وداعًا أستاذنا الفنان مصطفى الفقى
- عن عمر يناهز 87 عاما.. رحل استاذنا الدكتور مصطفى الفقى.. معلم الاجيال بقسم التصوير بالفنون الجميلة بالقاهرة.. بعد رحلة من الابداع.. أمتدت لما يربو على ستين عامًا.. بمراحل عديدة.. تمثل حالة خاصة فى الفن المعاصر.. فى أعمال شديدة الانسانية.. كشخصيته التى تحمل من البساطة والتواضع.. ما يجعلنا نعتز بأنه.. كان بيننا.. بما يمتلك من حكمة فيلسوف.. ولمسة أستاذ فى فقه التصوير.. وهو مروض الضوء الذى تالق.. فى لوحاته بمحطات ومراحل عديدة من القاهرة.. كما فى دنيا الحمام والنبض الشعبى للبسطاء من أهالينا.. إلى مناظر من إيطاليا وتركيا.. مع أبتهالات الكعبة المشرفة.. فى مجموعة `الحج` بما تحمل من عمق الوجدان.. تضفى عليها شلالات الضوء.. تلك الحالة من الأشراق الصوفى وعمق الابتهال.
- مروض الضوء بين هديل الحمام.. وابتهالات الكعبة المشرفة
- الإسكندرية.. القاهرة
- تعددت لقاءاتنا مع الفنان الفقى.. إلا أن اللقاء الأكثر ثراء فى الحوار كان بملتقى الاقصر الدولى للتصوير.. وكان مكرمًا فى دورته الخامسة عشر عام 2022.. وهو من شارك فى دورته التاسيسية.
ولد فناننا عام 1937 بمدينة طنطا.. لأب يعمل مهندسا بهيئة السكة الحديد.. وفنانا فى لوحة الخط العربى بسلاسل الذهب من دنيا الخطوط والزخارف العربية.. وكان هذا الإبداع ما جعل الأبن ينجذب لعالم الفن.
- وهو فى الثالثة من العمر.. أنتقل والده إلى الإسكندرية.. ومع تشبعه بروح البحر والمدينة المفتوحة على مختلف الاجناس والثقافات.. أكتشف أستاذه فى التربية الفنية بمدرسة `امير البحر` موهبته فى الرسم.. وكان ينال تذاكر مجانية من أستاذ اللغة الفرنسية.. ليشاهد أحدث الأفلام بسينما `بلازا`.. تشجيعًا واعجابًا برسومه.
- كانت الأقامة بعد ذلك بالقاهرة.. ألتحق الأبن بمدرسة الزمالك الفرنسية.. هناك زينت رسومه فصول وإبهاء المدرسة.. وفى مدرسة الخديوية الثانوية بالسيدة زينب.. تصدرت لوحة صرحية واجهة المدرسة.. رسم فيها جمال عبد الناصر وانجازات الثورة بالوان زيتية.
ومع أجماع أساتذته على سطوع موهبته فى الرسوم.. ألتحق بالفنون الجميلة بالقاهرة بقسم التصوير.. وتخرج منها على يد أساتذة كبار من رواد التصوير: يوسف كامل وحسنى البنانى وبيكار وعبد العزيز درويش وعز الدين حمودة وامين صبح.
- وعالمه
- تخرج فناننا عام 1964.. فى واحدة من أقوى دفعات قسم التصوير.. كان نجمًا مع نجوم لامعة من بينهم: محمد رياض سعيد وصبرى منصور وحسن عبد الفتاح.. ونذير نبعة من سوريا.. وقد شكل لنفسه مساحة متفردة.. تألقت فى التصوير المصرى المعاصر.. بأعمال تعد بحق فى عمق `التعبيرية`.. جمع فيها بين روحانية النبض الشعبى وابتهالات الضوء.. خلاليقاعات تنوعت بثراء فى التعبير والاقتصاد اللونى.. فى أغلبها أقرب إلى `المينوكروم` أو اللون الاحادى لكن تبدو.. متعددة الألوان بتجليات وإشراقات الضوء الهامس والجهير.. بدرجات السلم الموسيقى.. ما أشبهه بعازف الناى يطرب ويشجى.. بتلك المعزوفات البصرية.
- محطات
- وإذا كانت الغربة تلقى بظلالها على عالم الفنان عمومًا.. وهناك ثلاث محطات سافر فيها الفنان الفقى: كانت بدايتها إلى روما فى رحلة بحث للحصول على الدكتوراه فى السبعينيات `حصل عليها عام 1979`.. وأنتقل إلى السعودية للعمل أستاذا هناك من 1983-1989.. كما سافر إلى تركيا لمدة عامين من عام 1995.. إلا أن فناننا ظلت ريشته متوهجة مع تجدد طاقته التعبيرية.. حتى أنه أضاف الكثير إلى عالمه من هنا وهناك.. وتعد فترة سفره بالسعودية.. فترة من التألق بمجموعة `الحج` التى تمثل أضافة وحالة تعبيرية من السحر الصوفى.. وأشراق الصورة الدينية بالمفهوم المعاصر.. بعيدًا عن التكراريات النمطية.
- والفنان الفقى يعبر عما يعيشه ويستشعره فى فضاءات التصوير.. من خلال ما حوله من عناصر وأشياء وكائنات.. وما توحى به الطبيعة وصور الحياة اليومية.. فى أعمال تمثل دراما من التفرد.. بهذا العالم الذى يمتد من دنيا الحمام.. إلى مناظر من شوارع قاهرة المعز.. جعل منها أسطورة فنه.. فيها روح الحياة وبهاء العمارة.. التى تتنفس بملاحم من الأضواء والظلال.. وتنوع فى التشكيل ورصانة فى الايقاع ولغة لونية خاصة.. مع حركة البشر.. فى حوارات وإيماءات.. ممن يشكلون `عطر الاحباب`.. بالتعبير الجمالى ليحيى حقى.. هذا مع تنوع موضوعات لوحاته لمناظر الطبيعة والزهورو الطبيعة الصامتة.
- وربما كانت لوحة `سنان السكاكين` بايقاعها الفريد.. ومسحة القدم والحركة الدائرية مع الغموض الذى يكتنف الوجه المختزل.. بمثابة مفتاح لأيقونة فنه فهى مع براحها التعبيرى ودراميتها بين التلخيص والاختزال.. تعد من أجمل ما قدم من فن مصرى معاصر فى العمق الشعبى مع أعماله الأخرى.. من خلال هذا الترديد بين الحركة الدائرية فى `عجلة المسن` والحركة القوسية للرجل.. مع تلك الألوان الهادئة الخافتة.. فى همس بين أطياف البيج الهامس والابيض البرىء.
تقودنا إلى غرابة شخوصه.. التى تعكس مع روحها الانسانية.. الصمت والغموض فى دراما تعبيرية.. ما يجعلها خارج الأطار الطبيعى.
- هديل الحمام
- ولا شك أن لوحات الحمام عند الفقى.. تبدو مساحة من التامل تجاوز فيها المعتاد والمالوف بلمسته.. واختلاف الايقاع من لوحة الى اخرى.. من تنوع البورتريه `الصورة الشخصية للحمامة`.. إلى جماعات الحمام من الثنائيات والثلاثيات والرباعيات وحتى المشاهد الجماعية.. فى أوضاع وحركات مختلفة أشبه بحوارات البشر.. بكثافة النور والعتمة وهمس أقرب إلى الهديل.. فيها مناجاة ومناغاه.. بلغة الصورة من الصمت والسكون.
- وإذا كانت حمامات الفقى مع خصوصية منطق التشكيل والتعبير.. تذكرنا كموضوع بأستاذه وأستاذنا الرائد يوسف كامل فى لوحته `الحمام`.. ولوحات بيكاسو للحمام التى اتسعت مساحتها فى مرحلة من مراحله وأشهرها حمامة السلام `1949` وحماماته الشهيرة من `البلكونة`.. التى تمرس بها من الخمسينيات.
- إلا أن دنيا الحمام التى عكف عليها.. بتأملاته اتسعت مساحتها فى ديوان شعرى حافل بعشرات اللوحات.. بدت فيها الأضواء تذكرنا بالضوء عند رمبرانت.. ولكن بلغة اخرى أسهم فيها اللون.. مع هذا المزيج والتوليف العجيب من التآلف والأمتزاج بين الحمامات وعناصر من الطبيعة الصامتة من الأوانى.. والقنينات ولمبة الغاز بما يوحى بالحركة والسكون.. والثابت والمتحرك.. والجماد الذى تدب فيه روح الحياة.. ينتقل بنا خلالها إلى أفق آخر وفضاء تصويرى متفرد.. فى قلب وعكس الضوء.
- وفى لوحاته العديدة لبورتريه الحمامة.. تنوع الأيقاع فى التكوين والتلوين.. فبدت أحداها مسكونة بالضوء.. خارجة من `بنية` فى فتحة دائرية على خلفية من البيج.. كما بدت أخرى غارقة فى الظل مسكونة بالغموض.. باثتثناء بقعة من الضوء الباهر على الصدر.. بينما تستقر أحداها بالأبيض الشاهق والمنقار الأصفر على مسطح تكعيبى داكن بهيئة منضدة.. وبين الخلفية الغارقة فى الظلال تبدو بقعة دائرية ضخمة من البيج من أعلى ما يعطى حالة درامية.. نرى فيها حمامة السلام من التفاؤل والأنفراج.
- وأقتراب الفنان من النبض الشعبى والتالق الروحى.. يدفعنا إلى تأمل عالمه بعين الفن والفكر حين نطالع لوحة `بائع الفول`.. وقد بلغ فيها بلمسته ايقاعًا ضوئيًا فريدًا يمثل ذروة من ذرى الفن المصرى.. حين ينساب الضوء بلا أنتهاء.. فى بؤرة اللوحة.. يسرى متوحدًا حول الأوانى والقدر ويطوف برؤوس البشر فى حركة دائرية.. فتذوب الأشكال من فرط البهاء.. ما يمثل البعد الروحى لهؤلاء البسطاء من أهالينا.
- اختار الفنان الفقى البسطاء من الشعبيين.. والذين ينسجون أغنية للحياة بالعمل والأمل.. مع بائع الفول: الناس فى الأسواق والمطعم الشعبى والسوق وحلقة السمك.. بما يحملون من آلفة فيما بينهم على مسرح الحياة من عبقرية المكان.. مع تلك المشاهد الذاخرة بتعدد الأفاق والانتقال من حالة إنسانية إلى أخرى.. وإذا كان قد خرج وأنتقل فى الزمان.. إلى مكان آخر بالقطار حين تناول ركاب الدرجة الثالثة من هؤلاء الشعبيين.. إلا إنه أضاف بعدا اخر ومساحة مختلفة.
- وألوان الفنان تضفى المزيد والمزيد.. من البعد فى الزمن والاحساس بالقدم وكأننا نعيش حالة ميتافيزيقية كونية.. بتلك الوجوه التى تحمل من الغموض لإنعدام التفاصيل والتى تبدو مثقلة بالصمت والتساؤل.. ألوان هادئة هامسة يغلب عليها الرماديات من البنيات وكأنها من طمى النيل.. مع أمتزاجها بلون الأفق المتمثل فى لمسات محدودة من الازرق.. وإذا كانت شخوص الفنان تعكس للاحساس بالغربة بحياديتها فبدت سابحة فى زمن خاص.. زمن يمتد بمسحة ميتافيزيقية أو ما فوق العالم الطبيعى.. إلا أن المكان ومفرداته ينتمى إلينا.
- السحر الصوفى
- وتمثل مجموعة `الحج` مع ما تحمل من عمق الوجدان.. البعد الروحى للمكان تضفى عليها شلالات الضوء.. تلك الحالة من الأشراق الصوفى وعمق الأبتهال.. كما فى لوحته `رمى الجمرات` جعل منها مع توحد البشر فى بحر من الشوق أمتدادا فى زمن لا نهائى.. وجعل من `الكعبة المشرفة والطواف` أرتباطا قلبيًا بين البشر والتوحد مع المكان.. بدت الكعبة فى البعيد القريب.. ومستويات ومنافذ الدخول والخروج بين الأعمدة والأقواس.. بعدًا آخر فى الزمن.. مع الأختزال والتلخيص.. فى معنى لإكتفاء المتزود بالنور والجلال.. وأمتدت لوحات الفنان بالسعودية إلى مناظر السهل والجبل.. ومشاهد البيوت بروح المكان وتنوع وثراء فى تلخيص واختزال.
يقول الفقى: `كانت تجربة السعودية بالنسبة لى.. فترة خصبة فى الابداع مع الأمتلاء الروحى.. كنت موزع القلب بين الكعبة المشرفة والمدينة المنورة وأهلها الطيبين.. بالصفاء النفسى والهدوء الشاعرى`.
- تركيا.. المنظر والتجريد
- ولقد جاءت تجربة الفنان الفقى فى رحلته إلى تركيا.. محملة بشحنة تعبيرية تمثل أمتدادًا لعالمه.. مع أختلاف المكان والزمان.. بدئًا من مشاهد الطبيعة من الأشجار فى الخريف.. والبيوت التى بدت فى أيقاعات لونية غنائية يغلب عليها الألوان الدافئة من الأحمر ودرجاته الهادئة وما يتخلله من مساحات خضراء رصينة.. وإلى مناظره التى أختزل فيها العناصر والمفردات فبدت فى أيقاعات تجريدية خالصة أمتزج فيها الأفق بالأرض فى وحدة واحدة.. إلا من أطياف تشخيصية هامسة.
- تحية إلى هذا العالم بما يحمل من خصوصية.. ينتمى إلى ديوان التصوير المصرى المعاصر.. وسلام على مصطفى الفقى الفنان والأستاذ وتحية إلى روحه.. مع عزائنا للسيدة زوجته والأبنة الفنانة غادة والأسرة.
بقلم : صلاح بيصار
جريدة : القاهرة 19-11-2024