`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد خميس أحمد شحاتة

- تميزت أعماله ببصمه خاصة يشيع فيها الحس الجمالى العميق ، وروح الابتكار مع الحرص على جوهر والقيم التشكيلية وموسيقى العلاقات اللونية .
الناقد/ كمال الجويلى

خميس شحاتة .. الجميل فى الأصيل
* خميس شحاتة فنان شديد المصرية تمتد أعماله من سحر الأعماق إلى تجليات الأفاق.. تتألق بالجميل فى الأصيل وتمثل عصير الحياة الشعبية بلغة بصرية جديدة .. وهى أعمال مسكونة بعمق البيئة وقيم وتقاليد التراث المصرى.. فيها حكمة التشكيل والتعبير البليغ المتصل بحياة الناس فى كل مكان بطول الوادى والدلتا.. وهو شاعر الالوان والأنغام البصرية فى الفن الشعبى..
- إذا كانت هناك مدرسة فى التصوير الإسلامى وفن المنمنمات قادها بهزاد فى إيران ويحيى الواسطى ببغداد إلا أن شحاتة تمثل أعماله إيقاعاً آخر ومنمنمات شعبية مصرية تنتمى للقرن العشرين.. يتعامل خلالها مع الصور الشعرية والألفاظ والحكم والأمثال وأيات الذكر الحكيم بروح الفنان العاشق فتتحول الحروف إلى رسوم محملة بالمعانى ترق وتسمو وتهتف وتشرق وتغنى ..يمتزج فيها التصوير بالخط العربى مع البناء المعمارى.. كل هذا فى معلقات نسجية مطبوعة ومصممة بزخارف شرقية.. تدق أحيانا فتصير فى حجم الكف وتتسع فى أغلب الأحيان بمساحات صرحية.. تذكرنا برسوم الوشم والكليم الشعبى وتصاوير الحج على واجهات البيوت فى ريف مصر المحروسة .
أسد بدلا من الحروف
-فى مدينة الاسكندرية بحى الجمارك ..هذا الحى الذى يبوح بكل ما هو شعبى ولد فناننا خميس شحاتة عام 1918.. كان والده تاجرا محبا للفن الذى يشع فى جنبات البيت بلمسة تلقائية من تلك التصاوير التى تجسد السير والمدائح الشعبية.. وعندما التحق بمدرسة المرسى ابو العباس الأولية بدأت موهبته فى الرسم تتفتح من البداية.. يرسم على لوح الاردواز كل ما يعن له من صور واخيلة.. وذات يوم لاحظ مدرس اللغة العربية الشيخ الصاوى انشغاله عن الدرس.. وبدلا من ان ينقل حروف الهجاء قام بنقل الاسد المرسوم على حائط الفصل وما ان اقترب منه حتى أدهشه الرسم وما كان منه الا أن ذهب به إلى الناظر الذى أمر بأن يمر به على الفصول ليرى زملاؤه ما رسم ويصفقوا له.. ولقد أثرت تلك الحادثة فى فناننا وكانت مشجعا له بطول رحلته مع الابداع .
- لم يكتف الطفل خميس بالرسم وحده فقد برع فى تشكيل عرائس من وحى عروسة المولد التى كان يطالعها فى ذهابه وعودته تقف غارقة فى الحلم على رفوف باعة الحلوى فى موعد ثابت من كل عام فى المولد النبوى الشريف.
-عندما انتقلت الاسرة إلى القاهرة وهو فى العاشرة سكنت حى السيدة زينب بجوار مسجد ابن طولون وقد ساهم هذا فى تأكيد ولعه بكل ما هو شعبى واستلهام عصير الحياة بهذا الحى العريق.. وكانت والدته التى أصبحت أرملة فى سن مبكرة تشجعه على الرسم وتلهب خياله بالأغانى والحكايات.. كما تقول ابنته صفاء خميس .
- درس شحاتة بكلية الفنون التطبيقية بقسم الفنون الزخرفية والزجاج المعشق بالرصاص ودرس التصوير بمعهد التربية الفنية للمعلمين وكانت أول وظيفة له فى الدلتا ان عمل معلما للتربية الفنية بمدرسة تدريب المعلمين بشبين الكوم وانتقل بعد ذلك إلى مدرسة النقراشى الثانوية النموذجية وهناك أصدر مجلة مدرسية أشرف عليها معه رشاد رشدى مدرس اللغة الانجليزية بالمدرسة. فى عام 1953 كان أول مفتش تربية فنية يدخل الكويت ليشرف على 60 مدرسة وتتلمذ عليه معظم رواد الحركة الفنية هناك وانشأ بالكويت أول متحف عام 1958 وعاد لمصر بعد ذلك لينتقل من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة فى عهد ثروت عكاشة.
- فى بيت السنارى` الذى بناه كتخدا السنارى فى العصر العثمانى بحارة مونج المتفرعة من ميدان السيدة زينب والذى كان مقرا لرئيس البعثة الفرنسية التى قامت بوضع كتاب وصف مصر عام 1899 أثناء الحملة الفرنسية على مصر` .. -عمل بقسم البحوث الفنية وكانت حجرات البيت هى نفسها الاستديو الذى قام فيه بجمع وتنفيذ التصميمات وكان يوثق ويستلهم الموتيفات والعناصر الشعبية وينتج الآلاف من التنويعات مستخدما الوسائط العديدة من الجص والزجاج والألوان والخشب والبلاستيك والأصباغ والقماش.. حتى أصبح رائدا للفن الشعبى حاميا للتراث وخارجا عليه فى نفس الوقت بأسلوبه التعبيرى.. فى أعمال تتواصل فيها الحضارة المصرية من الفرعونى والقبطى والإسلامى فى قوام شعبى.
الفن والحياة
- كان خميس شحاتة عضو مؤثرا فى جماعة الفن والحياة التى أسسها المفكر حامد سعيد والذى قال عنه: ` لو أنك شاهدت الفنان خميس شحاتة دون علم منه يوما كاملا من أيام حياته منذ نشأته طفلا حتى اليوم الذى أصبح فيه فنانا.. لو انك فعلت ذلك ودون علم منه لرأيت طفلا وشابا وكهلا وشيخا فى وقت واحد معا ورأيتهم جميعهم حاضرين يعملون وكأنهم يلعبون ..ويلعبون ولكنهم فى حقيقة الأمر جد عاملين ومخلصين ..لو أنك فعلت ذلك ورأيت تلك الظاهرة الجميلة..لوجدت إن جوهر نشاط هذا الانسان الدمث الوديع منذ الطفولة وعبر الدراسة والوظيفة وحتى الآن واحدا لم يتغير: هو الحياة الراضية المرضية من خلال العمل اليدوى الخلاق الذى ينشد الجمال وينشد التجويد ` .
رباعيات جاهين
- يقول شحاته : ` كنت من أوائل الذين شاركوا فى صالون القاهرة عام 1936 بلوحات تصوير زيتى.. وداومت على الاشتراك فى هذه المعارض الجماعية إلا أن جاء يوم قمت فيه بإلغاء كل أعمالى ودهنت لوحاتى بالأبيض ..ربما لأننى كنت غير راض عنها وربما لأننى كنت مدفوعا لبدء مرحلة جديدة فى حياتى والاتجاه للفن الشعبى وفى عام 1951 ساهمت بكثير من أعمالى فى واحد من أهم المعارض التى شاركت فيها برباعيات الخيام وكانت الرباعيات التى ترجمها من الفرسية الشاعر أحمد رامى صديقى فحاولت أن أعبر عن حبى له فرسمت معظم الرباعيات فى لوحات فنية على طريقة الفنان الإسلامى فى العصر العباسى .
- لكن خميس شحاتة أنتقل إلى الايقاع الشعبى بعد أن استوعب أفاقه وايقاعاته وجعل منه تعبيرية أخرى ونسقا جديدا مع الحرف العربى الذى تشكل على يديه وانساب بلمسته ..يقف فى رشاقة وينثنى فى حنان يجسد سر الأرض المصرية التى جادت بكل تلك الصور والتى تألقت فى أشعار صلاح جاهين فى الرباعيات وفؤاد حداد خاصة فى لوحة عروسة المولد والاستمارة راكبة حمارة `.. ومن هنا وفى لوحاته نلتقى مع بورتريه أو صورة شخصية لمصر العالم الشعبى .
- وهو فى الرباعيات يمزج بين البشر والحيوانات والطيور وتتكرر التداعيات الخطية راقصة خاشعة مستبشرة وحزينة تعكس حكمة الحياة والموت كما جسدتها عبقرية جاهين:
- ` أنا كنت شىء وصبحت شىء ثم شىء ..
- شوف ربنا قادر على كل شىء
- هز الشجر شواشيه
- لابد ما يموت شىء عشان يحيا شىء` ..
- لكن يظل للخط هيمنته فى استدارات وانحناءات وتكراريات ..تذكرنا باختام الشعبيين النحاسية..فيها روح الشخصية المصرية وسماحتها .
- لقد جاءت عروسة المولد والتى تعد أيقونة خميس شحاتة من وحى قصيدة فؤاد حداد بنفس الاسم وكان قد تذكرها أيام كان يشكلها فى طفولته ..لكنها جاءت قادمة من سحر الفن القبطى وروح الفن الإسلامى مع زحام النقوش الشعبية التى تنساب فى كريات ومربعات ومثلثات والعناصر النباتية بغلبة الاحمر الداكن والأزرق النيلى ..ويمتد الخط يحيط المراوح الثلاث يكمل الإطار الزخرفى الدائرى :
- سكر نبات اكتمل .. ما أرخص وأغلى الأمل ..أخضر سريسى ..جسمى انفرد وانطوى ..ما أعرفشى مين يا هوى .. حيكون عريسى .
- تتحاور الخطوط مع النقوش فى واحدة ونسيج واحد تضفى على الايقاع حيوية تعكسها حركة الخط .
- لاشك أن لوحة النيل ` التى تقول لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملا.. فماؤه عذب لم يخلق لكسلان `. تمثل احدى ذرى فنه مع لوحته ` أغنية حب نوبية ` خاصة وقوامها من عناصر مرتبطة بالرى والعطش مثل قطرات المياه والدورق الذى تنتهى فوهته برأس نسر كما أنه مزين بطائر الأرض المصرية آبو قردان الذى يتشكل من أحرف تلك الكلمات واللوحة يعلوها قلل مصفوفة واسفلها شريط من المياه .
السبع سبع
- فى عام 1967 أبدع الفنان شحاتة لوحته الشهيرة ` السبع سبع وان كلت مخالبه.. والكلب كلب وان طوقته ذهباً ` وهى لوحة تشكل السبع فيها من الكلمات ويبدو ماسكا سيفه ومحفوفا بالزهور فى ألوان غنائية رصينة يغلب عليها البنى الفاتح والأحمر والأخضر والأصفر والأبيض.. وهى تمثل مساحة من الاعتداد والشموخ الذى كنا فى حاجة إليه فى هذا الوقت من الانكسار وترتفع قيمتها بحجم تلك الظروف مع بلاغة الايقاع والتعبير ..وللأسف الشديد ضاعت هذه اللوحة منذ عام 2006 وكانت فى مكتب من مكاتب قاعة الفنون التشكيلية بالأوبرا وضاعت فى زحام أحد المعارض الجوالة.. وقد سبب ضياعها نوعا من الاكتئاب لابنه البار الفنان محمد الذى يعكف على تراث والده ويحافظ عليه..ونحن نتمنى أن تعود مرة أخرى يدل عليها من يعرف مكانها خاصة وهى إحدى علامات فنه.. وعند عودتها يقام معرض استعادى لأعماله تتألق فيه اللوحة بين اخواتها من بنات فنه.
- تحية إلى روح خميس شحاتة الفنان المصرى الاصيل ..أحد رواد الفن الشعبى.
صلاح بيصار
جريدة القاهرة - 16 /9 /2011
الأيدي المفكرة
- السبع سبع وإن كلت مخالبه.. والكلب كلب وإن طوقته ذهبا...
- لا أذكر صاحب هذا الشعر الطريف الحكيم. ولا يذكره أيضا فناننا المعروف، خميس شحاته، مع أنه سجله فى إحدى لوحاته البديعة من النسيج المطبوع، المزخرف بالحروف والكلمات فى تشكيل تغييرى فريد، تميز به عن كل الذين استخدموا الكتابات العربية فى إبداعهم الفنى.
- لا أظن كذلك أن اسم الشاعر كان معروفاً لبائع ` الدندورمة ` صاحب العربة الخشبية البيضاء اللامعة، التى كتب عليها هذا الشعر منذ أكثر من نصف قرن حين كان يدفعها أمامه فى حى الجمرك بالأسكندرية يستظل بـ` تندتها` وينفخ فى نفيره فيهرب إليه أطفال الناحية وبينهم الصبى محمد خميس `8 سنوات` الذى تعلم القراءة وشيكا فظن أن كلمة كلت `مشتقة من فعل ` أكل`.
- وبعد مسيرة طويلة زاخرة فى عالم التشكيل المتنوع، اشتهر فناننا خميس شحاته بمعلقاته من النسيج المطبوع المصمم بالزخارف الشرقية والألوان الفاتنة .. الحافل بالحكم والإشعار والآيات القرآنية. يدق إبداعه أحياناً إلى حجم المنمنمات وينفسخ أحيانا حتى ليغطى جداراً بأكمله تتخذ التشكيلات التعبيرية فى إبداعه طابعاً بسيطاً صريحاً ، فتصبح كلمة `سبع` على هيئة أسد ، معيداً إلى ذاكرتنا الصور الإيضاحية الإسلامية الطريفة فى كتاب ` كليلة ودمنة `.
- تبدو الفكرة لأول وهلة بسيطة ساذجة لكن أبداً.. أنها تنطوى على قدر كبير من المهارة والبراعة والدقة، والدراية بكل من الأصول الجمالية وأسلوب إستخدام مختلف الخامات من ألوان وأصباغ ومواد لاصقة وأدوات. بالإضافة إلى الإخلاص والحب والإيمان بالعمل الفنى .. والثقة بصحة الطريق وصدق الرسالة.
- من الفنانين الأوربيين الذين أتصفت أعمالهم بالسذاجة الظاهرية، بالرغم من القيم الفنية الرفيعة التي تتضمنها أعمال الفرنسى جان ديبوفيه (1901 - 1985) الذى عكس على إبداعه سعادة الأطفال حين يرسمون.. وملامح تصاوير كهوف ما قبل التاريخ بل والصور الشائعة التى يصادفها الفرنسيون فى الطريق العام.
-اتسمت أعماله بطابع السذاجة والبراءة والطهارة والنقاء، لكنها انطوت فى نفس الوقت على وعى كامل بالقيم الجمالية والإثارة والحيوية. تميز هذا الفنان بالتجريب فى كل من الرسم التصويرى والنحت البارز والقص واللصق (كولاج) معتمداً على وحدات مستعارة من فنون البدائيين وغير المحترفىن من الفنانين ومظاهر النشاط الإبداعى للأطفال ، مستخدماً فى كل ذلك خامات متباينة منها: القار.. والأسمنت.. والجص.. واللاكيه وما إلى ذلك مما أسبغ على إبداعه طابعاً بدائياً لكنه مؤثر وجذاب ومثير..
- تلك الصفات الفنية الأصيلة نجدها فى إبداع : خميس شحاته، مع إختلافه البين عن ديبوفيه وأى فنان هنا أو فى الخارج، يمكن تمييز طابعه الشخصى الذاتى فى المعارض الجماعية العامة بالسمات المحلية المصرية العربية المحتفظة بنكهة شرقية. نستطيع أن نقتفى فى إبداعه آثار التراث الفرعونى والقبطى والإسلامى، فى كل من الصنعة والوحدات الزخرفية والتصويرية.. والأنماط الإبداعية. لكن.. هذه الجوانب مرتبطة فى وحدة متكاملة مع شخصية الفنان المتفردة ، ولا تكاد نتأمل إبداعه حتى تغمرنا فرحة طفولية تشدنا إلى أيام زمان حين كانت الدنيا دنيا..
- لم تشغل القراءة وقتاً طويلاً من حياة فناننا الكبير بحيث تعزله عن الواقع وتأمل التراث والاستمتاع به. لم ينهج معظم فنانى العالم الثالث الذين قرأوا كثيراً عن فنون أوروبا وأمريكا وبهرهم التقدم التكنولوجى فخلطوا بينه وبين الإبداع الفنى، واحتجبت عن عيونهم وقلوبهم حقيقة الحياة.. وضاعت همسات التراث بين حركات الديسكو الهستيرية .. وولولة الشباب وصراخه مع ضجيج أنغام الجاز.. وما يقابل ذلك من اسفاف تشكيلى. كالذى أتى به الشباب الأسبانى فى 1981 إلى قاعة إخناتون الرسمية، حيث عرض مجموعة من الأخشاب القديمة القذرة .. ومساحات من القماش المتسخ بالبقع العشوائية ..
- إستخدم خميس بصيرته ليرى. وأصابعه ليفكر فأبدع تنويعات تشكيلية تتسم بالإثارة .. والبهجة والجاذبية. إنه يعيش إبداعه حلماً وحقيقة فلسفة وواقعاً. يتخيل ثم يجسد الخيال ويضعه أمامنا نتأمله. مازال الشغف الطفولى يعيش فى قلبه الشيخ .. مع الدهشة والإعجاب والفضول كل ذلك يحرك أصابعه المرهفة بين الألوان والأدوات وخامات الجص والزجاج والخشب والقماش والبلاستيك وكل ما يقع بين يديه هائماً فى عالم التراث مستنهضاً القيم الجمالية التى شغلتنا عنها ظروف الحياة.
- مهما قيل من أن علم النفس لم يصبح علماً بعد. بمعنى أنه لم يخضع للتعريفات الإجرائية التى تفرق بين النظرية والحقيقة، فقد كشف لنا عن طريق حاسمة فى التربية من أهمها نظرية ` التعزيز` .. أى التعليم عن طريق المكافآة. وفى حياة فناننا حادثة بسيطة عرضت له وهو فى السادسة من عمره.. يذكرها فى اعتزاز كان تلميذاً فى `مدرسة المرسى أبو العباس الأولية ` وفى حصة اللغة العربية والدين، إنشغل عن الدرس، بنقل صورة أسد من لوحة معلقة على جدار الفصل، إلى لوح الإردواز أمامه الأمر الذى استقطب الأطفال من حوله. كذلك المدرس المعمم جاء يتبين ماذا يفعل الطفل خميس بلوح الإردواز وبدلاً من أن ينهره أو يضربه أبدى إعجابه بالرسم المنقول، بل أصطحبه إلى مكتب الناظر الذى أشار بأن يطوف بفصول المدرسة الأربعة، ويطلب إلى التلاميذ أن يصفقوا لزميلهم الموهوب. ومن يومها مضى الطفل فى طريق الفن حتى أصبح من معالم حركتنا التشكيلية المعاصرة.
- إتخذ خميس شحاته مكانته المرموقة ودخل دائرة الضوء فى مطلع الستينات حين أرتبط اسمه بالمنجزات التى حققها `مركز البحوث الفنية` فى بيت السنارى متمثلة فى العرض الدائم لفنوننا التقليدية .. وامتداداتها وتطويراتها، فى ضوء أفكار فيلسوف الفن المعروف: حامد سعيد، الذى كان مديراً للتفرغ والبحوث الفنية فى العصر الذهبى لوزارة الثقافة.
- وبيت السنارى له قصة.
- إنه بناء عتيق مملوكى الطابع يرجع تاريخه إلى القرن الـــــ 18، ويقع خلف المدرسة السنية بالسيدة زينب بالقاهرة. إختارته الحملة الفرنسية (1798 - 1801) من دون قصور القاهرة، ليقيم فية نخبة العلماء والفنانين الذين وضعوا المجلد التاريخى الشهير: وصف مصر.
- فى هذا البيت الجميل.. وفى إطار فلسفة حامد سعيد وإدارة وإشراف خميس شحاته، إستطاعت جماعة من الباحثين الشباب فى الستينيات، أن تقدم نموذجاً تنفيذياً لفكرة : تطوير التراث.. وإعادة تقديمه للمجتمع فى ثوب جديد. وضرب خميس شحاته مثلاً بكل إنتاجه فى شتى الميادين التشكيلية أصبح إبداعه تطبيقاً عملياً فى فنون طباعة المنسوجات والزجاج الملون المعشق بالجص والتصميم والرسم على الزجاج والتصوير الإيضاحى والرسم على أوراق البردى.. وغير ذلك من فنون التراث. كان الباحثون فى `بيت السنارى` يتعلمون من خميس كيف يستلهمون وينفذون بينما يتردد عليهم حامد سعيد بين أسبوع وآخر ليعاين الإنتاج.. ويثير المناقشات وينشر التعاليم.
- إلا أن الأمر بالنسبة لخميس شحاته لم يكن إدارة وفلسفة ، بقدر ما كان إبداعاً تطبيقياً مستنداً إلى أمشق التراث.. ساعياً إلى` توحيد الفن بالحياة العملية والروحية ` كما جاء فى بيان مركز البحوث الفنية الصادر سنة 1963. كان `السنارى` بمثابة إستوديو خاص للفنان خميس حتى إنه أسهم فى إصلاحه وإعداده من جيبه الشخصى ، ببعض ما عاد به من إعارته للكويت كموجه تربية فنية على مدى أربع سنوات .كان` معملاً تجريبياً ` لتطوير واستلهام فنون التراث، نسى فية نفسه حتى أحيل إلى التقاعد سنة 1978.
- غادر` السنارى` حينذاك ليستأنف تجاربه الإبداعية فى مسكنه الخاص بشارع الجامعة بالجيزة ..ماضياً فى طريقه لإحياء فنوننا التقليدية وإدخالها فى حياتنا اليومية من جديد. ولو أننا رجعنا بالصورة وتأملنا حياة الطفل: محمد خميس شحاته ، لوجدناه فى مكان كثير الشبه بأستوديو السنارى، لكنه كان غرفة خشبية على سطح بيت الأسرة فى حى الجمرك بالأسكندرية (1918 - 1936) كان والده يملك البيت ذا الطوابق الثلاثة. يتجر فى الخضر والفاكهة ذواقة للجمال يمارس الحرف الفنية فى أوقات فراغه زرع بنفسه حديقة السطح وهيأها بالمناضد والمقاعد والمظلات بمساعدة طفله محمد خميس شحاته الذى تلقى من والده أول دروس تعشيق الخشب وتثبيت القوائم وما إلى ذلك. وحين إختلف إلى `مدرسة راتب باشا الابتدائية ` (1925 - 1929) تعلم مرة أخرى من والده كيف يصنع نماذج مصغرة للمكاتب والمقاعد والدواليب والأسرة، من علب الكبريت الفارغة والورق المقوى والملون، ليسهم بها فى معارض المدرسة. أما غرفة السطح فقد شيدها بنفسه لطفله، بعد أن لاحظ أنه كثير الشخبطة على الجدران، فكانت أول استوديو قضى فية خميس كل أوقات فراغه يرسم ويلون.. ويصمم الزخارف المفرغة فى خشب الأبلكاش (أركت) كما استخدم أسلوب تفريغ الزخارف على الورق المقوى (استنسل) ليزين جدران غرفته الخشبية بتصميمات زخرفية جميلة وها هو فى سن العطاء الكامل .يستخدم الإستنسل أيضاً بحماس الفتى وإصراره وقلب الطفل وخياله، عاشقاً للتراث. شرقى السمات فى كل ما يبدعه . تعلم منذ نعومة أظفاره أن يحيط إبداعه بكل الاتقان والاهتمام يفكر بأصابعه.. فيخلع على كل ما يلمسه جمالاً وفتنة. ينسى طعامه وشرابه إذا ما عكف على إبداع لوحة من القماش المطبوع أو زخرفة مكشاة زجاجية موشاة بآيات من الكتاب الكريم تمهيداً لإنضاجها وتثبيت الألوان .أو تنسيق تصميم من الزجاج الملون المعشق بالجص.. أو مبتكرات من المأثورات الشعبية التشكيلية كزخارف الوشم.
- كلمة ` فن ` عند خميس شحاتة تختلف عنها فى أعمال التجريديين الذين يخلقون لوحاتهم من العدم. ما يقدمه فناننا الكبير ليس ابتكاراً كاملاً غير مسبوق . إنه ` نقل التراث أحياناً وإعادة عرضه فى ثوب جديد قشيب .. الإبهار الذى كان عليه أول مرة أو تطوير وحذف وإضافة بالنسبة للتصميمات والخامات وأسلوب الصنعة مع الاحتفاظ بالنكهة التراثية والمذاق الشرقى. وحين نذكر
` التراث` لا نقصر حديثنا على فنوننا الكلاسيكية : الفرعونية والقبطية والإسلامية إنما نعنى بالدرجة الأولى ما يعرف` بالفولكلور` وهو مصطلح إنجليزى استخدمه لأول مرة سيرجون ويليام تومز` 1803 - 1885 ` ثم شاع بعد ذلك للإشارة إلى الأدب الشفاهى ، المتناقل عبر الأجيال . والترجمة العلمية لهذا المصطلح هى : ` المأثورات الشعبية ` .. وليس الفنون الشعبية كما هو شائع . وعلى مر السنين إتسع مفهوم الفولكلور أو المأثورات الشعبية أو الفنون الشعبية حتى أستوعب الموسيقى والفنون التشكيلية التى لا يعرف مبدعها ، والتى إنتقلت من الفرد المجهول إلى الجماعة .. ومنها إلى الشعب الذى تناقلها عبر الأجيال وهى نوع من الفنون يتعرض للحذف والإضافة عبر العصور ، لكنه يحتفظ بالحكمة الإنسانية والثقافية المحلية .. والمعتقدات التى تسود الشعب الذى أبدعها.
- يعيد خميس شحاته الحياة إلى مأثوراتنا الشعبية التشكيلية يقدم أنماط زخارف الوشم مثلا، فى أشكال جديدة على هيئة تذكارات سياحية، خاصة وأن الوشم المصرى يختلف عن مثيله فى أى بلد آخر، ومرتبط بالحياة المحلية من زمن بعيد.. ساعدته على ذلك قدرته الحرفية الفائقة.. المدربة منذ الصغر. إذ عاش حياة كاملة متصلة الحلقات .. مع الخامات والأدوات والتراث والتقاليد.. سواء فى تعليمه الابتدائى أو الثانوى الصناعى أو الفنون التطبيقية `1936 - 1939`. أو معهد التربية للمعلمين `1939 - 1941`. كل ذلك كان مجرد حلقات فى سلسلة حياته الإبداعية التى اختارها واختارته، ومضى ينميها أيام الهوايات فى غرفة السطح بالأسكندرية، وأيام العمل الوظيفى كمدرس ثم موجه ، أو كمدير لمركز البحوث الفنية فى ` بيت السنارى` .. أو متقاعد فى منزله كل هذا النشاط الدائم المبدع ، أسفر عن تلك التحفة البديعة التى تلفت الأنظار وتثير الدهشة فى المعارض العامة. وحركتنا التشكيلية بوجه عام .. تذكر فنانينا بأنهم مازالوا فى الشرق وأن لهم ماضيا جميلاً.
- يطل التراث بعيونه دائماً من خلال تصميمات خميس شحاته ..بعد أن طوعه وأضاف إليه وأحيا فيه البريق مرة أخرى أعاد عرض التراث الشعبى فى إطار يمنح الفن التشكيلى المحلى` قالباً ` يميزه عن الفنون المماثلة فى العالم الخارجى من ناحية .. والعربى من ناحية أخرى. إستطاع أن يلفت النظر مجدداً إلى فنوننا بعد أن خطفت أوروبا كل الأضواء وفى المعارض الجماعية يجذبنا دائماً ركن دافئ نلتقى فية بتحفة أو تحفتين من إبداع خميس .. نحس فيها بالحرارة بعيداً عن ثلوج أوروبا التى تكسو معظم المعروضات.
- حين التحق فناننا فى شبابه بمعهد التربية، التقى بأستاذين عظيمين وضعا بصماتهما على سفر الحركة الفنية المعاصرة فى مصر دون جدال هما: يوسف العفيفى، الذى توفى بعد أن أنشأ وأسس كلية التربية الفنية، ووضع مناهجها وحدد رسالتها وإطار عملها. وحامد سعيد، فيلسوف الفن ومؤسس ` التفرغ الفنى` و`مركز البحوث الفنية لبيت السنارى` ومركز الفن والحياة بقصر ` المانسترلى` .. ومازال - بعد التقاعد - ينشر فلسفته الأصيلة بين مريديه وحوارييه.
- هذان الأستاذان الفيلسوفان ، كان لهما أبعد الأثر فى أفكار وإبداع خميس شحاته حين التحق بمعهد التربية . ومع الفكر والعمل .. إزداد تعمقاً فى التعرف على مختلف أنواع وأساليب الإبداع الفنى والحرفى وخاماته كالألوان والأخشاب والمعادن والأدوات، بهدف اكتساب القدرة على نقل هذه الخبرات فى المستقبل لتلاميذ التعليم العام، الأمر الذى أتاح له الإلمام الواسع بالفنون والحرف، مع عدم التخصص فى خامة بعينها أو أسلوب إبداعى محدد، كما أتاح له القدرة المبكرة على تذوق القيم الاستطيقية فى جميع الفنون، والاقتراب أكثر من التراث المحلى والخامات البيئية التقليدية، مما ساعده على إثراء قدراته الخاصة، والمضى قدما فى تحقيق الرسالة التى بدأها دون أن يدرى.. فى فجر طفولته فى غرفة السطح فى حي الجمرك بالأسكندرية: رسالة التعمق فى القيم الجمالية لمأثوراتنا الشعبية التشكيلية وفنوننا الكلاسيكية وإعادة عرضها وتطويرها.
- منذ انتقل من وزارة التعليم إلى `بيت السنارى` فى حارة مونج بالسيدة زينب، بذل خميس شحاته قصاراه، ليكون إبداعه إمتداداً حياً وطبيعياً لتراثنا الفنى، مازجاً الفن بالحياة . من هنا ينطبق على عمله تعريف الفن من حيث هو ` نشاط واع بارع ` إتسم فنه بالأناقة وإحكام الصياغة .. والمضمون الإنسانى والأخلاقى.. مع المهارة فى الأداء والاستجابة الفطرية للقيم الجمالية والواقع أن تلك الصفات كانت سمة جماعة الفنانين الشبان فى `بيت السنارى` 1959 - 1978 ` .
- لو أننا تأملنا `معلقة` صغيرة كالتى ذكرناها فى مستهل حديثنا، لتبينا أن تصميم تلك اللوحة المطبوعة على النسيج، لايخلو فية سنتيمتر واحد دون عناية جمالية. كوحدة فى الكل الحالم.. الذى يحتوينا خياله وتجذبنا ألوانه الذهبية وزخارفه المصبوغة بالأخضر الزرعى والأحمر الملكى على طريقة التوريقات الإسلامية. لكنها ليست بتوريقات يتوسط التشكيل كلمات وحروف على هيئة أسد منظور من الجانب.. ملتفتاً إلينا بكل الوجه .. قابضاً بمخلبه الأيسر على سيف مشرع.. تحوطه الزهور والأوراق الخضراء والنقط الذهبية المتناثرة فى توزيعات بهيجة .. ثم.. ذيل مرفوع فوق الظهر فى اعتزاز وقوة. نحس معه بالرهبة مع أننا ندرى طول الوقت أنه مجرد رسم رمزى فكه، لا شبه بينه وبين واقع الحيوان. استطاع خميس بتلك ` المعلقة ` الصغيرة الفاتنة أن ينقل إلينا كل أمارات العظمة. والعزة والأنفة والترفع. يدرك تلك المعانى والمضامين من لا يستطيع قراءة بيت الشعر: السبع سبع.. ألخ`. ثم الإطار المطبوع المذهب المحلى بزخارف هندسية .. نحس معها أنفاس الشرق دون أن تكون تقليداً لزخرفة ما.
- نفس التصميم .. على نفس مساحة القماش، نفذ الفنان تحفته الطريفة بتوزيعهات لونية مغايرة ، كل منها له مذاق خاص، لكنها تلتقى جميعاً فى أنها مصرية.. شرقية.. إسلامية الطابع.. حضارية الأسلوب، مناسبة لحياتنا الراهنة. جديرة بأن تعرض فى المحافل الدولية.. فلا تضيع فى زحام المعروضات كما تضيع لوحات معظم فنانينا، الذين عرفوا من فنون أوروبا أكثر مما عرفوا من فنوننا.
- أود فى هذه المناسبة أن أشير مجدداً إلى أن مسألة `المحلية` و` العالمية ` ليست مسألة تعصب وطنى، إنما هو ما أجمع عليه الباحثون فى علوم الاجتماع والأنثروبولوجى والأثنوجرافى من أنه لا يمكن للثقافة الإنسانية أن تتقدم عن طريق سيادة ثقافة واحدة قوية. بل ينبغى أن يثرى نهر الثقافة العالمية بروافد الثقافات المحلية لمختلف الشعوب، وإلا فسدت الثقافة البشرية .واضمحلت . وقد ذكرنا مسبقاً أن هيئة اليونسكو أصدرت عدداً خاصاً من مجلتها حول هذا الموضوع، داعية إلى ضرورة تشجيع ودعم الثقافات المحلية، خاصة فى العالم الثالث العاجز عن حماية تراثه فى مواجهة التكنولوجيا المعاصرة.
- خميس شحاته يدرك رسالته الإنسانية الأمر الذى يخلع على إبداعه جاذبية وإثارة وتفرداً وإيحاء.. سواء فى زخرفة النحاس بالمينا.. أو الرسم على الزجاج الملون والإشراف على تنفيذ تصميماته فى الورش الخاصة.
- أوراق البردى أيضاً، من الوسائط التى يستخدمها فناننا فى تنفيذ تصميماته المثيرة. كما يعد الأوراق بنفسه من سيقان نبات البردى بالطرق التقليدية التى اتبعها قدماء المصريين ، قبل أن يكتشف أنها تباع جاهزة فى بردية أخيرة بمساحة الفولسكاب، وضع تصميماً زخرفياً معتمداً على توزيع بعض كلمات التسابيح فى تشابكات تشبه ` الأرابسك` مع تشكيلات مثل التوريقات وصبغات طوبية وخضراء.. وخطوط سوداء تؤلف مع ألياف البردى وألوانه وإيقاعات لطيفة، ومزيجاً شاعرياً عتيقاً.. يضفى على المشاهد جوا من الروحانية والتصوف. لا يرجع ذلك إلى وضوح الكلمات من خلال العلاقات الزخرفية التى لا تترك فراغاً فى التصميم دون ضرورة جمالية.
- خميس شحاته رائد لجيل من الفنانين ظهر فى هدوء من خلال حركتنا التشكيلية الأنفتاحية المعاصرة. جيل يستوعب إمكانات البيئة ويستجيب لها.. ويتمثل قيم التراث، واعياً بدوره فى المكان والزمان.. ضارباً المثل بتنويعات من الإبداع الفنى. وتعتبر أعمال خميس إمتداداً وتطوراً لفنوننا التقليدية، غير معتمد فى إبداعها على القيم الجمالية السطحية، بل يضمنها سمات ثقافية ترعرعت بين شعبنا عبر الأجيال . يعبر فى تكوينات جمالية عن حكمة الحياة.. معناها ومغزاها آملا أن يتغلغل الفن فى حياة الناس كافة مازجاً المنفعة المادية باحتياجات النفس إلى الشعور بالانتماء..
بقلم :مختار العطار
)من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر والعالم العربى
الفنان خميس شحاته ( 1918 - 1996 ) .. ونبض الوجدان الجمعى
- مثلما كان إبداع الفنانة المصورة عفت ناجى هو المحك العملى لمصداقية الأفكار النظرية للناقد والمفكر والفنان سعد الخادم ، حول عبقرية الفنون الشعبية وإمكان استلهامها فى الفن المعاصر، فإن إبداع الفنان خميس شحاته هو المحك العملى لمصداقية النظرية التى تبناها الرائد حامد سعيد حول إرتباط الفن بالحياة.
- لكن لأن إبداعية الفنان تتجاوز أى أطر نظرية مسبقة، فإن خميس شحاته انطلق إلى آفاق أبعد من حدود المقولة التى بشر بها` الأستاذ `، والتى ظلت بالنسبة له مجرد سهم يشير نحو الطريق الصحيح، وهو تأصيل الهوية، واشتقاق رؤى جمالية معاصرة من التراث الحضارى بآفاقه المختلفة، وارتباط كل ذلك بالمجتمع وحاجاته، وبالحياة ومتطلباتها.
- أما إضافته الجمالية والتعبيرية، فكانت هى استدعاء أشكال مطوية فى صفحات التراث الشعبى والإسلامى وبث الحياة فيها بدماء، تنبع من الحاضر وروح العصر، وابتكار أشكال جديدة للفن، تتخطى الأنماط الأوربية التقليدية : مثل لوحة ` الحامل ` والإطار، وتمثال القاعدة والصالون ، بكل أغراضهما وتنويعاتهما ... إلى أنماط ذات مرجعية أصيلة ووشائج حميمة بجذورنا الشعبية وثقافتنا العربية، مثل المعلقات ورسوم الكتب وتصميم النوافذ الزجاجية، موصولة بتيار مياهنا الجوفية ؛ من المواويل والأزجال، والحكم والأمثال، وآيات القرآن، وقصائد العشق والصوفية، وعبر الأقدار وسير الأنبياء، والملاحم الشعبية وحواديت صندوق الدنيا،ٍ ورسوم الوشم فى الأسواق ، ومخطوطات الرسامين العرب، ورسوم الواسطى وبهرزاد، والرسامين الجوالين، ومصممى خيال الظل، ونسجيات أخميم ومطرزات سيناء، وتجليات الخطاطين المجهولين على جدران المساجد وبيوت الفلاحين وبلاد النوبة ، ومنمنمات المرخمين بالفسيفساء والرخام على الفسقيات والقاعات وجدران الجامع والمحراب ... باختصار : لقد عرف كيف يمسك بذلك العصب المرهف المراوغ لمزاج المصريين، المشكل فى طبقات جيولوجية عبر العصور .. ذلك الذى نظلق عليه ` الوجدان الجمعى ` !
- لهذا كله لم يجد أدنى صعوبة - على امتداد مسيرته الفنية - فى التواصل مع شتى قطاعات الشعب وفئاته، ولم تقف الثقافة البصرية ( التشكيلية ) بمفهومها العصرى، عائقا بينه وبينها فى يوم من الأيام لأن اللغة قديمة ومشتركة، وإذا كانت دفينة فى أعماق الذاكرة الجمعية ، فقد جاء هو لإحياء نبضها وجلو الصدأ عنها وتخصيبها بمفردات جديدة من العصر.
- هكذا كان خميس شحاته جسرا بين العصور المتنائية، وطريقا بين الثقافات المتباعدة مع أن ذلك لم يكن من أهدافه المعلنة أو الخفية ، فهو ليس من نوع الفنانين ذوى الشعارات أو الرسالات أو المنظومات الفكرية الجاهزة .. إنه - فحسب - طفل الحياة، الذى يغنى وقتما يحس بالرغبة فى الغناء، يغنى لنفسه قبل أى أحد آخر، ويستمتع شخصيا باكتشافاته التقنية والجمالية، مثل عاشق يتفنن فى رسم صورة المحبوبة ، أو هاو يفرح بالألوان ويجرب بالأشكال ويترنم خلال ذلك بالموال أو يتلاعب بالكلمات .
- إن هذه الخاصية الإرتجالية ( وهى موهبة استثنائية إلى جانب موهبة الرسم والتصوير) قد أنقذته من الوقوع فى قوالب النمطية التراثية، أو قوالب التصميم الوظيفى وفق احتياجات عرضية .. وبدلا من ذلك أصبح فنانا يمتطى البراق المجنح، يحلم أكثر مما يدبر، وينبش فى خزائن الموروثات بحثا عن درر مجهولة، وأحيانا يجدها - بعد طول البحث والمعاناة - مصنوعة من الحديد الصدىء، فينكفىء عليها ، يجلوها ويعيد اكتشافها بصبر لاينفد أو يمل، ويصوغها بأسلوب المعلقات النسجية بدون برواز، فى خطوط أفقية متتالية كما السيرة الشعبية التى يحكيها الشاعر على الربابة ، والجمع المصغى من حوله يكمل من الذاكرة الجمعية مالا تدركه العين أو تلتقطه الأذن ، فيتم التواصل والإبداع المشترك، بغير حاجة إلى وساطة النقاد والمنظرين.
- ولم يكن نجاح خميس شحاته فى قيادة مركز بحوث الفنون التقليدية ببيت السنارى على مدى سنوات خدمته الوظيفية الطويلة حتى تقاعده فى سن الستين، راجعا إلى مهارته فى الإدارة، أو خبرته الأكاديمية فى البحث العلمى، كى يستطيع تلقينها للباحثين معه، بل إن سر نجاحه هو نفسه سر شخصية الفنان الهاوى العاشق، وشاعر الربابة الذى يحكى حكاياته وحوله الجمع يصغى ويحلق معه فى سماوات الخيال ... هكذا كان يجلس طوال الوقت يرسم أمامهم وينقب فى المراجع والمأثورات ، وهم حوله أقرب إلى زملاء فى ورشة عمل جماعية جماعية ... لقد كان يقضى فى بيت السنارى أضعاف الوقت الذى كان يقضيه فى بيته ومع أولاده ، ولعل أغلب أعماله الفنية ` سنارية ` المولد .. أى أن مسقط رأسها هو بيت السنارى !
- ومن قبل أن ينتقل للعمل بوزارة الثقافة مساعدا للأستاذ حامد سعيد فى ذلك المركز، كان يعمل مدرسا للرسم بمدرسة النقراشى الثانوية بالقبة ، فكون من خلالها ورشة عمل مفتوحة للفنانين الصغار ( هكذا كان يدعوهم )، مايذكرنا بتجارب رواد عظام على نفس الدرب، أسسوا حركات فى الفن الحديث سجلها تاريخ الحركة الفنية المعاصرة، مثل حسين يوسف أمين، صاحب الدور الأكبر فى تأسيس جماعة الفن المعاصر، ويوسف العفيفى، رائد جماعة الفن الحديث، وهاتان التجربتان كانتا فى أواسط الأربعينيات ... أليس فى ذلك المنهج ما يذكرنا بمناهج عمل أرباب الحرف الفنية فى تاريخنا القديم والوسيط ؟
- لقد كانت سعادة خميس شحاته لاتوصف بإنشاء ورشة ببيت السنارى أقامتها مصلحة الآثار، لترميم وإنتاج نوافذ الزجاج الإسلامية المؤلفة بالجص . لاستكمال النوافذ المحطمة فى بعض المساجد الأثرية، فانضم إلى الحرفيين وراح يعمل معهم بيديه، ويؤلف لهم - ومعهم - تصميمات جديدة من عمله ... هو الذى تخرج فى كلية الفنون التطبيقية بقسم الزجاج المعشق بالرصاص، فلم يستطع أن يشكل بيديه لوحة واحدة من خلال هذا الوسيط الرصاصى ، الذى ينتمى إلى تراث كنسى أوروبى غريب على تراثنا ومزاجنا، حتى على الكنيسة المصرية، بينما وجد نفسه بغير تردد فى الأعمال الجصية .
- ولقد كان اكتشاف خميس شحاته لنسخة من رباعيات الخيام ( من ترجمة أحمد رامى ) على سور الأزبكية - اقتناها بثلاثة قروش - حدثا خطيراً فى حياته جعله ينتمى إلى الشاعر المصرى الكبير أكثر من انتمائه إلى الخيام، فكانت مجموعته الفنية الفريدة عن تلك الرباعيات، استعاد من خلالها خيالات الطفل وحواديت ألف ليلة وليلة وكهوف الأسطورة فى العقل الباطن، مازجا بين تطوحات النشوة الحسية، وتجليات النشوة الصوفية .
- حدث نفس الشىء عند اكتشافه ديوان صلاح جاهين ` الرباعيات` ، ومن بعده اكتشف فؤاد حداد ... ولنقرأ - باللغة البصرية المنغمة بأنغام الموال - هذه المقطوعة من معلقاته ورسومه العشرين لتلك الرباعيات :
- ياعندليب ماتخافشى من غنوت
- قول شكوتك وامشى على بلوتك
الغنوة مش حتموتك ... إنما
- كتم الغنا .. هو اللى حيموتك ! .. عجبى !
- لكن تلك الععبقرية فى شعر صلاح جاهين لم تستطع أن تبتلع إبهار لوحة خميس شحاته التى صاغ فيها تلك المقطوعة، بل إن إشباعك الجمالى وانبهارك ببنائها البصرى هو الذى يقودك شيئا فشيئا إلى قراءة كلمات الشاعر، ولن يستطيع أحد من دعاة الفصل التعسفى بين الفن التشكيلى ومجالات الإبداع الأخرى، أن يدعى بأن الشعر أفسد اللوحة، بحجة أن لكل منهما لغته الخاصة، ذلك أن اللغة تراكم حضارى ونسيج عضوى كامن ومتفاعل فى الأعماق، قبل أن يكون صياغة تقنية مجردة .
- هكذا ينبئنا الشيخ - الطفل - خميس شحاته !
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث