كامل محمد عثمان جاويش
- حافظ الفنان على الروح الأكاديمية فى كل أعماله عن قناعة كاملة واتفق هذا تماماً مع كل انتاجه الذى تركز على الشخصيات والموضوعات القومية .
الناقد / كمال الجويلى
كامل جاويش .. يحطم تماثيله ويرحل فى صمت
- منذ أيام رحل فى صمت مطبق وكأنه المؤامرة كامل جاويش أحد النحاتين المتميزين .
- رحل بعد أن عانى مرارة الإهمال التى دفعته إلى تحطيم تماثيله معلنا أنه فعل ذلك ليتحرر من عبوديته لفنه الذى لم يجلب له سوى الفقر والنسيان بعد أن كان فى يوم من الأيام ملء السمع والأبصار الغريب أنه وقبل ورحيل استرد إيمانه بأعماله وفنه وقدم ما بقى منه فى معرض خاص أقامه بعيدا عن الأضواء ببورسعيد مسقط رأسه.
- رحل كامل جاويش لكن فنه الجميل مازال يؤكد أنه برغم الإنهيارات التى أصابت حياتنا فإن الأصالة والقيمة والمعنى لا يمكن أن تموت تؤكد ذلك أعماله فى ميادين بورسعيد وأبرزها تمثال النصر ومعرضه الدائم بقرية النورس وتمثاله الخالد فى الأوبرا لسيدة الغناء العربى أم كلثوم وغيرها.
- وبنظرة أفقية على مشوار الفنان الراحل نجد أنه عاش حياة غنية بالأحداث الهامة وقد انعكست ذلك على فنه فقد ولد فى فترة الصراع والتفاعل الوطنى التى نتجت عنها ثورة 1919 ونما وسط بيئة بيئة تغلى بالإنفعالات التى سبقت وتلت الثورة المصرية 1952 وأتاحت له فرصة السفر إلى فرنسا أن يتعرف على الإتجاهات الأخرى فى الفن وكأستاذه الرائد العظيم مختار عاد من فرنسا أكثر اعتزازا وفخرا بالتراث والتقاليد المصرية عاد ليعلن أنه غير متحمس للتجربة وأن النحت فى نظره له جذور محلية تنتمى إلى فن النحت المصرى القديم الذى هو منبع أيضا لفنانى أوروبا .
- ولا تنقصه الجرأة فى الإعتراف بفضل أستاذه مختار وأنه يسير على دربه فيقول : `العظيم مختار فتح الطريق وأشار لنا إلى هذا المنبع لنستخدمه فى الإلهام والأسلوب ونضيف إلى حضارتنا القديمة ` .
- وتأتى إضافته الخاصة إلى هذا التراث متمثلة فى تماثيله التى تناولت موضوعات تمس كل الناس كتمثال النصر الجنائزى الذى عبر عن النصر فى الحرب العالمية الثانية وتمثال عروس النيل وشهر زاد والطفولة وشباب مصر وغيرها إلى أن يتخصص فى فن البورتريه فينحت تماثيل لوجوه العظماء عبد الناصر وغاندى وجيفارا ورواد الفكر يوسف إدريس وصلاح جاهين وجلال الحمامصى وأم كلثوم.
- وأخرى كثيرة ترى هل تهتم أى جهة فنية بجميع أعمال الرجل الذى ذاق مراره الإهمال حتى الموت ليتعرف على إنجازه الجيل الجديد أم سيترك شأنه شأن كل الراحلين من فنانينا لينزوى فى زاوية النسيان؟
عزة إبراهيم
الأحرار - 3/ 9/ 1994
تماثيل لكل الناس
- كثيرا ما كان الفتى كامل جاويش، يقف على الشاطىء فى بورسعيد يراقب السفن وهى تغيب فى أمواج البحر خلف الأفق المقوس تمضى إلى المجهول تاركة إياه غارقا فى دهشته وأحلامه فى أن يغيب معها ذات يوم.. يكتشف ذلك السر الغامض الذى تمضى إليه كان ذلك فى ميناء بورسعيد أيام أن كانت مدينة هادئة لا يزيد تعدادها على بضعة آلاف.. يعملون من أجل البحر .. تقودهم شركة قناة السويس الفرنسية، التى كان والده موظفا بها. هاجر إليها من الصعيد وتزوج من أهلها وأنجب ثلاثة أبناء كان كامل أوسطهم لاحظ الفتى منذ صباه أن الجالية الفرنسية تختلف عن أهل البلاد بعيونهم الزرقاء وشعورهم الشقراء وحياتهم الاجتماعية الخاصة، فاندس فى زمرتهم بدافع الفضول.. مما ساعده على أن يتحدث الفرنسية بركاكة ثم يتقنها فيما بعد كان منذ طفولته يختلف عن أقرانه. حتى فى يفاعته كان سلوكه ينبئ بمستقبل غير عادى إنغمس فى قراءة الشعر وكتب الادب المترجم بينما يختلف إلى مدرسة الأقباط الثانوية لا تعوزه الهمة يتعجل اليوم الذى يغادر فيه المدينة الصغيرة.. إلى القاهرة التى كثيرا ما حدثه عنها أستاذ الرسم وكان فى ذلك الزمان مصورنا الفيلسوف الكبير الراحل رمسيس يونان حدثه أن فى المدينة الكبيرة مدرسة للفنون الجميلة.. لا عمل لطلابها سوى النحت كان الفتى آنذاك رئيسا لجمعية الرسم.. يصور اللوحات وينحت الوجوه والموضوعات فى أخبار يلتقطها من الطريق.
- فيظفر باعجاب أستاذه وبترحيب زوار المعرض المدرسية في المناسبات والأعياد.
- الفنان لا ينشا من فراغ هكذا قالوا وهكذا نقول أنه كالنبات يتشكل رويدا حين تتوافر له الارض الطيبة والرعاية الحسنة. أحاديث رمسيس يونان (1913ــ 1966) ودواوين الشعر وسير الأبطال والروايات المترجمة عن الروائع العالمية وتعلق الفتى باللغة الفرنسية كأداة تفتح أمامه مغاليق المعرفة وحياة الموانى بما فيها من حركات ونشاط واختلاط بالأوروبيين... والمناخ الطبيعى النقى الذى يوفر البنية القوية: كل ذلك .. كان بمثابة الأرض الطيبة التى ساعدت على ترعرع موهبة الفتى.. وأمدته بالقوة والطاقة والصلابة.. والعزم الأكيد على المضى فى الطريق. لكن.. أى طريق؟
- كان جاويش يستشعر معاناه الناس وجهادهم فى الميناء من أجل الحياة.. وفى البحر من أجل الرزق، وفى الحقل من أجل الخير، ويعبر عن تلك المعاناة فى تماثيله ورسومه الساذجة، إلا أنه حين اندلعت نيران الحرب العالمية ` 1939` أراد أن يحمى هؤلاء جميعا.. أن الطريق هو أن ينخرط فى سلك الجندية، فتقدم في الدفعة الإستثنائية للكلية الحربية.. وكدنا نفقد فنانا موهوبا.. لولا أن القدر كان فى انتظاره لتصحيح المسار. رفضته الكلية لضعف فى عينه اليسرى.. ولكنه لم يعد إلى بورسعيد.. وركن إلى غرفة فوق السطح فى حى الأزهر.. مع حاجياته البسيطة القليلة.. التى لم يفته أن يدرس بينها رأس فتاة من الحجر وبعض الكتب.
- إلتحق بالمدرسة وبدأ المسيرة من غرفة فوق السطح بحى الفرنساوى ببولاق مضى ينحت التماثيل.. ويقرأ .. ويحتك مبهورا بالمعارض الفنية والفنانين والأوساط الثقافية، يطفئ ظمأ الحرية إلى الانطلاق. أتهمته الاسرة بالجنون والجنوح.. وقطعت عنه المال حتى تضطره للعودة إلى بورسعيد لكنه مضى فى الطريق.. نحاتا حرا محترفا.. يلفت الأنظار ويكفل نفسه بنفسه.
- بعد عام واحد.. فاز بعشرة جنيهات جائزة ثالثة فى` مسابقة مختار للنحت` التى كانت تنظمها وترصد لها الجوائز، هدى شعراوى، ثم ثلاثون جنيهاً جائزة أولى، حصل عليها فى العام الذى يلية مع دعوة لحضور` صالون هدى شعراوى` لاشك أننا جميعا نعرف من هى تلك السيدة العظيمة التى كانت ترعى الفنون والآداب فى ذلك الزمان. لكن هناك لمسات أنسانية قد تخفى على البعض. كان بيتها على طراز عربى تقليدي أصيل، يقع فى شارع قصر النيل بالقاهرة.
- كانت تعقد فى ذلك البيت الجميل كل أسبوع ` صالونا ثقافيا ` يضم نخبة من رجال الفكر والفن، يتبادلون الرأى ويتطارحون قضايا الأدب والفلسفة لم يتخلف جاويش أسبوعا واحد عن هذا المنتدى الفكرى الرفيع.. ينصت ويتعلم ويعى وكانت السيدة تحنو عليه وترعاه.. وكم دست في جيبه مظروفاً به من المال ما يعينه بعض الوقت.. لمسات بسيطة حقا.. لكن غيابها قد يكون سببا فى تعطل موهبة تكافح من أجل التفتح والأزدهار. عبر سنوات الدراسة فى القاهرة، لفت جاويش أنظار الذولقة والنقاد، بتماثيل ثلاثة: الاول.. يمثل شهر زاد.. بطلة رائعة الأدب العربى` ألف ليلة وليلة` تمثال بالحجم الطبيعى من الجص، لفتاة عربية الطابع تتكئ فى جلسة هادئة. بساطة فى التشريح.. استقرار كامل فى الشكل.. تعبير بليغ عن ذكاء الفتاة العربية التى أستطاعت أن تنقذ بنات جنسها فى القصة المعروفة. والثانى.. لفتاة إستلهم شخصيتها من الأساطير الفرعونية أنها ` عروس النيل` تخلع ملابسها وتكاد تنبض بالحركة والحياة وهى من مقتنيات هدى شعراوى كشف جاويش فى تلك التحفة عن قدرة فطرية على التجسيد ودراية بجمال التكوين وتناسق العلاقات بين الظل والنور والكتلة والفراغ أما الثالث.. وهو الذى نال به دبلوم الفنون الجميلة: فقد استلهم موضوعه من الأسطورة الاغريقية:` بيجماليون` أسطورة النحات الذى أبدع تمثالاً لامرأة رائعة الجمال سماه ` جاليتيا`.. ثم دعا ربه أن ينفخ فيه الروح فلما استجيب دعاؤه ودبت الحياة فى ` جاليتيا` هجرته وتقلبت فى مخادع الرجال. كان تمثالا معقد التكوين بسيطا فى نفس الوقت.. متضارب الانفعالات والتعبيرات، أبدعه جاويش بحسابات دقيقة وموهبة فذة مصورا النحات الإغريقى التعس وهو يحطم تمثاله الخائن.
- كان فن النحت فى الأزمنة السحيقة، أحد الوسائل التى أتخذها الإنسان لكى يفسر العالم من حوله وظل منذ عرفته البشرية على علاقة وثيقة بتطور الفكر الإنسانى شأنه شأن أى فن آخر والفن الذى يخلو من الأفكار ذو بعد واحد. جامد لا حياة فيه عرف جاويش هذه الحقيقة بفطرته فلم يبدع تمثالا واحدا بلا موضوع يخاطب الناس ويثير خيالهم ويعبر عن خواطره ومشاعره فى نفس الوقت .
- بعد أن تقدمت البشرية ونضجت، أرسى الانسان المصري أول حضارة فى التاريخ وأرسى معها القيم الجمالية الثابتة فيما أبدعه من أفكار مجسمة على هيئة تماثيل.. وقد وعى جاويش كل هذا أيضا، وعرف أن جذور فنه ينبغى أن تمتد إلى هذا النبع العظيم الذى أشار إليه: محمود مختار بل إنه حين قضى عامين فى ` مرسم الاقصر` عضوا فى بعثة داخلية فيما بعد، نقل حرفيا تمثالا للفرعون تحتمس الثالث حتى يتفهم تلك الأسس الجمالية التى أرساها الأجداد وحين نتأمل تماثيل جاويش الحالية نستطيع بلا عناء كبير أن نشعر بالألفه نحوها، ويستطيع العارفون أن يتبينوا العلاقات الخفية التى تربط بينها وبين التراث القديم من رسوخ واستقرار ورقة بالغة وتعبير عميق وتضحية بالتفاصيل التافهة من أجل هدف جليل هو: تجسيد الخيال والأفكار.. والتأثير السحرى فى نفوس الناس فبالرغم من أن جاويش يدرك أدراكا تاما أصول تشريح الجسم البشرى إلا أنه يهمل عامدا الكثير من الجزئيات فى سبيل الهدف الأسمى.
- تخرج جاويش فى مدرسة الفنون الجميلة العليا فى نفس العام الذى وضعت فيه الحرب العالمية الثانية أوزارها` 1945`. كان قد أبدع الكثير من تماثيل الشخصيات والموضوعات والميداليات وخاض غمار المسابقات، وذاع صيته حتى فى جمعية الصداقة الفرنسية التى كان يختلف إليها طوال سنوات الحرب ينصت إلى المحاضرات ويستمتع بالموسيقى ويشارك في المعارض والحفلات فى إحدى تلك الأمسيات حدث مالم يكن فى الحسبان مال السفير الفرنسي على أذن الشاب الواعد فعرض عليه منحة على نفقة فرنسا إلى باريس شعر جاويش ليلتها أن الأضواء التى غمرت القاهرة بعد سنوات الحرب، انسحبت على حياته وآماله وما أقبل شهر نوفمبر حتى تحقق الحلم ركب باخرة البضائع من بورسعيد التى اختفت فى هذه المرة خلف الأفق المقوس ومضى إلى هناك ليكشف أسرار مدينة النور.. باريس.. ومن طريف ما يروى أن الباخرة كان أسمها ` لوساجيير` وهو اسم تمثال رائع لنحات فرنسا الكبير: رودان: ومعناه ` غلاف الرجع` لم يصحب جاويش الفتى فى رحلته سوى متاع بسيط أثمن ما فيه بطانية أهدتها له هدى شعراوى قبيل السفر.. مع عشرين جنيهاً استبدل بها فرنكات فرنسية، ولم تنقطع عن مراسلته طوال إقامته فى فرنسا أمضى فى طريقه شهرا كاملا فى الجزائر، حيث انتظرت الباخرة تطهير طريقها من الألغام المتبقية من المعارك القريبة اختلط الفنان خلال هذا الشهر بفتيان الجزائر المناضلين من أجل الأستقلال وتردد معهم على مدرسة الفنون.. يرسم وينحت.. ويشاركهم آلام القهر وآمال الحرية.. مما عمق أحساسه بأن الألم قائم فى كل مكان ثم أمضى أسبوعا فى جزيرة كورسيكا مسقط رأس بونابارت قبل أن يصل إلى مرسيليا.
- وهناك لجأ إلى` مركز تجمع الشاردين` ممن شتتتهم الحرب، فمنحوه تذكرة مجانية فى مقاعد جرحى الحرب في قطار باريس وهناك لجأ مرة أخرى إلى ` مركز تجمع الشاردين` الذى سلمه لسيارة المدينة الجامعية، ليستقر أخيرا فى مدرسة الفنون الجميلة العليا: الـ ` بوزار` نفس المدرسة التي تخرج فيها رائدنا الكبير محمود مختار. شاهد البؤس فى كل مكان منذ إبحاره شاهده فى مصر.. والجزائر.. ثم فى فرنسا حيث أستقبله الأسرى الألمان يحملون الحقائب.. ويمدون الأيدى من أجل برتقالة أو لفافة تبغ فضلا عن الخراب الشامل الذى يلف كل شىء.. أرهقت تلك المشاعر أحساسه بالبشر ومآسى الحياة، الأمر الذى انطبعت به تماثيله فيما بعد ..
- حين طاف الأستاذ الفرنسى باستوديوهات المدرسة، أدهشه أن يجد بين تلاميذه، فنانا لا تنقصه الدراسة.. وزادت دهشته حين عرف أنه مصرى.. وافد من بلاد النحت الذى يحج إليه الأوربيون ليتأملوا ويتعلموا ورأى أن المدرسة الحقيقية التى يحتاج إليها هذا الفنان الشاب هى باريس نفسها.. بمتاحفها.. وتماثيلها.. وعمارتها.. وموسيقاها وثقافتها. أما فيما يتعلق بفن النحت، فعليه بالفن الفرعونى الذى بلغ أرفع القيم الجمالية والتعبير البليغ عن أيديولوجية الجماهير.. ومعتقداتهم، بأبسط الأشكال وأكمل النسب.. وحسابات الأضواء والظلال.. مع كل المهابة والجلال.
- سبعة تماثيل هامة أبدعها جاويش خلال عامين قضاهما فى باريس نذكر من بينها: الحرب والسلام.. النصر الجنائزى ثم هرم باريس أما تمثال` الحرب والسلام` فنلمس فيه كيف استطاع أن يجمع بين رودان ومور ومختار وأنجلو، ليخرج بأسلوب فريد يختلف عن كل ما نراه بين نحاتينا أبدعه بعد أن شاهد باريس وأستشعر الخراب والدمار الذى ألحقته الحرب بفرنسا، وسمع القصص الأليمة من الامهات اللاتى فقدن الأزواج والأبناء والأطفال وقاسين مرارة الأحتلال والسبى صور كل هذه المأساة فى صيحة فزع تطلقها أم تتكور على صغيرها بكل جسدها كأنها المحارة.. تود لو تعيد الطفل إلى أحشائها.. تحميه من المصير المحترم.. أو تموت من دونه.
- تحدثت باريس عن هذه التحفة بالرغم من أنها كانت مجرد شكل تمهيدى لم ينفذه إلا بعد العودة وبالمناسبة حدث نفس الشىء مع تمثال` نهضة مصر` الذى يقوم شامخا بالقرب من جامعة القاهرة نحته مختار شكلا تمهيديا فى باريس ثم أقامه فى مصر باكتتاب من الشعب الذى أحب وتفهم التمثال الرائع المعبر عن آماله وأحلامه.
- بأسم الشعب أقام مختار تمثاله وباسم شعوب العالم.. أبدع جاويش تمثال: الحرب والسلام هذه الروائع تعكس بحق رسالة الفن.. من حيث هو مرآة الفكر عبر العصور. يتساءل فنانو` التجريد` و` اللا موضوع` عن القيمة الجمالية فى تماثيل مختار وجاويش ونتساءل نحن بدورنا أينبغى أن يزول الموضوع حتى تحقق الجمال؟ أينبغى أن تكون الكلمات بلا معنى حتى تتصف بالجمال، إن القيم الجمالية مجردة بطبيعتها والفن ليس بغاية فى حد ذاته لماذا لاتدع كل الزهور تتفتح فى حديقة الفن تجريديا كان أم موضوعيا..
- فى تمثال` النصر الجنائزى` صور جاويش نسرا هائلا يرف بجناحيه العملاقين باعتزاز.. بينما ينشب مخالبه القاتلة فى جمجمة إنسان لا تستطيع أن تتامل حياة النسر بجناحيه وعنقه المنتصب ومنقاره المعقوف دون أن ينعكس عليه إحساس القوة، والنصر لكنك لا تكاد تهبط ببصرك إلى الجمجمة الجرداء ــ حتى تفجعك المأساة وتلعن الحرب والنصر والقوة أما من الجانب الجمالى فتكوين التمثال كالهرم المقلوب فى إتزان رائع وتوزيع للأضواء والأشكال مبهرة للعقل ومثير للخيال مع دقة فى التشريح وإهمال للتفاصيل وتناسق بين الكتلة والفراغ وشعور دافق بالحيوية ثم تمثال` هرم باريس` كومة هرمية من الجماجم البشرية تثير ميكانيكيات الأبصار، مستبقا بذلك نظريات الــ ` أوب آرت` أو الفن البصرى الذى ظهرت صيحته بعد ذلك بسنوات طويلة تسمع العيون أنين الملايين فى تلك التجاويف والبروزات ذات الإيقاع الحزين وتكشف قدرة الفنان على إستخراج الحركة من السكون.. وتجسيد خياله بحيث تراه وتلمسه: يجمع بين الجمال والفكر والموضوع إنه ككل إبداع جاويش تمثال لكل الناس.
- من هنا اكتسبت أعمال جاويش صبغتها العالمية. وإذا كان صاحبها لم يحصل محليا حتى على جائزة الدولة التشجيعية، فمرجع ذلك إلى الاتجاه السائد فى لجان التحكيم.. المنحاز إلى الموضات المعاصرة فى الفن التشكيلى مع أن تلك ` الموضات` لا تصح للأعمال الصريحة الجماهيرية، مثل لوحة النحت البارز التى أبدعها جاويش لمتحف التعليم.. يروى فيها ملحمة البطولة فى معركة بورسعيد الشهيرة، أو لوحة` الجيل الصاعد` التى أبدعها لإدارة رعاية الشباب.. والكثير من الروائع القومية: فضلا عن تماثيل المجموعات.. مثل ` المهاجرين` الذى عبر فيه بأسلوب تأثيرى عن مأساة فلسطين فى تكتل جميل معبر عن القهر والشقاء المرتسم فى كل عضلة فى الوجوه.. أو حركة فى الأجسام أو تألف وتباين الظل والنور. أو تمثال العودة من الحقل أو تماثيل الشخصيات الإنسانية مثل:` فاندى` و` لومومبا` و` جيفارا` و` عبد الناصر` والزعيم الراحل: أنور السادات.
- لا يبدع جاويش تماثيله من أجل حل قضايا جمالية تشكيلية فحسب، مثل هذا الإبداع فى نظره لا هدف له مهما أفسحت له الميادين والحدائق أو منحت له الجوائز: لأن الفن ذو أبعاد أرحب من مجرد الزخرفة إنه للتجميل وللإنسانية عامة فالمتعة الجمالية وحدها لا تكفى مهما بلغت من الرقة مادامت لا تثير الخيال وتشحذ الأفكار.
- يعتقد جاويش أن الفن لا يستورد شأن الثلاجات والسيارات، وأن السبب فى عدم الأنتماء للتراث المحلى هو قصور الدراسة والعجز عن استخدام أدوات الأبداع بالأزميل والمطرقة وأقلام التشغيل فى الطين وأن تلك الاتجاهات المستخدمة التى يقيمها الفنانون على أنها تماثيل ويضيفون إليها الحركة الميكانيكية والأصوات أحيانا.. وغيرها من الاستكارات ليست رسالة جمالية أو إجتماعية ولا تعبر عن الناس وليس من المعقول أن يصنع شخص مثل هذه التشكيلات ثم يتهم الناس جميعا بالجهل حتى هناك فى فينسيا بإيطاليا، ثارت الجماهير الأوروبية سنة 1972 ونظمت المظاهرات وكادت تحطم أعرق معرض دولى فى العالم حين عرض أشياء كهذه بالغة الاسفاف، مما أدى إلى إنطلاق ذلك البينالى العظيم على مدى دورتين متتاليتين وهو الذى كان سببا فى ذيوع شهرة الأسبانى بابلو بيكاسو والإنجليزى هنرى مور والفرنسى هنرى ماتيس، وغيرهم من عباقرة العالم فى القرن العشرين..
- إن كامل جاويش نحات ينتمى إلى تراثنا العريق ويسير على درب نحاتنا الأعظم: محمود مختار.. وينحت تماثيله لكل الناس.
بقلم : د./ مختار العطار
من كتاب (رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الثانى)
|