
	:استعرض الأخبار السابقة

قراءة فى أعمال الفنان الإفريقى `أرنست دوكو - Ernest Duku ` `سيميوطيقا الشرق` بين التواصل واللغة والتشكيل

قراءة فى أعمال الفنان الإفريقى `أرنست دوكو - Ernest Duku ` سيميوطيقا الشرق` بين التواصل واللغة والتشكيل (الناقدة: سوزى شكرى )
فى البدء كان الرسم، والرسم كان رمزًا، والرمز كان معنى، والمعنى كان كلمة ، ومن تتبعنا للرمز عبر التاريخ ، وجدنا أن الرمز هو المرحلة الأولى الإنسانية التى أبدعها الإنسان البدائى للتعبير عن ذاته، ولتجسيد انفعالاته وللتواصل مع الآخر، وذلك قبل التوصل إلى اللغة المنطوقة والأحرف الأبجدية المتعارف عليها اليوم ، فكان الرمز خدشًا ونقشًا ورسمًا على جدران الكهوف، رسمًا مبسطًا تخطيطيًا لأشكال آدمية وحيوانية منها خرافية وغرائبية (الطواطم) وأشكال زخرفية نباتية وهندسية مجردة، أنتجها من واقع تفاعله وتأثره بعناصر بيئته ليسجل يومياته ويوثقها للأجيال المتلاحقة، وكأنه عرف الرمز والتوثيق بفطرته ، وأيضا خلق مجموعات لا حصر لها من الإشارات والعلامات والأيقونات بصياغات متنوعة وتم توظيفها تشكيليًا وجماليًا، تلك الرموز كانت ولا تزال هى المعادل البصرى التشكيلى للمعانى والكلمات .
*رمزية الكتابة التصويرية عند المصرى القديم
---------------------------------------------
ومن الحضارات الإنسانية، التى تركت إرثًا ثقافيًا الحضارة المصرية القديمة، والتى قامت أعمدة حضاراتها على الرموز عن الآلهة والحياة والبعث والخلود، لكن سوف نرتكز هنا تحديدًا عند العلاقة بين الرمز وتجلياته كلغة تواصل مع الآخر، وكلغة تشكيلية بصرية، ونصية مرسومة، وذلك لوجود مقاربة فكرية فى رسومات الفنان الإفريقى `أرنست دوكو` Ernest Duku - ساحل العاج، أحد فنانى إفريقيا المشارك فى بينالى القاهرة الدورة الثالثة عشرة ، `دوكو` يرسم بالرمز وبالخط وباللون وبالأشكال الهندسية، وبالكلمات وبالأحرف وبالأرقام وبالعلامات وبالإشارات وبالأيقونات والتى سوف تفسرها تباعًا .
نشيد بما قدمه المصرى القديم، فيما يخص أسلوبًا للكتابة عن طريق الرمز، فقد مارس الكتابة على أنها نتاج فعل الرسم والتصوير، فنجد أن الكتابة والرسم ، الكتابة والنقش ، الكتابة والتسجيل كلها مرادفات لمعنى واحد هو وجود الرمز ، بدأت الكتابة المصرية بدايات تصويرية وهى الهيروغليفية Hieroglyphic، وتعنى `النقش المقدس`، هى عبارة عن رسوم رمزية اختزالية مبسطة لعناصر ومفردات من الواقع، مثل الحيوانات الطيور والأشخاص والأدوات والنباتات وغيرها، كما حرص المصرى القديم أثناء اختياره للعنصر أن يكون محملًا بسماته وصفاته التى يتواجد عليها فى الطبيعية ، وهذا ما فعله ` أرنست دوكو` فى اختياره للرمز، أن يكون له إرث ومعنى وقيمة، وأن يكون رسمًا ونقشًا زخرفيًا وجماليًا تشكيليًا، ليصبح عنصر تواصل مع العالم ،وليس مع بيبئة الرمز فقط ، أما المصرى القديم فأضاف صفة جوهرية للرمز، إنه لغة نصية مرسومة لمجموعة من النصوص ونتج عنها البدايات الأولى لنظم الكتابة .
*الرمز الإفريقى بين الفلسفة الحديثة وفنانى الغرب
------------------------------------------------
أثار ` الرمز` العديد من الفلاسفة وأدركو أهميته فى تاريخ الحضارات، ومنهم من اعترف بوجوده ، ومنهم من تهكم بالسخرية على أن من صنعوا الرمز وقعوا تحت تاثير الاستعمار ، الفليسوف الألمانى `هيجل Hegel (1770م - 1831م) يرى : `أن الرمز هو بداية الفن من الناحية التاريخية، ومن الناحية الفنية ، ومصدره الشرق ومنهم الحضارة المصرية وحضارة الصين ، إلإ أن الرمز فى إفريقيا ، أنطوى على ذاته وخضع لمعتقدات الأسلاف `.
ومن جانب آخر الفليسوفة الأمريكية سوزان لانجر Suzanne Langer(1895 - 1985) وضعت وصف آخر للرمز: `أن هناك فرقًا بين أن يكون بالعمل الفنى رموز فنية ، وبين الرمز كفن ، ووجود الرمز ليس بالضرورة أن العمل كله ينتمى إلى الرمزية ، والعمل الفني هو فى الاساس رمز لموضوع ما `.
الجزء الأول من رأى `هيجل`، اعتراف صريح بأن الرمز مصدره الشرق، إلا أن هجومه على رمزية الفن الإفريقية، تعد رؤية محدودة مرتبطة بالنظرة القديمة لفنون الشرق ، ولم يتلف أحد لرأى ` هيجل` فتناقلت الهوية الإفريقية برموزها وسماتها وامتدت إلى العالم الغربى، واقتبس فنانو الغرب من الرموز الإفريقية ، أمثال: بيكاسو- جوجان - براك- ماتيس- مونيه وغيرهم ، إلإ أن الأفارقة رفضوا التقاليد الكلاسكية فى الفن والتى فرضها الغرب على فنانى العالم .
و`بيكاسو`أحد الفنانين الذين دعموا الفن الافريقى بقوله الشهير: إفريقيا هى مستقبل الفن ، الرمز الإفريقى نموذج صادق لحرية التعبير والخيال الحر`.. وهجرة وشتات العديد من الأفارقة والإقامة فى الدول الغربية ساهم بقدر كبير فى نقل وتبادل الخبرات ، وأصبح التأثر مشتركًا بين الغرب والأفارقة . مثل الفنان الإفريقى `أرنست دوكو` غهو يعيش ما بين باريس ودولة `أبيدجان `، وكانت لتلك الإقامة تأثير فى حدود أسلوب المعالجة الفنية والصياغة ، إلا انه احتفظ بهويته الإفريقية .
أما عن راى `سوزان لانجر` يعد رأيًا منطقيًا وموضوعيًا، حول الفرق بين الرموز الفنية والرمز كفن ، ورغم عدم تعمد `لانجر` الرد على رأى `هيجل`، إلا أننا سوف نستند إلي رأيها فى دعم أهمية الرمز ، الرمز `Symbol` كشكل يدل على شىء ما له وجود قائم بذات يمثله ويحل محله ، وان رمزا من صنع خيال الفنان ولابد أن يكون الفنان يملك خيالًا خصبًا ثريًا فى خلق الأيقونات والإشارات والعلامات ذات الدلالات والمعانى . والفنان الإفريقى `دوكو` أكد فى رسوماته ولوحاته ولمن هاجموا عقيدة الرمز بأن الفنان الافريقى يستخدم الرمز بحرية ومنفتح على العالم ، فقد استعان `دوكو` فى لوحاته برموز من موروثات أستعمارية غربية إلإ انه تعامل معها فنياً فقط احتراما للفن .
* سيميوطيقا `الشرق` المعاصر
--------------------------------
و مما طرحناه، وإن كان جزءًا متواضعًا يتضح أن الحضارات الإنسانية سبقت العلم الحديث فى خلق الرمز، فمثلما انتبه الفلاسفة للرمز بأن مصدره الشرق ، أيضا أقدم الباحثين حديثًا بوضع علم يختص بالرمز والعلامات والإشارات والأيقونات، وهو `السيميوطيقا Semiotic ` أو علم العلامات، ومشتقة من الكلمة اللاتينية `semeion ` تعنى العلامة، هوعلم يدرس علاقة العلامة بمدلولها، علم يبحث عن جوهر الرمز وتجلياته، ويرجع هذا العلم إلى الفيلسوف الأمريكى (شارل سندرس بورس 1839 - 1914)، هذا العلم منح الرمز نظرية مستقلة تقاس بالمنطق ، وهو أحد المدارس النقدية المعاصرة لإنتاج منطق جديد فى النقد ، فى محاولة لفهم وتفسير الدلالات والمعانى للعلامات والرموز على أن يكون هذا التفسير بحسب سياق الرمز الثقافى والتاريخى والجفرافى والعقائدى والسياسى، ومصدر الرمز الذى أنتجت فيه ومنه، والوظيفة التى خلق من أجلها الرمز ..
.. ولكن هذا الطرح لعلم السيميوطيقا يجعلنا نتساءل، هل يمكن أن نستخدم هذا العلم فى تفسير الرموز والعلامات فى الاعمال الفنية المعاصرة ..؟
`أرنست دوكو ` تمرد على علم `السيميوطيقا `
---------------------------------------------
بحسب علم السيميوطيقا، نسترجع مصدر الرمز ونضعه فى سياقه الثقافى والتاريخى، ولكن ماذا عن الرموز المعاصرة غير المحددة المصدر ومتعددة الهوية.. من منطلق أن التاريخ الإنسانى سجل وكتب ووثق بالرمز، اختار الفنان `دوكو ` أن يتحاور مع العالم بالرموزالإنسانية ، ومع الأسلاف والأجداد بالرموز العقائدية المتجددة فنياً ، خلق لنفسه لغة تشكيلية معاصرة وأبجدية بصرية ملونة ومرسومة، ولم يبتعد فيها عن أنها رموز تواصل وتشكيل كما ذكرنا ، جمع فى لوحاته أنماطًا عديدة من الرموز والعلامات والإشارات والرموز الإفريقية والرموزالإثيوبية والكاريبية ، والرموز المصرية القديمة ( مفتاح الحياة- تاج الملك رمسيس )، ورموز المسيحية (الصليب) والإسلامية (كتب الله بداخل رسوماته باللغة العربية )، كما استخدام الأشكال الهندسية المجردة، بعضها لها دلالات متعارف عليها، ولها صفة التعميم فى التفسير مثل الدائرة كرمز للتفكير، والمربع رمز التوازن، والمثلث رمز الاستقرار، والنجمة رمز الكون وغيرها .
بجانب كل الرموز التراثية، استخدم رموز من نوع آخر، هى` إيديوغرام` Ideogram، هى أيقونات توضحية تشير إلى شىء محدد متفق على معانيها عالميًا، مثل استخدامه لرمز البحرية وهو `الهِلب`، الذى ترتكز عليه السفن ، وأيضا استخدام الحروف العربية والإنجليزية والإفريقية التى هى حروف متشابهة شكلًا مع الرسوم البدائية المستوحاة من العناصرالآدمية .
أفاض `دوكو` فى استخدام الأحرف والأرقام `العدد` باللغة الإنجليزية، حيث وضع الأعداد الفردية مع لغة نصية ، وأيقونات رمزية بداخل مربعات مقسمة الى مساحات هندسية ، تتلاقى هذة الحلول الشكلية مع فكر العمليات الحسابية الجمع أو الطرح مثلًا ، بالتأكيد ليس المقصود التعبير عن عملية حسابية .. بل هى أحد اشكال الكتابة `الاكادية` العراقية البابلية والتى تكتب بداخل الاشكال الهندسية مثل الدائرة او المربع ، وكأنه شكل ` الختم ` او شكل `للعملة `، يتكون من أرقام وأحرف للغه نصية وأيقونة رمزية معبرة عن مضمون الشىء .
ركز الفنان `دوكو` على استخدام الألوان القوية ذات الإضاءة الصريحة، الأحمر الأخضر الأصفر ، ابتعد تماما عن التدريج اللونى، وبعض الألوان لها دلالات افريقية شهيرة على سبيل المثال ( الأخضر الطبيعة والأرض - الأحمر الدم والنار -الأصفر التوهج - الأسود كراهية وظلم ) ، وأختص الفنان `دوكو` اللون الأسود وخصص له معرض كامل تحت عنوان ` سلسلة النخبة الاستعمارية ` ويدور حول فترة الأستعمار وما بعدها من متغيرات ..
واهتم فقط بالخطوط المتداخلة والمتشابكة التى أحدثت عامل الربط بين الرموز، وهى خطوط أغلبها هندسية بصفته معمارياً أيضا ، بتأمل لوحاته نجد أنها مسكونه تسكنها الرموز فى شخصية ضخمة رئيسية تتشابهه مع عنصر الإنسانى ، وهى تمثيل مصغر للعالم الذى يمكن أن يتوحد بالرمز ، كما وضع بعضًا من الرموز تخرج من أفواه شخصياته (اللسان) ومن ( العين )، وهذا جزء من رسالته كفنان، أن البشر لا تفصلهم حدود جغرافية ، ويمكنا أن نتحدث معًا ، كما يمكن للعين ان تبصر الآخر ، كما اختار أن يرسم على ورق ملمسه خشن لتبدو لوحاتة أنها أعادة تدوين العالم برموز تراثية .
تتوافق فلسفته مع ما قدمه الفلسيوف الألماني `أرنست كاسبر Cassirer- 1874 - 1945( فى كتابة عن فلسفة الاشكال الرمزية ان فهم العالم يأتى من خلال التواصل بالرمز ، ذكر كاسبر : `أن فهم العالم مشروط باستحضار الأشكال الرمزية التى أنتجتها الحضارات البشرية التى تنقل لنا أفكار وتصورات هذا العالم البعيد ` .
ومن جانب آخر نلقى الضوء على أستخدام الفنان `دوكو` للرموز الصينية ، وحرص على وجود هذا الرمز فى أركان لوحاته ، الشعار الصينى الـ( تاي- تشي تو Tai - chi -Tu )، وهو شعارمن أساسيات الفلسفة الصينية، عبارة عن دائرة بداخلها شكلان متطابقان متضادين، إحدهما أسود والآخر أبيض في سيمترية، كلاهما يسير نحو الآخر بمرونة وتراضٍ ، وبحسب التوصيف الصينى، أن هذا الشكل يمثل أيقونة للرجل والمرأة، لكن بالتاكيد تتواجد تفسيرات أخرى عن تضاد الابيض والأسود ، مثل تضاد المعانى الإنسانية مثلاً أنه رمز للخير والشر، أو رمز الجانب السلبى والإيجابى ، الحزن والفرح وغيرها من مجموعات الأضداد. إلا أن الفنان `دوكو`، وضع الشعار الصينى بلوحاته بمجموعة لونية أخرى ومختلفة عن الشعار الآصلى وهى ( الأخضر والأسود) (الأحمر والاصفر) .
ما قدمه الفنان `دوكو` فى لوحاتة المعروضة فى بينالى القاهرة برسمه العديد من الرموز التاريخية والتراثية وصاغها بشكل فنى معاصر ومعالجة تشكيلية تقترب من الرمز الآصلى .. وكأنة قام بعمل رموز لرموز الماضى .. فلم تعد كما كانت.. بل حدث لها تجديد وخلق آخر ...
يضعنا هذا أمام تساؤل مطروح للنقاش .....
حين يستدعى الفنان رموزًا من ثقافات مختلفة إلى لوحاته المعاصر .. فهل بهذا الأستدعاء يظل الرمز بنفس المفهوم والمعنى التاريخى الموثق سابقًا .. وهل تواجد الرمز خارج زمنه وخارج سياقه الثقافى .. أخرجه من التفسيرات السابقة التجهيز.. وأصبح للرمز تفسير آخر يتناسب مع متغيرات المعاصرة ...أم يظل الرمز محتفظ بمفهومة مهما أختلفت صياغة الفنان ..
Suzan Shoukry Yacoub

عودة

البوم الصور :

< 1 [2]