السعيدة مع عودة الطالب صلاح إلى القاهرة ليستكمل دراسته الثانوية بمدرسة `فاروق الأول`. كان مدرس الرسم هذه المرة أستاتذة التربية الفنية: `يوسف العفيفى` الرائد الذى أسس صرح التذوق الفنى فى مصر والعالم العربى. لكنه لم يلبث أن رحل عن المدرسة بعد ستة أشهر ليرأس `قسم الرسم` فى معهد التربية للمعلمين. كأن القدر كان يصر على إعداد فناننا ليتبوأ مكانته ويلعب دوره فى حركتنا التشكيلية المعاصرة. أهداه أستاذاً بديلاً له أبلغ الأثر في تخريج جيل من قادة الفنون الجميلة في مصر. أعنى `حسين يوسف أمين` الذى اكتشف وقدم لتاريخ الفن كلاً من: عبد الهادى الجزار `1925-1966` وحامد ندا وسمير رافع الذى هاجر إلى فرنسا منذ أكثر من ربع قرن وصلاح عبد الكريم.
- كون `حسين يوسف أمين` جماعة الرسم فى مدرسة فاروق الأول من هؤلاء وغيرهم. تعلم صلاح على يديه أساليب فن الرسم والتلوين فى العصر الحديث (1940) بعد أن درس أصول الأتجاه الأكاديمى فى مرسم أستاذه السابق `حسين بيكار` سنرى فيما بعد كيف كان لهذه الدراسات المبكرة أبلغ الأثر فى المستقبل حين بعث إلى `باريس` ثم `روما` بعد تخرجه فى `مدرسة الفنون الجميلة العليا` سنة 1947. لازمه الطابع الزخرفى الذى اتسم به بيكار حتى فى اختياره الألتحاق بقسم `الزخرفة` أثناء الدراسة. كما لازمته حرية اختيار الألوان التى استقاها من `صالون حسين أمين` حتى أطلق عليه أقرانه فى المدرسة اسم `ملك الألوان`.
- `الطابع الزخرفى الهندسى الحديث` لوحات صلاح عبد الكريم الزيتية، يتجلى فى نظام وضع الألوان وتوزيعها واختزال هيئة العناصر إلى الحد الأدنى بأغفال التفاصيل، أو استغلالها لأكثر من عنصر - كالفم والعين فى لوحة `القبلة` - وتداخل `الأمامية` و`الخلفية` بالخطوط المستقيمة والأقواس وشفافية الألوان الأمر الذى يخلع على صوره جواً عاطفياً شاعرياً يخفف من جفاف الخطوط وحدة الأقواس الهندسية، ويضفى على المضمون مسحة إنسانية.
- يذكرنا هذا النمط الهندسى بأعمال الرسام الفرنسى: أندريه لوت (1885-1962). الذى حول بدوره عناصر لوحاته إلى أشكال هندسية متداخلة إلا أنه كان ذا عقلية علمية أكثر منها فنية: كان صحفياً وناقداً وضع مؤلفات منها `أهداف الفن` وصنعة الفن` و`روائع الفن المصري` انتقص طابعه العلمى من اهتزازات المتلقى الوجدانية كما فى لوحة `الرجبى` التى أبدعها سنة 1917 واقتناها متحف الفن الحديث فى باريس على أنها أروع أعماله لكن.. الفن كالعلم كما أسلفنا. حلقات في سلسلة واحدة تروى قصة الحضارة الإنسانية. لم يكن `أندريه لوت` الذي ابتكر هذا `الطابع الزخرفى الهندسى الحديث`. استلهم كلا من `بول سيزان` أستاذ الفن الحديث فى القرن العشرين وصديق عمره `بابلو بيكاسو`.
- صلاح عبد الكريم هو `الخطوة التالية` بعد `لوت` فى هذا النمط من الرسم الملون، كما يتضح فى لوحة `القبلة` التى أبدعها سنة 1970 زيت على سيلوتكس 70x100سم. وكان `الخطوة التالية` بعد `بيكاسو` فى `فن التجميع البنائى` - فالأعمال العظيمة - كتماثيل صلاح ولوحاته - لا تنبع من فراغ. إنما تمد جذورها الشكلية والتكنيكية إلى التراث العالمي فى أى مكان. لأنه مكتسب حضارى كالعلم والتكنولوجيا. فليس معنى الأخلاص للتراث المحلى أن نحارب بالقوس والسهم كما فعل المماليك مع الحملة الفرنسية. أو أن يرسم فنانونا وحدات خشب الخرط الإسلامية، أو العيون اللوزية الفرعونية، أو حروف اللغة العربية، العبرة بالـ`مضمون` الإنسانى وكيف استطاع الفنان المطبوع أن يرسيه فى ضمير المتلقي بالـ`شكل الأستطيقي` المناسب، اتسم بالطرافة والجاذبية والحيوية. هذا ما حققه صلاح عبد الكريم فى معظم إبداعه فى: الحديد والخشب والخزف والرسم الملون.. وتصميمات الديكور والعمارة.
- ثمة علاقة أخرى بين صلاح عبد الكريم وأندريه لوت، صدفة أخرى حدثت سنة 1950. حين أعلنت الحكومة عن مسابقة فى `فن الديكور` استقدمت لها أربعة من كبار الفنانين والنقاد من كل من: إيطاليا وأسبانيا وفرنسا، حتى تضمن الحيدة وعدم تدخل الوساطة المحلية كان من بينهم `أندريه لوت` فاز صلاح بالجائزة: سبع سنوات ونصف فى باريس وروما للدراسة والبحث مع تغطية نفقات الرحلات الداخلية والخارجية، وتكاليف المشتريات من الكتب والخامات والأدوات. لم يترك خلالها ركناً فى معظم بلدان أوروبا إلا وزاره مستمتعاً ودارساً. لابد أن `لوت` - كعضو فى هيئة التحكيم - قد لاحظ الموهبة الكامنة التي بدأت تكشف عن نفسها رحل فناننا الشاب إلى باريس سنة 1953 حيث ألتحق بأستوديو `اكاساندر` الفنان العجوز روسي الأصل. المعروف فى تاريخ الفن الحديث بأنه نقل `فن الأعلان` إلى الطابع العصرى، وحول `ديكور المسرح` من الكلاسيكية الأكاديمية إلى الرمزية الحديثة.
- مع كل حداثة `كاساندر` آنذاك كان أكاديمياً فى تدريبه لتلميذه المصرى. علمه أن ألوان الرسم لا توضع بناء على الإحساس العاطفى فحسب. بل ينبغي حساب تأثيراتها `الكيميائية` المتبادلة فيما بينها من ناحية ومع الضوء من ناحية أخرى. من حيث الداكن والناصع والبارد والساخن وغير ذلك من الملامس والخصائص. أدرك ضرورة `العلم` فى بلورة الحساسية وإظهار الفن وتأكيد الجمال. لذلك تتميز لوحات صلاح بالنضارة. يجذبنا إليها الشكل المصاغ بعناية والألوان الموضوعة فى مكانها المؤثر بكمية مناسبة ومساحة وملمس. ودرجة تؤدى دورها المتكامل مع باقى عناصر التشكيل. هذا هو السر الذى يشد العيون والأفكار ويتيح فرصة متعة لتقي `الرسالة` التي ترفع من شأن الحياة وتجدد نشاط العقل وتشحذ العواطف الإنسانية.
- تعلم `الديكور المسرحى` و`العمارة الكلاسيكية` قبل أن يطلب منه `كاساندر` أخطار السفارة المصرية بالتوقف عن دفع النفقات، وينصحه بالانتقال إلى `معهد بول كولان` ليحيط بالطرف الآخر لدراسته الفنية، وهو أصول `الفن الحديث` سنة 1955. هنا.. تعلم فناننا من جديد: الرسم والتلوين والإعلان وتصميم أغلفة الكتب.. وديكور المسرح.. وتصميم الفترينات وانفتح على مصراعيه باب التجريد والرمز والتكون التعبيرى. لكنه لم ينحدر أبداً فى إبداعه الحالى إلى هوة `التجريد العبثى` و`الأسقاط الفورى اللاعقلانى`، كما يفعل بعض أساتذة الكليات الفنية. فى سلسلة مجسماته بالمواسير بعد هزيمة 1967، أبدع صلاح تشكيلات مختلفة تصل بارتفاعاتها إلى المترين تقريباً. ماسورتان وثلاث تلتف ببعضها كالشعابين تنضح بالديناميكية والعاطفة القوية وتوحي بأن ثمة علاقة بيولوجية هناك. تزيل من عين المتأمل برودة الحديد والألمونيوم وتخفف من جو الإكتئاب النفسى المهين الذى أعقب الهزيمة.
- سافر إلى روما من باريس يستكمل دراساته وجولاته ويثرى من خبراته التى أصبحت كنزاً لا ينفد. وصلها سنة 1958 حيث درس الخزف وديكور السينما، وأسهم فى بينالى فينيسيا والمعارض العامة، وطاف بالبلدان المحيطة وعاين متاحفها وفنوننها قبل أن يعود إلى أرض الوطن فى منتصف 1960، ليبدأ تصميماته الشهيرة لديكورات المعرض الصناعى فى أرض الجزيرة بالقاهرة، وفندق فلسطين بالإسكندرية الذي نال به جائزة الدولة التشجيعية. والعديد من التصميمات المبهرة التى وضعته فى دائرة الضوء كأكبر مصمم ديكور فى مصر. ثم لوحاته الزيتية المثيرة التي لا تخطئها عين فى المعارض العامة التى لم يتخلف عنها أبداً. وما لبث أن فاز بجائزة `بينالي ساوباولو` بتمثال `السمكة المتوحشة` من التجميع البنائى لعناصر الخردة، حتى تأكدت مكانته كرائد هذا الأسلوب غير المسبوق.
- التنشئة الفنية.. والخبرات الدسمة.. والأصالة الريفية الشعبية.. والجولات فى إنحاء مختلفة من العالم.. والقراءات والدراسات المنوعة والموهبة استطاعت أن تلين الحديد وتستأنسه عيناً صلاح عبد الكريم بمسحة من البهجة فلا ترى فى نفايات الخردة سوى الجمال والشاعرية. إذا صادفته قطعة حديد مهملة، تشكلت فى عينيه داخل جسم غريب لحشرة أو حيوان هو خالقه ومبدعه. فى سرعة وخفة يركب الصواميل والمسامير والخردة كأنها هى ترتب نفسها بنفسها. القدرة والمهارة التى إبدع بها كائناته لم نشهد لها مثيلاً من قبل. من هنا اتخذت صفة الأصالة والمحلية. ثم اكتسبت `العالمية` حين أجازتها لجنة التحكيم الدلوية ومنحتها الجائزة الأولى مرتين فى بينالي `ساوباولو`.
- مجسم `صيحة الوحش` يعكس أمارات الغضب والثورة والتمرد. `البومة` تعكس معنى التربص المشوب بالتوتر والقلق. كذلك تمثالها المنحوت فى الخشب. `الضفدعة` مجسم من الخردة مثير للشفقة يوحى بالصوت العمق المعروف بالنقيق. عبر عن تشريحها الدقيق فى بساطة واختزال. فجاءت جملة بليغة فى ميدان `التجميع البنائى`. تلك المجسمات تشع نوعاً من السحر القديم الذى كان يتقمص `الطواطم البدائية` بوظيفته الاجتماعية الدافعة. نوعاً من القوة والطاقة لا نستطيع أن نصم آذاننا عن تلقى رسالتها.. وهى تزرع فى صدر المتلقى الإيمان بالحياة الإنسانية. ترى الصواميل والمسامير والمفاتيح الإنجليزى والسست والمواسير وكل مفردات الخردة، وقد تحولت بين يدى ساحرنا إلى مفردات ملحمة شعرية، تلهب أفُكارنا وتشحذ انفعالاتنا.. وتضئ نفوسنا بمعان جديدة.
بقلم : الناقد/ مختار العطار
من كتاب رواد الفن وطليعة التنوير - الجزء الأول
الفنان صلاح عبد الكريم (1925- 1988 ).. ترويض الخردة بالإبداع
- استطاع الفنان صلاح عبد الكريم - المتوفى عام 1988 - أن ينتزع اعترافا دولياً بقدرته على تشكيل تكوينات نحتية من الحديد، فحصل على ميدالية الشرف لفن النحت من بينالى ساو باولو بالبرازيل فى دورتين من دورات هذا المعرض الدولى الشهير عامى 1959 و1964، وسجلت صورة تمثاله ` صيحة الوحش` من الحديد فى الجزء الثالث من الموسوعة الفرنسية للفن ` لاروس` التى صدرت عام 1963 تحت عنوان : الكتلة والطاقة والحيوان، مع صور أعمال بيكاسو وشادويك ومولر، باعتبارها نماذج فريدة من الفن الحديث واقتنت دولة الهند فى ترينالى نيودلهى الدولى عام 1968 تمثاله الحديد` كابوريا` لمتحفها الوطنى ...
- يعد صلاح عبد الكريم صاحب مدرسة متميزة فى مجال النحت الحديدى، باستخدام المخلفات المهملة من التروس والعدد وقطع الغيار والمسامير التى كان يجمعها من وكالة البلح بحى بولاق ويشكل منها بلحام الأوكسجين تكوينات وتشخيصات ذات مضامين ومعان وأبعاد ...
- من نفايات الصلب التى كانت تمثل قوة الطاقة والحركة الميكانيكية، يعيد الفنان خلق طاقة من نوع جديد.. طاقة التعبير الإنسانى أو البدائى أو الوحشى على السواء .. فنرى جموح القوة الغاشمة التى تحمل فناءها بداخلها من خلال هذا التمثال( صيحة الوحش) .. كما نرى فى تماثيل أخرى على النقيض، رقى الإنسان فى اكتشافاته العلمية وسيطرته على الفضاء .. ونرى حيوانات البر والنهر وهى تكبر حتى تصبح كالعمالقة ، أو تزحف منذرة بالمصير الخطر الذى يتهدد البشرية مع إندلاع الحروب وإنفلات الغرائز والعودة إلى الحياة البدائية وقانون الغاب . يشرئب الضفدع وكأنه ينعى العالم المتحضر بنقيقه الأجوف، هذا بينما نرى ` إنسان القرن العشرين ` مصلوبا وقد إنتزع القلب من صدره وكلل رأسه بإكليل الشوك ! ..
- كان صلاح عبد الكريم يتفانى فى إنجاز هذه الأعمال التى كلفته الكثير من ماله ونور عينيه، حتى أوشك أن يفقد البصر إثر شظية من شظايا الحديد أصابت عينه .. لكنه لم يتوقف عن مواصلة رسالته، بالرغم من أن أعمالا من هذا النوع ما كانت لتغرى أحداً باقتنائها فى ذلك الوقت المبكر منذ أواخر الخمسينيات، فى الوقت الذى كانت شهرته تدوى فى كل مكان كمهندس للديكور والتصميم الداخلى ومصمم ديكورات المسرح مما يحقق كل طموحاته فى الثراء والشهرة والعلاقات الوطيدة .
- لكن الفنان الحقيقى لاتشبعه إلا متعة الاكتشاف بعد اجتياز الطريق الصعب، ومتعة النجاح فى ترويض الخامة والسيطرة على المجهول .. وقد كان غالبا يتعامل مع نفايات الخردة وكأنها حروف لغة منسية لاتقول شيئا ، حتى ينفخ فيها من روحه ويؤلف منها جملا تشكيلية مليئة بالقوة والدلالات، ويكون هو أول من يفاجأ بما تحولت إليه تلك النفايات فتستبد به النشوة، ويندفع مواصلا العمل بالليل والنهار، وسط إنهمار الشظايا النارية .
- ومع ذلك فإن عبقريته فى تطويع قطع الخردة لاتجعلنا نغفل موهبته الفذة فى التصوير الزيتى والتصميمات الجدارية والديكورات المسرحية، فقد ترك لنا فى كل مجال تراثا إبداعيا رائعا، مثل لوحاته عن الحرب وعن السلام، والسمكة والديك والفتيات، التى كانت تجمع بين التشخيص والتجريد، وتقترب من رؤية الفنان العالمى بيكاسو ..
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث