
	:استعرض الأخبار السابقة

فى العمل التصويرى ` دورة الوهم ` للفنان العراقى سيروان باران ببينالى القاهرة الثالث عشر

فى العمل التصويرى ` دورة الوهم ` للفنان العراقى سيروان باران ببينالى القاهرة الثالث عشر
` الكلب يتوحد مع وحشية السلطة `
( الناقد محمد كمال )
فى عام 1968م ببغداد ولد الطفل العراقى سيروان باران عارف بالتزامن مع عودة حزب البعث العربى الإشتراكى للسلطة بعد الإطاحة بالرئيس عبد الرحمن عارف وتولى أحمد حسن البكر رئاسة مجلس قيادة الثورة ثم رئاسة الجمهورية قبل أن يتولى صدام حسين منصب نائب الرئيس .. أجواء من الصراعات الحزبية والإنقلابات العسكرية والصراعات الدموية مع إيران لمدة ثمانى سنوات بين سبتمبر عام 1980م و أغسطس 1988م ، خلفت نحو مليون قتيل ، ثم حرب الخليج الثانية التى نشبت عقب غزو العراق للكويت فى الثانى من أغسطس عام 1990م ، قبل أن تتحالف القوى الدولية تحت قيادة من الطغيان الأمريكى لشن الحرب على العراق فى مطلع العام التالى لتحرير الكويت ، وهو نفس العام الذى شهد تخرج الفنان سيروان باران من جامعة بابل ، وكذلك أول معارضه كفنان شاب فى قاعة ` الرواق ` ببغداد كواحدة من أشهر القاعات العراقية والعربية ، وذلك داخل مناخ معبأ بالبارود والدم ، ماكان بداية لحصار العراق بكل قسوة وشراسة حتى بزوغ المزاعم الكاذبة بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ، والذى أدى إلى الإجتياح الأمريكى للعراق فى العشرين من مارس عام 2003 م وإسقاط حكومة حزب البعث التى استمرت فى السلطة قرابة خمسة وثلاثين عاماً إمتزج فيها عبق الرخاء الفوّاح بعطن الدم المراق .. وربما تكون تلك التركيبة الإنسانية المحتشدة بالمتضادات الدرامية هى التى أثرت على الجهاز النفسى والبناء الوجدانى للفنان الشاب سيروان باران الذى كان فى بداياته واقعياً إنطباعياً يدون عشقه للعراق على مسطحاته التصويرية التى احتشدت بأهل الوطن البسطاء ، حتى انتقل إلى الأردن عقب تدنيس الغزو الأمريكى للعراق عام 2003 م ، ليقضى فى عمان حوالى عشر سنوات كان خلالها قد بدأ فى تأسيس أسلوبه البنائى الجديد الذى أصبح بمثابة جسر إبداعى للبوح بسخطه على آلة الحرب الجهنمية التى لايستفيد منها إلا الجنرالات بأنواطهم ونياشينهم المغموسة فى دم الشعب ، مثلما تستفيد القيادات الدينية من إشعالها للنيران الطائفية والمذهبية كما يرسخ فى وجدان سيروان ، وهو ماجعله يستثمر أكثر من صنف فنى فى التعبير عن الدموية والتسلط بين النحت بالطينة ثم الصب عبر البرونز والبوليستر ، وكذلك الرسم والتصوير بعدة خامات مثل الفحم والألوان الزيتية والأكريليكية والمائية .. وربما فى ذلك العام الصعب 2003 م الذى احتل فيه الأمريكيون العراق بعد عمليات عسكرية متتالية من العشرين من مارس حتى الأول من مايو بدأت علاقة باران بالكلب الذى رآه يحتل مساحة كبيرة مع الغازى الأمريكى فى ترويع أهل العراق من خلال التفتيش والتنقيب عن مصادر المقاومة وأدواتها ؛ فقرر أن يدرس هذا الكائن الذى ارتبط فى مخيلته بالحضارات المتنوعة مثل المصرية واليونانية والفارسية والماياوية .. وظل سيروان يكتشف الكلب نفسياً وحضارياً وتشريحياً حتى بعد انتقاله للإقامة فى بيروت بداية من عام 2013 م وحتى الآن ، مروراً بمعرضه عن ` الكلب ` الذى أقامه فى مارس من العام الماضى 2018 م فى إحدى قاعاتها.. والمدهش هنا أن سيروان يحب تغيير الأماكن عبر ترحاله لدول مختلفة لأنه يعتقد أن هذا يمده بالإلهام الذى يزيد أعماله ثراءً وتنوعاً .. وبقى الكلب فى عقل ووجدان سيروان ممتزجاً بكراهيته للسلطة المستبدة والمغامرات الرعناء للجنرالات ، حتى تقابل الطرفان فى عمله الأخير ` cycle of illusion ` أو ` دورة الوهم ` الذى عرضه مؤخراً فى بينالى القاهرة الدولى الثالث عشر داخل متحف الفن الحديث عبر لوحة تصويرية ثلاثية ` triptych ` نفذها بألوان الأكريلك على القماش ، ومساحة كل جزء فيها بلغ 200سم × 250سم .. وفى هذا البناء المركب يظهر الكلب فى الثلاثة أجزاء بأوضاع مختلفة ، أولها مربوطاً فى يد أحد الجنرالات ببزته الميرى الخضراء ، وغطاء رأسه الأسود ` الباريه ` ، وبيادته الغليظة اللامعة التى ابتلعت جزءاً من بنطاله ، ويده اليسرى التى وضعها فى جيبه الأيسر كى يظهر واثقاً من هيمنته وجبروته .. أما رتبه فبدت ثقيلة على كتافته ، بينما تعمد باران أن يطمس الجزء الأيسر من وجه الجنرال بلون ترابى ظهر كذلك فى الهالة المحيطة برأسه ليبدو أكثر قسوة وتوحشاً ، سيما مع شاربه المنتفخ تحت أنفه .. وقد بدا الكلب فى حركة عنيفة وكأنه يهُم بالتهام فريسة أوحى له بها الجنرال ، بينما ظهر فى الخلفية ذلك الشكل الهندسى المنشورى الذى يكمل دائرة الإيهام بتلك البناية الحبلى بالخوف والذعر وكأن الجنرال وكلبه قد خرجا منها للتو من أجل فاصل من الترويع ، علاوة على ميل سيروان لخلق معادل بصري بين الهندسى الثابت والعضوى المتحرك ، بما يصنع التوازن فى المشهد التصويرى .. وقد جاء الأداء العام على السطح إنطباعياً بمجموعة فراجين فى أغلبها عريضة تهرب من التفاصيل الدقيقة للمحافظة على روح الفكرة السلطوية الإستبدادية ، وهو ماجعل حركتها عريضة سريعة كاشفة عن توتر عصبى إبداعى مقصود من الفنان للإيحاء بانفعالاته المناوئة لتجار الخوف ، وهو الإتساق بين الشكل والمضمون الذى يرفع من قيمة عمل سيروان باران ودرجة مصداقيته .
وبنفس المنطق التصويرى والرمزى ينقلنا الفنان معه للجزء الأوسط من العمل ، حيث لون آخر من التسلط المتمثل فى ذلك الرجل بغطاء رأسه الأسود ونضارته الداكنة وشاربه المستوى وبزته الأنيقه وقميصه الأبيض ورباط عنقه الأنيق ، وقد وقف متحفزاً ومتربصاً بهدف ما ، مسيطراً على كلبه بحبل قصير ، وبينهما مساحة حمراء مضيئة فرشها سيروان كدم منسكب على الأرض ترميزاً لحالة قتل منتظر .. وقد ظهر نفس البيت المنشورى فى الخلفية وكأنه صار رمزاً عند الفنان للفزع والرعب ، فى حين ظل محافظاً على نفس أداء فرشاته المتوترة ذات الإيقاع الإنطباعى السريع الكاشف عن رغبته فى مواجهة الجبروت السلطوى .
وعند أعلى نقطة على منحنى الدراما التصويرية الرمزية يرحل بنا سيروان باران إلى المسطح الأيسر ، حيث ذلك السجين حافى القدمين الذى يرتدى البدلة الحمراء ، وقد ألبسوه غطاء الرأس الأسود وأوثقوا ذراعيه خلف ظهره وكأنه يستعد للإعدام ، بينما انطلق صوبه أحد الكلاب بكل شراسة وعنف ليزيده خوفاً على خوف ، وقد بدا المشهد بدون طرف متجبر لأن سيروان هنا أراد الترميز لتوحد الكلب مع وحشية السلطة المختفية من الصورة ، سيما أن حركته هنا بدت أكثر عنفاً وكأنه قد أصبح هو الكلب والمستبد نفسه فى كيان واحد ، لذا فقد زادت بالضرورة حيوية حركة الفرشاه وأمست ضرباتها أكثر توتراً ووسعاً لضبط توافقها مع ذروة الذعر ، وكذلك البناء المنشورى الذى رسخ فى وجدان الرائى أنه قد أمسى رمزاً للفزع وموطئاً لوحشية السلطة .. فإذا دققنا فى العمل بأجزائه الثلاثة سنجد الفنان قد استطاع عن طريق الحراك المختلف للكلب أن يجسد جبروت الإستبداد عبر تعامد بين الرأسى فى كل قطعة ، والأفقى بين كل قطعة وأخرى على امتداد مساحة التلقى ، من خلال ذلك التنوع الإيقاعى للتكوينات الثلاثة ، وتلك الفرشاة الواثقة الرشيقة التى تفر دوماً من التفاصيل ، رغم التمكن التشريحى للفنان فى صياغة عناصره الحية ، وهو مامنح العمل كله طاقة إضافية على مستوى الأداء الإنطباعى والرسالة السياسية والإنسانية التى تصلح لكل الأزمان الفائتة والحاضرة والقادمة .
وعند هذا المنعطف فى استيعاب الشخصية الإبداعية للفنان العراقى القدير سيروان باران ربما ندرك أنه استطاع أن يلتحم بكيانه النفسى والعصبى والوجدانى مع حالته التصويرية تبعاً لسياق مشواره الفنى كما أسلفنا ، وقد تجلى هذا فى عمله الأخير محل التحليل ، والذى استقطر فيه الرائحة الفجة للإستبداد الغاشم من خلال كلبه الذى توحد مع وحشية السطة .
محمد كمال
Mohamed Kamal
Serwan Baran

عودة

البوم الصور :