`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
حسن سليمان أحمد

- الفنان المصور حسن سليمان، يتميز بشخصية فنية واضحة ترتكز على الجدية والاخلاص وصدق المشاعر الانسانية فى عمق وهدوء، نبع اسلوبه الخاص من طبيعته ومن رؤيته الخاصة للموضوع الذى يعبر عنه، سواء كان هذا الموضوع يتشخص فى انسان أو حيوان أو طبيعة صامتة ، يعبر عن كل هذا بأسلوبه المميز فى اللون المقتصد والتكوين السليم والتجسيم الصلب والاحساس العميق .
- وسيلمس الزائر لمعرضه خيطا فنيا يربط كل أعماله ، وسيجد طريقا واحدا يسير فيه الفنان حسن سليمان منذ سنة 1952 حتى سنة 1966، يجود فيه سنة بعد أخرى ، حتى وصل أخيراً الى درجة كبيرة من الصفاء، يريح النفس والنظر ، ويشيع الهدوء والطمانينة، ولا شك أن المصور حسن سليمان اذا استمر هكذا فسيصل الى اعلى القيم الفنية الانسانية التى تشرفه وتشرف الحركة الفنية فى بلادنا .
عبد القادر رزق - مدير عام الفنون الجميلة والمتاحف

!!حسن سليمان و `نساء القاهرة ` ملاحم الأضواء والظلال برماد الورد
- هو ظاهرة فى الإبداع التشكيلى المصرى المعاصر ..فلوحاته مع قدرتها التعبيرية وتأثيرها الدرامى تتميز بالتنوع والثراء من مرحلة إلى أخرى .. والفن عنده أشبه باليوجا .. يرسم بقوة وجدية كمن يتنفس تحت الماء .. يرسم بروح عصر النهضة .. ولأكثر من خمسين عاما ما زال يرسم وحتى الآن ما يزيد على الست ساعات فى اليوم الواحد وبلا انقطاع ..!!
- الفنان حسن سليمان والذى تنساب أعماله فى بناء تجريدى رغم مظهرها الواقعى.. تتعانق فيها الأصالة مع الحداثة.. تطالعنا بما هو مفاجئ أحيانا وما هو غير متوقع فى أحيان أخرى ، وأخيرا ما هو مصادم للأشياء المعتادة والمكررة .
- أعمال تنصهر فيها الأضواء والظلال.. تتجاور وتتناوش .. تتجاوز وتتصالح فى هدوء .. وتصطخب فى صمت .. تتوهج بالمشاعر والأحاسيس التى تتنوع أطوارها كالكائنات.. فى حالات وأبعاد من لوحة إلى أخرى .. وهذا هو سر اضطرام الرماديات فى لوحاته .. اضطرام لا تحده قيود ولا حدود.. سوى الوعى الشديد بفقه التصوير.. مع تعبيرية الأداء المراوغ والمشاكس.. فهو يرسم بحب وشوق وتوق وعنفوان وتمرد وصخب .. وفوق كل ذلك يرسم بسخرية فيلسوف .
- وتلك الأعمال تمتد من مناظر القاهرة الفاطمية : الحارات والدروب بالجمالية وحوش قدم .. وشارع المعز ومراسينا وجامع السلطان حسن والأقمر والأنور وأبى الدهب .. إلى ساحل أثر النبى والمراكب الشراعية مع لوحات الأوز والحمام .. والطبيعة الصامتة التى تتألق بالسحر .. يضفى عليها أبعادا من الرهافة والسكون والهدوء والصفاء والحركة الكامنة .. يصورها فى ظلال قاتمة وأضواء ساطعة تعكس أجواء درامية عديدة تصور غربة الإنسان المعاصر .
- أما البحر فتنكسر عليه خطوطه وأضواؤه بعالمه الغامض الذى يتشح فى لوحاته بالرهبة والشحوب والأسرار .. مسكونا بغبش الفجر الرمادى ثائرا بزرقته الفيروزية .
- وربما كانت ذروة أعماله .. معرضه `نساء القاهرة ` والذى أقيم بقاعة الهناجر بأرض الأوبرا فى أكثر من 50 لوحة فى فن البورترية، جاءت معاكسة لتقاليد الصورة الشخصية وكل الصور المنمقة .. فصور نساء العطوف والجمالية وباب النصر .. مع نساء وسط البلد والأحياء الراقية.. بنت البلد مع الهانم.. فى جنة من الصمت والسكون .. جعل فيها حواء مسكونة بالظلال مغموسة فى الأسود الأبنوسى وجسارة الرماديات.. جالسة.. واقفة.. متشابكة الأيدى.. وصورها تعطى ظهرها للمشاهد.. ومع شحناته الإنسانية .. أضاءت بالفرح والدهشة والألم والأسى والنشوة والطرب .. والحزن والغموض والنور الداخلى والشجن الصوفى .
- وكان المعرض مناسبة للدخول إلى عالمه .. ومحاولة للتعرف على رحلته مع الإبداع بكل المؤثرات من البدايات الأولى .
- طفولة بين الآثار ..
- فى 25 أغسطس من عام 1928 ولد الفنان حسن سليمان لأسرة من الطبقة المتوسطة المثقفة فى حارة طه بك السيوفى بالسكاكينى .
- وفى هذا اليوم الذى أشرفت فيه الحكيمة اليهودية الإيطالية على الولادة كان عليها أن تسافر من فورها إلى إيطاليا وعادت بعد أسبوعين من مولده لتثبت فى شهادة ميلاده تاريخ 14 / 9 / 1928 . كانت أسرته مع عائلة السيوفى وعائلة المغربى الوحيدين فى الحارة أما باقى السكان فكانوا خليطا من الأرمن والطلاينة والجريح .. وكانت أغلب بيوت الحارة تشبه بيوت روما فى نسقها المعمارى وتلك التشكيلات من الكرانيش والبوابات وفوانيس الإضاءة . أما والده فقد كان موظفا فى المحاكم المختلطة ثم انتقل إلى وزارة الحقانية ` العدل ` ورغم أنه حاصل على إجازة الحقوق بالفرنسية إلا أنه أتم دراسة الآثار الإسلامية أيضا وانتهت حياته مديرا لإدارة الشطب بوزارة المالية .
- ومنذ طفولته عشق حسن سليمان الآثار القديمة والتماثيل . ففى منزل خاله عالم الآثار الكبير أحمد فخرى شاهد ولمس بيديه البرديات القديمة وأدوات الزينة الفرعونية .
- وكانت دهشته الأولى عندما كان فى الرابعة ودخل مع خاله فى مقبرة اكتشفت حديثا.. كانت الظلمة تغمرها وفجأة مع ضوء عيدان الماغنسيوم فوجئ بحائط المقبرة يموج بالرسوم الفرعونية .
- وكان خاله يصحبه إلى مقابر الأسرة الرابعة ، ومن كثرة تآلفه مع الآثار كانت لعبة الأطفال بالنسبة له ما تخرجه الحفائر من أوان فخارية .
- بالإضافة إلى هذا كانت أسرته بكاملها مولعة بالثقافة والفن.. يحكى حادثة تؤكد ذلك بقوله : كنت طفلا صغيرا، أجلس بجوار جدى فى الترام، وفى ميدان العتبة وجدنا بائعى الجرائد يندفعون فجأة صائحين : قصيدة شوقى الجديدة وبدأ كل من فى الترام حتى جدي يتهافتون على شراء الجريدة ، أو القصيدة فلا أدرى إن كانت قد نشرت فى جريدة أم كانت منفردة.. كل ما أذكره أن أبى وجدى وخالى وأمى اشتركوا فى نقد القصيدة الجديدة لأمير الشعراء واستمتعوا ببلاغة صورها وآفاقها التعبيرية `. ومن هنا أثرت فيه تلك البيئة الثقافية تأثيرا كبيرا حتى أنه انتهى من قراءة أعمال طه حسين فى ذلك الوقت وهو فى الثالثة عشرة كما تأثر بكتابات المازنى خاصة فى `خيوط العنكبوت ` و` إبراهيم الكاتب `.. وكانت كل أمنيته أن يلتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية.. ولكن كان لوالده صديق يدعى لطيف نسيم وهو فنان عصامى درس فى إيطاليا فأشار عليه أن يلتحق بالفنون الجميلة .
- فى امتحان القبول رسم تمثال يوليوس قيصر بمادة الفحم ثم مسحه بقطعة من القماش فأصبح طيف رسم وحصل على الدرجة النهائية والتحق بالفنون الجميلة عام 1947 وهناك شجعه أستاذه بيكار تشجيعا كبيرا .. فقد أعطاه اهتماما أكبر من غيره من زملائه لتميزه، وعلمه كيفية وضع الحامل بزاوية لرؤية الموديل واللوحة فى آن واحد وكيفية تحريك اليد مساوية لعضلة الكتف .
- أما تأثير بيبى مارتان أستاذ مادة المناظر عليه فكان كبيرا .. كان يركب دراجة وعمره 86 سنة ويمر عليه فى منزله ..فى الخامسة والنصف صباحا .. ويصحبه معه إلى مقابر المماليك وتلال المقطم ليرسما من هناك .. وهو الذى علمه التضاد اللونى والتكوين .
- فى عام 1951 تخرج حسن سليمان من الفنون الجميلة.. كان مشروع تخرجه حول `عرب المحمدية`.. وصور المباراة النهائية للتحطيب .. ورواد المولد من الطبقة الكادحة والصعايدة.. وبعدها أصبح شاغله قاع المدينة .. وبدأت رحلته تتأكد مع الأضواء والظلال ومع حرية الآراء والتى يشير إليها بقوله :
- ظاهريا قد يبدو الفنان ممتلكا لحرية التعبير .. لكنه فى حريته هذه أشبه بالمهرج الذى يسير على الحبل تحت خيمة سيرك كبير، وكثيرا ما يشعر بنفسه فى علاقته بالمجتمع كفريسة فى براثن حيوان مفترس قد ينفد صبره فى لحظة ويلتهمها .
- وهنا تتضح لنا المرارة التى ألمت بنيتشة حين بدأ يكتب `هكذا تحدث زرادشت`
- ونجد المبررات لا نتحار ما يكوفسكى أثناء مناهضة ستالين لحرية الفنان وفرديته.. وكنت فيما سبق لا ألتمس له العذر حين لجأ إلى الانتحار ليتجنب هذا الصدام، لكننى عذرته بعد أن قرأت كلمات قالها وهو فى متحف اللوفر حين ترك اللوحات المعلقة ثم نظر من النافذة إلى الطريق وصاح `هذا هو أعظم عمل فنى` فبينما يتضاءل فى نظر الفنان أعظم الأعمال الفنية بجانب شريحة صغيرة من الحياة يكون مستحيلا عليه تحمل الضغط والقهر الذى يفرضه عليه أى نظام سياسى واجتماعى أو يفرضه إنسان تحت أى دعوى من الدعاوى التى لاتنتسب إلى الحقيقة المطلقة الكامنة فى أعماق الفنان .
- بين ` النورج ` و `العمل ` ..
- بعد انطلاق ثورة يوليو.. بدأ الاهتمام بالمواطن البسيط .. فقد ردت الثورة الاعتبار للعامل والفلاح.. وبدأ تمجيد العمل كقيمة إنسانية.. ومن هنا احتل الريف والمصنع موقع البطولة فى معظم إبداعات الفنانين.. خاصة وقد كانا محور إنجازات التقدم والبناء والنهضة الوليدة .
- ومن هنا تنوعت الأعمال بين الواقعية التعبيرية والرمزية فى ملامس حوشيه خشنة لافحة الضوء.. فكانت أعمال حامد عويس حول جامعى المحصول والفلاحين وبنات الريف وعمال المصانع وخروج الفتيات إلى التعليم، كما رسم سيد عبد الرسول عروسة المولد وبائعات البرتقال وحاملات الجرار والسلال فى أسلوب يغلب عليه الطابع الفنتازى.. أسلوب يستلهم الفن الشعبى .. بالإضافة إلى أعمال تحية حليم وجاذبية سرى ومصطفى أحمد وإنجى أفلاطون وحامد ندا والتى امتدت من العمل فى الحقل إلى قوة الارتباط بالأرض وعمال البناء وعنابر العمل .
- ولأن حسن سليمان كان شاغله ولحنه الأساسى فى أعماله من البداية ` تلك الثنائية الشاعرية من النور والقمة والشروق والمغيب.. فقد جاءت لوحته الشهيرة ` النورج ـ 1962 ـ متحف الفن الحديث صورة لقوة التعبير ، توهجت بالمسطحات اللونية خاصة تلك الحلقة الدائرية والتى تمثل جرن القمح ..
- وفى تلخيص واختزال شديد ومن فرط الضوء الأبيض.. هذا مع تنوع السطوح الأفقية متمثلة فى انبساط الأرض واتصالها بالأفق .. وفى تحليله للحيوان المتمثل فى زوج الثيران واللذين يجران النورج .. اتجه إلى الأسلوب التكعيبى حتى يتناغم مع الهندسيات فى الخلفية .
- اللوحة تجمع بين الصمت والسكون لكثافة العناصر وثقلها .. ورغم هذا نستشعر ملامح حركة النورج البطيئة والتى تؤكدها الحركة الدائرية للضوء .
- وربما جاءت لوحته الثانية `العمل ـ 1970 ـ متحف الفن الحديث ` فى هذا الاتجاه أكثر تأكيدا على قيمة عنصرى الضوء والظل فى تحديد الشكل والكتلة .. تصور عاملا يقف على ماكينة خياطة .. يتوحد معها .. ومن فرط التوحد تنساب الظلال بينهما فلا يبقى إلا مسطحات يشكلها الضوء الباهر تحد الشكل الذى يبرز من الأمام أشبه بالتمثال النحتى .
- ورغم أن حسن سليمان قدم أعمالا عديدة فى هذا الاتجاه الذى واكب الثورة، إلا أنه لم يسقط فى دائرة المباشرة أو الدعائية .. وذلك لأن الفن فى مفهومه : لغة.. واحتواء واتصال إنسانى أولا وأخيرا .
- ومن هنا جاءت أعماله التالية انعكاسا لهذا الاتصال الإنسانى.. فقد سكب قنينة أضوائه وظلاله ورمادياته على سطوح لوحاته والتى نقل فيها كل ما أحبه ورآه بقلبه وسمعه بعينيه من أماكن وزوايا ومساحات لقاهرة المعز.. ومن زهور وطيور .. مع كائناته من الطبيعة الصامتة والتى خرجت من خاصيتها المادية إلى حالة معنوية فى الزمان والمكان.. ونور المرأة المسكونة فى الظلمة .
- ابتهالات الضوء ..
- لم يترك حسن سليمان مساحة قدم من القاهرة الفاطمية إلا ونقلها فى لوحاته بدءا من العمارة الشعبية والتى تحتضن بعضها البعض إلى أبهاء العمارة الإسلامية .. من المآذن والجوامع والأسبلة .. وقد جاءت أعماله فى هذا الاتجاه بمثابة تجربة صوفية فى التصوير المصرى المعاصر .. فالضوء هنا يمثل ابتهالات وإشراقات حين يتلامس مع تلك الأبنية ذات المستويات من الدخول والخروج من حالة السكون إلى حالة متحركة من الانتشاء والحيوية يتسلل فى عمق اللوحة ثم ينساب على جانبيها ويتصاعد إلى أعلى كالأدعية والصلوات .. وهو ضوء مسالم يبدد الوحشة .. ويصنع من الظل ثنائية تتصالح وتتحاور فيها الأضواء من الألوان الداكنة والألوان المضيئة .. كما فى لوحتى شارع `مراسينا ` و `جامع شيخون `.
- ويكمل هذا الايقاع الصوفى لوحاته حول زفة المولد .. والتى تحتشد بالجموع التى تهتز وتميل. فى إحدى اللوحات ورغم الظلمة التى تشمل أرجاءها إلا أن الضوء الذى ينساب فى لمسات على وجوه البشر وفى طيات الثبات كما يتوهج فى حروف لافتة الطرق الصوتية.. يمثل تيارا روحيا لا ينقطع، يسرى من الرؤوس وحروف الكتابة.
- ورغم هذا السحر والابتهال يعلق ..
- كم مرة يرسم الفنان الشىء الذى أمامه حتى تتضح رؤاه ؟ إن الوجود الذى نراه للشىء ليس هو الكيان الكامل له.. لكن هناك وجودا آخر لا مرئى وهو الوحيد الحقيقى له .. لكن لا يتأتى لنا جزء أو سطح من الكيان اللامرئى .. ينتهى من رسمه الفنان أو يختزنه دون أن يمسك به كلية !!
- أما الورود فى أعمال حسن سليمان فتأخذ شكلا مختلفا.. فهى فى بعض الأحيان ليست وروداً ولكنها أشكال تجريدية هائمة فى الفراغ اللونى.. والذى قد نظنه رماديا بالرغم من أنه لا يستخدم على الإطلاق الأسود أو الأسود مع الأبيض ولكنه يستخدم خلطة من الأخضر والأزرق أو الأحمر والبنفسجى أو الأصفر والأزرق أو الأحمر والبنفسجى أو الأصفر والأزرق وفى وسط هذا الهواء اللونى يملأ اللوحة بتلك التراكيب اللونية التى تكشف فى النهاية عن تلك الرماديات .
- يفسر ذلك بقوله ..
- يوجد نوعان من الألوان بالنسبة للفنان: اللون الذى تراه العين ويحكى دلالة الأشياء كما هى فى الطبيعة.. واللون الفعلى فى العمل الفنى.. أقصد بالأول .. اللون المرئى الظاهرى مثل لون السماء ولون البحر ولون البشرة أو الشعر ولون الأشياء فى الظل أو الضوء ومثل هذه الدلائل الكونية التى تحدد معالم الأشكال لا يرهقنا تأملها.. لكن هناك نوعية أخرى من الألوان يعايشها الفنان وترهقه فى لحظة ما وهو يبدع.. يرى مع برودة سواد الليل.. دفء حمرة قرمزية غريبة الشأن أو اخضرارا أو اصفرارا.. يراه فى نسيج اللون الأزرق نفسه.. الفنان عليه أن يوجد مكانا لتلك الألوان الغريبة التى لا تراها العين .
طبيعة صامتة
- جاء معرض الفنان حسن سليمان `طبيعة صامتة ` والذى أقيم فى أكتوبر 1998 بمثابة درس فى الإصرار على تجويد التجربة وتأكيدها.. فقد افترشت القائمة بعشرات اللوحات.. أكثر من أربعين لوحة وكلها عبارة عن تكوين لأربع أوان شعبية من الفخار .. التكوين فى حد ذاته لا يتغير لكن الإحساس به لا يظل على حالة مع زوايا الإضاءة وبؤر الضوء.. هنا نطل على 43 درجة لون وظل وضوء ومزج مختلف .. وهنا يتغير الإيقاع من لوحة إلى أخرى .. ونكتشف أننا أمام البعد الرابع للأشياء .. أو الإيهام بالبعيد البعيد .. الإيهام بالعمق وتخطى مسطح اللوحات الأفقية مع عبقرية التنويع على اللحن الواحد. وربما تذكرنا أعماله فى هذا الاتجاه بأعمال الفنان الإيطالى جورجيو موراندى ( 1890 – 1964) والذى حصر فنه طوال حياته فى عالم الجمادات.. فى الطبيعة الصامتة من الزجاجات والأقداح والأوانى وفصلها عن كل ما حولها.. وتغلغل فى أعماق شكلها ومادتها وأبعادها وعلاقتها ببعضها البعض.. كما جردها من استخداماتها النفعية وصورها لذاتها.. فكانت نظرته إليها نظرة تصوفية فيها تأمل حتى جعل منها مخلوقات معنوية .
- وإذا كان موراندى قد تخلص من ثقل ووزن الكتلة ليضفى على لوحاته المزيد من الشاعرية من خلال تلك العلاقات والروابط اللونية.. فقد عبر حسن سليمان فى لوحاته الطبيعة الصامتة عن ثقل الحجوم وصراعاتها مع الفراغ.. وذلك من خلال تلك الظلال القاتمة والضوء الساطع.. وهو هنا يعكس مشاعر الحزن وغربة الإنسان المعاصر .
- ولكن لماذا تعمد تكرار التكوين مع اختلاف زوايا الضوء والظل.. ببساطة شديدة يرد :
- هذا المعرض هو محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على جانب من ممارستى الطويلة إحدى تجاربى الفنية.. فى تجربتى هذه.. كنت فى كل مرة أرسم الشىء الذى أمامى .. فأجدنى أمسكت بشىء وفقدت شيئا آخر .. هكذا.. استمرت التجربة.. وهكذا أخيرا أدركت أن لا وجود لصورة أفضل من الأخرى بل كل واحدة هى حالة مستقلة من الانفعال وأن لا آخر للتجربة .
- قد يتعلم المرء درسا قاسيا من نملة : ذات صباح كنت شاعرا بيأس وجدتنى ألتصق بزجاج النافذة .. أبصرت نملة .. وضعت أصبعى أمنعها من الصعود حادت عن إصبعى .. لاحقتها وأخذت فى ملاحقتها ومنعها لكنها لم تكف عن المحاولة صعودا على السطح الأملس .
- مضى الوقت ونحن هكذا.. النملة تصر وأحاول أنا منعها.. وأخيرا .. هزمت فألقيت بجسدى على السرير تاركا إياها لحال سبيلها !!
- هل كان `فان جوخ ` حين رسم حذاءه أكثر من ثلاثين مرة دون تغيير ؟ هل وضع فى الحسبان أن هذه الرسوم ستوضع يوما فى المتاحف ؟ .. لم يكن هذا يراود المسكين.. لكن مشكلته الأساسية كانت فى أن هناك شيئا ما يريد أن يقبض عليه وفى كل مرة يهرب منه ..!!
- إن كل عمل من تلك الأعمال كانت خطوة فى مسعى العروج إلى العلا .. كما يطلق عليه فى الفكر الصوفى الإسلامى.. إنها محاولة لإدراك المطلق الذى لا يتحقق أبدا .
- الشىء نفسه نجده كذلك عند ` أوتريللو ` .. إذ حصر نفسه فى نقل ` كارت بوستال ` لكنيسة مونمارتر .. يكرره ولا يضيق ذرعاً به .. هل كان يعلم أنه سينال أكبر وسام فرنسى قبل موته وأنه سيخلد ..؟
البحر
- البحر فى هدوئه وقوته.. الجزر والمد .. رائحة اليود والمحار .. كان دائما مصدر إلهام للإبداع الأدبى والتشكيلى .. وربما كانت رائعة ميليفيل ` موبى ديك ` تلك الرواية الخالدة صورة لصراع الإنسان مع البحر متمثلة فى حياة الصيد .. مليئة بالمشاهد المسكونة بالهدير وقوة المياه.. أيضا رواية `العجوز والبحر ` لهمنجواى .. صورة أخرى مختلفة يتشابك فيها العجوز مع البحر من أجل الرزق واستمرار الحياة والبقاء .
- ولقد كان الإبداع التشكيلى أيضا سباقا فى استلهام البحر من أعمال مانيه وعاريات السحر والحيوية والجمال فى أعمال سيزان وفى الإبداع المصرى انسابت لوحات محمود سعيد بالمياه والأمواج كما فى رائعته لوحة `المدينة ` التى جاء البحر فيها فى خلفية بنات بحرى .. امتد بالأشرعة والصفاء والإشراق .
- وهناك أيضا سيف وانلى فنان الإسكندرية والذى لم يكتف بأن يستعير من البحر شفافيته وهدوء ألوانه.. بل صور سحر الذكريات مع غموض البحر فى مجموعة لوحات عرفها فى أوائل السبعينيات من القرن الماضى جاءت بعنوان ` الإنسان والبحر ` صور فيها عالماً أثيريا يتجلى فى حمرة الشمس المتوحدة مع الماء والخلاء والطبيعة .
- أما بحر حسن سليمان فهو ليس ككل البحار.. هو عالم وحده.. ونسقق تشكيلى جمع فيه بين التجريد والتشخيص وبين التألق التعبيرى والحس الميتافيزيقى الذى يأخذنا إلى ما وراء الأمواج والجزر والمد ورمال الشواطىء .. من الرحيل والسفر والعودة إلى الغربة .. والأشواق والأسى ووجع البعاد.. هذا مع الغموض والحركة والسكون .
- فى إحدى اللوحات يصور البحر بكل عنفوانه.. بقوته وبهائه عاليا بالزبد مسكونا بالرهبة فى ألوان رمادية مع البيج والبنى.. ومع هدير المياه نشعر وكأننا أمام هواجس النفس البشرية .. من الحذر والتراقب والخوف من المجهول .
- ولعل فى كلمات حسن سليمان ما يكشف عن هذا البحر الذى صوره :
- أيها البحر ألقيت بشباك وهمى ليحرقها الضوء المنعكس على صفحتك .. والتحديق فى الفراغ لغيابها يشعل حلمى الدائم ويحوله إلى وهج ينعكس على صفحتك.. أغلق عينى ولكن تلاحق الأمواج يوشوش فى أذنى كأنفاسها التى تدفئ وجهى .
تطير شباك الوهم المحترقة مع سحيبات تتحدى الضوء وأحتضن بين ذراعى جزءا من الليل بدلا من حبيبة جاحدة لا أستطيع لمسها. فهى كالموج وسرعان ما تنسل هل يمكن أن أحتفظ بمثل هذا الضوء ؟ أو بمثل تلك الظلمة أو بها ؟
- ويطل البحر فى لوحة من نافذة بنت بحرى .. يطل هادئا يطفو على مياهه قارب صغير .. وهى تنظر إلينا.. متوحدة مع المكان غارقة فى الظلال ..
-وفى لوحة أخرى تمتد على الشاطئ مراكب البحر غارقة فى الصمت والسكون.. فى مسطحات هندسية داكنة .. ويبدد وحشتها حركة الضوء مع حركة النوارس فى فضاء اللوحة .. فى الأفق .
- ولا شك أن تعبيرية الألوان فى بحر حسن سليمان من تلك الألوان الرمادية تجعل منه مساحات خاصة من الماء والشجن .
- وهو يفسر السر فى استمرار الرماديات فى لوحاته من مرحلة إلى أخرى بقوله: اللون قد يطغى على الشكل ويضيعه لو أساء الفنان استخدامه بالضبط كالقروية الساذجة التى تستخدم أحمر الشفاه دون حذر .. وأحيانا يتأمل الإنسان ميلاد اللون ونضجه مع تكامل بناء الأشكال فى اللوحة .. وبالنسبة لى أشعر به يتغير بين أصابعى من لون فج حتى يصل إلى هدوء الرماديات بالضبط كما يتغير برعم وردة بيضاء ينمو.. فبرعم الوردة البيضاء غالبا ما يبدأ محمرا وما يلبث أن يبيض رويداً رويداً .. مع تفتح وريقات الوردة حتى يصير ناصع البياض ، هذا بالضبط ما يحدث أحيانا بالنسبة لعلاقة اللون والشكل مع الشكل فى اللوحة .. فكل من اللون والشكل يجب أن يلتحما ومع الرغبة فى التعبير.. عن سقوط الضوء ومحاولة الوصول إلى وحدة تؤكد الشكل كشكل.. نجد اللون ينزوى ويتلاشى مع ضربات الفرشاة هنا وهناك.. يضيع مع الظل والنور .. لتظهر الأشكال فى مقاس لونى شامل من الرماديات .
- نساء القاهرة ..
- مثل طائر الحب.. وبعد أن صدمته التجربة .. أراد الخروج من دائرة الحزن .. فخرج إلى الفضاء الواسع محلقا تسيل منه الدماء .
- هكذا حسن سليمان.. لكن بدلا من أن تسيل دماؤه.. تألقت فى لمساته وبامتداد فضاء لوحاته فى أحدث لوحاته فى أحدث معارضه والذى أقيم بقاعة الهناجر وصور فيه نساء القاهرة .. المرأة الشعبية أو بنت البلد مع نساء الأحياء الراقية .. ولقد تجاوز الحساب التقليدى لرسم الشخصية ، فهوله قانونه الخاص فى أسلوب بناء الوجه فى بعض الأعمال أشخاصه تنزع إلى جو سكنى استاتيكى .. فى الوقت الذى تموج فيه بحركة انفعالية داخلية .. تتصف بالغموض ، فالوجه الإنسانى عنده لا يحمل صيغا اعتيادية أو تشكيلات منمقة .. وإنما هو مكرس للبحث عن شخصية إنسانية عالية .. ثراء السطح يلعب الضوء فيه دورا أساسيا ..
- بالإضافة إلى هذا يبحث فى جسد المرأة .. عن العلاقات بين أجزاء الجسم، وهذا الانسجام الموجود فى الأجزاء التى تكون الكل.. فهو يقول : الجسد يعنينى .. الملابس لا تعنينى .. وعموما أنا مهتم بالمرأة المصرية التى تعيش فى القاهرة من خلال كل الطبقات الاجتماعية، وقد كانت مصر منطقة جذب كبيرة واختلطت فيها جنسيات عديدة ولا شك أن نسب جسم المرأة المصرية مختلفة تماما عن المرأة فى الشمال، وهناك تشابه بين المرأة المصرية والمرأة فى الكتلة الشرقية وفى اليونان وقد اختلط الدم المصرى بالدم الشركسى و أيضا بالإغريق والرومانى عندما اختلط اليونان بمصر .
- فى كل معرض يقيمه الفنان حسن سليمان يقدم `مكتوبا ` يضئ تجربته فى الإبداع، والغريب أن ما كتبه هذه المرة جاء باللغة الإنجليزية مع ترجمة له بالعربية، وقد يتصور البعض أن فى هذا نوعا من التعالى على جمهور الفن التشكيلى ، لكنه يؤكد أن الإنجليزية هى اللغة التى يعايشها 24 ساعة يوميا فى هذه الفترة من قراءاته لأعمال شكسبير والإلياذة والأوديسة ومن هنا وجدها أطوع فى التعبير عن مكنونات عالمه .
- فى لوحاته أسكن حسن سليمان نساء القاهرة جنته التى تموج بالأضواء والظلال، كل لوحاته مساحة من الشجن الإنسانى والبوح الصامت .. وهى أعمال تتصادم مع التقاليد المتعارف عليها فى فن الصورة الشخصية .
- وإذا كان الرائد محمود سعيد قد التزم سكة السلامة مع أسرته وطبقته من حيث رسمه للوجوه، فتقيد بالأسلوب الأكاديمى المدروس وبأسس التصميم فى عصر النهضة ..إلا أنه مع وجوه النساء الشعبيات تحرر من كل ذلك وأبتكر أسلوبا تعبيريا خاصا كما يجرى كل شئ ورسم الجنس على الشفاه المكتنزة والعيون الوحشية والجسد النحاسى الذى يضج بالأنوثة .
- ولقد التزم حسن سليمان مع نساء الأحياء الراقية بالجلسة الوقورة .. بالإضافة إلى تلك العناصر التى تكمل وجاهة الوضع الطبقي لهم .. كما فى لوحة عازفة العود وهى للسيدة زوجته ولوحة السيدة ذات المروحة .. وفى لوحة طائر الليل الحزين .. بالإضافة إلى أن الضوء فى هذه اللوحات ينساب من أمامية اللوحة .. فيضمر الجسد من الوجه والأطراف بالضوء .. يبدو الظلام فى الخلفيات .
- أما بالنسبة لنساء الطبقة الشعبية فقد تحرر فى كل شئ .. فى اللمسات وطريقة الأداء .. وجعل المرأة تتصرف بطبيعتها كما فى سلوكها فى الحياة اليومية فصورها جالسة على الأرض .. واقفة .. متشابكة الأيدي .. وصورها تعطى ظهرها للمشاهد.. وصورها عارية القدمين `حافية `.. والعجيب أنه جعلها عكس الضوء .. جعلها مسكونة فى الظلام والضوء فى الخلفية .. وقد جاءت تلك الخلفية .. تلك اللوحات أكثر تعبيرا وأكثر صدقا من الأخرى .. فقد صور من خلالها العيون التعيسة والملامح المتحررة.. والهموم والأحزان والأنوثة المتفجرة.. والهمس والشجن ..
- لكن الأعمال فى مجملها.. كل لوحة تمثل لحنا من المشاعر .. فالمشاعر هى البطل فى نساء القاهرة .. وربما تمثل لوحة ` السيدة ذات المروحة ` تعبيرية جديدة تخرج على قيم الإبداع إذا قارناها برائعتي الرائدين أحمد صبرى ومحمد حسن بنفس الاسم .. فقد انشغل حسن سليمان بأدق التفاصيل وغنائية الألوان مع الزهور والدندشات فى المروحة لكن كان كل شاغله بالنسبة للمرأة هو تصوير حالة السكون والسلام الداخلى التى كانت عليها ، وقد ساهم فى ذلك هذا الاقتصاد اللونى الذى تمثل فى الرماديات والأزرق الداكن الذى يقترب من الأسود مع رصانة الثوب الأصفر المغموس فى الظلال .. وهنا تتحاور الأقواس كما فى المروحة واستدارتها مع استدارة فتحة الثوب من الصدر وتتوازى السطوح الأفقية والرأسية كما فى حركة الذراع يتناغم مع استقامة ظهر الكرسى وتقاطعاته وفتحة الضوء فى الخلفية .
- وحسن سليمان الذى شكل نساء القاهرة من الأضواء والظلال أخرجهن من جنته فى `مكتوبه ` الذى صاحب المعرض فقد استهله بكلمات شكسبير :
- `وجه زائف ينطوى لا محالة على قلب مكنونه زائف ` .
- يقول فيه : `أبدا لم تلتفتى لنزيف قلبى ورسومى تحاكى رماد الورد ` الآن أعود إلى مرسمى وقد تخلصت من حزنى الثقيل. حتى بدونك الأمسيات ساطعة لامعة ..أتشوق إلى النقاء.. لا إلى امرأة لا تصدق أبدا ` أحبسى نفسك يا امرأة القاهرة.. كأسى فارغ لكنى رسمتك .. نحى قناعك عندما تلتقين رجلا نذر للفن حياته ` .
- يعلق على ذلك بقوله : المرأة أشبه بإناء فخار مكسور ركلته بقدمى فتاثرت شظاياه بعدها أخذت أضحك وأردد فى نفسى.. رفقا بالقوارير وأعمال حسن سليمان تمتد فى 15 لوحة زيت و38 بالباستيل .. تحولت إلى ألحان شجية تتناغم فيها حساسية اللمسات الخشنة مع رصانة الرمادى والأسود وتلك الأصداء من وميض الأحمر والأزرق والأصفر والأخضر .
- فى لوحة بنت البلد بالمنديل .. تقف فتاة فى المنتصف خارجه من القمة إلى النور .. متوحدة مع ابتهال الضوء وسكون الظلام فى حالة بين الثابت والمتحول .. السؤال والجواب.. ويتوهج الأحمر والبرتقالى فى الرداء والمنديل بمساحات صغيرة محسوبة .. وتحتشد اللوحة بطاقة تعبيرية تلخص عالمه الذى يتسم بالخصوصية والتفرد .
` ذلك الجانب الآخر `
- ذلك الجانب الآخر هو الإبداع الأدبى عند حسن سليمان وهو اسم كتاب له أيضا ترجم فيه أشعارا لسافو وإلوار وأراجون وماياكوفسكى وجون سميث وغيرهم مع قصيدة باريس فى الليل لجاك بريفير .. والتى توحى معانيها من خلال ثلاثة عيدان كبريت أنه رغم حظر التجول وإطفاء الأنوار فلم يستطع النازى منعه من الحب أى منعه من حريته كاملة .. ومع اختلاف الزمان والمكان إلا أننا نجد فيها عالما يقترب من عالم حسن سليمان التشكيلى والذى يمزج بين الأضواء والظلال والحب والتواصل الإنسانى .. تقول القصيدة :
- ثلاثة عيدان تشتعل فى الليل
- واحدا فواحدا :
- الأول كى أرى وجهك كاملا
- والثانى كى أرى عينيك
- والأخير كى أرى فمك
.. والظلمة الكاملة كى تذكرنى وحسب
- كم هو جميل أن تكونى بين ذراعى
- تحية إلى حسن سليمان بعمق عالمه الذى يمتد بين الضوء البهيج وشاعريه الظلال .
صلاح بيصار


- رحل حسن سليمان تاركا لنا تركة غنية، تركة من اللوحات والكتابات تؤرخ لمسيرة واحد من أكثر الفنانين تأثيرا فى حركة الفن المصرى المعاصر، وشخصية شديدة الثراء متعددة الجوانب بحيث يصعب عليك منفردا الإمساك بجميع أبعادها .
- وتركة من القيم الفنية والحياتية عاش يدافع عنها بالمواجهة أحيانا والانسحاب والعزوف أحيانا أخرى ولكنه لم يستسلم ولم يهادن أبدا.
* ثلاث مقالات فى ذكرى حسن سليمان :
- فى الأيام التى تلت رحيله دُعيت من جهات عدة للكتابة فى ذاكره، وكانت المحصلة ثلاث مقالات يفصل بين الواحدة والأخرى يوما أو بعض يوم ، ورأيت أن إعادة نشرها مجمعة وبنفس تسلسل كتابتها سوف يضيف إليها بعداً فقدته عندما نشرت منفصلة.
1) المقاتل العنيد :
- مثل العديد من الفنانين الكبار من قبله، وآخرين سوف يأتون من بعده، ضرب حسن سليمان حوله فى سنواته الأخيرة سياجاً من العزلة، عن كبرياء وعزوف عن واقع يرفضه، وتشبث بقيم عاش حياته يؤمن بها ويجدها تنهار من حوله، مثل انهيار جسده العليل الذى أنهكته معركته الأخيرة مع عدو خفى وشرش ، يجيد فنون المراوغة ويأتيك من حيث لا تتوقعه .
-وهنت العزيمة وانطفأت الرغبة فى الاستمرار، ولكنه مثل مقاتل عجوز عنيد كما كان يصف نفسه، أتخذ قراره الأخير ، حانت لحظه الرحيل .
- من بقايا ذلك الجيل الذى كان يضع القراءة والمعرفة فى مصاف العبادة، وذلك قبل أن تهاجمنا العولمة وجهاز إعلامها الباطش، ليسحق من تبقى منهم بدون رحمة ويستبدلهم بمن يجيدون فنون التسويق والإبهار واللعب بألفاظ جوفاء خاوية من أى قيمة .
- الفنان إما أن يكون فنانا، أو لا شيئا على الإطلاق .. وفى حالة كونه فنانا عليه أن يتحمل كل شئ.. وحدته.. غربته.. فتجربته ذاتية ومستقلة ولا يمكن لأحد أو لقوة التدخل فيها، هكذا كتب فى الثمانينيات فى كتابه الأشهر، `حرية الفنان ` .
- مثل كثيرين غيرى، عرفته قبل أن ألقاه، كان ذلك فى أوائل الستينيات عبر لوحة النورج المبهرة فى رسوخها.
- كتلتا البقرتين الثقيلتين تتضاءل بجانبهما كتلة الشخص الذى يقود النورج والآخر المغروز فى كومة القمح. ثم توطدت العلاقة عبر لوحات أخرى من `الأوز ` و`الأوانى الفخارية `و ` سيدة على ماكينة خياطة ` إلى مقالات الكاتب .
- ثم جاء اللقاء فى نهاية السبعينيات ، جمعنا صديق عزيز لكلينا، قلت له أريد أن أستزيد من دراسة الفن معك،قال أنا لا أقبل أجرا وإنما أطلب الالتزام والجدية فهل أنت على مستوى التجدى؟ وقد كان .
-عندما تكون مع معلم كبير فأمامك معين كبير من الخبرات والقيم وفنون الصنعة تنهل منها على قدر طاقتك وقدرتك على الاستيعاب.. `ارسم صح ولون بتراب ` يقولها مرارا وتكرارا نقلا عن أستاذه `بيبى مارتان` ومعليا فى الوقت ذاته قيمة أن تحتفى بمن تعلمت منهم. يقول `يجب أن تعتبر المواجهة مع سطح اللوحة معركة حياة أو موت `ثم يستطرد `احترم الأركان الأربع للصورة فهى حدودك والنافذة التى تطل منها على العالم الذى ستخلقه` وابتعد عن الاستعراض فعمره قصير وابحث عن نقاط الارتكاز لكى ينضبط الإيقاع .
- تبدأ فى فهم شخصية حسن سليمان عندما تدخل إلى مرسمه، تدلف إلى عالم مركب شديد الثراء، لوحة لرفيق الدراسة الفنان شهده، قطعة حفر صغيرة ` السجين` لجويا، مستنسخ بالأبيض والأسود لإحدى وجوه رمبراندت، كتب فى الأدب والفن مبعثرة فى كل مكان ، أسطوانات موسيقى كلاسيكية فى أكوام بدون ترتيب، قطعة نحت ` السمكة ` للفنان محمود موسى، أوانى نحاسية وفخارية وزجاجية فى بعض منها ترقد حبات من الفاكهة الطازجة النضرة وفى البعض الآخر الثمرات الجافة شبه المتحجرة.
- طنافس وسجاجيد عجمية وقطع من الأثاث العتيق الضخم التى تضيق بها محدودية المكان .
- تلمح العناصر التى تراها فى العديد من لوحاته، الكرسى الخشبى الهزاز الذى صور عليه الكثير من نساء لوحاته، والشرفة التى ظهرت فى خلفية هذه اللوحات تتوسطها تركيبة من موتيفة إسلامية يعلوها هلال ضخم يداوم الظهور من حين لآخر فى لوحات عديدة وبأشكال شتى وكأنه اللحن الدال فى السيمفونية الخيالية لبرليوز، والمنضدة التى كان يضع عليها تكوينات طبيعته الصامتة وقطعة الخزف الإسلامى المعلقة خلفها على الحائط .
-عندما يرسم ينغمس فى اللوحة بكل كيانه، يتوقف برهة ويقول : `عندما أرسم وأفكر إننى ما زلت تلميذا صغيراً يتحسس طريقة.. أبحث عن ذلك الشىء الذى سيضفى على اللوحة ذلك المغزى ..ربما سيأتى مع بقعة الضوء التى تقول كل شئ، أو مع إلتفاتة الوجه ونظرة العينين . يعاود العمل كأنه مبارز يتحين لحظة تسديد الطعنة الفاصلة ثم يعلن وقد انفرجت أساريره` لقد بدأت الخطوط تغنى `.
- سألته منذ أسابيع قليلة ما الذى ستقوله بصورة مغايرة لو كتبت `حرية الفنان الآن `؟ .. لم يجب على السؤال ثم قال بعد فترة من الصمت.. هل قرأت `ذلك الجانب الآخر ` إنه أفضل ما كتبت وسيأخذ مكانته التى يستحقها يوما ما.. بعد أن أرحل .
2) تأصيل التجربة :
-عندما رحل عازف الكمان الأكثر شهرة فى القرن العشرين `ياشا هايفتز` رثاه أحد أساطين عازفى الكمان فى ذلك الوقت ` دافيد أويستراخ` قائلا : هناك العديد من عظماء العازفين، وهناك `هايفتز `قول بليغ أصاب الحقيقة فى كبدها فعندما ينضم فنان إلى قائمة فحول المبدعين يصبح ذكر أسمه مجردا تعريف كافى ووافى به، هكذا صار الحال وهكذا سيبقى مع حسن سليمان .
- الاقتراب من مبدع كبير يؤدى إلى كسب أشياء وخسارة أشياء أخرى،أهم ما تفقده هو تلك اللحظة الثمينة المملوءة بالتوتر والدهشة عند رؤية العمل الفنى فى صورته المتكاملة النهائية، ولكن فى المقابل تكسب شمول الرؤية المصاحب لرؤية العمل فى مراحل نموه المطردة، ولكن مع حسن سليمان كانت كل مرحلة من مراحل نمو العمل تقف متفردة صداحة بلحنها المميز. `الأهم عندى فى المقام الأول هو تجريد الصورة ثم بعد ذلك أن تشدو الخطوط بموسيقى الإيقاع الداخلى` هكذا كان يقول .
- كان عمق التجربة وتأصيلها عنده رهين بكم الجهد والإصرار والمثابرة والحوار وصولا إلى منطقة الصراع ومن ثم الانتصار أو التصالح مع موضوع اللوحة ، كم من المرات كرر نفس الموضوع وربما بنفس التكوين ` الأوانى الزجاجية، الفخاريات الأباريق النحاسية، ثمرات الكمثرى، الرمان، المستحمات، الورود ` وتمتد القائمة .
- `يجب أن تعيش التجربة حتى نهايتها لتستهلكها أو تستهلك `هكذا كان يغمغم وهو يبدأ لوحة جديدة لذات الموضوع مستشهدا بسيزان وجبل سانت فيكتوار أو موراندى وتكوينات الطبيعة الصامتة، وعندما تنتهى الملحمة ويضع اللوحات فى المرسم المكتظ الواحدة بجوار الأخرى تراها كتجربة واحدة متعددة الأسطح مثل تنويعات سيمفونية على لحن وحيد أو حبات عقد شكله صانع مخضرم يلتف حول عنق غادة هيفاء وتعكس كل حبة منه الضوء بتفرد عجيب.
-فنان قاهرى قح بكل ما يحمله الوصف من دلالات ومعانى، عرفته وقد استقر به المقام فى وسط المدينة ولكنه دائما ما يتذكر بشجن أيام السكاكينى ودرب اللبانة والعباسية ومصر الجديدة، وتتفتح حواسه بالتسكع فى حوارى الحسين والسيدة أو حوش قدم وباب النصر .
- ` لم يحدثنى أحد عن ذلك الشجن العميق فى موسيقى الظل والنور بأزقة القاهرة، ولم يحدثنى أحد عن وشوشة مياه النيل مختلطة بصياح الصبية ` هكذا كتب فى كتابه الشهير `حرية الفنان ` ومن هنا جاءت معظم لوحاته مستمدة من عالمين،عالم القاهرة بمعناه الشامل وعالم مرسمه القاهرى بمعناه المركز، وأحيانا يضغط هذان العالمان فى العمل الواحد فترى إحدى مفردات طبيعته الصامتة مستقرة على حافة شرفه المرسم غارقة فى ضوء شمسنا الساطعة وخلفها تتراص أسطح مدينة القاهرة ممتدة فى محاور ومثلثات متقاطعة إلى خط الأفق .
- كانت المثابرة والعمل الدؤوب الممزوج بالعند من صفاته المميزة، يبدأ يومه مبكرا بالسير من منزله بعبد الخالق ثروت إلى مرسمه بشامبليون، يتوقف لاحتساء القهوة فى سيموندس أو البن البرازيلى ، يقف للثرثرة مع صديق أو لابتياع باقة من الزهور، ثم يبدأ العمل الذى يمتد أحيانا حتى الساعات المتأخرة من الليل، يوما بعد يوم بدون كلل أو ملل..
- `كيف تريد أن تصبح فنانا ذو قيمة إذا دخلت مرسمك فى المواسم وقبل المعارض فقط ؟ يقول بتحدى ثم يستطرد ` كان بيكاسو يقضى فى مرسمه ثمانى ساعات يوميا على الأقل `.
- لم يمنعه مرضه الأخير من الجلوس أمام حامل الرسم أو الكتابة وعندما أصبح من العسير عليه قطع المسافة من منزله إلى المرسم حول غرفة فى المنزل إلى مرسم واستمر فى العمل.
- منذ أسابيع قليلة فى واحدة من زياراتى الأخيرة له قبل أن يرحل كانت الشمس قد مالت للمغيب، كان يجلس على مقعده الأثير فى غرفة النوم، أشعة الشمس المتسللة من النافذة أضاءت وجهه بمساحات عرضية ونثرت على ثوبه بقعا من الضوء، تبدى لى مثل واحدة من لوحاته ، لعلمى بكرهه للتصوير سألت: الضوء جميل هل يمكن أن أصور ؟ قال تريد أن تصور رجل قارب الموت ، قلت لأخفف الموقف كلنا موتى ، رمقنى بنظرة متأملة مشوبة بالتحدى لذلك المجهول .
3) وماذا بعد الرحيل :
- من الصفات اللصيقة بنا معشر البشر أن تنساب عواطفنا وتجيش عند رحيل عزيز علينا ، وهى من الأوقات القليلة التى تتوحد فيها الجماعة بدون هدف مادى، لتشد من أزر بعضها البعض وتتواسى بذكر حسناته ومآثره . ومع مرور الوقت طال نسبيا أم قصر تعود الحياة إلى مجراها الطبيعى فتخمد العواطف أو تكاد وتخبو الذكرى أو تبهت .
- ولكن يختلف الوضع إذا كان من رحل فنانا كبيرا وكاتبا مرموقا ومعلما مؤثراً مثل حسن سليمان ، فكم العواطف هنا محدود فى دائرة الأقارب والأصدقاء، فى حين أن الذكرى تتسع لتشمل حدود المجتمع الذى كان يخاطبه ويؤثر فيه وتمتد مع الزمان إلى أن تحين نهاية التاريخ .
- الواجب يحتم علينا الآن أن نتوقف لنسأل أنفسنا ثم ماذا بعد .. وما هو الواجب علينا أن نفعله .. ثم بكل صراحة وبكل موضوعية ما هو الذى فى استطاعتنا أن نفعله ؟
- مثل أى فن أصيل ومتفرد وعميق ، متعدد الروافد وفى ذات الوقت قومى واضح الهوية، سيعيش فن حسن سليمان وسيزداد تأثيراً وانتشارا سواء فعلنا شيئا أو لم نفعل .
-هذا الكم الهائل من اللوحات فى شتى الخامات والمنتشر فى مجموعات خاصة فى شتى الأقطار، سيجد فى المستقبل من يحلل كافة جوانبها الفنية والجمالية، ومن يرتبها ويفهرسها ويصنفها ويؤرخ لها، ستتم دراسات وستطرح أطروحات وسيتعدى هذا حدودنا الزمانية والمكانية .
- سيظهر مرور الزمن الثراء الكامن فى هذه اللوحات والأبعاد المركبة التى لا يظهرها إلا معاودة المشاهدة مرات ومرات وكأنها مؤلف موسيقى عتيق تتبدى للأذن مكامن الجمال فيه بعدد المرات التى يعاد فيها سماعه، وسيأتى من سيدرس تأثير قاهرة الخمسينيات والستينيات على أعماله وعلاقتهما بنشأته وثقافته وتكوينه المزاجى، وكيف تطورت موسيقى النور والظل عنده منذ أن رسم النورج والأوز غارقان فى ضوء الشمس فى الستينيات إلى أن أصبح الضوء فى أعماله الأخيرة يظهر أحيانا شريطا ضيقا يحاول النفاذ من خلال انفراجه بين حائطين فى حارة حالكة السواد .
- وسيحاول آخر فك بعض طلاسم ذلك الشغف المزمن بتكرار ذات الموضوع وربما بذات التكوين مرات عديدة محتذيا خطى مونيه وسيزان وموراندى ، وهل كان هذا بسبب رغبة جامحة للاستحواذ على الموضوع لاستنزاف آخر قطرة فيه أم محاولة لاكتشاف ما تحت السطح وما وراء المحسوس .
- وربما سيأخذ أخر منحا مختلفا فيدرس كيف صمم وبنى حسن سليمان بيت الفيوم وكيف جاء هذا المبنى الفريد فى عمارته انعكاسا واضحا لرؤيته الخاصة فى علاقة الحيز والفراغ بالضوء والظل .
- أما كتبه ومقالاته ومقدمات معارضه فستخضع للتمحيص والتحليل والدراسة وستخرج دراسات شتى لعلاقات مطمورة وجوانب خفية عديدة .
- وسنرى امتداد هذا الفن فى تلاميذه وحوارييه والذين تأثروا به، هؤلاء الذين تشربوا القيم الإبداعية التى عاش ومات عليها ووعوا الدروس التى استخلصها من حياته وخبراته ، وفى نفس الوقت تفرد كل منهم فى كينونته وشخصيته ، ولم يصبح نسخة مقلدة أو انعكاس مشوه، وسيقوم هؤلاء بعبء حمل الرسالة وتسليمها إلى أجيال قادمة بوعى وعن إدراك أو بدون قصد كجزء من تركيبتهم وتكوينهم .
- سيتم كل هذا بدون مجهود يذكر منا وسواء رغبنا أم لم نرغب رضينا أم لم نرضى فهذا جزء من ذاكرة الوطن الذى لا نستطيع أن نمحيه أو نطمسه أو نشوهه.
- أما الذى نستطيع أن نفعله وفى حدود قدراتنا أن نحققه فهو توثيق وحفظ كل ما كتب وكل ما كتب عنه وأخذ شهادة من عاصروه واقتربوا منه ولا يزالوا على قيد الحياة، وسوف نحقق بهذا هدفا مزدوجا، أن نخفف العبء عن المؤرخين والدارسين من بعدنا ، ونضيف بعدا جديدا لرصيدنا الثقافى الراهن ، فقد عاش حسن سليمان فترة فارقة فى تاريخنا المعاصر وكان جزءا هاما من نسيجها، وكانت حياته بالغة الثراء ذات أبعاد عديدة مركبة وعاصر واتصل بكثير من شوامخ مفكرى ومبدعى هذه الأمة .
- إننى على يقين أن محبيه والمخلصين من أصدقائه لن يبخلوا فى العطاء بما لديهم ، ولكن الحكمة والموضوعية تقتضيان بأن يكون هناك من سيحمل الشعلة ويقود المسيرة ..فهل من مجيب ؟
سمير فؤاد
مجلة إبداع 2008
حديث مع حسن سليمان .. كلمات مكرم حنين
- أنا ضد الشللية فى كل نواحى الفن.. والفنانون لا يدخلون الحظائر ولهذا رفضت كل المناصب ولا يمكن لأى دولة أن تفرض فنانا على الشعب والفنان الحقيقى يعيش فى وجدان الأمة.. والفنانون الجادون فقط هم الذين سيكتب لهم البقاء والخلود..
- كانت هذه آخر كلمات الفنان الراحل المبدع حسن سليمان فى حواره معى قبل رحيله عن عالمنا يوم الجمعة الخامس عشر من أغسطس الماضى عن ثمانين عاما، امتد إبداعه خلال ما يقرب من ستين عاما ونال بسبب هذه الجدية والإنتاج الفنى المدهش والغزير شهده محلية وعالمية هائلة، حيث تنوعت أعماله فى التصوير من الواقعية إلى الواقعية الرمزية إلى التجريدية وكان يختار موضوعاته وينفذها بمنتهى الجدية سواء كانت طبيعة صامتة أو فن البورتريه أو المعمارى أو الموضوعات الإنسانية وكان إنتاجه الفذ فى الطبيعة الصامتة وراء شهرته الإبداعية الكبيرة .
- سألته..لماذا دخلت كلية الفنون الجميلة ؟ وكيف استطعت اجتياز اختباراتها ؟
- أبى كان يرغب فى دخولى كلية الطب أو الهندسة ولكنى أخذت ملحقا فى الثانوية العامة فتقدمت للفنون الجميلة ولم يكن امتحان الدخول مثل اختبارات هذه الأيام وعدد المقبولين لم يكن يزيد عن عشرين طالبا فى كل الأقسام، وأذكر أنه فى اليوم الأول كان علينا القيام بعمل تمثال من الجص والفحم وبعد أن انتهيت قررت مسحه بقطعة قماش فاكتشفت أنه أكثر تعبيراً عن خامة الجص ولم يكن يحتاج إلى شئ يذكر وقد نجحت وكان ترتيبى الثالث على 180 طالبا تقدموا للامتحان ومن بين زملاء تلك الدفعة حامدا ندا وكان يكبرنى بثلاث سنوات أما الجزار فسبقنا بدفعات وأذكر أيضا أن سعد الجرجاوى لم يكمل الدبلوم وهاجر إلى ألمانيا وهناك نال شهرة كبيرة أما أعز أصدقائى فكان الفنان ، وليم أسحق وكنت أنا أصغر طلاب الدفعة.
- كيف كانت أنشطتك فى فترة الدراسة بالفنون الجميلة..؟
- كنت مشحونا دائما بالاحتجاج وكراهية القهر الاجتماعى والشخصى وانضممت مع زميلى وليم اسحق إلى جمعية أنصار الحرية وخرجنا فى مظاهرات وهتافات وبخلاف ذلك كانت القراءة باللغتين الفرنسية والإنجليزية هى دعامة ثقافتى الفنية فقرأت فى السياسة والفن والأدب وأحببت الشعر والكتابة وتوثقت علاقتى بعبد الهادى الجزار الذى كان كثيرا ما يحذرنى من حامد ندا لأنه كان ينقل عنى كلاما للأستاذ بيكار لم يبدر عنى .
- هل كانت الدراسة الأكاديمية تشكل عائقا أمام فنك؟
- الدراسة والرسم والتلوين هى أساس هام لأى فنان ونلاحظ أن الفنانين الذين لم يكملوا فترة مناسبة فى الدراسة الأكاديمية هم هواة وفنهم ناقص وهروبى .. أما أنا فقد كنت غاوى شخبطة وكنت مولعا بحرية يدى فى التعبير، وهذه النقطة بالذات هو سر تفردى فى الإنتاج الفنى، وهذه الشخبطة نفعتنى جدا فى الرسوم الصحفية التى كانت تتحول إلى قطعة من الزنك معدة لطباعة وكان ` بار باريان `الأرمنى يعدها باقتدار ونتائج الشخبطة كانت أقرب ما يكن `لليتوجراف`
- معنى ذلك أن الرسم هو الأساس.. الخطوط ذات اللون الأسود فإن الرسم كان ومازال هو أساس تطور فن التصوير منذ عهد الفراعنة وحتى الآن الخطوط الخارجية للتمثال هى التى تحدد جمال العمل من عدمه وبدون الرسم يصبح العمل الفنى خاملا؟
- وما هى الأهمية التى تمثلها دراسة الموديل لإكساب الفنان الخبرة؟
- إذا لم يفهم الطالب ويدرك قيمة الموديل وقيمة الطبيعة فلن يستطيع أن يدرك معنى الفن مهما كانت عبقريته فإن الطبيعة والموديل هما البوابة العظيمة للإبداع وأنا أقول ذلك لأنى فوجئت بمجموعة من الناس تقول عن نفسها بأنها تمثل فنانى الستينيات وحقيقة الأمر أنهم هواة وقد استغلوا مواقعهم ووضعوا أعمالهم إلى جوار الجزار وندا وغيرهما من الفنانين الراحلين وأنا أقول لو كانوا الطبيعة لرفضوهم .وكما يقول المثل الشعبى `جاءوا لتطويق الخيل مدت أم قويعة رجلها `.
- هل ترى أن مواقعهم القريبة من السلطة ساعدتهم على ذلك؟
- أحب أن أقول إنه لا يمكن لأى دولة أن تفرض فنانا على الشعب الفنان الحقيقى يعيش فى وجدان الشعب- ماضى وتاريخ وحياة ومعايشة واستمرارية وممارسة وإنتاج وتواصل وأصحاب الأعمال الرصينة هم الباقون فى العالم الآن.
-هل ترى أن الحركة الفنية الآن تسير فى طريق الإبداع؟
- الفنانون الجادون هم الذين سيكتب لهم البقاء وتخلد أعمالهم أما المهرجون فلن يبقى منهم للتاريخ شىء .
- أنت من الفنانين القلائل الذين يعيشون من فنهم وفى العالم كله اثنان فى المائة فقط هم الذين يمكنهم ذلك هل هذا صحيح ؟
- فعلا ويمكن أن تقول ذلك للمدعين الذين يقولون إنهم يبيعون اللوحة بمائة ألف جنيه وقد يحدث ذلك كنوع من المجاملة أو رد الجميل لشخصيات ذات نفوذ ولكن ذلك لن يستمر قطعا وعندما أقيم معرضا لأعمالى فإن جميعها بلا استثناء تباع وقد يباع المعرض كله قبل الافتتاح لأنى أضع أسعارى دون مبالغة ولأن الجمهور يعرف أنه رابح بشراء هذه الأعمال فأشعارها تتضاعف بعد ذلك.
- بماذا تفسر الإقبال على أعمالك إلى هذا الحد ..؟
-المعرض الناجح هو الذى يكشف عن المعايشة العميقة للأشكال أو الأشياء المرسومة حتى لو كان فرع شجرة جافا كما أن الشخصية الفنية الناضجة تجعل الفنان يضمن أعماله وتاريخه وخبراته ورأيه فى الحياة وتصوره لما يمكن أن تكون عليه العلاقات الفنية والخطوط والألوان والمساحات والأعماق المختلفة كما أننى أخدم القيم الفنية والابتكار والتجديد.
- فى معارضك الأخيرة تختار موضوعا واحدا مثل البحر، الإوز ، نشر الغسيل، الورد،الزهور الذابلة، الأوانى. ماهو هدفك من هذه الاختيارات؟
- أرى أن هذه المعارض هى رسالتى لتأمل الموجودات والأشياء حيث إن التأمل مفقود يا ولدى..أرسلها إلى أجيال الفنانين وإلى تلاميذى وإلى الإنسان المصرى وإلى المتذوقين أيضا وهناك العديد من القيم الجمالية التى أحرص عليها فأنا أهتم كثيراً بأن يعرف الجميع قيمة الضوء كقيمة مجردة وقيم الظل كقيمة مجردة وبالإضافة إلى قيمة الأضواء والظلال المجردة فإنها تلعب دورا هاما فى الفورم وفى إعطاء الشكل والثقل المناسب دون الإخلال بالعلاقات وبالتكوين وبالرسم وبالتركيب المعمارى الذى يحترمه الجميع .
- هل يكون ذلك سببا فى أنك تقلل من استخدام الألوان ومعظم أعمالك يدخل فيها اللون الأسود والرمادى بشكل أساسى؟
- أنا أصنع اللون بحيث لا يؤثر على الفورم أو على المساحات بحيث لا يظهر معطلا للقيم أو مؤثرا على الفورم القوى أو التكوين وأنا قلت لتلاميذى لا تهتموا كثيرا بعرض أعمالكم ولكنهم لا يهتمون بالنصيحة ومعظمهم يفرح بزيادة الطلب على أعمالهم باعتبارهم تابعين لمدرستى الفنية.
- كنت أتوقع اختيارك لمنصب فاعل فى مجال الفن فى فترات ماضية فلماذا لم يحدث ذلك؟
- لا.. لقد سبق أن أعرض على منصب وكيل وزارة وكان عمرى 37 سنة ورفضت لأننى أرفض الارتباط وأكره القيود.. وذات مرة قال وزير الثقافة إنه نجح فى إدخال كل المثقفين إلى حظيرة وزارة الثقافة ولكننى لم ولن أدخل الحظيرة فنحن كفنانين لا ندخل الحظائر ، كما أننى ضد الشللية فى كل نواحى الفن.
- لماذا توقفت عن الكتابة ؟
- الكتابة عندى عجزت عن الصمود أمام فن الرسم الذى وهبته حياتى وفى الخمسينيات ترجمت أيضا كتاب معنى الفن لهربرت ريد ولكنه لم ينشر لأن أحمد يوسف أراد أن يضع اسمه عليه معى وعندما قرأت الترجمة التى نشرت دهشت لمستواها المتواضع والاختصار الشديد لهذا المرجع الهام كما أننى قرأت الترجمة لكتاب كاندنسكى وهى ترجمة ليست جيدة وفيها مغالطات لأن كاندنسكى نفسه كان بعيدا تماما عن الروحانية. لقد كان حسابيا وأشكاله لا توحى بأى روحانية فأى روحانية فى المثلثات أو الدوائر أو المخروط.. هذا الكتاب يحوى مغالطات فنية فادحة .
- كاندنسكى كان يريد أن يفك نفسه إن ذلك يحزنى لأنه يضلل الأجيال من خلال نافذة مرسمه رأيت الضوء الكاشف الذى يدخل إلى مرسمه العتيق الذى شهد صورته وابتكاراته الفنية التى التف حولها خبراء الفن فى مصر والعالم.. إنه الضوء الذى يأتى لنا من بعيد ليضع إكليل الخلود على رأس الفنان المصرى الكبير الخالد أبدا بفنه المتفرد ورؤيته التى تتحدى الفناء.
سمير فؤاد
مجلة إبداع
جاليرى
- « كم مرة يرسم الفنان الشىء الذى أمامه حتى تتضح رؤياه؟ إن الوجود الذى نراه للشىء ليس هو الكيان الكامل له ولكن هناك وجودا آخر.. لا مرئيا.. وهو الوحيد الحقيقى له، لكن لا يتأتى لنا أن نحققه، وما ندركه برؤيتنا للشىء هو جزء أو سطح من الكيان اللا مرئى».
- بهذه الكلمات يشرح حسن سليمان فلسفته الفنية القائمة على البحث والتأمل والتكرار، وما هى إلا محاولات منه للإمساك بروح الشكل اللامرئى الذى لا يظهر له بكامل كيانه، وهو يؤكد فى كتاباته أن سيزان عندما رسم جبل سان فيكتوار أكثر من مرة وفان جوخ ورسومه المتكررة لحذائه وموريس أوتريللو ولوحاته الكثيرة لكنيسة مونمارتر كانت محاولات للإمساك بالشىء اللامرئى.
- تخرج حسن سليمان فى كلية الفنون الجميلة عام 1951 وحصل على بعثة مرسم الأقصر كما قام بعمل دراسات عليا فى إيطاليا. وانشغل لسنوات طويلة برسم الطبيعة الصامتة وهو مثل الإيطالى جيورجيو موراندى الذى قضى حياته فى رسم ذلك الموضوع، ولكن معالجة حسن سليمان كانت تعتمد على قوة الضوء والظل فى تجميع أشكاله وترابطها، وهناك لوحاته لمناظر القاهرة القديمة التى قضى وقتا طويلا فى شوارعها، كما أبدع أعماله للموديلات وهو يقتصد فى اللون من أجل التكوين القوى ويصنع شخوصه تحت ضوء قوى لينتج ظلالا غامقة تتصارع مع الضوء لتصنع الدراما فى لوحته وتخلق التجسيم الصلب، كل هذا ببالتة ألوان تميل للرماديات لتعطى لأعماله تفردا وخصوصية لا تخطئها عين المشاهد.
جمال هلال
صباح الخير - الثلاثاء 18 /10/ 2011
( حسن سليمان و ( العمل فى الحقل
- رسم حسن سليمان لوحته الرائعة ` العمل فى الحقل `عام 1962 وهى من أجمل ما أنتج فى حياته الفنية الثرية وأصبحت من أيقونات الفن المصرى المعاصر .
- اللوحة تمثل ثورين يجران `نورج `..وهى الوسيلة التى كانت تستخدم لدرس القمح ..أى عملية فصل الحبوب عن السنابل ..يوجد شخص يجلس على النورج وأخر فى العمق يقف بأداة يجرف القمح الذى تم درسه ويضعه على هيئة كومة هرمية فى المنتصف ..أكوام القمح تكون تلالا هرمية تحصر فى المنتصف شكلا بيضاويا يمثل القمح الذى يتم درسه وهو يمثل مجال الحركة للنورج الذى يتبع هذا المسار فى حركة مستمرة عود على بدء .
- المنظور فى هذه اللوحة علوى وكأنما الرائى يطل على المشهد من أعلى ..ويوجد خط يقسم اللوحة عرضيا فى خمس اللوحة العلوى ..يوحى هذا الخط بالأفق لكنه فى غير مكانه الصحيح فطبقا للرؤية العلوية يجب أن يكون خط الأفق مرتفعا عن هذا الموضع .. المساحة المستطيلة التى يحدها هذا الخط توحى بالسماء ووضع الفنان ثقبا أسود يوحى بالشمس وما هى بشمس فظلال الشخوص تؤكد أن الشمس عالية فى كبد السماء ولا يمكن أن تكون مائلة عند خط الأفق .
- لا توجد خطوط فى اللوحة تؤدى إلى نقطة تلاش فخطوط أكوام القمح تدور وترتفع وتنخفض موحية بحركة دائرية تلتف حول كومة القمح القابعة فى منتصف اللوحة .. وقد خلق الفنان فى هذه اللوحة فراغا ذاتيا قائما بذاته منفتحا خلف إطار اللوحة .
-علاقة الأجسام بالفراغ تخلقها كثافة كتلتى الثورين والنورج بالدرجة الأولى مقابل فضاء الأرض الأقل كثافة ..ويتعادل مع هذه الكتلة الضخمة للنورج الشخص المغروز فى تبن القمح ويكونان معا مثلثا يحصر فى منتصفه المركز البصرى للوحة كما خلق الفنان انحرافا فى علاقة كتلتى الثورين ببعضهما بالمبالغة فى طول الثور الأيسر لتأكيد حالة الحركة الدائرية حول منتصف اللوحة .
- كعادة حسن سليمان المفتون بالكتلة والحجم والثقل فقد حرق ألوان ظلاله لتصل إلى الأسود المصمت ولتضاد بشدة مع لون القمح الناصع كما خلق عمقا لونيا عن طريق التدرج من سخونة وكثافة اللون البنى المحروق فى الثورين والنورج مرورا بالأصفر الأوكر للأرض فى مقدمة اللوحة وانتهاء بالأزرق الرمادى فى مؤخرة اللوحة .
- هذا التأكيد على الكتلة والحجم والثقل جعل النورج والثورين يتجمدان فى مكانهما بفعل الجاذبية وكأنما يكافحان للحركة ضد قوة منيعة أو توقفا لالتقاط الأنفاس ..لكن فى المقابل فإن جميع خطوط أكوام القمح تلف وتدور بلا توقف لتخلق حالة من الحركة المستمرة .. ولتصبح الحركة هنا معكوسة مثل الطفل الذى يمتطى الحصان على الساقية الدوارة فى الملاهى وتبدو له المرئيات وكأنها تدور حوله وهو ثابت فى مكانه ... إضافة إلى هذا يبدو الشخص ذو المذراة مائلاً قليلاً إلى اليسار متشبثا بمذراته وكأنما المسكين يحاول ألا ينجرف مع الحركة الدائرية.
- مثل كل فن عظيم يخرج موضوع اللوحة خارج نطاقه المباشر ليصبح أعم وأوسع وأشمل.. إننا هنا لسنا بصدد أشخاص يؤدون عملا فى الحقل وكفى وإنما نواجه الإنسان وهو فى رحلة كفاحه فى الحياة مربوطا بالأرض التى جاء منها وإليها يعود.. تحرقه أشعة الشمس التى بهرته وحيرة سرها فعبدها محاولا استرضاءها .. يدور ويلف يوما بعد يوم وعاما بعد عام فى حركة أبدية عبر تاريخه ..يبنى أهرامات هنا وهناك يعتقد أنه يتحدى بها الزمن وأنها سوف تعطيه الخلود.. وفوقه ترتفع السماء الواسعة مفتوحة دون حدود.. هى الأمل وهى المصير ..لكن يخرق امتدادها ذلك الثقب الأسود الذى يرده على عقبيه..إنه الحاضر أبدا فى كل شهقه وكل زفرة.. إنه المجهول .
سمير فؤاد
جريدة القاهرة - 6/ 11/ 2012
كنوز .. حسن سليمان
- حين أهديته كتابى، الصادر قبل عامين ` نساء حسن سليمان`، سألنى : هل تحبين هذا الفنان؟ قلت : بالتأكيد، لكنى لست واحدة من نسائه !
- ضحك سليمان العسكرى، وطلب من سكرتيرته أن تأتى بنسخة من كتابه الصادر هذا العام `حسن سليمان ` قلت لنفسى مجنون آخر بحسن سليمان، لكنه مجنون قادر على اقتناء العديد من أعماله، وقادر على إنتاج كتاب مثل هذا، هو بمثابة كنز حقيقى.
* الكتاب الكنز :
- مجلد فخم للغاية يضم أكثر من 200 لوحة تشكيلية و42 صورة فوتوغرافية و9 بطاقات لمعارض تشكيلية، وهوامش عديدة لبعض أراء الفنان حسن سليمان فى الفن والحب والمرأة والطبيعة .ذاكرة تشكيلية تجسد مشوار الفنان ( 1928- 2008 ) من خلال أعماله المختلفة.
- الكتاب نادر وجميل، مرة لأنه يضم تقريبا معظم صور لوحات الفنان حسن سليمان ( 200 لوحة ) والتى عرضها فى أكثر من 30 معرضاً عبر مسيرته الفنية الغنية، منذ معرضه الأول 1952 حتى معرضه الأخير 2008، ومرة أخرى لأن الكتاب مطبوع بفخامة، وعناية، ودقة وبدرجة عالية من الطباعة وفصل الألوان، تحيل الصور المطبوعة إلى مستنسخ أقرب إلى اللوحات الأصلية، وهو ما يستوجب تحية المصور الفوتوغرافى عبد الرضا سالم، والمخرج الفنى، الفنان محمود مغربى .بالتأكيد أن رعاية أكثر من بنك ومؤسسة كويتية لإنتاج الكتاب، أسهم فى هذا المستوى الفخم والراقى إخراجيا، لكن الأهم هو العلاقة الأعمق بالفنان ومحبه أعماله وهو ما دفع الكاتب الدكتور سليمان العسكرى رئيس تحرير `مجلة العربى ` للإشراف على إنتاج هذا الكتاب وتقديمه، امتنانا وتقديراً وتحية لصديقه الفنان الذى رحل قبل خمس سنوات .
- يتوقف سليمان العسكرى فى تقديمه للكتاب أمام الأسقف العالية التى شغلت دائما الفنان `حسن سليمان كان يختار دائما الأسقف العالية ليتأملها، وكأنه لا يريد أن يأسر الأفكار والألوان، ولا يحب أن تبقى كائناته وهى فى فضاء اللوحات أسيرة للإطار لقد جاءت من الفضاء ويريدها أن تعود إليه` .
- كلام العسكرى عن الأسقف العالية، يستدعى بالضرورة خطوط الطول فى لوحات حسن سليمان، فالخطوط الطولية هى ما يمنح اللوحة القوة والرسوخ، وهى ما تخطف العين، لأنها تتحدى قانون الجاذبية،هكذا فكر الفنان دائما بمنطق المعمارى الذى أراد على امتداد التاريخ أن يحقق رغبته فى أن يرتفع بالبناء إلى أعلى متحديا ثقل المواد المستخدمة وجاذبية الأرض.
- خلفية اللوحة أيضا، إلى جانب الخطوط الطولية،هى إحدى خصوصيات حسن سليمان وأسلوبه المميز، وهو هنا شبيه ( بجويا )هكذا كان يردد دائما حكاية المرأة التى ذهبت إلى جويا لتسأله عملا لابنها، سألها: ماذا يريد أن يعمل ابنك؟
- قالت : يعمل أى شىء حتى ولو `الفون` الخاص بجويا وتقصد الخلفية اللونية التى كان جويا متميزا بها .
- ضحك جويا وقال : `الفون الخاص بجويا لا بد أن يعمله جويا بنفسه، وإلا أصبحنا أمام شئ آخر .
- أيضاً `الفون ` الخاص بحسن سليمان، لا يعمله سوى حسن سليمان .
- يشير العسكرى فى مقدمته إلى الملمح القصصى فى لوحات حسن سليمان ` تراه يسجل مشهدا قد يكون بداية الحكى، أو عقدة القص، أو خاتمه السرد، لكن لوحاته تحمل قصة ما صامتة، وحين تقرأ هذه الأعمال التشكيلية ستجد أن اللقطة الأم هى الإطار، بينما تأخذ اللقطات المقربة تفاصيل الحكاية، وكأنه حين اختار تصميمها، يريد لنا أن نتجول معها لنصنع من هذه الأجزاء حكايتنا الخاصة `.
* معجم مصرى بحق :
- الفنان العراقى ضياء العزاوى يمر أيضا فى مقدمة سريعة، يمسك فيها بالخصوصية المصرية فى أعمال حسن سليمان ` جداول وبساتين خضراء، أشرعة لسفن يحرسها بحارة بالقليل من القوت، أطفال يلعبون فى حارة خالية، متروكات يومية عادية تأخذ حضورا يكاد يكون مقدسا، نساء وحيدات تعبق أجسادهن بجنس متوار تعلنه حركة الجسم وزوايا الرؤية الخاصة بالفنان .هو معجم مصرى بحق، فريد بهويته مشوار حسن سليمان كتاب تشكيلى خاص به فريد بروح مصرية عذبة من دون ادعاء أو بهرجة لفظية عن الهوية والخصوصية فى العمل الفنى.. أحيانا لا تعنيه المعايير الفنية فهو من أولئك القلة من الفنانين الذين لم ينسوا المفهوم الأساسى الذى يقوم عليه الفن، وهو البعد الإنسانى ` .
الحياة الشعبية، والمرأة الشعبية تحديدا هى النموذج الأمثل فى لوحات حسن سليمان،هى الأقرب إلى البساطة والتجريد، لوحاته عامرة بهن، هن بطلات أعماله ونموذجه الجمالى، وعالمه الذى ينتمى إليه، وهو يشعر أنه جزء من الزقاق والرصيف والحارة، يشعر بمعنى الانتماء الحقيقى داخل هذا العالم.
- جمال المرأة الشعبية جمال صريح وأصيل.. يقول حسن سليمان `هى امرأة لا تخفى أنوثتها، بل تجاهر بها، ليست لديها عقدة ( المساواة ) التى لدى المرأة المثقفة أو المرأة الأرستقراطية ، لا الرجل فى الحياة الشعبية يريد أن يكون امرأة ، ولا المرأة تريد أن تكون رجلاً.
- الناقد التشكيلى صبحى الشارونى يقدم قراءة لمشوار حسن سليمان عبر العديد من المعارض `نساء القاهرة `، `فى الشمس` ، `البحر ` ويتوقف أمام خصوصية اللون الرمادى فى أعماله..` بدأت تتميز لوحات الفنان من منتصف الستينيات بطغيان الدرجات اللونية الرمادية بدرجاتها على كل الألوان الأخرى، حتى يحسب المشاهد فى اللحظة الأولى أنه لم يستخدم سوى اللونين الأبيض والأسود فى تصويره الزيتى، لكن عند تأمل اللوحات ندرك أنه استخدم جميع الألوان، محولا إياها إلى إحساس بالحجم والكتلة، ينفى عنها صفة البحث فى الألوان ، ويضفى عليها صفة البحث فى درجة القتامة والإضاءة.. تتميز لوحات الفنان بالإحساس بالتصادم والتباين بين الأسود والأبيض مع درجات الرمادى الفضى أو الأصفر (الأوكر)الفاتح حتى يوحى ذلك للشاهد بالتجسيم الحركى النابض حتى لو كانت العناصر التى يرسمها جامدة كالأوانى والثمار والزهور الموضوعة فى إناء على سطح المنضدة ` .
* شجرة ..
`الشجرة التى لا تنحنى للريح تكسر، قالها لى الدكتور شفيق غربال، فانطويت على نفسى وتمسكت عبر سنوات حياتى بموقفى الفنى والسياسى والاجتماعى، رافضا الإصغاء لمشورة شفيق غربال والانحناء للريح أثبتت السنون صحة موقفى، فالفنان الذى ينحنى للرياح يكسر حتى وهو فى قمة شهرته، فهو - للأسف - قد انكسرت روحه الثائرة المدافعة عن الحق، والرافضة للذل، ظنوا أن الدعاية تصنعهم، وإن رأيتهم يتسابقون كى يقفوا على باب مسئول أو من بيده الأمر والنهى، فلا أقول : ما أحقرهم ! أقول : ما أضعفهم ! وهل يستطيع الإنسان الضعيف أن يقول شيئا أو يصنع فنا ` .
* أحلام :
- لم يكن قد تجاوز العشرين عاماً، يجرى مرحاً على الدرجات المؤدية إلى درب اللبانة، حيث كان مرسمه كان يسميها درجات الحياة، يبتسم، يركل الحجارة ويطاردها.فى ذلك الوقت كان يؤمن أن الفنان أو الشاعر، يجب أن يعيش ويسعى على أحلامه، وأن امتلاك الأحلام لا يحتاج إلى شئ، وأنه هو ورفاقه سيغيرون العالم والمجتمع والحياة والفن، كان يحلم دائما بوجه امرأة يغسله الضوء وجه مسطح جميل بلا أغوار، فوقه شمس قوية شرسة.فى ذلك الحين، كان يملك المقدرة على تحويل كل شىء، حتى الحب الفاشل إلى حلم بسيط جميل يسعد به، فقد كان يظن أنه يملك غده ويثق فى كل فجر آت.
عبلة الروينى
الأدب - 1 /4 /2012
اللغة العربية وأنـا
أعتدت وأنا صغير على احتدام النقاش بين أمى وعمتها حول مجئ المقرئ الضرير فى غياب أبى كل صباح ، أمى تقول البيوت لها حرمة ، والمقرئ فضولى ، يتطلع مصنتاً لكل شئ عمة أمى تحتد مصرة على قراءة القرآن فى المنزل ، حتى يعتاد الاطفال على اللغة العربية . أخيراً تنتصر وجهة نظر عمة أمى .
ذهب ذلك الوقت الذى كان يقرأ فية القرآن فى المنازل كل صباح واعتاد الاطفال الان على لهجة المسلسلات بعربيتها الركيكة. يرددون كلماتها التى كثيراً ماتكون بلا دلالة واضحة ، فأصبحوا عاجزين عن أن يعبروا بجملة سليمة تفهم .
نشأت وأنا أسمع العربية ، سيان كانت من قراءة القرآن بالمنزل أو المذياع . وما زلت أذكر ` محمد فتحى بية ` فى بدء حياته حين كان مذيعا يصف لنا موكب الملك فى عربية فصحى بالغة ، ذات مرة أخطأ فى نطق كلمة ، فأخذ يعتذر عنها ولم يخجل من اعتذارة مرة أخرى بعد انتهائه إذ كيف لمذيع أن يخطئ فى نطق كلمة عربية . لا أدرى إن أمتد ` عمر محمد فتحى بية ` وانصت إلى التلفزيون والمذياع ؟
فى طفولتى .كانت اللغة العربية شيئا مضنياً ، أصر والدى على أن يستمر معى شيخ أزهرى معمم سورى ، يسمى الشيخ ` عبد العزيز ` قسى على حرصا على تعليمى ، ، أسهل عقوبة عنده أن يمسك بأذنى قارصا ملفاً إياها بقسوة حتى تكاد تنخلع ، فأصرخ من الألم . يصمم على أن أخرج الالفاظ من مخارجها ، وأكتب وفق اصول الرقعة والنسخ يهتم بضرورة دراسة الصرف والنحو كل ذلك على الرغم من صغر سنى مجيئه الى منزلنا كان إيذانا بتعذيبى . الان أحمل له جميلا إذ ترسب فى أعماقى شئ من تعليمه على الرغم من تبرمى من قسوة وصعوبة تلك الدروس حين ذلك .
فى مدرسة الظاهر الابتدائية ، وجدت الشيخ ` عبد العزيز ` بصورة أخرى فإذا به الشيخ ` فتح الله ` كان مغرما بالسير بين صفوف الجالسين من الطلبة، متسليا بضربهم على طرابيشهم بقسوة دون استثناء عند الرجوع الى المنزل كان التعليق والضرب ينتظرانى ، لأن ميزانية الاسرة لم يكن بها بند لإصلاح الطرابيش يوميا فطربوشى قد تكسرت خوصته من الداخل وخلع زره من صفعة يد أستاذى الضخمة وبعد طقوس الضرب والتعنيف تذهب الخادمة إلى الطرابيش لإصلاح ما افسده استاذى المبجل . ذات يوم ضربنى بقسوة فخلع الزر كلية وخشية العقاب فى المنزل ، أصلحت خوصته وثبت الزر بدبوس إبرة من داخل الطربوش إلى أعلاه .
مرت الامسية بسلام ، دون ان يدرى والدى أو والدتى فى اليوم التالى ذهبت به على المدرسة جاء الشيخ ` فتح الله ` ومارس هوايته ، مع نزول يده الغليظة بشدة على طربوشى ، إذ به والدم يخرج من يده ، فالدبوس دخل فى يده بأكمله ولم أفق من صفعاته وركلاته إلا عند الناظر ، الذى طلب منى حضور والدى غدا ، لأنه لم يصدق أننى لم أضع الدبوس عمدا أتى والدى .. وكانت مشاجرة بين والدى الشيخ ` فتح الله ` صاح فيه والدى بعنف : ` عاقبه كيفما تشاء لكن لا تخسرنى نقوداً، أليست الخوصة بنقود ؟أليست المكواة بنقود ؟ أليس تركيب الزر بنقود ؟` . لم يلن والدى للمدرس . تفهم الناظر الوضع ، فصاح الأستاذ : `إنه فصل ملعون ، وأنا مسرور لأننى سأرتاح منهم ، سيأتى لهم اثنان من المطربشين من دار العلوم ، أما أنا فحاصل على العالمية التى هرب منها الاثنان الى دار العلوم ، ستكون النتيجة سيئة فلا خبرة لهما بالتدريس ولا فهم للعربية مثلنا .
لم تمض أيام قليلية حتى دخل الناظر الفصل مع شابين أنيقين فى مقتبل العمر ، خاطب الفصل :` منذ الان سيتناوب الأستاذان الإبيارى وهارون تدريسكم حتى نهاية الشهادة الابتدائية ، كنوع من التدريب أولا ، وثانيا لأنهما أخذا على عاتقهما تحقيق التراث الاسلامى والمخطوطات النادرة . هناك توصية من الوزارة ، أن يقوما بنصاب أستاذ واحد ليتمكنا من البحث والدراسة ، تعجبنا أناقة الاثنين ، كأنهما يريدان أن يثبتا أنهما لا يقلان عن المدرسين الإنجليز : منذ تلك اللحظة بدأ حظى فى فهم اللغة أفضل .
قال الاثنان يجب ان ننسى أن لنا منهجاً أو واجبات منزلية ، فهما لن يقيدنا بمنهج لقد اتفقنا مع ` على بية الجارم ` أن يكون التدريس لنا تجريبياً الابيارى كان يبدأ ببيت من الشعر خفيف على مسامعنا يكرر هذا البيت ليسمعنا موسيقاه ورنين الالفاظ فية بعد ذلك يعربة لنا باستضافة حتى نفهم النحو والصرف . يشرحة فى لغة عربية صميمة ليظهر بلاغة هذا البيت موضحاً لنا متى قيل والظروف التى قيل فيها وتطور كلماته حتى أصبحت دارجة فى حياتنا ، يستخدم كل حرف وكل فعل فى هذا البيت فى استخدامات أخرى فى حياتنا الدارجة . تمضى الحصة ونحن مسحورون بهذه اللغة ، وهذا الحب لها والتفانى لإدخالها إلى عقولنا ، لنعرف كيف نستطيع أن نستخدمها ناصعة بسيطة فى كلامنا العادى ، وكيف ننطقها بشكل سليم وكيف ستكون كلماتنا أجمل باللغة العربية الفصحى من اللغة العامية . أما هارون فبدأ بطريقة مختلفة إلا أنها تلتقى مع طريقة زميله فى النهاية . كان مصراً على أننا كى نفهم لغة ونحسها يجب ان ننطقها سليمة جداً . يبدأ باى تصرف أو حركة من طالب فيأخذ الحدث وينطلق محللا إياه وفق قواعد النحو والصرف يدفق فى سبب رفع الكلمة ، ولماذا نصبت ، ولم لفظ الحرف بفم مغلق أو خرج من الحنجرة حتى نشعر معه أن الكلمات أصبح لها معنى وصدى ورنين ، يأخذ كل الوقت فى استخدام اللفظ ومتى يكون ، ثم نبدأ فى استخدام كل فعل وكل حرف وكل اسم .
ارتبطنا بهما وأحببنا معهما اللغة العربية ، جاءت النتيجة فى نهاية العام للشهادة الابتدائية مخيبة لأمل الشيخ ` فتح الله ` إذ كانت درجاتنا جميعا تتجاوز الاربعين وتشرف على الدرجات النهائية- للاسف الشديد لم يستمرا بالتدريس إذ تفرغا لإحياء التراث والمخطوطات ولا أعتقد أن أحداً استطاع سد مكانهما فى تدريس اللغة العربية ولا فى إحيائهما لتراثنا العربى -ذلك أظنة يرجع إلى حبهما للغة العربية وثقافتهما الشاملة لتراث لغة القرآن افتديا العربية بعمرهما وذهبا فى صمت نتسائل لماذا لم تعمم طريقتهما ؟ هل مثل هذه الطريقة تحتاج إلى موهوبين ومخلصين للعربية مثل هارون والابيارى ؟
فى الثانوية كان حظى أوفر، إذ درس الشاعر محمود غنيم لفصلى لمدة خمس سنوات ، كان الطلبة يتهامسون على أنه شاعر مشهور ومع أول موضوع إنشاء وجدته يحتجز كراستى بعد أن وزع جميع الكراسات ونادانى وقال لى بلهجة تنم عن الشك والغضب ` من كتب لك هذا الموضوع ؟ أجبته : ` لم يكتبه لى أحد ` قال : ` اجلس أمامى هنا سأعطيك عنوان موضوع أخر واكتبه أمامى ` بعد كتابتى لصفحة أو صفحتين وجدته ينتزع منى الكراسة ويبدأ قارئاً ويكرش رأسه من الخلف ويدفع طربوشة للأمام كأن طربوشه عمامة ، حدق فى وجهى وبالعنف الذى ، كان مشهوراً به قال ` كنت مخطئاً لكنك حتى لو كنت ابن المقفع ينقصك سيبوية ` ثم دفع الكراسة إلى قائلا ` وعلى الرغم من هذا لك حس خاص بك فى الكتابة ، الا أن أخطاءك فى النحو قللت من شأن كتابتك `
كثيراً ماكان ` على بية الجارم ` يأتى بنفسة لقتش علينا فى المدارس الابتدائية والثانوية ، ويسأل المدرسين والطلبة عن النماذج المختارة التى وضعها فى أسس التدريس ، وهل هناك صعوبة فى تدريسها لدى المدرسين وصعوبة لدى الطالب فى فهمها . عند لقاء الشاعر ` على بية الجارم ` مع الشاعر ` محمود غنيم ` يكون اللقاء حاراً نستمتع فية بسلاسة نطقهما ولغتهما وموسيقى كلامهما ، كنا مميزون بتدريس ` محمود غنيم ` لنا إذ ان قصيدته عن الدبابات الانجليزية التى حاصرت قصر عابدين ، لاقت إعجابا كبيرا وشهرة بالأوساط المختلفة بالقاهرة .
كل من تحدثت عنهم عمالقة أدين لهم كذلك تدين لهم اللغة العربية ومن الصعب أن تجود لنا مصر بمثلهم ثانية خصوصا بعد التغيرات التى لم تكن نتوقع أن تصبح بهذا السوء .
مضى الوقت وحين كنت فى كلية الفنون الجميلة ، وجدت نفسى فى الترام الذى يقطع شارع القصر العينى فوجئت بدخول رهط غريب ـ لم أكن أعلم إن فى تلك المنطقة كلية ` دار العلوم ` التى يدخلها الازهريون الذين يرتدون أن يحولوا مصيرهم إلى تدريس اللغة العربية وأدب اللغة العربية ـ بعضهم يرتدى الجبة والقفطان وبعضهم يرتدى البدلة الافرنجية وقلة ترتدى زيا يسمى ` الكاكولة ` معظم حديثم بعربية فصيحة ويخرجون الالفاظ من مخارجها ، بشكل ذكرنى بنطق الاستاذتين الإبيارى وهارون . فجأة ارتفع صوت أحدى أحد الجالسين فى الترام ببيت شعر فى شكوى الزمان نسيته كلية . لكن ما تلا ذلك اذكره كانه حدث بالامس عند ذلك صاح فية أحد طلبة ` دار العلوم ` ` لا تلحن يا اخى ` لكن الشئ الغريب أنهم اختلفوا فيما بينهم على صحة نطق هذا البيت ، وأخذوا يكررون تفعيلات موسيقية ، استعر النقاش . كدت أنسى ذهب رجل يصيح : ` كفى صراخا وسفسطة وإزعاجا نظروا إلية بإحتقار قائلين ` اللغة العربية هى ديننا ودونها نحن لا شئ ` فإذا بصوت جهورى ينبعث نظرنا ناحيته فإذا به واحد منهم ضرير ، يجلس على مقعد بينهم قائلا : ` إن أردت ياسيدى أن نتحدث بلكنة ` أنكل سام ` أو ` جون بولون ` فعليك بأول الشارع حيث باب الجامعة الأمريكية ، يتسكع علية ساقطى التوجيهية ومن لفظتهم كل الكليات والمدارس ، فوجدوا الملاذ بها هم وخريجات مدارس الاحد والإرساليات ، ذوات الشعر الجعد يحجمونه بالدبابيس فى هذه الجامعة يعالجون بعلم النفس على أنه مريض نفسيا يحتاج إلى تحليل نفسى مغلفين الحقيقة وهى احتياجه الاساسى للرغيف وسيشفى كالحصان . هل هذا ما تريد ؟ أن نغفل لغتنا ونتلعثم فى ألفاظ إنجليزية والنتيجة يخرجون وقد عوجوا ألسنتهم ويخرجون ألفاظاً من أنفهم متحدثين بلكنة أمريكية عامية ، لاهم مجيدين الإنجليزية ولا دراية لهم بالعربية ، ألقى ذلك الرجل الضرير الكلمات بلغة عربية فصحى تختلف عما قلته الان ، فإذا بالترام كله يضج بالضحك . كأن هذا الرجل كان يستنشف ما سيحدث لنا بعد نصف قرن أمضى ذلك الزمن ومضى رونق اللغة العربية مع مضى رونق الحياة وروعة آذان الشيخ محمد رفعت فى الفجر ، وروعة نطقة وإيقاعة السليم للغة العربية ؟ نتحسر على زمن ولدت فية أغنية ` جفنة علم الغزل ` وتدهورت إلى أن أصبحت ` متروحش تبيع المية فى حارة السقايين` . ويا ليت الاغنية العربية وقفت عند ذاك ، بل أخذت تتدهور إلى حد الإسفاف .
خلف مقهى الأمريكين ممر مظلم تباع فيه الاشرطة الهابطة للمغنيين ، فوجئت بإعلان ضخم يضئ فوق رأسى ، فإذا به سته رجال ملتحين يبتسمون كالممثلين والمغنين ، يرتدون البذلة الافرنجية ماعدا اثنين منهم يرتديان جلبابا وطاقية ، تحت الإعلان كتب هنا تباع شرائط الداعية الإسلامى فلان وفلان هل اصبح رجل الدين نجما ؟ لقد اختلطت الأمور ، لم يعد فى حياتناً حدود واختلط رجل الدين بالمعنى الهابط ؟ ولم أبطأت هاجم أذنى خليط من أصوات اختلطت فيها ` نانسى عجرم ` مع آخر يشرح آية من القران ، مع شريط يقرأ القرآن على طريقة الوهابيين . يعلو على الخليط شجار الباعة . رحم الله أساتذة الفقة العظام الذين كانوا يرفضون أن يجعلوا من الدين مادة للتكسب، ويصرون على الجبة والقفطان والعمامة كرمز لقوتهم وعزتهم بالله . أما الآن فقد اختفت الجبة والقفطان والعمامة من شوارع القاهرة ، وانتشر بدلا منها زى غريب على أنه اللباس الاسلامى ، رجال ضخام الجثة يطلقون لحاهم كثة شعثة ، يرتدون جلبابا قصيرا وسروالا يظهر ساقية وأحيانا يضع فى قدمية حذاء مطاطيا كيف تكون كل هذه (( السلطة )) زيا إسلاميا ؟ من قال لهم هذا ؟ متى ارتدى المسلمون الذين فتحوا العالم فى أقل من مئة عام مثل هذه الملابس ؟ لماذا لا تزال كل شعوب العالم مصرة على الاحتفاظ بلباس رجل الدين كما هو ؟ أما نحن .. فلماذا نخجل من تراثنا وماضينا كأنه يجلب لنا العار ؟ لقد اختلط كل شئ النقى مع الملوث .
افتقدتهم .. طلبة الازهر يرتدون الجبة والقفطان يغطون ميدان الاأزهر بعمائمهم الحمراء وأنا فى ذهابى أزقة ` الحسين ` كى أرسم وفى رجوعى إلى مرسمى فى درب اللبانة كانوا فى لباسهم هذا يرمزون إلى شئ يخاطب الاعماق ألا وهو العقيدة ، وحرصهم على اللغة العربية كان طلبة الكليات العليا على الرغم من تفوقهم على طلبة الأزهر فى اللغات ينظرون إليهم نظرة إعجاب فهم يتميزون عنهم فى أشياء كثيرة تعجز عقولهم عن استيعابها كعلوم الاصول والمنطق والفقة ، واستيعاب مالاتحوية المخطوطات القديمة من هوامش كثيرة فطلبة الازهر كما قال عنهم يحيى حقى : ` جزء من زلط رمال مصر ، يملكون المقدرة على تفتيت وصياغة حجارة اللغة العربية وتوصيلها لنا كأنها الوشى ` وما كانوا أقل منا حماسة ووطنية بل هم دائما السابقون للإضراب والاعتصام وتاريخ طلبة الأزهر حافل بوطنيتهم ، فثورات مصر كلها ، بدأت من الأزهر من الثورة الأولى ضد نابليون الى ثورة 1919 كان طلبة الأزهر لا يفوتهم احتجاج صريح قوى فى كل لحظات الضنك التى تمر بها البلد ، بل ربما كانتوا أعنف من طلبة الجامعة خلال إضرابات الثلاثينيات والاربعينيات والخمسينيات . لماذا كان هذا ؟ فهم يشعرون بأنهم رمز للغة العربية والحصن الذى استطاع أن يقف ضد الهرطقة وضد جحافل الغزاة فلا يكمن فصل اللغة العربية عن الموقف الوطنى . وإذ صدر قرار بتحويل الازهر إلى جامعة لا تختلف عن باقى الجامعات ، وأصبح جميع مشايخ الأزهر أساتذة بدرجات جامعية يتسابقون ويتصارعون للحصول عليها ولم تعد للطالب حرية أختيار أستاذة ، إذ كان للطالب فيما سبق حرية اختيار من سيلقنه العلم دون شروط بل على حسب اقتناعة به . وكان الطالب يحدد الاستاذ الذى سيقوم بالتدريس له ، بناء على أن الاستاذ كان لا يحيد عن الحق حفاظا على مكانته بين الطلبة . أما الان فتدخلت عوامل أخرى لاختيار الطالب لاستاذه غير الدافع الذى يحدوه لاختيار الافضل لقى انتهى العصر الذى انتقل فية طلبة الازهر الى منزل استاذ منعه الخديوى من ان يدرس فى الازهر فرجوه مصرين على ان يدرس لهم فى بيته وأخذ يتوافد على منزله طلبته وجموع أخرى من الازهر كنوع من التحدى لأوامر الخديوى وقف الخديوى صامتا أمام حرية الرأى هذا ماذكره الدكتور طه حسين فى روايته الخالدة ` أديب ` الآن من يدرى ماذا سيحدث لو تم هذا الامر ؟ هل اصبح طالب الازهر مشغولا بأشياء أخرى تصرفة فى المستقبل عن قضية مثل أن يقف بجانب استاذه متحدياً من أجل الحق ؟
منذ سنوات جاءتنى فتاه تقول إنها شاعرة ، تريدنى أن أساعدها من خلال علاقاتى ببعض من أعضاء هيئة التحكيم فى التفرغ .
سألتها ` ماذا قرأت ` قالت ` درويش ودنقل وعبد الصبور تعجبت لاجابتها واستدركت : ` والشعر العربى القديم ` لدهشتى كانت إجابتها ` إنه يثير أعصابى ولا أفهم مفرداته ` قاطعتها بسرعة ` أبكل مراحلها فى إصرار أجابت ` أجل ` تمتت لنفسى أتود أن تصبح شاعرة وبصوت خافض سألت `وشوقى وحافظ ` أجابت لماذا أهتم بهما فأنا أكتب الشعر الحر وهم يكتبان شعرا ثقيلا على مسامعى قلت لها ` مثل ماذا ` قالت بلهجة عامية فجة قلبت فيها ` الراء ` لاما ` و ` القاف ` ` كافا ` ريم على القاعة بين البان والعلم أحل سفك دمى فى الاشهر الحرم ` حينئذ أدركت أنها لا تعرف شيئا عن الشعر العربى ولا عن اللغة العربية ، لانها لا تتذكر سوى مطلع أغنية غنتها أم كلثوم ولا تستطيع حتى قراءتها سليمة ، إذا فلماذا أضيع وقتى ؟ فسألتها ` هل تعلمين شيئا عن الصرف والنحت وحوار الشعر وأوزانة ؟ أجابت أنها لم تدرس قواعد اللغة العربية . برما أنهيت المحادثة قلت أنها لن تصير شاعرة إنها تكتب إلا إذا درست بعمق البحور والاوزان والنحو . وقد اتلمس لها العذر فالنماذج التى أصبحت تقر بالمدارس لتعليم مواطن الجمال فى الشعر العربى أصبحت تنفر الطلبة من اللغة العربية بل تنفرنى أنا كذلك ولم يعد هناك أساتذة . وبعد سنوات فوجئت باسمها يتردد فى الصحف كلما تحدثوا عن الشعر ، كأنها ضمن شعراء مصر وذلك لغياب الاساتذة العظام عن الساحة .
رحم الله ` أحمد شوقى ` وهو أعظم شاعر فى العصر الحديث حينما كان يصر على أن يأتى له شيخ أزهرى يقرأ له شعرً عربياً كل يوم ساعتين هذا ما أكدته حفيدته ` ليلى العلايلى ` ورحم الله ` طه حسين ` على الرغم من أنه أزهرى منذ نعومة أظافرة لم يمتنع يوما عن الانصات لمن يقرأ له بالعربية الفصحى فى الاسفار القديمة . ذلك حرصا منهم للحفاظ على مستواهما فى السيطرة على اللغة العربية . هل ضاعت الجدية وتحمل المسئولية ؟
كان ذلك فى ظهيرة يوم من صيف 1964 أسند يحيى حقى ظهرة إلى الحائط وارتكز بيدية على العصا ، بجوار المدرسة التى أعلى السبيل بناصية التنبكشية قال لى ` هل تعرف ياحسن أن الامية ستزيد فى مصر بدرجة قاسية فالتعليم منذ مئات السنين ارتبط بتعليم الدين الفلاح يرسل ابنه إلى الكتاب لكى يتعلم كلام الله ، وبعد ذلك يأتى تعليم اللغة والحساب بالتبعية . فالدين هو القاعدة الشعبية التى تتحرك منها جموع العامة فى منطقة الشرق الاوسط كان الفقية أو شيخ الكتاب يعرف كل عائلة ، ويعرف كل طفل ، فإن غاب طفل ، بعد أن يغلق الكتاب يذهب متطلعا إلى أسباب غياب الطفل ومحاسبة الطفل وأهله . فهو لا يستطيع ان يرفع رأسة فى زقاق الحارة إن لم يستطع أن يعلم طفله . أما المدرسة الالزامية فما الربط والضبط فى أن يذهب الطفل إلى مدرسين أغراب معظمهم أتى من خارج قريته ، الفلاح لن يضحى لمساعدة ابنه فى الحقل إلا أن قيل له إنه سيحمل كلام الله ومن ناحية أخرى ما الوازع والضابط ؟ وما هى حلقة الاتصال التى تجبر المدرس الإلزامى على أن يعلم الطفل فى القرية ؟ إنها فكرة خاطئة جدا الا تساعد الحكومة على استمرارية الكتاتيب ودعمهما بكل الوسائل ، كما كانت فى الماضى مدعمة من ثروات تركت أو من نقود جمعها الفلاحون من أجل الانفاق على الكتاب فتكوينها الاجتماعى والتاريخى المحرك له هو الدين .
تتحقت الآن نبوءة يحيى حقى وزادت الأمية ، وتتزايد فى الوقت الذى استطاعت الصين أن تقضى على الامية كلية .
إن اللغة العربية فى انهيار ، وتركيبة الجمل فى الجرائد المصرية أصبحت أضعف بكثير من صياغة الجمل فى الصحف اللبنانية وهذا شئ مخز ، ولا مقارنة بين الجملة التى تكتب فى صحف القاهرة فى الثلاثينات وما يكتب الآن فى الجرائد كذلك ذهب العظام مثل ` على بيه الجارم ` الذين كانوا يختارون نماذج الشعر ويقررون مناهج اللغة العربية بالمدارس من الابتدائية الى الثانوية وكفت ` دار العلوم ` عن تخريج محاربين أوفياء نزروا انفسهم لنصرة اللغة العربية وإحيائها وبثها فى مشاعر ووجدان الاطفال والشباب كل ذلك انتهى بتحويل الازهر الى جامعة فلم تعد الامتحانات لطلبة الازهر ودار العلوم لها نفس الجدية والقسوة ذاتهما . ولم يصبح الازهر ودار العلوم مصفاة لا يخرج منها إلا كل من كان متمكنا التمكن التام من اللغة العربية . فى الحقيقة أنه لم تعد هناك حتى أمانة جيل طه حسين وجدية ولا جيل من سبقوة وجديته . فقد الادباء المصريون الان صيغة الجملة العربية ونسيجها ، أن طة حسين كان آخر الكتاب العرب فى مصر ، كما كانت أم كلثوم أخر المغنين التى استطاعت أن تنطق اللغة العربية الفصحى والشيخ محمد رفعت آخر من استطاع أن يقرأ القرأن بلهجة سليمة وورع كامل دون تنغيم وزخرف ولا توجد مقارنة الآن بين الأدباء المصريين وزملائهم فى الشام والعراق أليس هذا بعار !
بتحويل الازهر إلى جامعة ، لم تجل بخاطرهم الاخطار التى ستنجم عن هذا فقد كان الازهر موفقا متفردا ، أضف الى ذلك أنه كان أسطورة علم وفكر وفلسفة وكان قيماً على العالم الاسلامى أجمعة . وقد بدأت مع بداية الحكم الفاطمى منذ أن أنشئ الازهر كمدرسة قبل أن يكون مسجداً . فاصبح الازهر قبله العالم الاسلامى كله من أقصى آسيا إلى جنوب روسيا لم يحصل الازهر على هذا الاحترام فى يوم وليلة ، بل من تراكم مئات السنين وجدية أساتذته ووقوفهم مع نصرة الحق ضد كل طغيان ، هذا ما ذكرة المؤرخ الانجليزى ` ستانلى لينبول ` أما الآن وبتحويلة إلى جامعة فلم تعد له هيبته القديمة التى شيدت من تراكم مئات السنين .
هل لنا أن نتساءل : هل انتهى الازهر كأسطورة ومواقف حادة لحماية اللغة العربية والعروبة ومنع التجديف فى الدين تحت ستار التعصب ؟
إن التفريط فى اللغة العربية هو التفريط فى الهوية القومية للعالم العربى كله والازهر كان الحصن الصامد للحفاظ على اللغة العربية والعروبة ـ حتى أنه لم يعد يتدخل فى مضمون شرائط الوعظ وشرح القرآن التى تملأ مجلات الاغانى الهابطة بينما كانت هناك فى الثلاثينات لجنة قوية جدا لها السيطرة على منع المقرئين حتى من قراءة القرأن دون الاصول المورثة لموسيقاها من قرار وجواب وإخراج الأحرف من أماكنها الصحيحة بورع كامل لقد أصبحنا الان نجد بعض المقرئين يلحنون ويخطئون فى النحو ، والأعجب من هذا إنهم خريجو كليات تبعد كل البعد عن اللغة العربية والدين .
هل فقد الازهر هيبته فانتشر المدعون الذين يسمون أنفسهم الاصوليين ، ويرمون إلى تجنيد الدين وتحويلة إلى طقوس بعيدة كل البعد عن بنية المجتمع وتقدمة . هم فى الحقيقة لا يهدمون الدين فقط بل يهدمون اللغة العربية ، فهم ، دون وصاية أو دراية باللغة العربية فكثيرا مايفهم المجتمع الديمقراطية أو الحرية فهما خاطئا فإذ كل مأجور أو موتور أو جاهل يدلى بدلوه فى قضايا فكرية أو فلسفية أو ديدنية أو لغوية لا يعرف عنها شيئا ، قضايا تمس المجتمع ككل هذا ما أدركة صلاح الدين ، الذى أعطى أهمية كبرى لإقامة المدارس كجزء أكبر من الجوامع . بذلك انتشر الأساتذة والمدارس التى تدرس اللغة العربية والدين الحنيف للأطفال وفرسانها منذ نعومة أظافرهم .
وحقبه المماليك كانت كلها عبارة عن فتح مدارس تلو مدارس ، حتى لم يكن هناك فصل بين المدرسة والجامع ، فهى مدرسة قبل أن تكون جامعا هذه الصفة كانت مميزة لمعظم الاثار الاسلامية .
استمرت سياسة صلاح الدين ومن تبعة من السلاطين كحصن متين قوى ضد الغزو الاجنبى ، أهم بكثير من الحصون الحربية التى انشاؤها لأنها دون لغة سليمة ، ، لن يكون هناك فهم لعقيدة سامحة تضم شتات الشرق كله ، ودون العقيدة السليمة لم يكن وازع للمحارب أن يحارب لذلك أصبح السلاطين العظام من أشد الناس تعصبا للعربية والشرق وأستمروا فى غزوات مستمرة حتى قضوا على أعتداء الشرق من تتر ومغول وصلبيين وذادوا عن الشرق أجمعة .
هل انتهت كذلك أسطورة مشايخ الأزهر الذى نصحوا نابليون بأن يضعهم موضع تبجيله واحترامه ، ولم يحدث قط أن رد طلبا لأحد منهم بل كانوا موضع تبجيل منه ويأخذ بمشورتهم أحيانا . هل ضاع الأزهر كمركز لسماحة الدين والوحدة العربية ؟ وأصبحت مصر رمزا للتجديف فى الدين بعد أن كانت منبرا لنشر الفكر السليم ومنارة للغة العربية وظهرت الشعوذة الدينية والفهم الخاطئ للمضمون الاسلامى السليم وعم الجمود الدينى ، وانتشرت الخزعبلات إلى درجة تحطيم النماذج الجصية التى استوردت من فرنسا ، من اللوفر ـ وهى من أسس تدريس فن الرسم إلى الآن فى كل العالم ـ على أنهم أصنام . لو كان الاستاذة حارسين على تأدية واجبهم كاملا لطلبوا من اللوفر نسخا أخرى ، وفى الوقت ذاته ، تزداد دهشتى : لماذا أقاموا تماثيل قيمئة فجأة تعبر عن الجهل وضيق الأافق لميادين القاهرة ؟ ولا نستطيع تمييز ملامح التمثال حتى نقرأ الاسم على القاعدة ، تماثيل مشوهة ، شوهوا عمالقة تاريخنا بينما تتحطم نماذج لتماثيل فنية صحيحة فى كلية الفنون على أنها أصنام .
أليست التماثيل المقامة وفقا منطقهم أصناما كذلك ؟ هذا يدلنا على مدى التخبط الذى يسير فية من يدعونا الغيرة على الاسلام وكان السبب فى هذا أنهم لم يدرسوا اللغة العربية دراسة كاملة وواعية . حتى يستطيعوا أن يحددوا ماهو المحلل وما هو المحرم فتخبطوا . ولم يجدوا مشجبا يعقلون علية أخطائهم سوى الدين أين نحن من حركة التنوير والاجتهاد ؟ التى كانت سببا فى تطوير الأدب والفكر والفن ـ التى بدأها أزهرى درس العربية دراسة سليمة ، ففهم دينه سليما ، واستطاع ان يفرض راية ، وان يقيم الحجج التى لا يستطيع احد أن ينقضها ، وفتح باب الاجتهاد لتعليم الدين السمح ، الذى يبعد عن التعصب الكاذب ، أنه الشيخ محمد عبده الذى كان مصرًاً ومحاربًا وشارساً لإحياء واللغة العربية والدين الاسلامى وتطويرهما . لقد بلغ حرص الشيخ محمد عبده على تقدم مصر ، حين طلبوا منه فتوى لإقامة كلية الفنون الجميلة وإباحة رسم الموديل العارى ، فاخذ على عاتقة أن يكتب مبيحا رسم الموديل العارى ذاكراً أن هذا ساعد على تقدم الحضارة فى الخارج ، إذا فكل ما يساعد على تقدم أمة مباح شرعا إن طلبة الازهر كانوا متقدمين أكثر قبل أن يصبح الازهر جامعة فوفق ما كتبة طه حسين أن طلبة الأزهر جعلوه من الاستاذ الذى اتهم الشيخ محمد عبده وكل من يسافر الى فرنسا بالزنذقة مادة للتهكم فى مجالسهم يوميًا . لقد كان حلم كل ازهرى فى ذلك الوقت هو الذهاب الى باريس ونيل الدكتوراه من السربون لكن مع غلق باب الاجتهاد وتقليص وظيفة الازهر وحجمة كأزهر لا كجامعة انهارت اللغة العربية وفقدت القاعدة الشعبية المنهج السليم الذى ترتكز علية لكى تستطيع أن تبنى معايير اجتماعية واخلاقية سليمة . فكانت النتيجة أن زاد التزمت والتخلف الدينى والارهاب وخلت المنطقة من فهم سليم للتقدم الحضارى والعدل فى المجتمع وابتعد رجال الازهر عن النضال من اجل الحفاظ على اللغة العربية ووحدة الشرق ولم يعد لهم موقف ينهض الحق ويقف لنصرة المجتمع بل هم الان موظفون لا اكثر ولا أقل ولا هم لهم سوى التدرج الوظيفى .
كان للأزهر قيمة ومعنى كبير ، أذكر وأنا طفل أخذتنى أمى لنزور خال أمها الحزينة خال أمها الحزينة ، فوجئت حين ذهابى بحضور كل العائلة ، كان حفلا كبيرا تحقيقا لرغبة أخية الميت الذى أوصى أن يندر ابنه للأزهر ولفقة الدين بعد أن يحفظ القرآن . أقيمت وليمة كبيرة بمناسبة ارتدائة ملابس الازهر ، رغم صغر سنة العمامة والجبة والقفطان يهرول بهم صبيا ، وكل العائلة سعيدة بهذا بينما كان فى استطاعة نقود هذا الرجل الذى توفى أن يذهب ابنه ليدرس بجامعات سويسرا وانجلترا مضى هذا الزمن الذى كانت فية غرة الازهر ووحدة لقوميتنا وتقاليدنا ولغاتنا ولعقائدنا كنا نريد أن نقيم حائطا صلبا ضد شئ خطر يسمى الاستعمار .
فقد الأزهر أهميته واصبح جامعة كباقى الجامعات ، ونسى واجب الحفاظ على تراثنا الفكرى واللغة العربية وأهميتها لتوحيد قوميتنا وصمودنا الافضل ان نبتسم بمرارة
أذكر منذ سنوات كثيرة أن ناصرياً كان يدعى الاشتراكية والقومية العربية فجأة بعد أن جمع نقودا من دولة عربية والله أعلم كيف ؟ تحول مدافعا عن العولمة وعن كل شئ أمريكى ناطقا الانجليزية بركاكة ولهجة أمريكية ، وكأنه لا يعرف العربية . مع أنه كان يذيع بالعربية الفصحى ونسى كل شئ عن جذورة وأصوله ، وإذ به ينقلب فجأة مقلدا سكان نيويورك يرتدى شورتا أحمر حريريا وحذاء مطاطيا ليجرى كل صباح على النيل حيث يقطن. وفى ذهابه ورجوعة كان كلب ينبح مستشارا من شورته الأحمر اللامع ، ولأن الكلب لا يدرك ولا يعرف طبعا عادات أهل نيويورك فإذا به يقفز علية باحثاً عن قطعة لينة فى الشورت الاحمر . وكان الكلب يريده أن يكف عن العولمة أو اى تصرف أمريكى وبعد كل ما قاساة من إحدى وعشرين حقنه مولمة فى بطنة وألم فى قاعدته كف عن تقليد الامريكان فى كل شئ . وتاب عن الحماس لهم وعن تقاليدهم أما ان لنا أن نفتح عيوننا على كل ما يشبة الاستعمار ؟. ام اننا مصرون على ان نظل كالعرائس الخشبية المعلقة بالخيوط تحركها أصابع خفية ؟
حسن سليمان
الاهرام 2014
حسن سليمان فنان الضوء والكتلة
يهبط الضوء فترتجف الكتلة.. يداعب مكانا ما هبط فتستجيب بقية الكتلة ..تتفاعل وتنهض.. ينفخ فيها فتتحرك، ويحتويها فتذوب مفجرة ما بداخلها من طاقات قد لا نراها ولكننا نحسها فى أعمال الفنان حسن سليمان الضوء يضاجع الكتلة ويذوب فيها.. يحرك الكامن فتنبض بالألحان.. الضوء بقوته وعلاقته بالكتلة يشبه العزف بالآلات الموسيقية النحاسية والنفخية مرتفعة الصوت ينعكس علينا بالأنغام وليس بالضجيج .
لم يتعامل حسن سليمان مع نساء لوحاته بمعاير الرؤية الفنية المذهبية فقط ولكنه يراها ملحمة لتاريخ لم تطو صفحاته وجغرافيا ممتدة لأوطان يسكن فيها ويطالعنا بأسرارها تشعر بأن الملابس جزءا من الجسد إنها حالة من التوحد اوجدتها عجينة ألوانه الخاصة بمهارة خبير وقدرات فيلسوف مبدع فنان لا يغازل مفرداته من بعيد ولكنه يغوص فيها وتبادله الغوص فتسحرك بمهابتها وما تضيفه من ثراء جمالى وإبداعى وما تحققه من حرفية فى التوزيع اللونى والضوئى الذى يخاطب النفس والعين وما يدور من أفكار وأحلام يترجمها الفنان إلى حقيقة تجعل من القراءة امتدادات لا حدود لها.
كان اهتمام حسن سليمان بالموديل أمرا فى غاية الأهمية وكان يقول فى هذا الأمر: ` إذا لم يفهم الطالب ويدرك قيمة الموديل وقيمة الطبيعة فلن يستطيع أن يدرك معنى الفن مهما كانت عبقريته فإن الطبيعة والموديل هما البوابة العظيمة للإبداع `
حين تتأمل المرأة فى لوحات الفنان تجدها كتلة من الأحاسيس بالدرجات اللونية والضوئية والإيقاعات المتناغمة ،كل هذا يقيم حوارا بصريا، فيشعرك بأنك بمحراب لرجل صوفى يدعمه اختياراته اللونية وفلسفته الذاتية وفكره الممتد الذى قدم لغة جديدة لحواريه التجريدى مع التعبيرى فى حالة من العشق تجعلك تشعر وكأن الإنتقالات الضوئية تحرك الشكل فينفض فى مشاهد تفاعلية ويستسلم فى مشاهد أخرى فى جو من الجمال .
الملفت أيضا أن الفنان استطاع أن ينقلك من المشاهدة التقليدية من بحث تفاصيل وبنايات العمل للنظر للفكرة التى تطرحها الأعمال ورؤية القيم الدرامية والإنطلاق فى رحاب تجربة الفنان المرتبطة بعلاقات مركبة بين اللون والضوء والمساحات التى تحقق إيقاعات متناغمة تصور معنى الحياة متجاوزة وصفها، فحين تتأمل لوحات حسن سليمان فإنك تراها وتعايشاتها بقدر من الوعى وفى ذات الوقت بقدر من تجاوز المنطق وهذا هو السر الكامن فيها .
ولد حسن سليمان عام 1928 ورحل عام 2008 وحصل على بكالوريوس الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1951 أقام العديد من المعارض واقتنص عددا من الجوائز، وله مقتنيات لدى الأفراد بمصر والخارج وله مقتنيات رسمية بمتحف الفن المصرى الحديث ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية وله أعمال بجاليرى ( جوجونيونا ) بروما منذ عام 1966. واعتزل الحياة الثقافية معتبرا أنها تعج بالشللية منذ عام 1987 وظل ينتج فى مرسمه حتى رحيله .
سامى البلشى
الإذاعة والتليفزيون 2013
حسن سليمان بين صخب الشارع .. وصمت المرسم
ملامح وجه صارمة منحوته ، كتلة رأس مدكوكة فوق بنية قصيرة ربعة ، إذا سارت تسير ببطء حذر باتجاه واحد لا تحيد عنه إلا قليلا واليدان فى الجيبين ،عينان حادتان ، غائرتان ملاصقتان للحاجبين كعينى صقر ، فتشكلان مثلثين من ظل قاتم ، بينهما تقطيبة عميقة لا تفارق الحاجبين كجرح قديم اسفل الجبهة الضيقة التى يعلوها شعر كثيف خشن كجلد القنفذ سرعان ما غزاه الشيب، لكنه - رغم كل ذلك - قد يفاجئك بضحكة طفل برئ لا تخلو من شيطنة ، وهو يدبدب بقدميه عند استرجاعة موقفا طريفا وقع فية أحد الاشخاص ،على ان يكون هو الراوى وليس المستمع ، حتى يبهرك بما يروى !
هكذا يمضى الفنان حسن سليمان ( 1928ـ 2008 ) بلا مبالاة فيما يبدو ، عبر شوارع وسط القاهرة بالقرب من منزله ومرسمه ، اقرب الى شخصية نصفها مكتئب إنسحابى ونصفها الاخر بوهيمى أو عبثى آت من عصر قديم ، كان يعطى ظهرة أغلب أيام حياته لرفاق الفن والثقافة والنضال السياسى ضد الأوضاع السائدة التى لا يكف عن إعلان سخطة عليها ، حتى لو جمعه بهم مقهى أو حانه ، مخلص وجذرى حتى النخاع فى عدائه للإستبداد والتخلف والفساد والانتهازية، بدءا من مجال السياسة حتى مجال الثقافة ، مع حرص شديد على ألا يدخل حرباً ضدها الى جانب المعارضين مثله مكتفيا بالمقاطعة ، يرى أن الانغماس فى العمل العام ليس مهمة الفنان ، لكنه فى قرارة نفسة مرتعب من احتمال الزج فى السجن ، فوق أنه يشك فى دوافع ونوايا من دفعوا أثماناً غالية من حياتهم وأمنهم من أجل ما آمنوا به الشك عنده يتجاوز المعنى الفلسفى / الديكارتى بحثاً عن الحقيقة ، إلى الشك فى النوازع الانسانية فيمن حوله ومن يتولون اى مسؤلية رسمية جارح فى انتقاده لهم حتى السخرية المرة أو السباب ، وأقلها الاتهام بالتعاون مع المباحث ، على العكس تماما مما يبديه من ثقة فى البسطاء .. من باعة سريحة أو جالسين ، ومن عربجية وبوابين ، ومن خادمات وموديلات فقيرات ، واحيانا يولى ثقته لشاب هاو للرسم جاءه ليتعلم على يدية ، بشرط أن يجيد الاستماع والتنفيذ لكل ما يوكله من عمل بدون مجادله .
هؤلاء هم عالمة ، يسعى إليهم فى حوارى مصر القديمة والحسين والدرب الاحمر وعلى مقهى الفيشاوى وميدان السيدة زينب ، تستهويه خاصة بنت البلد الجريئة المتمايلة استعراضاً لأنوثتها وهى على استعداد لرمى نظرة او ابتسامة للمعجب ، بدون ان يظفر منها بوعد .. ما يعنيها هو إرضاء غرورها الأنثوى ، كما تستهوية المراة الشعبية بملابس المنزل الخفيفة وهى تنشر الغسيل خلال النوافذ والشرفات ، فياضة بما وهبها الله من فتنة، تكشف عنها وكانها تزكى عن جمالها .. عندئذ تفيض نفس حسن سليمان بالرضا والتسامح والإقبال على الحياة ، ويصل إلى ذروة التصالح مع نفسة ومع الاخرين . فى تلك اللحظات تتدفق قطعة الفحم الاسود بين أصابعة على ورق الاسكتشات لتسجل أروع لحظات التلاقى الانسانى .. اللحظات الحرة من اى قيد ولو كان فنيا ، تنساب أصابعة على سجيتها مشحونه برعشة الاكتشاف ودهشة المفاجأة وبساطة الفطرة وشقاوة الطفل إذ يختلس اللمس والنظر الى عالم الممنوعات ، او يفرح لأول مرة بمعرفة سر المراة .
تلك المشاهد النهارية المرسومة تحت اشعة الشمس، كانت تحيطها مسطحات شديدة التباين بين النور والظل عبر جدران وشرفات الحوارى والأزقة والأسواق والحقول، تعج بالبشر والخيول والحمير والابقار، وتتبادل المواقع والأدوار ، وتتراقص أحيانا على ايقاعات اجسام الغاديات والرائحات ، ومشنات الخضر والبائعات وعربات الكارو والقمامة ، ودكاكين النحاسين والأنتيكات ، ومشاهد العمل فى الحقل بالنورج والشادوف ، وكل ما تحفل به قاهرة المعز وأحياء العشوائيات وبيوت الفلاحين ، وما يصادفة من حاملات الماء فى الصفائح والقدور من الترع والطلمبات ، ومن مشاهد الحصاد فى جرن القرية . كانت لمساته الفنية- بعد عودته الى المرسم بحصاد العجالات المرسومة بالفحم ـ تحيلها بعبقرية من واقع تقريرى فوتوغرافى مستهلك إلى واقع جمالى مستحدث بقوانينة الذاتية ، فى ايقاعات موسيقية وتوازنات بين البقع والأشكال والنقط والخطوط والألوان والمساحات ، وفى بعض الأحيان ينتقل بهذه العناصر الى عالم خرافى يغوص فى التاريخ المملوكى ، مغلف بألوان رمادية / ترابية أو بدرجات الاخضر الجنزارى العتيق فى عجائن زيتية سميكة . اللوحة هنا لا تستمد جدتها من لغة الحداثة المستعارة من الفن الأوروبى بل من المفارقة بالغة التناقض بين هذا الواقع العتيق وبين العصر الحديث ، برغم كونها جزءا عضويا من الواقع الراهن هذا مع التسليم بانه اخذ من لغة الغرب الكثير وأبرزهم الفنان الايطالى مارينو مارينى ، خاصة فى لوحاته التى رسم فيها الزجاجات الفارغة وأظن أنها كانت تتم فى لحظات فقدان التصالح بداخله مع الذات والبشر والطبيعة ، حيث يرتد إلى الداخل : داخل صمت مرسمة وداخل عتمة ذاته ، فيعكف على رسم تشكيلات لا نهاية لها من هذه الزجاجات بين العتامة والشفافية ، يشكل منها غلى قطع القماش أو السيلوتكس ، تكوينات توحى بالأشخاص وهم يتحاورون او يتخاصمون أو يعانون الغربة .
وقريبا من هذه الحالة كان ينغمس فى رسم عشرات اللوحات للأوانى الفخارية الشعبية فى تكوينات متنوعة وتحت أضواء مباشرة من مصباح قوى ، تلقى ظلالاًعلى الأرضية التى تثبت فوقها فيصنع بذلك حواريات بصرية بين النصاعة والقتامة وبين المجسمات والمسطحات ، وقد يكرر نفس التكوين بنفس العناصر مرات ومرات ، مع اختلافات لا تكاد تلاحظ ، كتحريف طفيف فى كادرات رسوم أفلام الكرتون المتجاورة ، وتحار فى فهم الدافع لهذا المجهود وللوقت الطويل المبذول فى رسم كل تلك اللوحات المتشابهة بغير ملل حتى تظن انه يجاهد بحثا عن سر غامض من ورائها بغير طائل ، وكأنما يكمن السر داخل الظلال الكثيفة لتلك الأوانى الفخارية ، أو داخل كتل الطين قبل ان تتشكل بين يدى الحرفى فوق الدولاب الدوار ! وقريبا من هذه الحالة كذلك ، كان ينغمس فى رسم الموديلات العاريات من بنات قاع المجتمع، جاعلا منهن أشكالاً أقرب إلى الأوانى والزجاجات ،فى حالة من الجمود والثبات ، تكسو أجسامهن السمراء الشاحبة ظلال كثيفة تخفى انوثتهن وملامحهن الانسانية الا من شطفات ضوء على حافة الرأس والأنف وبعض اعضاء الجسم ، هكذا يبتعد تماما عن دوافع الغريزة او تجميد الجسد الانسانى ، بل يبتعد حتى عن الإحساس بالقهر الإنسانى للفتاه البائسة التى دفعها العوز للجلوس أمامة عارية كالتمثال لساعات متصلة ، ويقترب من حالة النفى او الانطواء او التشيؤ او الانسحاب فى جو من الصمت المطبق ، على العكس تماما من حالة فتيات الحوارى والاسواق وحاملات القدور ، وهن مستحمات بضوء الشمس !
فى كل من حالتى رسم الزجاجات والأوانى ورسم العاريات ، لم يكن شاغلة الأساسى فيما أظن هو البحث عن المعانى والمشاعر الإنسانية ، بل كان هو البحث عن سر ` الشكل ` عن الكمال والجلال الكافيين فيه عن ` روح الشعر ` المنبعثة منه لحظة الملامسة بين شعاع الضوء الشاحب القادم من بعيد ، وأسطح الكتل وهى تتناغم بين العلو والخفوت ، والمنبعثة كذلك من علاقة الأجرام بالظلال المولودة منها ، وهى ترتمى إلى جوارها او على جانبها الذى لا يصلة الضوء ، محدثة إيقاعا نغميا كانسياب الانغمام الوترية ، أو صدمة درامية صاخبة كدقات الطبول .
أليس هذا هو العالم النفسى للفنان حسن سليمان القائم على التناقض بين صخب الحياة فى الشارع وفى أحضان الحياة الشعبية، وبين الميل إلى الصمت والعزلة والانطواء على الذات ؟ ألا نستشعر فى الأولى وهج المحبة والتواصل مع الاخرين وعشق المغامرة الإنسانية الساعية إلى الذوبان فيهم، ونستشعر فى الثانية خوفا من هؤلاء ` الآخرين ` ورغبة فى التعويض عن دفء الجماعة ، بمصادقة الجمادات المطيعة للتشكيل زجاجية كانت أو فخارية- وبإخضاع دفق الحياة فى أجساد العاريات لسيطرة الرغبة فى امتلاكها وإبقائها فى حالة سكون مستلب الحياة والإرادة ؟
مأساة حسن سليمان تكمن فى أن هواه كان مع فكر اليسار وقواه المعارضة للنظام السياسى والمناضلة من أجل التغيير فيما هو عاجز عن الالتحام بها والتضحية فى سبيل ما يؤمن به ، كما تكمن فى أن هواه كإنسان هو أن يعيش الحياة ويعب من خمرها وعسلها ، فيما هو حريص ـ فى ذات الوقت ـ على الا يبتل ثوبه فى نهرها المتدفق وألا يدفع فواتير تجاربه مفضلاً السير على هامش التجارب بعيداً عن مجراها العميق، وأخيراً .. اراها ـ على المستوى الجمالى ـ تكمن فى أن تكوينة الفنى كان تكوينا أكاديميا صرفاً وأن مهاراته التقنية كانت تؤهلة للمضى فى هذا الاتجاه ، فيما كان يتمرد علية ويبحث عن صيغة حداثية معاصرة تبزغ أمامة أحيانا كعروق الذهب بين كتل الضخر ، لكنة يحاول استخلاصها بنفس الأدوات الأكاديمية ، بدون امتلاك القدرة على الإطاحة بها واستحداث أدوات جديدة .
والحق أنه حاول أكثر من مرة أن يفعل ذلك، ولدينا بعض الشواهد من أعماله يحاول فيها اللعب ` بالشكل ` المجرد، أو الاقتراب من التأمل الميتافيزيقى ، كلوحة الإانسان النائم عاريا فوق قمة جبل فى جو أسطورى ، ولوحة ` النورج ` وهى إحدى عيون الفن المصرى الحديث وتحمل ظلالاً ميتافيزيقية لفكرة الدوران الأبدى للثوريين فى مدار عبثى بغير نهاية حول تل القمح ، ويبدو الإنسان فيها نقطة ضائعة فى الفراغ ، وهناك لوحة الشاب ذى الدراجة المحطمة، ولوحات للفتاه المنتظرة فى الشرفة لقادم مجهول لا يجئ .. كما ان لدينا تجاربة فى الرسوم الصحفية بمجله الكاتب فتره الستينيات والسبعينيات ، التى استعان فيها بأسلوب الكولاج لعمل تكوينات تجريدية ، وتجرأ من خلالها باستخدام مسطحات لونية قوية يحاكى بها الأساليب التجريدية الغريبة .. إلا ان المحصلة النهائية كانت فى صالح الأسلوب الواقعى المباشر ، وهو الرسم بالنسب التشريحية والتجسيم الاسطوانى بالإاضاءة . واختيار وضع الجلسات الثابتة ، والألوان التى لا تكاد تبتعد عن ألوان الواقع المرئى .
لقد كان حسن سليمان مؤهلاً ـ اكثر من غيرة من فنانى جيلة والأجيال التالية ـ ليقود حركة تغيير قوية فى مسار الفن المصرى الحديث ، بثقافته الواسعة مترامية الأبعاد واقترابه الحميم من فنون وإبداعات أخرى مثل السينما والمسرح والكتابة والنقد , واتصاله المستمر بالحضارات الإنسانية واستيعابه لفنونها والأهم من كل ذلك ، بهضمة لمعنى الأصالة والمعاصرة وبضرورة البحث عن مدرسة مصرية للفن الحديث ،واستطاع بذلك كله اجتذاب كثير من الفنانين والمثقفين حوله ، وإن يكن على حذر، غير أن الدائرة لم تكتمل قط بينة وبينهم وكنت شخصيا أحد هؤلاء فى فترة مبكرة من حياتى الفنية ، لكننى ـ كأغلب الأخرين ـ لم أستطع الاستمرار ، بسبب تلك التناقضات النفسية التى أشرت اليها آنفا ، وبسبب حرصة الدائم على إقامة منطقة شائكة عازلة بينه وبين الآخرين ، ورفضة المطلق للتعاون مع أى مؤسسة رسمية أو مع أى من رموزها الشرفاء، بما يجعل من محبية ومريدية خونة له لو تعاونوا معها أو بحثوا لأنفسهم عن مكان على أرضها وكأنها ليست أرضا لكل المصريين لا لأعداء الوطن .
ومع ذلك ، فإن بوسعنا القول أن تلك التناقضات النفسية الحادة بداخلة هى التى أنتجت لنا رصيده الغزيرمن الإبداع حتى اواخر السبعينات من القرن الماضى ، بشقية التفاعلى مع الحياة والواقع،والآاخر المنعزل عنهما فى ظلال مرسمة المطل على نادى القضاة بوسط القاهرة ، وكلاهما يمثل إضافة خصبة بلاشك لتاريخنا الفنى الحديث، وأظن أن ما قدمه بعد ذلك من أعمال كان بمثابه إضافات كمية وترديدات مستعادة لنفس ألحانه القديمة ، باستثناءات قليلة مثل معرضة بقاعة الهناجر فى التسعينيات الذى يدور حول الفتاه التى تنشر الغسيل فوق السطوح ،ويبدو فى اللوحات نوع من التزاوج بين مرحلة تصوير الحياة الشعبية ومرحلة رسم الموديلات فى المرسم.
عز الدين نجيب
جريدة أخبار الأدب- 2014
فى معرض بقاعة بيكاسو حسن سليمان .. فيلسوف اللوحة الأخير
فى الطريق إلى ميدان البرازيل بجزيرة الزمالك ` بيت الفن فى القاهرة ` وقف الصمت على أول الشارع ، فأمسيات يوم الأحد يليق بها الصمت، بسبب إجازة بعض المحال، وربما تضامن الموقف مع الطبيعة الصامتة التى يتجلى فى رسمها الفنان ` حسن سليمان ` وعرضها جاليرى بيكاسو، لمحبى الفن فقط جاء المعرض الذى ساهم الفنان ` سمير فؤاد فى إعداده ليعيد لفيلسوف اللوحة المعاصرة وشاعر الرسم الصحفى دور الأستاذ بعد أن حرمت أجيال من فنه بعزلته الاختيارية قبل ان يفارقنا سنوات طويلة.
تنوعت أعماله مابين الواقعية التعبيرية والرمزية فى ملامس حوشية خشنة لافحة الضوء وفى مرحلة وصلت الى التجريد ولأن حسن سليمان كان شاغله ولحنه الأساسى فى أعماله من البداية تلك الثنائية الشاعرية من النور والعتمة والشروق والمغيب.
فى عام 1971 عرض ` حسن سليمان ` لآخر مرة فى قاعة عرض رسمية ` اخناتون ` بعد هذا المعرض دخل فى عزلة كاختيار ذاتى ، ليغلق عليه مرسمه بوسط المدينة الصاخبة القاهرة ، على طريقة من ضيق واسعا، مكتفيا بدائرة ضيقة من الأصدقاء والمعارف، ومع ذلك أخباره فى عزلته لم تسلم مع الخلافات مع أقرب المقربين، عزلة ` حسن سليمان ` حيرت ناسا كثيرة، البعض ارجعها إلى أسباب خاصة، وآخرون برروا العزلة بالشأن العام، حيث أغلق الرئيس ` السادات ` 50 مطبوعة دورية، ومنها مجلة ` الكاتب ` التى تألقت على صفحاتها رسوم ` حسن سليمان `.
وإذا كانت عزلة جمال حمدان قد أفرزت كتابه ومرجعه الضخم ` شخصية مصر ` فقد كانت عزله حسن سليمان مجانية، تراجع فيها عن أفكار ومنطلقات ثورية، ومفاهيم تقدمية شغل الناس بها ردحا وعقودا من الزمن، فقد ضاعف ` حسن سليمان ` باختياره البعد عن الحياة الفنية والثقافية، من عزلة مجاله وعالمه والفن التشكيلي عموما ، وطرح بديلا من الصعب تعميمة على الكافة، رغم وجودة قسرا.
لذلك عندما يأتى ذكر ` حسن سليمان ` فى الأوساط الثقافية ، يثير عاصفة من الجدل، والاختلاف والنقاشات ، مابين مؤيد للعزلة، باعتبارها خطة هروب من واقع صعب، وفريق مدافع عن فكرة تواصل وتفاعل واشتباك الفنان والمثقف مع الواقع، لقد فقدت الحياة الفنية فنانا تشكل وعيه فى اربعينات التحولات ونشاط الجماعات الثورية، فنانا تفاعل مع خمسينات الثورة ، حيث عمل مدرسا للرسم بالجامعة الشعبية للهواة ثم فى الثقافة الجماهيرية، وارتبط بدوافع الانطلاق فى بداية الستينات الى واقع تقدمى جديد، وعاش وعاصر الانكسار فى عام 1967، كل ذلك على نحو ايجابى، لكنه بعد عطاء فعال، ختم حياته منعزلا وحيدا بعيدا عن الدوائر، مكتفيا بالتنفس تحت الماء، حاله حال أغلب الفنانين التشكيليين الذين يختتمون حياتهم على نحو سريالى.
وهو ما عبر عنه صاحب كتاب ` حرية الفنان ` بقوله : ظاهريا قد يبدو الفنان ممتلكا لحرية التعبير .. لكنه فى حريته هذه أشبه بالمهرج الذى يسير على الحبل تحت خيمة سيرك كبير، وكثيرا ما يشعر بنفسه فى علاقته بالمجتمع كفريسة فى براثن حيوان مفترس قد ينفد صبره فى لحظة ويلتهمها.
ويمكن تفسير لجوء ` حسن سليمان ` الى العزلة عبر وجهة نظره حين قال: وهنا تتضح لنا المرارة التى ألمت بالمفكر نيتشه حين بدأ يكتب ` هكذا تحدث زرادشت ` ونجد المبررات التى دفعت مايكوفسكى للانتحار أثناء مناهضة ستالين لحرية الفنان وفرديته، وكنت فيما سبق لا ألتمس له العذر حين لجأ الى الانتحار ليتجنب هذا الصدام، لكننى عذرته بعد أن قرأت كلمات قالها وهو فى متحف اللوفر حين ترك اللوحات المعلقة ثم نظر من النافذة إلى الطريق وصاح: هذا هو أعظم الأعمال الفنية بجانب شريحة صغيرة من الحياة يكون مستحيلا عليه تحمل الضغط والقهر اللذين يفرضه عليهما أى نظام سياسى واجتماعى أو يفرضه إنسان تحت أى دعوى من الدعاوى التى لا تنتسب إلى الكامن فى أعماق الفنان.
نعود إلى معرض الفنان الذى احتضنته جدران قاعة بيكاسو برفق، حيث جاء فى مستويين ، الاول: مجموعة لوحات للطبيعة الصامته، التى تميز بها ويعد مهندسا بامتياز، بل ينفرد بها طوال القرن العشرين، لم يستطع أحد ان يسبقه فى الضوء والقدرة على التوازن ودسامة اللون، والدراما التى تشى بمضمون يتجاوز وجود عناصر فى موقف قبض عليها الفنان لتصبح اسرى لقطة خالدة.
أما المستوى الثانى : فهو مجموعة لوحات رسم بالفحم، للمنظر الطبيعى على ضفاف النيل الخالد، وهى المجموعة التى قد تكون مشروعا للوحات زيتية، ومع ذلك تجلت فيها قدرة ` سليمان ` على التضاد اللونى الصارخ، فى الوقت الذى احتفظ بدرجات الابيض والاسود والبنى على نحو درامى مثير.
وعلى نحو استثنائى قدمت قاعة العرض مجموعة فنية لفنان متميز، ويقال ان الأعمال ليست للبيع، فى الوقت الذى تعد هى آخر اعمال الفنان، ولم يمهله القدر الى التوقيع عليها.
ميلاد فى الشمس
مع صباح يوم لفحت فيه شمس 28 أغسطس ، منارات وقباب حى السكاكينى العريق ، وسط القاهرة ، خرج حسن سليمان من رحم مجتمع كوزموبوليتانى يجمع بين الأرمن والطلاينة والجريج فى محيط واحد، خرج فى غير موعده ، ففى الوقت الذى كان يستعد فيه للخروج والنور، الذى ظل يبحث عنه طوال حياته ليضمه إليه فى محبسه، عنصرا أثير فى لوحاته بعد ذلك، استقبلته الحكيمة اليهودية الايطالية بين يديها صارخا باكيا من لقائه بالحياة، وغادرت على الفور إلى إيطاليا، لزيارة أهلها، وعادت بعد أسبوعين من مولده لتثبت فى شهادة ميلاده تاريخ 14/9/1928. ومن لايعرف حى السكاكينى ، فهو يتشابه مع احياء روما باعتباره متحفا مفتوحا ، تتعدد فيه الطرز المعمارية الأصلية، ذات التشكيلات من الكرانيش والبوابات وفوانيس الإضاءة. نشأ الفنان الصغير مع أبناء أسرة السيوفى والمغربى الوحيدين فى الحارة، أما باقى السكان فكانوا خليطا من مختلف الجنسيات.
على عادة الطبقة المتوسطة المصرية الناشئة ` البرجوازية ` التى يميل فيه الابناء الى اسرة الام أكثر من اسرة الأب، اتخذ الطفل حسن من خاله عالم الآثار الكبير أحمد فخرى ، مثلا اعلى ، ففى منزل خاله شاهد ولمس بيديه البرديات القديمة وأوات الزينة الفرعونية، وكانت دهشته الأولى عندما كان فى الرابعة ودخل مع خاله فى مقبرة اكتشفت حديثا .. كانت الظلمة تغمرها وفجأة مع ضوء عيدان الماغنسيوم فوجىء بحائط المقبرة يموج بالرسوم الفرعونية، وكان خاله يصحبه الى مقابر الأسرة الرابعة، ومن كثرة تآلفه مع الآثار كانت لعبة الأطفال بالنسبة له ماتخرجه الحفائر من أوان فخارية، وتماثيل وآثار قديمة.
قبل أن يتم عامه الثالث عشر كان قد انتهى من قراءة أعمال طه حسين فى ذلك الوقت كما تأثر بكتابات المازنى خاصة فى `خيوط العنكبوت ` بالإضافة إلى هذا كانت أسرته مولعة بالثقافة والفن.
وفى الوقت الذى كان فيه الضباط الأحرار فى عام 1952 يستعدون لخلع الملك فاروق والإعلان عن حركة الجيش، تقدم الفنان الشاب حسن سليمان بلوحاته الى قاعة إخناتون لعرض أعماله، فى واحدة من أهم قاعات عرض الفنون، فقد كان حلمه دراسة الآداب قسم اللغة الانجليزية، لكن كان لوالده صديق يدعى لطيف نسيم وهو فنان عصامى درس فى إيطاليا فأشار عليه أن يلتحق بالفنون الجميلة، وبالفعل تقدم الى امتحان القبول بكلية الفنون الجميلة، ليرسم تمثال يوليوس قيصر بمادة الفحم ثم مسحه بقطعة من القماش فأصبح طيف رسم فحصل على الدرجة النهائية والتحق بالكلية عام 1947 وهناك شجعه أستاذه بيكار تشجيعا كبيرا.
على الرغم من أن حسن سليمان صور نساء العطوف والجمالية وباب النصر، إلا ان لوحاته يقتنيها نساء وسط البلد والأحياء الراقية، فى معادلة عصية على الفهم فى زمن الانفتاح، وما بعد الحداثة، وان كان رسم أيضا أولاد الذوات على نحو جديد وأسلوب ينفرد به، فقد اتخذ من صور النساء مجالا جديدا لدراما الشكل، على عكس الرعيل الأول الذى اتخذ الأسلوب التسجيلى، أو الانطباعى، أو التأثيرى على الطريقة الأوروبية. فقد تجاوز إسهام الرائد أحمد صبرى صاحب لوحة الراهبة، الى فضاء التعبيرية الرمزية، على الاقل من ناحية الطرح الايديولوجى، فقد نزح صبرى الى اسلوب شفاف لايمثل نسبة من الواقع، فيما حاول سليمان الاقتراب من القاع سواء من حيث اختيار الموضوعات او طرق الصياغة خاصة الألوان.
فمن يتأمل، أو حتى قبل أن يتأمل ومن أول نظرة يكتشف المشاهد حب ` حسن سليمان ` لحارات القاهرة الفاطمية وشوارع الجمالية وحوش قدم وشارع المعز ومراسينا وجامع السلطان حسن والأقمر والأنور وأبى الدهب، بل تبين للكافة ترجله الى ساحل أثر النبى ليستقل المراكب الشراعية.
على الرغم من اننى شاهدت لوحة تجريدية فى مكتب المعمارى الراحل جمال بكرى، تكشف عن مرحلة تجريدية، تمكن فيها حسن سليمان من الشكل والمساحة واللون، على نحو فريد، الا أنه ظل طوال حياته يعشق الطبيعة بمختلف تنوعها، حتى الطبيعة الصامته، والاوز والحمام، لكن حبه الاثير كان للورد والزهور، ربما لانها تقدم له معادلة صعبة تجمع بين رهافة الطبيعة، وحبه الدفين للتجريد، فقد جاءت الزهور فى لوحاته كأنها مساحات لونية تقام الطبيعة.
فى عام 1951 تخرج حسن سليمان فى الفنون الجميلة .. كان مشروع تخرجة حول : ` عرب المحمدى ` وصور المباراة النهائية للتحطيب .. ورواد المولد من الطبقة الكادحة والصعايدة .. وبعدها أصبح شاغله قاع المدينة .. وبدأت رحلته تتأكد مع الأضواء والظلال .
ومن هنا تنوعت أعماله ما بين الواقعية التعبيرية والرمزية فى ملامس حوشية خشنة لافحة الضوء، وفى مرحلة وصلت الى التجريد، ولأن حسن سليمان كان شاغله ولحنه الأساسى فى أعماله من البداية تلك الثنائية الشاعرية من النور والعتمة والشروق والمغيب .. فقد جاءت لوحته الشهيرة النورج 1962 متحف الفن الحديث صورة لقوة التعبير، توجهت بالمسطحات اللونية خاصة تلك الحلقة الدائرية والتى تمثل جرن القمح . .
- وفى تلخيص واختزال شديد ومن فرط الضوء الأبيض .. هذا مع تنوع السطوح الأفقية متمثلة فى انبساط الأرض واتصالها بالأفق .. وفى تحليله للحيوان المتمثل فى زوج الثيران الذى يجر النورج .. اتجه الى الأسلوب التكعيبى حتى يتناغم مع الهندسيات فى الخلفية.
- اللوحة تجمع بين الصمت والسكون لكثافة العناصر وثقلها .. ورغم هذا نستشعر ملامح حركة النورج البطيئة والتى تؤكدها الحركة الدائرية للضوء.
- وربما جاءت لوحته الثانية ` العمل 1970 متحف الفن الحديث ` فى هذا الاتجاه أكثر تأكيدا على قيمة عنصرى الضوء والظل فى تحديد الشكل والكتلة .. تصور عاملا يقف على ماكينة خياطة .. يتوحد معها .. ومن فرط التوحد تنساب الظلال بينهما فلا يبقى الا مسطحات يشكلها الضوء الباهر تحد الشكل الذى يبرز من الأمام أشبه بالتمثال النحتى.
ورغم أن حسن سليمان قدم أعمالا عديدة فى هذا الاتجاه الذى واكب الثورة، إلا أنه لم يسقط فى دائرة المباشرة أو الدعائية .. وذلك لأن الفن فى مفهومه لغة واحتواء واتصال إنسانى أولا وأخيرا.
ومن هنا جاءت أعماله التالية انعكاسا لهذا الاتصال الإنسانى .. فقد سكب قنينة أضوائه وظلاله ورمادياته على سطوح لوحاته والتى نقل فيها كل ما أحبه ورآه بقلبه وسمعه بعينيه من أماكن وزوايا ومساحات لقاهرة المعز ومن زهور وطيور مع كائناته من الطبيعة الصامتة والتى خرجت من خاصيتها المادية الى حالة معنوية فى الزمان والمكان ونور المرأة المسكونة فى الظلمة.
جمع حسن سليمان بين قدرة فيلسوف على الاختزال والبلاغة ، والاقتصاد فى السرد ، فى جميع أعماله الفنية ، فى نفس الوقت مع عطاء وإسهام ثقافى ، تمثل فى كتابات عن الفن وتاريخه ومناهجه وأيضا الرسم الصحفى مجلة الكتاب ، وإصدار مطبوعات فنية ، فقد أسس مجلة جاليرى عام 1977 ، وتمتع خطابه بثراء فى طرح القضايا الأساسية فى العملية الإبداعية ، كما اتجه الى التنظير فى الفن من خلال إصدار عدة كتب منها : كتاب ` حرية الفنان ` 1980، الحركة فى الفن والحياة ، كيف تقرأ صورة ، سيكولوجية الخطوط ، كتابات فى الفن الشعبى 1976 ، سيكولوجية الحركة .
وما زالت الأسئلة معلقة فى سماء معرضه بالزمالك حتى الآن ، تستعصى على البوح ، حتى لو ظهر منها جزء فى رواية ` رمال متحركة ` لدرية الكردانى زوجته.
سيد هويدى
القاهرة 2016/12/13
حسن سليمان .. أسطورة الضوء والظل
- مثلما عاش فى صمت بعيدا عن آلة الإعلام وجماعات النقد، وبريق الأضواء، التى نأى عنها جميعا ، بمحض إرادته ، يقينا فى قيمة الفرد والفن، رحل الفنان التشكيلى المصرى الرائد حسن سليمان (1928- 2008) قبل شهرين، فى صمت، بعد ثمانين عاما من الحياة الحافلة بالتجارب الفنية العظيمة، وبالخبرات الحياتية التى عمقت مسيرته الفنية، واثرت فى أجيال عديدة لاحقة. حسن سليمان الذى ابى أن يضع فنه أداة فى يد الدعاية الإعلامية أيا كانت، ونفى نفسه إلى الظل، مستظلا بفنه ، قرر أن يصنع أسطورته الخاصة، وبينها فكرته الفريدة عن الضوء والظل، وتجويد اللوحة برسم المشهد نفسه مرات، لاكتشاف الإمكانات التى تحققها كل لوحة بصريا ووجدانيا. و` العربى` إذ تنعى الفنان الراحل الكبير فإنها تتمنى أن تقدم بهذا الملف باقة ورد لروحه، وأن تمنح للأجيال الجديدة شعاع ضوء إلى طريق فنان كبير، سيظل أثره باقيا ما بقى الفن.

- حسن سليمان.. المعنى.. فى قلب الفنان
- لم يكن قد تجاوز العشرين عاماً، يجرى مرحاً على الدرجات المؤدية إلى درب اللبانة، حيث كان مرسمه ، كان يسميها درجات الحياة ، يبتسم، يركل الحجارة ويطاردها، فى ذلك الوقت، كان يؤمن أن الفنان أو الشاعر، يجب أن يعيش ويسعى على أحلامه، وأن امتلاك الأحلام لا يحتاج إلى شئ ، وأنه هو ورفاقه سيغيرون العالم والمجتمع والحياة والفن، كان يحلم دائماً بوجه امرأة يغسله الضوء، وجه مسطح جميل بلا أغوار، فوقه شمس قوية شرسة.
- فى ذلك الحين، كان يملك المقدرة على تحويل كل شىء ، حتى الحب الفاشل إلى حلم بسيط جميل يسعد به، فقد كان يظن أنه يملك غده، ويثق فى كل فجر آت.
- والآن هو بلا آمال، يحن هذه الليلة للذهاب إلى المقهى ليقضى الوقت يتناقش ويعبث بكوب بين أصابعه، ومثل هذه الرغبة، كانت تعتريه وهو ضغير، أوشك على إتمام لوحة، لكنه اليوم بدلاً من الانطلاق إلى الطريق، سيغلق على نفسه الباب مبكراً، فالمقهى لم يعد كما كان، ولا ` المناقشات ` ولولا عزلته التى يعيشها بمحض إرادته فى القاهرة المزدحمة بالملايين، ما كتب هذه الأسطر، فهى مجرد كلمات وأفكار، وربما فى ظروف أخرى كان سيطرحها للمناقشة مع صديق يثق به، أو يفاتح بها مجموعة من الرفاق حول منضدة فى مقهى، وإن ذهب الأصدقاء بعيداً صاغها لهم فى خطابات تحمل مشاريعه وأحلامه، فلا وجود لفنان يرغب فى تجميد أفكاره، وأحلامه فى كلمات . لكنه الآن قد أغلق على نفسه نهائياً، ولا مفر من أن يكتب محدثا نفسه.
- لاتزال اللوحة التى رسمها منذ أيام موضوعة على الحامل، إن الفنان لا يملك القدرة على تحديد أى لوحة من لوحاته أفضل من الأخرى، وأيها ستحوز رضاء الغير، وأنها مع الزمن سوف ترتبط بالناس أكثر فأكثر، وهل سيكون فى مقدور الآخرين فهمها، أو بالأحرى الشعورٍ بها لتربطهم بقيمهم وإيقاعهم فى الحياة ، غالباً ما يرتاب الفنان مع إتمام اللوحة فى أنه بذل قصارى جهده وحقق كل ما كان يصبو إليه، فالعمل الفنى كما يبنى على حقائق، تبنى جوانب منه على زيف، يحمل جانب الصدق كما يحمل جانب الكذب، لذا فمن الصعب عليه أن يعرف ماذا تعنى لوحته ، فقد تستثير الناس لفترة ، ثم تفتقد أهميتها بعد عشرين عاماً، وقد يحدث العكس، لكن هناك شيئاً واحداً يثق به الفنان ويستطيع التصريح به، إنه يتحتم عليه أن يملك الشجاعة كى يواجه من حوله، ومن سيأتى بعده بشجاعة، يجب أن يعترف بكل شئ ، حتى بأكاذيبه وبعاره ، وأن يكشف ورقة كاملاً فى صوره، لكن كثيراً من الفنانين لا يملكون هذه الشجاعة، ولا يستطيعون مواجهة الآخرين إلا وراء حيل رخيصة من الصنعة ، ووراء أكاذيب أخرى، كالتمسّح بعقيدة أو الدعاية لقضية ما.
- مختارات من كتاب `حرية الفنان` للفنان حسن سليمان
- كلما وعيت أكثر، قرأت أكثر، رأيت أكثر، احتقرت نفسى، فأنا لم أفعل شيئاً، ولم آت بالجديد بالنسبة لإنجازات البشرية عبر آلاف السنين، وبالرغم من أن حياتى الفنية مملوءة بالصراعات والتغيرات، وفرضت على معارك حتمية حددت مسار حياتى، فإن الفن ظل هو الملاذ الوحيد، كلما وعيت ضد هذه التغيرات والصراعات، وكان صمودى هذا نتيجة تربية اعتمدت كثيراً على الثقافة، وأدين أيضاً بهذا الصمود إلى رفاق وأصدقاء كانوا بجانبى لمساندتى، لا أنسى دور أساتذتى كلهم بدءاً من جدى، خالى، بيبى مارتان، ولى الدين سامح، يوسف سبيع ويحيى حقى، أدين لهم، وكنت بجانبهم لا شئ، كما تعلمت من رفقة صعاليك وسط البلد ماروتى، بسطورس، ألبير قصير، تجاربهم فى الحياة كانت عميقة وعريقة جداً، وكنت من الذكاء كى أتعلم منهم.
- وكان لمجموعة من حزب السعديين - التى تقبع فى ركن من بار `سيسيل` - دور مهم فى تشكيل شخصيتى، لقد تعلمت منهم الحصافة والإيماءة السليمة للكلمات والتهكم اللاذع الذى يصل إلى القتل، وأن الذكاء هو كل شئ وأن المرء لا يملك الذكاء إلا بالانضباط والممارسة الطويلة ، تلك المجموعة كانت تضم توفيق بيه عمر، عبد المجيد باشا بدر، عبد الحميد باشا عبد الحق، على بيه أيوب ، ومحمد بيه عبد السلام ، وكنت أجلس بجانبهم أتتبع دون تدخل قفشاتهم بعضهم بعضاً، وتنبؤاتهم بالمستقبل بناءً على خبرتهم السياسية والاقتصادية ، كم كنت أحسدهم على تهكمهم، ووثوقهم بأنفسهم بالرغم مما حل بهم .
- خالى الدكتور أحمد فخرى قال لى : ` الشهرة أول مسمار فى نعش المفكر أو الفنان `. استفدت من مشورته ونأيت بنفسى عن كل ما يستهلكنى أو يضعنى فى صراع لا طائل منه. وعلى الرغم من هذا، فأنا ألوم نفسى كثيراً، إذ كان يجب أن أركز أكثر فى عملى، لكن لا معنى للحياة من دون هفوات، نزوات، سقطات ، مع أن تجاربى كلها حملت إلى الندم ، فكلنا نكذب، كلنا نخدع، كلنا نضل، لذلك لو قالوا لى ستموت غداً فسأسعد بعد أن مضى كل شئ، ومضت الأمانى والأحلام.
- ` الشجرة التى لا تنحنى للريح تكسر` ، قالها لى الدكتور شفيق غربال، فانطويت على نفسى، وتمسكت عبر سنوات حياتى بموقفى الفنى والسياسى والاجتماعى، رافضاً الإصغاء لمشورة شفيق غربال، والانحناء للريح. أثبتت السنون صحة موقفى، فالفنان الذى ينحنى للريح يكسر حتى وهو فى قمة شهرته ، فهو - مع الأسف - قد انكسرت روحة الثائرة المدافعة عن الحق، والرافضة للذل والهوان. قد يخطئ الفنانون إن ظنوا أن الدعاية تصنعهم ، وإن رأيتهم يتسابقون كى يقفوا على باب مسئول أو من بيده الأمر والنهى، فلا أقول: ما أحقرهم ! أقول: ما أضعفهم ! وهل يستطيع الإنسان الضعيف أن يقول شيئاً أو يصنع فناً، لكن ما أكثر مَن نجدهم يسيرون خلف مسئول أو سياسى.
- لم أشعر بالغيرة قط من إنسان اغتنى أو حتى صنع صورة جيدة، لا أغير ولا أحقد، لا أتنافس على شئ من متاع الدنيا، مثل هذه الأشياء إن أخذت بتلابيب الفنان، فستعوقه أن يواجه السطح الأبيض الذى أمامه بكل حرية وبكل تركيز، ولم يشغلنى قط ما يفعله الآخرون، ومَن أنا حتى أقيم أعمالهم، فما يحدونى هو محاولتى الدءوبة لكى أصلح من ذات نفسى.
- لوحة الحياة
- أعترف أنى قد اختلقت كثيراً من المبررات كى أبقى فى مصر، لكنى - فى الغالب - لم أكن أملك القدرة كى كى أحدد ما الخطأ وما الصواب.
- أستلقى وعيناى مفتوحتان، أشعر بالنوم يهبط بطيئاً على كموجة تصل إلى رمال الشاطئ ، وفى ضوء لا لون له بدأ ينسل من باب الشرفة المسدل، كانت ذكريات حياتى الماضية تطفح كما تطفح المياه من بالوعة حمام أصابها السدد، لكنى كنت أستمع إلى همس، وإلى حفيف لا أستطيع تميّزة، أعترف أنى دائماً لم أدرك كيف تطرق الأبواب، سيان كانت مغلقة أو مفتوحة ، فمرسمى كان فقط هو الذى يعطينى الطمأنينة، ورضى يغمرنى وسكينة. فى وجهى كان يغرق الصمت، وتغرق أزقة القاهرة حاملة بقع الشمس وضحكات طفل، والوحل وأكوام القمامة وتجاويف الأبواب المغلقة ، أعلم أنه عبر أسطر هذا الكتاب ، يجب أن أسافر فى جنة من الرماد، أن أسافر فى الألم والأمل والابتسامة المرتسمة على الشفاه، أسافر عبر ضحكات آخر الليل وصداع الصباح. محتوم على أن أسافر دون أن أستريح على شوك أو على ورد، أسافر دون راحة، أسافر فى ظلال جريحة، أسافر محاولاً أن تلمس يدى زهرة ذابلة كى أرسمها، أسافر وقد صهرتنى المهزلة ، وأن آخذ فخارية محطمة، أحاول رسمها.
- حتى إن صرخت، فمن يا ترى يسمعنى، شئ رائع للفنان أن يصرخ فزعاً، فالجمال الحقيقى ما بدايته إلا الفزع، الذى مازلنا قادرين دوماً على احتماله ، فقدرتنا الحقيقية على الانتظار هى ذلك الاحتمال.
وهكذا أضبط نفسى، فحتى الحيوانات تدرك تماماً أننا غير مطمئنين فى بيوتنا، ونحن فى زمن ببساطة يفسر فيه الأبله كل شئ ، وأخشى ألا تبقى لنا شجرة على منحنى طريق نتطلع إليها كل يوم، وعلى الرغم من هذا، بقيت ولم أمض إلى أوربا.
- تلك لوحة حياتى أريد أن أستعيدها من جديد: سنواتى الأولى ضاعت فى زحمة الأحداث، وأشباح الدمى والظلمة وضجيج الطريق، لكنى أعترف أنى كنت سعيداً.
- هززت لهم رأسى من دون اكتراث، تركتهم يفعلون ما يريدون، فرح الجميع وتركت لشأنى. أدهشنى من حولى ` فلان ` يهوى الفنون وهو لا يملك التميّز، وأخرى تدّعى الانحلال وهى تعانى كل أنواع الكبت، وآخرون مولعون بالشهادات والوظائف ويعجزون عن ممارسة شئ ، وأكثر ما أضحكنى حينذاك منظر الرفاق وهم يحادثوننى عن الحركات القومية والسياسية، ويشكون لى القلق، والأرق فى الليل والتنهيدات فى النهار، يقرأون لى كتاباتهم التافهة منتظرين رأيى .. فى ماذا؟
- حيرة الفنان
- تمضى بى الأيام منصرمة، أصبحت الأمنية الوحيدة أن يأتى الغد كالأمس لا أسوأ، كل شئ أصبح صعباً، كل شئ بدأ يهرب من بين يديك : الأفكار، التأملات، القرارات فالكتابة أو الرسم، ليست فقط القلق والتوتر والمعاناة التى تدغدغ الحواس، بل أصبحت لعبة اصطياد الكلمات أو الأشكال فى حد ذاتها خطرة، فالكلمات أو الأشكال، يجب أن تحقق لك بالضبط ما تريد التعبير عنه وبالكيفية التى تريدها.
- إنه الفجر وأنا فى الحمام ، رمادى خافت يغلف كل الأشياء على (القيشانى)، أشعر بالضيق، أفتح النافذة التى تطل على الفناء الداخلى لهذه البناية الضخمة ، مثل هذه الأبنية تعتبر من أغرب الأماكن فى العالم ، فمن ثقوب مربعة متراصة بجانب بعضها وتحت بعضها قد ينبعث غناء، شهقة حب، أم تنهر ابنها، زوج يضرب زوجته، احتدام نقاش فى شركة من شركات، أصابع فتاة متوترة على آلة كاتبة وعلى مر الطوابق ترى الحمامات، مخادع النوم، حجرات المعيشة مرصوفة فوق بعضها، ذلك أن جميع حجرات المعيشة أو النوم أو الحمامات أو المطابخ تقع فى الأماكن نفسها بالنسبة للطوابق، ودون أدنى مجهود يستطيع المرء التعرف على الحمامات (بقيشانيها)، من غرف المعيشة ذات الموائد و الأباجورات ، هكذا فى مثل هذه البنايات نجد النوم، الحب، الولادة، الهضم ، عودة اللقاء غير المنتظر، الليالى المملوءة بالقلق والأخرى العارمة بالسعادة ، تقع جميعها بعضها فوق بعض كأعمدة الخبز فى مؤخرة مطعم الفول، فى مثل هذه البنايات يحدد مصير الإنسان سلفاً بمجرد أن يقطنها، فلنا أن نسلم بأن حرية الإنسان تتوقف بالدرجة الأولى على وقت الفعل، والمكان الذى يمارس فيه الفعل، فما يفعله الناس متقارب ظاهرياً إلى حد كبير، إن لهذا معنى خطيراً، ولا سيما إذا خططنا كل شئ على النمط نفسه، لكنى أشذ عن هذه القاعدة.
- النوم ؟ أن يأتى صباح شبيه بسابقه؟ ورويداً رويداً لم أعد أدرى إن كنت قد رحت فى سبات، أم مازلت يقظاً، ومن بين ثنايا الشيش المسدل كان يتدفق لون أزرق، وربما كان هذا آخر ما وعيت به ، أيقظنى شئ يقترب، أشرطة رفيعة من زبد الصباح الأبيض، متقطعة ، أتبينها كنغمات، ومرة بعد أخرى أتأكد من أن السبات يشدنى إليه ، ثم جلست تلك النغمات الضوئية فوق جفنى، وفى منتصف السقف ، راحت تقفز فى الهواء، كطائر بحر وقت الغروب، أو ربما أيضاً كطلقات الضوء فى حفلات الصواريخ، طلقات مضيئة تتفتت برّاقة أثناء سقوطها على ألواح زجاجية لا لون لها، وأخيراً هبطت كنجوم فضية كبيرة فى الأعماق، وعندئذ شعرت بوضع سريالى. أنا أقبع فى حجرتى على المقعد كتمثالٍ حجرىٍ لرجل ميت ، استيقظت، لكنه استيقاظاً مخالفاً لاستيقاظى أثناء النهار، يصعب على أن أصورّ ما أشعر به، أشعر كأن الغرفة ليست مجوفة، بل تتألف من نسيج لا وجود له، ما بين أقمشة نهار ناصعة ونسيج ليل أسود شفاف، ومن هذا النسيج أتشكّل أنا أيضاً.
- تأملات فى المرأة
- أقيس كل شئ بمقياس دقيق، لكنى لا أعرف كيف أقيس المسافات بينى وبين المرأة، فالمسافات بينى وبينها ضائعة، المرأة دائماً تختار المكان والوقت غير المناسب، تبقى لترسل أحلاماً نحو ما تتطلع إليه، لكن أحياناً ما تسقط ميتة على سور النافذة محبطة إنها تقترب من النافذة كلما خبا الضوء وتضغط بجسدها اللدن على حافة النافذة ، أحملق فى الليل، قلقها يسرع إلى حلقة قاتمة، جسدها يتحدانى ويتحدى الظلمة ، الظلمة التى ستحتضنها، فأحتضنها وأحتضن الليل، أفتح النافذة لأتحسس جسدها، لكنها لا تبعد جسدها عن أصابعى، بشغف أقترب منها وتقترب من الظلمة . كلانا يصل إلى الحافة ، إلى حافة الحياة والموت.
- أرى فمها كوردة تتفتح، أرى شعرها يتحول إلى أمواج تتحطم على شواطئ تفكيرى المشتت، أرى عينيها تحملقان، أعيش فى ليل يحتضننى.
- يبقى الغموض الذى يكتنف المرأة ، ويكتنف الفن، وتبقى الحيرة لتدفع المرء كى يعبر عمّا يحس، لكن كثيراً ما تعوقه مهمة المرأة ، فهى مثل النبات الذى ينمو وينبثق إلى أعلى لتغطى أكاذيبها التى لا آخر لها، وضوٍء القمر الغبى أبحر وحيداً ، فلم أعد فى حاجة إلى ما يغرق الزورق، أبحر دونها، وعن حب يضيع منى، فلست قادراً على تقبّل أى شئ، وأى مناقشة معها ستفقدنى زورقى الذى سيبحر بى خاشيا ثقل أكاذيب لا متسع فيه، أريد أن أصل إلى مرفأ أرسم فيه ، ومع رسمى انتظر حباً جديداً، ولكننى كثيراً ما أجدها مع خطوطى على اللوحة التى أرسمها فيه ، ومع رسمى أنتظر حباً جديداً، ولكننى كثيراً ما أجدها مع خطوى على اللوحة التى أرسمها، فتخلط أحلامى بمياه لا آخر لها، ولكن ينتهى الأمر مع رشاقة فرشاتى، وحده نصل سكينى وفراغ لا بداية ولا آخر له.
- ومع دهشتى وتعجبى مما فعلت ، أردد لنفسى : الأمر يستحق، فنهر الحياة دائماً يفيض بالضوء. دونها هل أصل إلى مرفأ أستطيع فيه أن أملك جدية وعمق الأساتذة العظام من الفنانين، دون هل أستطيع؟ وألاعيب المرأة ثقيلة ثقل الأحجار الضخمة المعلقة فوق رأسى، وأنا أزحف فى سراديب الأهرام المظلمة كى أصل إلى حجرة الدفن، وحجرة الدفن دائماً ما أجدها شاغرة.
د. سليمان إبراهيم العسكرى
مجلة العربى ديسمبر 2008
حسن سليمان.. العذوبة فى منتهى الحدة
- ` إننى أرسم بروح الفن الخالدة .. أفرغ روحى وطاقتى فى اللوحة حتى أستلقى منهكاً بجوارها بعد أن اعتصرتنى ..`.
- الثمانينى الضئيل كان فى الحقيقة كائناً عملاقياً متمرداً يعرف معانى وأسرار الحياة.. أن الفن من دون تمرد لا يساوى شيئاً. أستحضره الآن وهو يحكى ويعترف لى بأن المرأة كانت وحتى الرمق الأخير ستظل لوحته الباقية أبداً حتى وإن كانت فى الواقع قد ضاقت بالحياة معه . فالمرأة والكتابة كانتا على لوحاته صنوان لا يفترقان حيث ظل إبداعه الأدبى ينبع من نفس مشربة بروح هائمة بين عوالم الفن سواء كان رسماً وتشكيلاً أو شعراً لتخلق فيلسوفاً وروحانياً من نوع مختلف.. إنه حسن سليمان المختلف بكل تأكيد.. وإننى أتذكره الآن وأقول له..
- أيها الصادق.. يا من كنت فى مثل حدتك عذباً..
- يا من قلت لى ناصحاً ` فنجان قهوتِك الصباحى اقرب لك من العالم`
- صاحب الذهن الناقد والاحساس النافذ الذى أخذ معى يسخر من ` ازدهار المعارض` وابتذال الأفكار وتأويلات الفن الخاطئة..
- إنه حسن سليمان الذى كان مجرد وجوده كياناً فاضحاً لكل الغش والتزييف ويكفى أن نطالع كتاباته وأعماله لنعرف موقفه القوى الصارم حيال محاولات مسخ منطق الجمال..
- الواثق من فنه وعلمه.. والذى قال لى ..
` أمقت الهوة التى يصنعها الفنان بغباء فيعزل نفسه عن مجتمعه بافتعال لغة غريبة عن ناسه فينفرون منه `.
- الفنان الذى كان صادماً ومؤمناً بأن أعماله هى حقيقته الباقية وتأثيره الممتد وإنه ليس مجرد عابر بل هو وتد قامت عليه مدارس فى الفن وتعلم منه جيل بكامله..
- ولد حسن سليمان أحمد، كما حكى لى، فى القاهرة فى العام 1928 لأسرة من الطبقة المتوسطة المثقفة (كان يقول بأن تلك الطبقة المهمة تلاشت فاختل الميزان الخاص بالقيم الاجتماعية) فى حارة طه بك السيوفى بالسكاكينى (حيث فى الجوار أجناس مختلفة الهوية واللغة والثقافة من طلاينة وجريح..) .. حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة فى منتصف القرن الفائت وعلى الدراسات العُليا فى سيكولوجية البعد الرابع من أكاديمية بريرا ميلانو فى الستينيات، وهو العاشق للعمارة الإسلامية والمغرم بالرسوم الفرعونية ، والذى انتهى من قراءة أعمال طه حسين والمازنى فى الثالثة عشرة من عمره، تتلمذ على يد الفنان بيبى مارتان والذى كان يصحبه مبكراً فى السادسة وقبل الشروق إلى مقابر المماليك وتلال المقطم ليشهدا ويسجلا زخم الصباح، فتعلم كيف يأتى بالتضاد اللونى والتكوين بكراً من الطبيعة ، فصار حسن سليمان صاحب رحلة اللون الرمادى الممتلئ على مساحات الفراغ.
- بداية لابد من الاعتراف بأن لنا مع كل لوحة نقرؤها قدرنا الخاص، ولم أشأ أن أغير قدرى مع هذا الفنان، ولم أندم على ذلك أبداً ، فكان إحساسى العميق بلوحاته وبناء عليه حدث أن احببته عن بُعد، واكتفيت، واستسلمت فأخذنى عبر لوحاته إلى الماضى والمستقبل معاً ولا أعرف بالتالى كيف نفذ بى إلى القاع ورفعنى إلى السماء، حتى إلى أننى عشت مع لوحاته عوالم غير معروفة.. لقد كان هذا الرجل حريصاً على كل التفاصيل الصغيرة حين يعكف على الورق، ولكنها دوماً تفاصيل بلا زخرفة أو انتهاك أو ابتذال يجعل اللوحة لامعة زائفة فلا اختلاق ولا افتعال، ولأنه العارف بأساليب الحياة ، وتضاريس الأماكن و حياة الأنثى فى الحوارى والأزقة والعطوف ، فقد كان يجعلنى أنظر إليها بإعجاب شديد، ولأنه الأوسع اطلاعاً على خبايا البشر، ولأنه صاحب الخيال الخصيب.. استطاع أن يسافر مرتحلاً بخياله إلى ذلك المطرح الأنثوى ليرسمه بواقعية أدهشتنى..!
- ولكنه أيضاً من قال لى بمنتهى الأسى .. ` أنا طائر الحب.. المصدوم الذى أراد الخروج من دائرة الحزن .. فخرج إلى الفضاء الواسع محلقا تسيل منه الدماء `.
- ومن ذلك الجانب الآخر كتابة الأحب الذى ترجم فيه أشعار كل من سافو وإلوار وأراجون وماياكوفسكى وجاك بريفير.. وتحت عنوان ثلاثة عيدان تشتعل فى الليل واحداً فواحداً .. الأول كى أرى وجهك كاملاً.. والثانى كى أرى عينيك ... والأخير كى أرى فمك .. والظلمة الكاملة كى تذكرنى وحسب كم هو جميل أن تكونى بين ذراعى.
- مع لوحاته ارتحلت إلى عمق روحه.. وفيها وجدته يعترف بأن الوجود والحضارة ما كان ليكتملا لولا وجود المرأة بكل جمالها وشقائها..!
- وما سأستعرضه هنا له علاقة قوية بالعبارة السابقة فلقد اكتشفت بمتابعتى له عن كثب أن العملاق كان يعتصره الألم.. وقد قلت له ` أراك غير ما سمعت ` !!
- فأجابنى بابتسامة ذات معانى ` بيقولوا عنى قليل الأدب ولسانى طويل.. إنتى بقى رأيك إيه ؟ `
- ` أنا قُلت رأى خلاص`
- كان حاداً رقيقاً.. عنيفاً عذباً فى ذات الوقت.. لا يجرؤ أن يدوس له أحد على طرف - وللسان اللاذع أهميته فى تلك الحالة.
- كان واثقاً وإنسانياً معاً فمن لا يحب نفسه لا يحب أحداً، عصبى وطيب.. ولأنه لا يمكن أن نفصل فى تناولنا لسيرة فنان بين الإنسان وطبيعته وبين عمله.. فأستميحكم العذر على الخلط ، وأرجوكم ألا تستغربوا من تداخل قصيدته فى كتابتى بين خاص جداً ومهنى جداً..!
- وهآنا أراقب، عن قرب، علاقته بمساعديه ، سكرتيرته المقربة `هبة ` وحافظة بيته ` شوقية ` علاقة تطورت مع الزمن إلى رباط لا أعرف ماذا يمكننى أن أطلق عليه !! .. رأيتهم يتعاملون معه كما لو كان الأب والأخ وهو يبدى امتنانه - وإن كان لا يفعل ذلك غالباً أمام الناس كما قال لى، ولكن هذا لا ينفى الحب العميق - ..ولكن يبدو أن لقائى الأخير كان بروازاً يؤطر حبه للجميع حتى وإن بدا طوال الوقت متهكماً ساخراً غير ممتن - وهو سلوك شخصى وأسلوب اعتاده فحسب - وكما أسر لى فى خلسة من الجميع وبصوته الخفيض - أظنه الوهن - بأنه لا يستغنى عن أيهما وأن `هبة ` توشك على تركه لأنها ` زهقت ` وتريد تغيير مجال عملها.. لقد كان كان متأثراً حزيناً فى نبرة فهمتها جيداً.. فلقد تعود على وجودها فى مجريات الحياة وارتاح لها وعاملها كابنة.. وبعد برهة قال لى.. `هو فيه إيه؟ عايزة تتفسح وتسافر وتشوف حياتها؟ ما تعمل اللى هى عايزاه هو أنا منعتها ؟! `.
- وكما اعترفت لى مساعدته الصادقة المُحبة بأن كل ما تعرفه فى الحياة هو دين فى رقبتها لهذا الرجل الجميل.. الشعر، الفن، اللغة ،. ولقد قال لى بمنتهى الاهتمام : ` تعرفى أنها بقت بتكتب لغة عربية رائعة.. دى باحثة ممتازة `.
- هكذا كان الرجل القوى.. لا يربطه بالعالم الخارجى فى حينها - منذ أربعة أشهر حينما لقيته بمرسمه الكائن بشارع شمبليون - سوى هؤلاء الذين أحبهم وتمسك بهم فى أخريات أيامه.. كان يحمل على كاهله جدية وحساسية ، وتلك الحقيقة كنت أعرفها من أعماله من قبل أن ألقاه، فكان يكفينى مشاهدة لوحاته لأعرف أنه رجل يمتلك خيط أفكار متصلاً بلا تشويش وهكذا، ولزاماً فلابد وأن يصل به التأمل إلى أبعد درجات العمق.
- وكفنان وإنسان وجدته يتسلل إلى عمق نفسى بلا فجاجة أو اقتحام، فأنا امرأة وبالتالى ففى حياتى رجل وهو مشغوف بهذا البعد الإنسانى من تلك العلاقة الأزلية.. نعم لقد أخذ يتسلل ويشرح موضوعه المفضل فيروى عن حكايا الحب وكيف يمكن أن يكون الحب.. (إن حديثنا كان عن الحياة وليس عن العمل، وإن كان أحدهما متصلاً بالآخر بشريان واحد).
- إنه حسن سليمان الذى أجلس بجواره الآن وأنا التى كنت معجبة، بل مهووسة ، بأدائه الفنى.. حين جلست إليه بدأت أرى من جديد بعين أخرى لوحاته وبأذن أخرى استمعت إلى ما قاله لى عن الفن. ` الفن رباط مقدس وإننى أرسم بروح الفن الخالدة.. وإننى أفرغ روحى وطاقتى فى اللوحة التى أحبها وكأنها امرأة أعشقها`.
- أيها البحر ألقيت بشباك وهمى ليحرقها الضوء المنعكس على صفحتك.. والتحديق فى الفراغ لغيابها يشعل حلمى الدائم ويحوله إلى وهج ينعكس على صفحتك.. أغلق عينى ولكن تلاحق الأمواج يوشوش فى أذنى كأنفاسها التى تدفئ وجهى. تطير شباك الوهم المحترقة مع سحيبات تتحدى الضوء وأحتضن بين ذراعى جزءاً من الليل من حبيبة جاحدة لا أستطيع لمسها. فهى كالموج وسرعان ما تنسل، هل يمكن أن أحتفظ بمثل هذا الضوء؟ أو بمثل تلك الظلمة أو بها؟`.
- إنه حسن سليمان السابح فى استلهام البحر ولكنه بحر ليس ككل البحار..
- وهو حسن سليمان صاحب `حرية الفنان` .. ` الحركة فى الفن والحياة `.. ` كيف تقرأ صورة `.. ` المكتبة سيكلوجية الخطوط `.. ` ذلك الجانب الآخر` و`محاولة فهم الموسيقى الباطنية للشعر والفن`.
قال لى : ` سكبت أضوائى وظلالى على أسطحى لأنقل فيها كل ما أحبه وأراه بقلبى وأسمعه بعينىّ من أمكنتى الحبيبة من القاهرة.. ومن الطبيعة الحية والصامتة `..
- وأخذ يفسر لى أسرار الرمادى فى لوحاته.. ` اللون قد يطغى على الشكل ويضيعه لو أساء الفنان استخدامه، بالضبط كالفلاحة الساذجة التى تستخدم أحمر الشفاه دون حذر.. وبالنسبة لى أشعر باللون يتغير بين أصابعى من لون ` بايخ فاقع ` حتى يصل إلى هدوء الرماديات، بالضبط كما يتغير لون البرعم الخاص بوردة بيضاء فهو يبدأ عادة وردياً محمراً وما إن تتفتح الوردة حتى يصبح شاهق البياض.. بالضبط هذا ما يحدث أحياناً بالنسبة لعلاقات اللون فى اللوحة.. فكل من اللون والشكل يجب أن يلتحما ومع الرغبة فى التعبير.. عن سقوط الضوء ومحاولة الوصول إلى وحدة تؤكد الشكل كشكل.. نجد اللون ينزوى ويتلاشى مع ضربات الفرشاة هنا وهناك.. يضيع مع الظل والنور.. لتظهر باللوحة رماديات.
- ويعقب فى نهاية التفسير مركزاً عينيه فى عينى قائلاً `هو ده سر الرمادى اللى محير الناس اللى بيشوفوا لوحاتى`.
- حسن سليمان جسّد حالة نادرة فى الوسط الفنى المصرى، كفنان وكإنسان، كان صادقاً لدرجة نادرة، بسيطاً وطبيعياً إلى حد القول: `عندى جرأة أنزل بحذاء البيت وأدخل أغلى مطعم ولا يهمنى ما الذى سيقولونه، المهم أنهم سيقدمون لى أشهى ما عندهم ثم ابتسم ابتسامة ذات مغزى وقال: ` لماذا لا يفعل الفنان ما يريده ؟!!.. الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة.. هذه هى روعة الحياة التى سيعرفها ويفرغها على لوحاته`.
بقلم : دينا توفيق
مجلة العربى ديسمبر 2008
الفنان حسن سليمان فى السبعين .. لا يزال فى السابعة
- 12/10/1988 الساعة السابعة مساء كان افتتاح معرض الفنان/ الكاتب حسن سليمان تحت عنوان ` طبيعة صامتة ` فى قاعة العرض الرائعة بمبنى الهناجر . قاعة مستطيلة متسعة ، حين تدخل من بابها يذهلك عمقها ولا تقل عمقاً ، بل قل ` غويطة ` مثل بئر يتحدى بقدرته على الابتلاع من يؤكد قدرته على الطفو والبروز . زحام وإقبال لا أستطيع أن أحدد تعداده ، ربما فوق الخمسمائة ، ربما فوق الألف ، المؤكد أن أجيالا كثيرة من ماضى الساحة الثقافية وحاضرها كانت موجودة برموزها التقليدية ، السلطوية المعارضة ، المتتآلفة والمتعاكسة والمتباغضة والمتوادة والمتخاصمة .
- وعلى الرغم من كون اللية كانت افتتاحا لأوبرا عايدة عند سفح الهرم ، حرص كثير من ` نجوم ` كل حفلات الافتتاح ألا يفوتهم كذلك افتتاح معرض حسن سليمان - ( قال لى حسن سليمان فيما بعد أن الحضور يربو على الألفين . وأن اللوحات كلها قد تم بيعها والحمد لله . وقال لى كذلك أن عدد اللوحات 43 لوحة رغم أن إنطباعى عن مساحة الجدران تصورها تبلغ المائة ) .
- اللوحات تعتمد على رصد تكوين لأربع أوانٍ شعبية فخارية ، التكوين واحد لا يتغير فى ذاته لكن الإحساس به لا يظل على حاله مع زوايا الإضاءة وبؤر الضوء . هناك متكرر لا متكرر ومرئى لا مرئى 43 درجة لون ، وظل ، و مزج مختلف ومختلفة مثل آهات أم كلثوم - كما يقول المعجبون - تبدو لمن لا يعرف : تكراراً وتشابهاً ، لكنها للفاهم المتمزج عبقرية التنويع على اللحن الواحد ، وعند حسن سليمان : ` كأنه خطوة فى مسعى العروج إلى العلو ، كما يطلق عليه فى الفكر الصوفى . إنها محاولة لإدراك المطلق الذى لا يتحقق أبداً .. ومهما كرر فنان عملاً فنيا فسيظل الجانب اللامرئى هو الذى لايمكنه التعبير عنه ، ولكى يظل الفنان متجدداً عليه أن يحصر نفسه ويحددها فى تجربة واحدة تستنفده . إنها مشكلة يجب التوقف عندها ، فهى لا تحتاج إلى ترويض نفسى فقط بل إلى ممارسة دؤبة أيضا ، فمع تكرار التجربة لا يعود الشئ هو الشئ ` .. ويستمر حسن سليمان فى الكلام . والكلام عند حسن سليمان هو الكتابة وكتابته هى كلامه المرسل على الدوام ، وهو الجانب الفنى الذى يستهوينى من ابتكاراته إذ أن لى فى الفن التشكيلى إختيارات أخرى .
- حسن سليمان ابتكار فى ذاته . عرفت كتابته وأحببتها قبل أن أعرف أصلاً من هو . كان هناك فى الستينيات مجلة اسمها ` الكاتب ` أظنها كانت تصدر عن وزارة الثقافة ، وكان حسن سليمان يكتب مقاله الشهرى تحت عنوان ثابت ` فنون تشكيلية ` فتنت بأسلوب الكتابة و المزاج الكاتب الغاضب الحزين من ورائها ولاحظت أنها تشبهنى ، كأننى أنا صاحبتها أو كأننى كأنها كما أتمنى كونى . قلت فى مقال سابق لى عن حسن سليمان نشرته عام 1988 بمجلة المصور : ` إكتشفت حسن سليمان عام 1968 فى مجلة الكاتب.. ما أن قرأت أول مقال له حتى تشبثت به وحملته على رأسى وطفت أصيح : العال يا حسن سليمان . كان يكتب بشوق وتوق وعنفوان وتمرد وشجن وصخب وسخرية ، وتتلاحق تحت قلمه الصور الشعرية الغريبة والنادرة المازجة بين الخشونة والرقة فى إيقاع باهر يغسل القلب من الحزن وما يلبث حتى يملأه بحزن جديد تفرح به وتقول لا بأس بدلاً من الركون إلى الصدأ ` .. وعن سر هذا الجمال فى فن الكتابة يقول حسن سليمان فى كتابه ` ذلك الجانب الآخر، محاولة لفهم الموسيقى الباطنية فى الشعر والفن ` ، الصادر عن دار مشرق - مغرب للخدمات الثقافية والطباعة والنشر ، دمشق - سوريا ، الطبعة الأولى عام 1996 ، يقول حسن سليمان : ` وإذا كان الجانب الموسيقى فى الشعر هو أصعب الأشياء حديثا عنه ، فما بالنا بالموسيقى الباطنية ، التى هى غير محددة بل هى مجرد حس . إن استجابتنا للنغم ولامتزاج الأصوات مع بعضها شعور أزلى استمر حيا معنا ، هو حس تلقائى ، وبحكم صيرورته وضرورته الشديدة والملحة فى حياتنا يصعب تصنيفه أو تقنيته .. والشاعر قادر على أن يجعل من الأشياء البسيطة ، والكلمات البسيطة فى حياتنا شعراً ، هذا إن ملك ناصية الموسيقى الباطنية . بل أبعد من هذا هو يدعونا لمشاركته هذا التيقظ الحاد لحساسيته المرهفة التى تكشف له جمال الموسيقى فى كل شئ .. كيف يحصل الشاعر على موسيقاه الداخلية ؟ ، أن يكون هو وتجربته الإنسانية شيئاً واحداً ، وأن يكون هو وتجربته الإنسانية و تجربته الشعرية شيئاً واحداً . لا يتساهل فى شئ ، ولا يفرط فى شئ ويعطى أهمية لكل شئ .. الشعر احتياج لا احتراف ، احتياج للشاعر وللمتلقى`.
- السطور الأخيرة من كلمات حسن سليمان فى هذا المقتطف من كتابه ` ذلك الجانب الآخر ` هى تقريبا معزوفة حسن سليمان اليومية التى لا يغنيها لكنه يحتد بها ويصبها منفعلا فى آذان كل صديق مقرب منه - ( ولحسن حظى أننى واحدة من أصدقائه ، لا أراه كثيراً ، بل قد لا أراه مطلقا لكنه يُصَبِّحُنى بها هاتفيا مفضلا لى اليقظة من نوم ربما كنت أفضله ) - إنه يرسم ، إنه يكتب ، إنه صامت ، إنه صارخ ، إنه متبرم على الدوام ، إنه شاعر . حقا : إنه شاعر يملك الموسيقى الباطنية ويعرف سر المغارة.
- فى افتتاح معرضه 12/10/1998، كان الناس يتصافحون ويتضاحكون ويتلاقون - بعد أن ظنوا كل الظن ألا تلاقيا - وحسن سليمان فى بذلة قاتمة اللون ، صارمة الكلاسيكية يسير وحيداً ، كلما اقترب منه مقترب نظر إليه كأنه لا يعرفه ، ولو كانت زوجته درية وابنته الصبية ليلى . مالك يا حسن متجهم .. غضبان ؟ ، لا الناس تضحك والذين يعرفونه يعرفون أنه سوف ينفجر بعد ذلك فى آذانهم وساعتها سوف تنطلق ضحكاتهم ، أما الآن وهو فى سترته القاتمة الصارمة يسير متخشبا مثل طفل فى العيد يراقب تعليمات والدته بالمحافظة على ملابسه الجديدة - ( قلت له فى صباح اليوم التالى للإفتتاح ، يا حسن كنت خايف البذلة تتسخ ؟ ، قال : وسختها وقعدت بها على الأرض وعلى الرصيف وبهدلتها وتناولت عشائى مع درية وليلى فى المطعم وكان بها شباب من .... ومن .... وكانت هناك فلانه .... و فلانه .... وكلهم قالوا لى يا حسن انت بتكتب فى الهلال و إحنا نقرأ لك .. تصورى قالوا أنهم يقرءون ما أكتب ..لازم بقى أكتب .. ده بقى إلتزام .. مادام هناك من يقرأ . قلت له يا حسن ألم أقل لك هذا ألف مرة ، وكل يوم تقول لن أكتب ، خلاص ، هذه آخر مرة أكتب ، لا أحد يقرأ ، فقلت لك : ألا يكفيك أننى أنتظر ما تكتب وقلت لى يكفينى ؟ قال حسن : طيب وليه آكل فى المطعم ؟ ليه درية ما تطبخليش ؟ ، قلت له : يا حسن أنت غاوى مقاهى ومطاعم طول عمرك إيه الجديد ؟ ، قال : صحيح ..أنت تضعين المرهم على الجرح . أى جرح يا حسن بلا صلبته. قال : طيب) .
- حسن سليمان مولود فى حى السكاكينى فى 25 أغسطس عام 1928- اليوم الذى ولدت فيه فاطمة أختى . اليوم فقط - الحكيمة اليهودية الإيطالية التى أشرفت على الولادة كان عليها أن تسافر من فورها إلى إيطاليا وعادت بعد أسبوعين من مولد حسن لذلك تأخر تسجيل مولده وتثبت فى شهادة ميلاده تاريخ 14/9/1928 . لكنه لم يخرج عن نطاق برجه العذراء ، الذى من طبيعته الشكوى فهو حتى حين يفتخر ويتباهى لابد أن يختار صياغة الشكوى - ( فاطمة أختى وحسن سليمان لهما طريقة متشابهة فى الكلام ) - نهاية عام 1968 صادفنى وأنا أسير فى شارع سليمان باشا ، بالقرب من سينما مترو الفنان جورج البهجورى - (كان وقتها صديقى ولم يعد ) - قلت له : يا جورج .. هل تعرف حسن سليمان ؟ فقال طبعا ؟ قلت : أريد أن ألتقى به . قال : الآن .. مرسمه هنا فوق مطعم الأمريكين . دلفنا إلى عمارة من عمارات سليمان باشا وشامبليون القديمة العريقة وصعدنا إلى طابق عال . قال لى البهجورى قبل أن نطرق الباب : تعرفين أنه مثل أمنا الغولة فى الحكايات بحالتين : حالة هدوء وكرم وأريحية أو حالة كدر وتجهم وشح . قلت : أنا كذلك غولة . طرقنا الباب باليد النحاسية وفتح الباب مواربه ، وقال البهجورى : أهلا حسن . فاتسع الباب فقلت : أنا فلانة ، وأحب أن أقرأ لك . فقال : بلغت الأربعين . قالها بأسى عميق وهو ينهبد جالساً على مقعد أثرى فى غرفة مليئة بالمقتنيات الأثرية لا تقدر بمال تأملته لأتكهن بحالة الغولة فلم أر سوى طفل متبرم يعبث بملابسه ويمطها ويثنيها حتى ليكاد يمزقها . ضحكت وقلت له: أنت من أهم كتاب مصر و أفضل كاتب أقرأ له . مط شفتيه وهز كتفيه وقال: بلغت الأربعين من عمرى . قال البهجورى حسن فنان تشكيلى مهم . لم أكن قد شاهدت شيئا من أعماله فانتقلنا إلى الغرفة الأخرى ، وبدأت أرى اللوحات وكانت على الحامل لوحة لفتاه . كان اللون الأزرق غالبا ومشتقات من الرمادى . تأملت حسن سليمان من جديد وهو يتحرك كإمبراطور يستخرج كنوزه . على رغم قصر قامته كان يرفع رأسه ويشد ظهره ويتنقل بخطوات عملاق يخشى أن يصطدم السقف برأسه - ( هذه حكايه أكررها فقد كتبتها من قبل لكن وفقا لنظرية حسن سليمان ، فهى جديدة لأنها تحت بقعة ضوء زمنية جديدة وزاوية إضاءة مختلفة كثيراً ) - عدت أحدثه عن الكتابة متغاضية عن اللوحات ، فقد كان الجانب الفذ الذى أراه عنده ، ولازلت أراه ، هو فن الكتابة ، التى يضخها المكنون الشعرى الباطنى لديه . يكتب نقدا، يكتب شرحا ، يكتب تحليلا أو بوحاً عن أوجاع الذات - الذات ، الذات - الوطن ، الذات - الإنسانية ، هو كاتب فى مدرسة فن كتابة ، كان أحد روادها الدكاترة زكى مبارك ، وحسن سليمان عملاقها المعاصر ، وأنا منها ، أنتمى إليه .
- بعد لقائى الاول بحسن سليمان عام 1968 ، جاءت آزفة الهجمة المكارثية اليوسف سباعية صيف 1971 ، ذهبت أزور حسن سليمان وكنت واقعة لتوى تحت طائلة قرار بمنعى من النشر كان عدوانيا . فجلست واضعة ساقا فوق ساق ورفعت كتفى وأبديت الكبرياء والوجوم فارتاحت أساريره وانبرى متحدثا بادئا الخطوات نحو توقف مجلة ` الكاتب` عن الصدور .كان كمن شاهد حادثة بعينيه من موقع صادف إلتصاقه بكتف القتيل ، فجاء تعبيره عن فرحة التميز بالموقع يغلب تعبيره عن مدى الألم الذى ألم به . كان واقع القاهرة الثقافى فى أغلبه صريعا تحت عجلات يوسف السباعى لكنه لم يكن مندهشا ، كان الأمر عنده طرقة جديدة فوق رأس تعودت الطرقات والإغماءات وسالت منها الدماء كثيرا وبغزارة كان يعرف - كما هى الحال فى كل الحادثات - أن المندهشين سوف يزهدون الدهشة بعد قليل، بعد أن تدفن جثث القتلى ويلعق المصابون جراحهم ويتعودوا عليها ولايذكر أحد ما جرى لكى لا يمل الناس فى الجلسات من أصداء الأنين . استغرق حسن سليمان الحديث وتفرع منه إلى جزر متناثرة ، يقفز من جزيرة إلى أخرى بلا جسور ومن دون زوارق وبلا سباحة، وتحت أصبعه فى كل جزيرة لابد من اسم مشهور يطرحه أرضا ويفعصه - ( وكانت كلها أسماء تستحق ذلك ) - ويقول : أنظرى ماذا يفعلون بأنفسهم .. لماذا نستغرب بعد ذلك الجرأة على الثقافة والتحدى للفن . يتملكه الغضب لحظات حديثه ، فتشتد حركة يديه ثم يهدأ فيمرجح رجليه معاً وتتسع إبتسامته وتمتلئ عيناه بوداعة الذى فقد الأمل أو خاب مسعاه . كان الوقت مساء فلم أر بقعة الضوء التى تبعثها الشمس إلى مرسمه من النافذة ، والتى تكلم عنها كثيراً فى كتاباته . وكانت الإضاءة تأتى من مصابيح جانبية تعكس أشباحنا ، وظلال الأشياء على أجزاء من الجدران . بعد هذه الزيارة قاطعت حسن سليمان من عام 1971 حتى أرسل لى كتابه ` حرية الفنان` مع صديقنا المشترك الفنان عصمت داوستاشى عام 1988 - ( عيد ميلاده الستين ) - وفوجئت بكلمات إهدائه تصالحنى: ` إلى صافى ناز كاظم ، جزء من سن أريد أن أسترجعه ، وماض أريد أن أشده إلى حاضر أنكره ، أحترمها ، أشد على يدها ، وفى لحظات ضعف أتذكر صمودها وابتسامتها للحياة ...` .. وكانت السنوات قد شالتنا وحطتنا ومع ذلك ما أن هاتفت حسن سليمان لأشكره على كتابه حتى قال لى : ` بلغت ستين سنة ` ضحكت وقلت ` فاتنى أن أسمعك حين بلغت خمسين سنة ` ! وأحمد الله أننى سمعته فى 25 أغسطس الماضى يقول لى بنفس نبرة الشكوى الفخورة : ` بلغت سبعين سنة ` ! وأقول له: ` يا حسن والله أنت لم تتعد السابعة `! ويثلج هذا صدره، أما ما يثلج صدرى حقاً فهو أننى التى استطعت أن أستحث حسن سليمان للكتابة على صفحات مجلتنا العريقة ` الهلال ` ومازلت أستحثه على المواصلة ، وكلما هاجت رياحه وعصفت زوابعه أذكره بكلمته للأستاذ الأمريكى : ` مازلت على ظهر جوادى ` وهى جملة تشبه مقولة الحكيم بلوتارك حين قال : ` لا أريد أن أزيد بلادى فقراً برحيلى عنها `!.
بقلم : صافى ناز كاظم
مجلة الهلال نوفمبر 1999
الواحد فى الكل، والكل فى الواحد
- يجيب الفنان الكبير. حسن سليمان على ما قد يتبادر إلى أذهان بعض أنصاف المتذوقين، أو أنصاف المثقفين حول الكم الهائل من لوحاته التى عرضها منذ فترة غير بعيدة فى قاعة الهناجر، والتى تتكون مفرداتها من الأوانى الفخارية التى تقبع فى وضع ثابت فوق مسطح أفقى ، فتبدو للوهلة الأولى كأنها تكرار رتيب لموضوع واحد.. لكن بقليل من التأمل فى هذا الإنجاز الأصيل نتبين أنه معايشة جديدة للأشياء الخادعة التى تبدو كأنها ساكنة سكون الكهوف، والتى كثيرا ما قام الفنان بترويضها قبل ذلك فى مراحل سابقة من مشواره الفنى الطويل... إنها فى الواقع تجربة مضئية، ولكنها جديرة بأن تثار كعودة إلى الحوار الحميم بين الفنان وبين الأوانى الخرساء، والعناصر الصامتة صمت العدم التى يطلقون عليها خطأ` طبيعة صامتة` وهى ليست كذلك، وإنما هى كائنات شديدة البلاغة لو أحسنًا الإنصات إليها، شديدة الفصاحة لو تركناها تفصح عن حقيقتها بلسان صوفى النظرة، وبمنطق متفقه فى لغة الشكل والفراغ الذى هو حسب تقدير الفنان يمثل العلاقة البينيًة الوسيطة التى تُدرَك دون أن تُرى، ألوانها الحاضر الغائب الذى يربط ويوثق حلقات سلسلة الزمن الممتد إلى ما لانهاية، أو بمعنى آخر هى ` اللازمن` الذى يتوسط الراحل والقادم، والماضى والمستقبل، الأمس والغد، أو هى الحاضر الذى يفصل أخر ثانية من الليل المنصرم عن أول ثانية من الفجر الوليد...
- إنها بُعد ثالث لا تؤكده لمسة فرشاة أو جًرة قلم أو بريق لون... ومن عجب أن تواكب هذه التجربة نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة التى سوف تواجهنا بغوامضها التى لا تزال فى طى المجهولية وأحضان الغيب...
- ويستشهد الفنان الكبير فى بيانه الذى كتبه بهذه المناسبة يوضح فيه وجهة نظره التى لا يدعًى أنه ينفرد بها وحده، والتى سبقه إليها نفر من كبار الفنانين الرواد أمثال ` فان جوخ` الذى حاور حذاءه العتيق أكثر من ثلاثين مرة فى العديد من لوحاته` وكذلك الفنان ` سيزان ` الذى أعاد للأجسام صلابتها وللطبيعة ثقلها وهيبتها.. وأيضا كبير الفنانين الانطباعيين` كلود مونيه: الذى كان يجلس طويلا أمام كنيسة نوتردام الباريسية يتابع تأثير ضوء الشمس وهو ينزلق فوق الجدار المعمارى العتيق.!!
- ويقودنا الحوار الهامس الذى ربما يكون قد دار بين رواد المعرض والذى قد يكون قد بلغ حدة الجدل أحيانا، يقودنا إلى مفهوم ثابت ثبوت الأبد، وهو أن الفن الصادق لا يمكن فصله عن القوانين الطبيعية والنواميس الكونية الخالدة، لأنه ركن ركين من مكوناتها، ومن هذه القوانين ( حركة الكون) التى لا تتوقف ولاتخمد،.. فإذا كان مفهوم الحركة المتعارف عليه أنه الظاهرة المرادفة للحياة، والمظهر الحسى لوجودها، فإن الكون بمختلف مكوناته ينبغى أن يتحرك أيضا تبعا لذلك رغم اختفاء نشاطه خلف غلالة من السكونية التى تسكب فى أعماقنا بعضا من الأمان الحسى والاستقرار النفسى...
- ويمكننا التحقق من ذلك لو تطلعنا طويلا إلى السماء فى ليلة مقمرة يبدو فيها البدر كامل الاستدارة كأنه قرص نورانى ثابت فى مكانه، فى حين أننا لو أغمضنا أعيننا بعض الوقت ثم أعدناها إلى حالتها الأولى لوجدنا البدر قد انتقل من مكانه السابق إلى مكان أخر يبعد عنه ألاف الكيلومترات بمقاييسنا الأرضية.. وأن ما صاحب هذه الفترة الزمنية البالغة القصر ليس نوعاً من خداع النظر، وإنما هو تأكيد لقانون القصر البصرى الذى يندرج تحت عجز قدرات الحواس المحدودة على متابعة المواقع اللامحدود. المنطق بأقصى سرعة.!!:
- وتبدو هذه الظاهرة أيضا بوضوح أكثر لو تابعنا جناحى نحلة وهى تحلق حول زهرة من زهور الربيع بحثا عن اليعسوب الكامن بين بتلاتها، فيبدو جناحاها كأنهما غشاء شفيف يمحو كثافتهما المادية إلى أن تتوقف النحلة عن الطيران فيعود للجناحين كثافتهما السابقة..!!!
- نستخلص من هذه الأمثلة حقيقة ربما قد تغيب عن بعض الفنانين العاملين فى الحقل الفنى، وهى أن هناك بُعداً خفياً يتستر خلف الظواهر البصرية، وأن الفنان الصادق فى سعيه الدءوب لبلوغ درجة الكمال، أو الإمساك بالمطلق، يتحتم عليه أن يبحر طويلا فى أفاق المعرفة لعله يستطيع أن يواجه الوجود اللامرئى بين ثنايا الوجود المرئى الدائم التجدد/ ويحظى أيضا بمشاهدة` الجمال الأسمى` من خلال الحركة الدائمة التى لا تتوقف أبدا، وأن إزاحة الحجب عن وجه الحقيقة يحتاج إلى جهاد فدائى شاق، وطول نفس لا يمكن أن يُعرف مداه، وإلا كانت النتيجة حكم بالحرمان من الاقتراب، ووقف أبدى على حافة التخلف والاغتراب.!!
- خلاصة القول أن ذوبان الماضي في الحاضر ليس إلاتصًور وهميًا لا يمثل الحقيقة المطلقة، وأن كل لحظة فى سلسة الزمن تعتبر حالة قائمة بذاتها، جديرة بالتوقف عندها ومعايشتها على حدة باعتبارها وحدة مستقلة فى منظومة الحركة الكونية، وهذا هو ما حققه الفنان` حسن سليمان` أو حاول أن يحققه عند ما قام بتفتيت الزمن لاتفتيتا بصرياً مثل اللقطات المتوالية فى الشريط السينمائى، وإنما تفتيت ذهين ( صوفلسفيًا) أى صوفى فلسفى، يحترم استقلالية اللحظة التى تعتبر عمراً بأكمله له خصائصه الذاتية وهويته المستقلة التى لا تدركها الأبصار.!!!
- ويظل القلب النابض فوق الطاولة متسربلا بصمته الرمادى، متدفقا دومًا ومشعًا أبدا، مثل الخيوط اللامرئية المنبثقة من الشمس وهى تمد أطرافها فى كل اتجاه، لتبعث الدفء والحياة فى كل كائن تلمسه، وتكسبه استقلالية ذاتية وشخصية متفردة...
- وهكذا يتجلى (المستتر وجوباً) على صفحة الوجود بما يفيض من إشعاع معنوى ينعكس بدوره على صفحة الواقع الحاضر محققا وجوده فوق خريطة الإبداع...
- إن مثل الحقيقة المتغيرة شكلا لا موضوعا، مثل ربة البيت التى تبًدل ثوبها عدة مرات فى اليوم الواحد.. وأن هذا التغيير لا يحدث عشوائيا وإنما وفقا لبروتوكول مخطط تبعا للمناسبات التى يستخدم فيها الثوب، فهناك ثوب للنوم، وثوب لاستقبال اليوم الجديد، وثوب للمطبخ، وثوب للخروج للتسْوق، وأخر للسهرة.. ولا يجوز أمام هذا الحشد من الثياب تفضيل ثوب على أخر، لآن لكل مقام مقال، والمفاضلة فى هذا المقام تتبع ملاءمة الثوب للمناسبة التى صنع من أجلها.. لا لأى اعتبار أخر..
- إن المواقف والحالات التى تتمخض عنها الرؤية ( الصوفلسفية)المشبعة بالتأمل العميق والذوبان فى المطلق قد تتغير تبعا لتغير مواقع الأشياء وظروفها وعلاقتها بمحيطها ومهما تقاربت هذه الحالات أو تباعدت، فلابد من التصور أن بين هذه الأحداث فاصلاً افتراضيًا كفيلاً بأن يغير من مظهر الحدث الذى تفرضه اللحظة وحركة الكون...
- ويحاول الفنان` حسن سليمان` إعادة أمجاد فروسية القرون الوسطى وتقاليدها الصارمة.. التى كان فيها الصراع متكافئا بين الخصمين، فهو أمام اللوحة يعلم يقينا أنه يواجه خصما عنيدا لا يقبل الهزيمة، إنها معركة حياة أو موت، وهذا يتطلب منه الحرص الشديد واليقظة التامة حتى لا تفلت منه السيطرة على فرشاته.. وهو يرى أن الهزيمة بشرف خير من الغلبة بالخداع أو السهو أو الحوار السطحى مع أقدس المقدسات، ولهذا يقول إنه لامجال للعشوائيات فى هذه المعركة المصيرية التى تحدد جدارة المبدع واستحقاقه لحمل لقب فنان..
- وترافقنا دائما أثناء متابعة أعمال الفنان فارس النور والظل، وفارس معمارية اللوحة، والغواص الطويل النفس، وقناص اللحظة من براثن الزمن، ومراقب الصراع الشرس بين الأضداد، ترافقنا عذوبة شاعرية تفوح من العناصر الحالمة مثل البخور الذى يتصاعد من عقود المعابد والأديرة وينفذ إلى تلافيف النفس يبث فيها نشوة الذكريات البعيدة فيتمنى المشاهد ألا يفيق من غفوته عبر اللازمن، ترافقه أستاذية الأداء، وعمق الملاحظة، ودقة، التحكم الإرادى فى المفردات التى تطل على استيحاء رمادى من اللوحات، وخاصة شفافية الظلال الحالمة التى ترقد فى استسلام نبيل فوق صدور الأوانى الوادعة، موحية بحس ميتافيزيقى المذاق، ومناخ سيريالى النكهة، لكنه يختلف عن سيريالية الطواطم المختفية خلف أقنعة الواقع السطحى...
- إنها ماورائية الحقيقة المجردة، المعطرة بصفاء الرؤية، ونقاء البصيرة، والزهد الصوفى الذى يغوص بمشاعر الفنان فى أعماق الأعماق
- وتصوًف الفنان حسن سليمان ليس تصوفا دراويشيًا يقصد به نبذ الطقوس التقنية والمهارات الحرفْية، والحرمان من متعة التحاور مع لمسة الفرشاة، فكثير من المتصوفين كانوا بالغى الثراء، وبعضهم كان من الأمراء وورثة العروش الذين هاجروا من مظهرية البذخ وتفاهة الترف المادى إلى رحابة الوجود والاندماج فى المطلق.
- إنها دعوة هامسة صارخة للنظر إلى الأشياء لا بالعين المبصرة، ولكن بعين البصيرة التى تغوص فى الحقيقة، وتترك الزيد للقابعين فوق الشواطئ الضحلة.!!
- إنها دعوة إلى التشبث بأبدية القيم وعدم الانبهار بالسطحية البهلوانية التى لا تدوم أكثر من دوام الفقاعات العابرة...
- إنها دعوة إلى الإيمان بأن التطوير والتجديد لا يعنيان هدم الأسس التى تمثل شرايين الحياة التى تمدها بالدماء التى كررها وطهرها أكسوجين) المعرفة والخبرة، وإنما تعنى التمسك والتشبث بقانون أبدية الثوابت والمتغيرات..
- إنها دعوة لمقاومة الملل وممارسة رياضة طول النفَس الذى يمكَن الفنان من التغلب على ما يصادفه من عقبات فى رحلة الكشف والبحث عن الحقيقة.. ولهذا لايمل الفنان الكبير ` حسن سليمان` من القول إنه يعتبر نفسه تلميذا مبتدئا يخطو أولى خطوات التجربة فى مشوار الفن البعيد... يقولها دائما لا للتظاهر بالتواضع وإنما تأكيد بأن المعارف الخالصة لا تدرك إلا بالمعاناة والجهاد لدرجة الاستشهاد وأن رحلة الإبداع رحلة وعرة وقودها الإيمان بنبل الهدف، وقدسية الغاية، وبلوغ النقطة التى يذوب فيها الكل فى الواحد، والواحد فى الكل.
بقلم : حسين بيكار
مجلة : إبداع العدد (1) يناير 1999
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث