فنان السد واللحن الذى لم يكتمل
- صادق محمد لامع في ميدان فن النحت بدأ يتلألأ عام 1951 حين فاز بجائزة ` مختار ` للنحت فى ثلاث دورات متتالية هى أعوام 1950-51/52. وهى مسابقة كان يتنافس عليها جميع نحاتى مصر فى ذلك الوقت، أما بعد ذلك فقد ارتبط اسمه بلوحة ` العدالة` الضخمة التي تتصدر مبنى مجمع المحاكم بالقاهرة .. وما لبث أن اقترن مرة أخرى بالمسابقة الكبرى التى فاز فيها سنة 1969 بنحت اللوحة التذكارية الهائلة على سفح الصخرة الغربية إلى جوار محطة الكهرباء بالسد العالى بأسوان إلا أن هذا العمل التاريخى لم يقدر له أن يكتمل.
- يتميز صادق محمد بأنه فنان ملتزم .. يستطيع أن يتمثل مضمون العمل المطلوب، ومعالجته بالأساليب المناسبة، وإبداعه قالبا تشكيليا بديعا، مع استلهام التقاليد التراثية الممزوجة بالنكهة المعاصرة والإبداعية الذاتية. فهو فنان ملتزم بمواصفات محددة فى معظم ما يبدعه من أعمال.. حريص على مناسبة الخامة للشكل للموضوع للأسلوب.. فى كل مترابط متكامل مثير للإعجاب.
- والواقع أن ` الالتزام ` الفنى كان مثار جدل متشعب وكان أهم ما يؤخذ عليه أنه يحرم الفنان من حرية التعبير مما يقلل بالتالى من القيم الجمالية التى يودعها الفنان عمله إلا أن صادق محمد.. بلوحته على مجمع المحاكم، ولوحته الهائلة التى كان سيقيمها فى أسوان :
يقدم الدليل على عدم صحة ذلك الإدعاء، خاصة وأن الحرية المطلقة لم تكن فى يوم من الأيام شرطا لجودة العمل الفنى وامتيازه هناك أبعاد أخرى للعمل الفنى لا تتعلق بالحرية أو الالتزام. فأصالة الفنان.. ودرايته التكنيكية .. وقدرته الأسلوبية، هى الفصيل فى قياس امتيازه. ولنا في تاريخ الحضارة الإنسانية أدلة بعد أدلة لتدعيم هذا الرأى..
- لم يكن الفنان حرا كل الحرية إلا فى وقت مبكر من التاريخ فمنذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، بقى لنا أقدم عمل فنى عرفناه.. وهو رسم مسجل على صفحة من الطين المتحجر فى كهوف ألتاميرا بأسبانيا، أبدعه الإنسان الأول بحرية مطلقة وبأصابعه المجردة على شكل خطوط متعرجة متوازية ومتقاطعة، مستهدفا شكلا حيوانيا. كذلك نلاحظ هذه الحرية فى عصر الإنسان الصياد، الذى كان فنانا فى نفس الوقت، والذى وجدنا رسومه التى سجلها فى كهوف لاسكو بفرنسا منذ خمسة عشر ألف سنة.
- فى ذلك التاريخ لم تكن كلمة ` فنان ` تحمل المضمون الذى نألفه اليوم.. بل إنها لم تكن موجودة على الإطلاق.
لم يعرف الفنان ما يسمى بالحرية المطلقة بعد ذلك عبر آلاف السنين. فما أن تكونت المجتمعات وانتظمت حتى فقد الفنان حريته فقدا كاملا. وفى العالم القديم.. كان الكهنة والحكام هم الذين يستخدمون الفنانين ويعتبرونهم ضمن العمال اليدويين .وكانت أهم الورش الفنية ـ أو الاستوديوهات ـ ملحقة بالقصور ودور العبادة على أختلاف أنواعها عبر العصور، يعمل بها الفنانون بوصفهم عبيدا أو موظفين أو متطوعين. ومع ذلك .. ففى ظل تلك الظروف المقيدة، تم إنجاز أعظم قدر من الإنتاج الفنى وأروعه، علي شكل هدايا للآلهة.. ونذور.. وصروح ونصب تذكارية. لقد ذابت شخصية الفنان أنذاك فى تلك الروائع، ولم يظهر توقيعه على عمله إلى في وقت متأخر فى القرن الثانى والثالث عشر حين تكونت التجمعات والطوائف الحرفية.. تلك التنظيمات التى لم تكن معروفة لدى المصريين القدماء واليونانيين والرومان.
- والحقيقة أننا لو أمعنا النظر فى معظم الأعمال الفنية الحديثة، تبينا أنها فى إحدى زواياها تعتمد على الالتزام، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالرغم من تبلور شخصية الفنان وبروزها فالفنان الذى يلمس تحمسا لأسلوب ما سرعان ما يلتصق به ويجوده .. وهذا فى حد ذاته التزام برأى الآخرين ولكنه يسفر بدوره عن روائع نرى نماذجها بيننا كل يوم . وغنى عن القول أن الأعمال الصرحية جميعا لا يتاح لفنان فرد أن يبدعها على هواه، لأنها تتطلب نفقات باهظة لا يقدر على تغطيتها إلا المؤسسات والسلطات، لذلك كان لابد للفنان من أن يلتزم بمواصفات معينة أثناء إبداعه لتلك الصروح والنصب التذكارية . من هنا.. نرى أن `الالتزام` لا يقلل من شأن العمل الفنى ولو لم تكن هذه حقيقة لاختلف حكمنا على أعمال مشاهير عصر النهضة وعلى رأسهم ميشيل أنجلو.. وعلى مشاهير العصر الحديث أمثال: الفرنسي فرنان ليجيه.. والانجليزى هنرى مور ..والمكسيكى ريفييرا..
- فى هذا الضوء ..نستطيع أن نتأمل أعمال صادق محمد عبر السنوات التى زاول خلالها فن النحت ،متوجها بلوحته الصريحة التى يشرع فى تنفيذها فى أسوان، نتأمل أعماله باعتباره فنانا ملتزما بشروط معينة، وباعتبار أن هذه اللوحة - علي حد قوله :`اعظم أعمالى .. بلورت فيها سنى عمرى.. وضمنتها كل خبراتى السابقة التى أصبحت مجرد مفردات تشكيلية، وأوصلتنى إلى هذه البساطة والبلاغة التى تراها`.
- كان الموضوع الذى التزم الفنان بالتعبير عنه هو: كفاح شعب مصر فى بناء السد على أن يكون على هيئة لوحه كبرى من النحت البارز على مساحة تمتد ستين مترا وترتفع سبع وعشرين مترا، تقام على الهضبة الغربية إلى جوار محطة الكهرباء فى موقع السد العالى، وتتخذ شكل النصب التذكارى الذى يتمكن الزائر من مشاهدته من كل من الشاطئ الغربى والشرقى على السواء.
- استغرقت المعاينات الأولى بضعة أيام ، كان صادق محمد يجوس خلالها فى أنفاق السد مأخوذا بقدرة العلم الحديث وعظمته . وأحس بالتحدى الحقيقى الذى يتطلب إبداعا فنيا موازيا لتلك العظمة العلمية . فتعددت الزيارات والتأملات حتى استشعر نضال شعبه الكامن فى كل جزء من مبنى السد .وفحص الصخرة المعينة عسى أن تصلح لأن ينحتها بازميله علي طريقة أجداده القدماء لكنها كانت مؤلفة من طبقات صخرية غير متجانسة تهدد العمل بالزوال. من هنا كانت فكرة استخدام الخامات الحديثة :الاسمنت المسلح وحين عاد إلى ورشته بشارع الشيخ ريحان بالقاهرة كان يغادرها كل صباح ليضرب الشوارع بقدميه متأملا العمائر العالية.. من بعيد.. يحصى تسعة طوابق هى ارتفاع اللوحة المطلوبة ..ثم يسبح بخياله حتى ينسى الوجود من حوله ويختفى المبنى من ناظريه، وتتبدى له الصخرة الهائلة فيحاول أن يحط عليها بخياله التصميم الأمثل الذي يناسب عظمة السد العالى وجلاله ومضت الأيام حتى تجمعت شهرين. كان ينام خلالها فى ورشته حالما بأن ينحت باسم الشعب صرحا يبقى علي مر السنين شاهدا على حضارتنا الحديثة .وأخيرا.. اهتدى إلى التكوين وعناصره.. وشرع يحسب المرتفعات والمنخفضات حتى يحصل على الظلال التى يريدها، وفقا لزوايا سقوط أشعة الشمس فى المكان المعين بأسوان، بحيث يمكن مشاهدة الصرح من بقاء النسب التى تسمح بالرؤية التشكيلية.. فعين الزائر قد تراه مصغرا إلى مئات المرات.. ولغة المنظور التشكيلى لغة خاصة عرفها المصريون منذ آلاف السنين، حين شيدوا صروحهم ومعابدهم على ضفتى النيل من بعيد.. تتضاءل مساحة اللوحة الهائلة، وتختفى بعض العناصر ويقل بروز البعض الآخر، لكن .. يجب أن تبقى القيم الجمالية والمضمون التشكيلى، والا تبدل التكوين إلي شكل تلقائى جديد لا يريده الفنان، كانت هذه هى إحدى المهام الصعبة التى تستلزم دراية معمارية وتكنية تمرس فيها صادق محمد حتى عرف كيف يحفظ إبداعه من أن تعبث به عوامل خارجة عن إرادته فحين شكل الرجل والسيدة وسط اللوحة، ارتفع ببروزهما حتي صار محجمين تحجيما كاملا يكادان أن ينفصلا عن باقي التكوين، بينما أمال صحفة الصخرة من خلفها حتي يسمح لأشعة الشمس بالمرور.. وإلا سقطت ظلالهما على باقى التشكيلات فأخفتها. فالإبداع الفنى لا يكفيه الخيال والأصالة، إنما يستلزم القدرة على التنفيذ، التى هى العامل الحاسم فى السماح للقيم الجمالية بأداء دورها فى المكان المحدد ومن جميع الزوايا المتاحة فبالقدرة الحرفية المتينة يوجد العمل الفنى الممتاز..
- فى إطار هذه الاعتبارات جميعا.. أبدع صادق ملحمته النحتية الروائية التى يمكن استقراء رموزها واستيعاب مضمونها فى وضوح كامل. لكننا لا نكاد نغض الطرف عن التفاصيل العناصر التشخيصية، حتى نجد أنفسنا أمام عمل نحتى تركيبى حديث يعتمد على التعامل بين الأفقيات والرأسيات والتوزيع الاوركسترالى للمساحات.. والتباين بين المنخفضات والمرتفعات.. والملامس المتغيرة عبر المساحات المتوافقة... والحوار المحسوب بين الكتلة والفراغ. تلك هى الأسس التشكيلية الحديثة التى شيد عليها الفنان صرحه الذى كان سيصبح جزءاً من السد طوال السنين القادمة...
- فى ذلك التكوين المتكامل.. تذوب برودة العلم في حرارة الفن، وتتحول ميكانيكية السد إلى شعر وخيال.. ويحس الزائر بكل الخير والحياة. ويستطيع فى نفس الوقت أن يتتبع القصة البطولية لكفاح الشعب فى بناء السد. فالتمثالان الكبيران فى الوسط يمثلان الشعب يدق بقبضته، آمرا ببناء السد وبداية عصر الصناعة والكهرباء ونلمس فى لفتة الرأس ووضع المنكبين وترتيب الساقين.. أسلوباً مصرياً تراثيا مازلنا نشاهده على أثارنا القديمة. كذلك الخطوط المنكسرة التى ترمز إلى الماء وترتفع إلى السماء حيث النسر المحلق.. رمز الجمهورية ثم قناة السويس بجوارها المحراب والسعف، إشارة إلى الاستشهاد والنصر. فمن خلال التصميم والتركيب لم يفت الفنان أن يؤكد القيم الروحية المسترشدة بنور العلم، فوضع الترس رمز الصناعة ـ كأنه الشمس يتسنم قمة الجانب الأيسر من اللوحة. بينما السد بكيانه الهائل كأنه كائن أسطورى يرقب بعين مصرية ما تحققه الأجيال بما هيأ لها من أسباب الخير.
- درس الفنان كل العوامل التي تضافرت على تشييد السد العالى، وجسدها فى رموز موزعة بحكمة فى أنحاء التكوين: رموز للشعب.. والجند.. والعمل.. والفكر.. وخطوات عمل السد نفسه، كل ذلك فى لغة تشكيلية واضحة. فالمكان سياحى يؤمه زائرون من مختلف أنحاء العالم ومن مختلف أنماط الثقافة..
- لجأ صادق محمد إلى هذا الأسلوب الإنشائى الرمزى ملتزما بضرورات التكنيك والمكان والمضمون والخامة. وإذا كان فنانا ذا طابع تشخيصى، فانه يتميز بالطلاقة.. بمعنى القدرة على تنويع أشكاله التشخيصية وابتكار المترادفات المعبرة..كما نلحظ فى الأسلوب الذى اتبعه فى لوحة ` العدالة` التى تتصدر مبنى مجمع المحاكم بارتفاع خمسة عشر مترا.
- استخدم الرموز والتشخيص فى هذه اللوحة أيضا، لكنه اتبع تكوينا كلاسيا تقليديا فى تصوير العدالة ومن حولها العامل والفلاح والمثقف.. ونماذج من فئات الشعب، مفعمة بالثقة والايمان، فى حركات تذكرنا بأعمال عصر النهضة. فالجميع فى أحجام متساوية ما عدا العدالة نفسها.. فهى ضخمة.. والمحامى إلى جوارها صغير يزيد فى ضخامتها. والجميع ينتظمون تصميما دائريا يطير فى قدسية سماوية توحى بالحق والكمال. كما أن الايقاع الدائرى يتضمن معنى الاستقرار والاستمرار والاتزان.. دون حسابات رياضية للمنظور أما التماثل الواضح فمقصود من أجل استكمال المضمون. لكن.. لا تكرار فى حركة الأشخاص رغم أنهم جميعا وقف يستظلون بميزان العدالة..
- إن صادق محمد بهذا النوع من الأعمال الفنية، إنما يقدم فنه للجماهير العريضة: فى المؤسسات والشوارع.. والحدائق. فتمثاله `حاملة الخيرات` هو التمثال المصرى الوحيد فى حديقة التحرير بين مجموعة التماثيل ذات الطابع الرومانى كذلك فى مدخل المتحف الزراعى حيث تستقبلنا لوحتاه البارزتان عن ` الجنى والحصاد` و` مصر والسودان` وبالرغم من أنه فنان ملتزم فى معظم أعماله فإن له أعمالا تجريبية عديدة تعتبر إسهاما في حركة النحت المصرى الحديث، منذ أن التحق بوظيفة نحات بالمتحف الزراعى سنة 1933 ففى الأربعينات، شارك فنانى الطليعة فى ذلك الوقت: فؤاد كامل.. كامل التلمسانى.. محمود سعيد.. رمسيس يونان.. وغيرهم شاركهم فى معارضهم التى ثاروا فيها على التقاليد الأكاديمية، فإبداع تمثال` الرقص` الذى عنى فيه بالمبالغة فى التعبير عن الجسد الأنثوى والأهتمام بالخطوط الخارجية وعلاقة البروزات بالانخفاضات، مع إهمال الكثير من التفاصيل في سبيل تأكيد القيم التشكيلية وتعبيراتها اللاموضوعية .كما أبدع رأس سيدة بعنوان ` النمرة ` اتجه به إلى التكعيبية مع لمسات تعبيرية ورمزية.
فقد أهمل الشفتين كناية عن الصرامة، واستكمل هذا المعنى بتحويرات فى تشكيل العينين وخصلات الشعر وأمعن فى السيريالية أحيانا فأبداع رأسا آخر بعنوان` هى` كان مجرد تلافيف متماوجة تحيط بفراغ يمكن للرائى أن يتخيل فيه ما يشاء من الوجوه.
- إلا أن هذا الإبداع التجريبى الذاتى لم يقتصر على الأعمال الحرة، بل تعداها إلى الموضوعات العامة التى لم يكلفه بها أحد فحين أممت قناة السويس، استشعر فرحة غامرة أراد أن يعبر عنها بطريقة فريدة لم يجد لها أوفق من ` حلاوة المولد` خامة مناسبة نابعة من عامة الناس فنحت تمثالا رمزيا تشخيصيا مزخرفا بالاوراق البراقة الملونة وبصرف النظر عن موضوع التمثال ومضمونه فإنه يدخل ضمنا تجاه الفن الجماهيرى ـ بوب آرت ـ قبل أربعة عشر عاما من انتشار هذا الاتجاه على هذا النطاق الواسع الذى نشهده اليوم.
- مع ذلك.. لم ترتبط أعمال صادق محمد عن وعى بمدارس فنية معينة. بل كان ينتقل من أسلوب لآخر مندفعا بعاطفة متقدة وإحساس مشحوذ ومهارة مكتسبة من خلال الإنتاج الغزير طوال السنين. وإذا تأملنا عمله الصرحى، لم نصادف له شبيها فى أعماله السابقة جميعا..
بقلم: د./ مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الثانى )